يفترض أن تكون وزارة العدل اليوم على مسافة واحدة من مختلف القضايا التي تعرض عليها بحكم الاختصاصات التي لا تزال موكولة إليها في اطار المرحلة الانتقالية التي نعيشها، دون أي تمييز بين الملفات الكبرى أو الملفات الأقل أهمية.. ففي المجال القضائي لا يقبل أن نسمع أن الأمر يتعلق بأحد من "كبار القضاة" ، لأن في التسليم بهذا المنطق ما يدفع للاعتقاد بوجود نوع من التمييز بين القضاة أساسه قربهم أو بعدهم عن الادارة المركزية، والحال أنه يفترض في التعامل مع هذا النوع من القضايا أن يتم بشكل يطبعه الحياد والتجرد،
فرمز العدالة في العالم هو امرأة معصومة العينين تضع في إحدى يديها ميزانا وفي اليد الأخرى سيفا، ولا شك أن هذا الرمز صريح في دلالته على وجوب أن تتنزه الشؤون القضائية عن كل ما له علاقة بالاعتبارات الشخصية أو غير الموضوعية، فمعيرة الأعمال من زاوية نظر أخلاقيات القضاء ينبغي أن تخضع للتجرد وللحياد دون تمييز بين تلك التي قام بها قاض عاد، أو من تسميه الإدارة بأحد من "كبار القضاة"، لأن التحلي بصفات الوقار والكرامة هي من الالتزامات الملقاة على عاتق القضاة في جميع الأحوال دون تمييز بين كبيرهم أو صغيرهم. والقول بوجود فئة تنتمي إلى الصغار وأخرى تنتمي إلى الكبار كما يروج له البعض، اعتقاد خاطئ مبني أساسا على تراكمات فترة سابقة أصبحت جزء من تاريخ نتمنى ألا يتكرر، تاريخ قائم أساسا على مبدأ الهرمية الذي لا يقيم أي اعتبار لقواعد الاستحقاق والمساواة والكفاءة . ولعل من سلبيات هذا التاريخ المنتقد أننا اليوم نسعى لطي صفحة الماضي وإقرار إصلاح عميق وشامل للمنظومة القضائية ، إصلاح يرمي أساسا للتغيير ، وليس لإعادة انتاج نفس الممارسات التي كانت إلى وقت قريب أحد أسباب معضلة العدالة .
من جهة أخرى ولأننا نعيش مرحلة تصحيحية تستهدف البناء والتغيير، ولأن أي اصلاح حقيقي لن يتأتى إلا بالتشخيص الصريح والجريء للاختلالات التي تعاني منها المنظومة القضائية فإن الجميع مدعو للمساهمة من منطق المواطنة الحقة بالمقترحات الكفيلة بتحقيق الاصلاح المنشود دون أن يكون مهددا بدفع ثمن مقابل صراحته أو جرأته في التعبير، ومن أضعف الايمان في هذا المجال الاسهام بالتعريف ببعض الاختلالات التي تشوب تدبير الشأن العام القضائي وطريقة اسناد مناصب المسؤولية أو عمل المؤسسات أو الهيئات ذات الصلة بالموضوع، ولعل تشخيص هذه الاختلالات لا يستهدف الأشخاص بقدرما يستهدف الممارسات وبعض السلوكات التي باتت مرفوضة بالنظر إلى المستجدات الراهنة التي تشهدها الساحة الحقوقية عامة والقضائية على وجه الخصوص، فإذا كان المسؤول الناجح إلى وقت قريب هو القادر على التقاط الاشارات القادمة أساسا من الادارة المركزية والقادر على استتباب الأمن والسير العادي للعمل وتصريف الأشغال دون اثارة أي اعتراض ، فإن المعيار اليوم اختلف إذ أضحى المطلوب من المسؤول القضائي أن يكون أهلا لإعمال المقاربة التشاركية التي تمت دسترتها وأضحت أحد شروط ومقومات الحكم الرشيد، والانصات للرأي والرأي الآخر واستحضار كون الهدف الأسمى من القضاء هو خدمة المواطن، وضرورة الاهتمام بالتواصل، والتكوين والتكوين المستمر لأن الادارة القضائية انتقلت من مرحلة العمل الهاوي القائم أساسا على الاجتهاد الشخصي إلى العمل المتخصص الذي يتم صقله بواسطة التكوين طالما أن الادارة فن وعلم، كما أضحى مطلوبا اليوم اعطاء الاولوية للمقاربة الحقوقية عوض الاكتفاء بالمقاربة الأمنية التي أكدت الممارسة محدوديتها لا سيما اذا استحضرنا الدور الجديد الموكول للقضاء في ظل دستور 2011 حيث أصبح القاضي يتولى أساسا حماية الحقوق والحريات .
ان ما تشهده الساحة القضائية اليوم من فتح الباب على مصراعيه أمام المتابعات التأديبية للقضاة بإحالة بعضهم على مجلس التأديب واستدعاء البعض الآخر إلى جهاز المفتشية العامة لوزارة العدل لأمور تتعلق بحرية التعبير يدفع للاستغراب لتزامن ذلك مع الفترة الانتقالية التي يشهدها القضاء المغربي في انتظار صدور قوانين تنظيمية جديدة، فما الذي اختلف بين الأمس القريب حين أسس القضاة المغاربة أول صفحة لهم عبر موقع التواصل الاجتماعي الفيسبوك، خلال شهر مارس من عام 2011 ومارسوا بكل حرية حقهم في التعبير، واليوم عندما شرعت الأبواب لإحالتهم على مجالس التأديب بسبب تعليقاتهم وما ينشرونه من صور وتغريدات لا تختلف كثيرا عن تلك التي نشرت بالأمس؟.
فباستحضار أرشيف نفس الصفحة التي شكلت الشرارة الأولى لانطلاق الحراك القضائي الوطني الراهن يلاحظ أن سقف الحرية داخلها كان دوما مرتفعا إذ تم عن طريقها تشخيص الواقع القضائي بكل جرأة ومسؤولية وبدون حاجة إلى استعمال الأساليب غير المباشرة، وهكذا تداول مرتادو هذه الصفحة وأغلبهم من القضاة والمهتمين بمنظومة العدالة، صورا وتعليقات وأخبارا ومنشورات بكل حرية دون أن توجه لأحدهم أصابع الاتهام بالإساءة لصورة القضاء بالمغرب! لسبب بسيط أن القيام بإصلاح حقيقي لأي مجال كان يستدعي بالضرورة الاعتراف بوجود اختلالات وأخطاء، والجرأة في تشخيص هذه الأعطاب من أجل تجاوزها، كما انخرط القضاة في ممارسة العمل الجمعوي والتعبير عن مشاغلهم وآرائهم دون اشهار سلاح موجب التحفظ في مواجهتهم لسبب بسيط مرده أن التأويل الديمقراطي لهذا المصطلح يقتضي حصره في ما له علاقة بالسر المهني أي تلك الأمور المتعلقة بالمداولات وكذا المعلومات التي يحصل عليها القضاة أثناء أداء واجباتهم القضائية حسب مبادئ الأمم المتحدة لاستقلال السلطة القضائية، دون امكانية تمديد نطاق هذا المفهوم المطاط ليشمل العمل الجمعوي أو ممارسة القضاة لحقهم في التعبير إذ أن من شأن التفسير الموسع لموجب التحفظ اغتيال الفصل 111 من الدستور بل وتحويل تكتلات القضاة إلى مجرد أدوات صامتة غير فاعلة ينحصر دورها في مجرد الفرجة والتصفيق .
ولا شك أن الجميع يتذكر الحملة التي دشنها نادي قضاة المغرب عبر صفحته في الفيسبوك من أجل تسليط الضوء على واقع بنايات المحاكم ومراكز القضاة المقيمين، ومن أثر ذلك تسليط الضوء على واقع مرير يتجلى في بنايات تسيء لصورة القضاء وتخل بمبدأ الاحترام اللازم للمواطن. وكلنا يتذكر الصورة الشهيرة لمركز القاضي المقيم بزاوية أحنصال وما تلاها من صور أخرى لبنايات محاكم ومراكز وسكن وظيفي لبعض القضاة التي تم تداولها على نطاق واسع عبر صفحات التواصل الاجتماعي قبل أن تجد طريقها للنشر بالصحف بل وتم عرضها بندوات الحوار الوطني الذي ترعاه وزارة العدل.
إن نفس الجرأة في التغيير دفعت مرتادي صفحات التواصل الاجتماعي من القضاة إلى انتقاد المجلس الأعلى للقضاء الذي ظل إلى وقت قريب ينظر إليه بنوع من التقديس الذي يجعله في منأى عن أي نقد، بل وارتفعت أصوات القضاة بهوياتهم المعلومة تفضح بعض الاختلالات التي تعرفها منظومة تكوين القضاة وواقع الادارة القضائية وبعض الممارسات المرفوضة والتي مردها محاولات الخلط الذي يقع لدى بعض المسؤولين القضائيين عن قصد أو بدون قصد بين الأمور التي تتعلق بالإشراف الاداري وما له علاقة بالقضاء الذي ينبغي ألا يخضع لأي هرمية أو اشراف لأن في ذلك مسا خطيرا باستقلاله، فقاضي الحكم عندما يصدر حكمه لا ينبغي أن يستمع سوى لصوتين؛ صوت القانون وصوت الضمير ، ولا مجال لفتح الباب أمام أي صوت آخر حتى لو كان عائدا لصوت المسؤول القضائي لأن مهام التأطير لا ينبغي أن تمتد إلى الأحكام، ولا يجوز التمسك بأي سلطة رئاسية ولا أي توجيهات في هذا المجال.
ان القضاء المغربي اليوم عرف ظهور جيل جديد من القضاة منهم الشباب ومنهم من تفاعل معهم من القضاة ذوي الخبرة والتجربة، آمنوا بإمكانية التغيير من أجل اعادة ثقة المواطن في سلطة القضاء، جيل متشبع بالمبادئ الكونية لاستقلال القضاء وبأفضل التجارب الدولية في هذا المجال، جيل انخرط عن طواعية واختيار في ممارسة الحق في التعبير من أجل التأسيس للسلطة القضائية المستقلة القوية القادرة على حماية الحقوق وصون الحريات. جيل يحتاج لمن ينصت اليه ويتفهم مطالبه وانشغالاته.. لا من يتصيد ما يتوقعه أخطاء وهفوات كفيلة بجعله يدفع ثمنا باهظا لدعوته للتغيير. فالأفكار التي يرفعها القضاة المطالبون بالإصلاح لا سيما المنتمون منهم لنادي قضاة المغرب قد ينظر لها اليوم من طرف البعض بكثير من الاستغراب والدهشة والرفض لكنها ستصبح في القريب العاجل من قبيل ما هو مقبول وبديهي.. فقديما قال أحد المفكرين بأن كل الحقوق تمر بثلاث مراحل : أولا السخرية منها، وثانيا معارضتها بعنف، وثالثا قبولها واعتبارها شيئا بديهيا ... وكذلك الحال بالنسبة لمطالب القضاة التواقين للإصلاح.