بالنظر إلى أهمية عملية التشريع والأوراش التشريعية التي تتمخض عنها، ارتأينا أن ندرس بشكل موجز بعض مقتضيات مسطرة النشر الإلكتروني للنصوص القانونية، التي أضحت اليوم واحدة من الأنشطة الملزمة للمتدخلين في مجال التشريع. وسنقوم في هذا الصدد بعرض سياق إحداث هذه المسطرة وأسس إطلاقها وأهم مضامينها وكذا سبل تطويرها، منطلقين من مثال تطبيقي كنا مساهمين فيه بشكل شخصي.
إن خير ما نفتتح به هذا الموضوع هو التذكير بمضمون الفقرة الأولى من المادة 27 من دستور 2011 التي نصت على أن " للمواطنين والمواطنات حق الحصول على المعلومات، الموجودة في حوزة الإدارة العمومية، والمؤسسات المنتخبة، والهيئات المكلفة بمهام المرفق العام". ولقد قصدت في الحقيقة البدء بهذه الفقرة الدستورية لكونها تتماشى مع موضوع البحث، أي مسطرة النشر الإلكتروني للنصوص القانونية كواحد من تراكمات التجارب المغربية من جهة، ومع المثال التطبيقي الذي سنورده، أي قانون الحق في الحصول على المعلومات من جهة ثانية.
لقد سبق وقامت الأمانة العامة للحكومة شهر مارس 2013 بنشر مشروع قانون 31.13 المتعلق بالحق في الحصول على المعلومات، وبعد دراسة هذا النص بكل تجرد وموضوعية ومهنية، قمنا بإعداد ثلاثة اقتراحات كانت قد أثارت استحسان الوزارة الوصية و خصت بالأساس إدراج هدف تشجيع البحث العلمي و التقني ضمن جملة الأهداف التي يصبو القانون إلى تحقيقها، بالإضافة إلى توسيع مجال تطبيق القانون ليشمل الجمعيات المعترف لها بصفة المنفعة العامة، ثم إعفاء المواطنين من واجب تحمل تكاليف إعادة إنتاج المعلومات وإرسالها إليه وفق شروط معينة . وسنحاول هنا تقديم هذه المقتراحات وردود الوزارة الوصية كمثال على تفعيل مقتضيات مسطرة النشر الإلكتروني للنصوص القانونية، قبل الخوض في سياقها ومضامينها وسبل تطويرها:
اقتراح أول : على مستوى الديباجة وأهداف مشروع القانون
لقد نصت ديباجة مشروع قانون الحق في الحصول على المعلومات على جملة من الأهداف المرتبطة بالشفافية ومحاربة الفساد والحكامة الجيدة، وأجد أنه من المفيد أن يتم التنصيص كذلك على البحث العلمي والتقاضي وحرية العمل الصحفي كواحدة من الأهداف الرئيسية لهذا المشروع. وعلى سبيل المثال، فإن هذا الاقتراح من شأنه تعزيز البحث العلمي، وممارسة حق التقاضي خصوصا وأن توفير المعلومات يعتبر من مدخلات وشروط البحث العلمي من جهة، ومن ضروريات حقوق التقاضي خصوصا المتعلقة منها بسلامة وحرية وممتلكات الأشخاص من جهة أخرى.
رد الوزارة: ملاحظة وجيهة فيما يتعلق بإدراج هدف البحث العلمي في الديباجة، وسيتم أخذها بعين
الاعتبار. أما فيما يخص حرية العمل الصحفي فإن الصحفي سيستفيد من الحقوق المخولة له بموجب هذا القانون كما يمكن له أن يستفيد من الحقوق المخولة له بموجب قانون الصحافة.
اقتراح ثاني : حول المادة واحد وتعريف الهيئات المعنية
من المفيد أن يتم التنصيص صراحة على" الجمعيات المعترف لها بصفة المنفعة العامة أو عموم الجمعيات المستفيدة من الدعم والإحسان العمومي" كواحدة من الهيئات المعنية بتنفيذ أحكام هذا القانون.
رد الوزارة: اقتراح وجيه وستتم مراعاته عند مراجعة الباب الأول من مشروع القانون ليشمل مجال تطبيقه الجمعيات المعترف لها بصفة المنفعة العامة وكذا الجمعيات التي تخضع لرقابة الهيئات المعنية.
اقتراح أخير: حول المادة 15 وتكاليف إعادة إنتاج وإرسال المعلومات
طبقا لهذه المادة سيتحمل المواطن )إلى جانب الشخص المعنوي( تكاليف إعادة إنتاج المعلومات وإرساله. في نظري يجب أن يبقى هذا الواجب محصورا في حالة منفردة، وأعني الحالة التي تكون فيها المعلومات موضوع الطلب منشورة ومتاحة للعموم خصوصا عبر الوسائط الإلكترونية. ما عدى هذه الحالة الفريدة، فإن على الهيئة المعنية، التي تخلفت عن النشر الإستباقي للمعلومات، تحمل مصاريف توفيرها للمواطنين. من شأن هذا التدبير إذا أن يشجع الهيئات المعنية على نشر الحد الأقصى من المعلومات لترشيد التكلفة المادية والمعنوية لتوفيرها. كما من شأن هذا التدبير ضمان ممارسة هذا الحق دون إكراهات مادية أو مسطرية، وذلك حتى لا تتحول تكلفة الحصول على هذه المعلومات إلى عائق أمام ممارسة هذا الحق أو تتحول ممارسة هذا الحق إلى خدمة عمومية مؤدى عنها ترهق جيوب المواطنين سيما إذا تعلق الأمر بطلبة أو بذوي الدخل المحدود.
رد الوزارة: بالنسبة للمادة 15 التي تتحدث عن تكاليف إعادة الإنتاج الرسوم فإن تحديد هذه التكاليف يتم وفق فوترة الخدمات العمومية والقوانين والأنظمة الجاري بها العمل. أما فيما يخص الحالة التي تكون فيها المعلومات متاحة ومنشورة للعموم، فالأمر هنا لا يحتاج إلى تحمل ما ينبغي تحمله بل على العكس من ذلك حيث أن مشروع القانون أوجب على الشخص المكلف تعليل رفض طلب المعلومات في الحالة التي تكون فيها المعلومات منشورة للعموم بتضمين الرد المرجع والمكان الذي يمكن فيه الحصول على المعلومات المطلوبة.
يتضح إذا من هذا المثال أن مسطرة نشر النصوص التشريعية والتنظيمية مسطرة بالغة الأهمية تبرز بوضوح الإرادة والتطور النوعي الذي سجلته بلادنا فيما يخص ترسيخ الديمقراطية التشاركية، إذ تتيح للمهتمين وعموم المواطنين إمكانية المشاركة في عملية التشريع، وإن كان سياقها تحكمه اعتبارات خارجية ومجال تطبيقها محدود. فهذه المسطرة التي تعنى بالنشر الإلكتروني لمشاريع القوانين والمراسم والقرارات والمقررات الإدارية كانت قد أحدثت في شهر ماي 2009 بمرسوم رقم 2.08.229، استجابة لمقتضيات اتفاقية التبادل الحر المبرمة بين المملكة المغربية والولايات المتحدة الأمريكية. فالفقرة الأولى من المادة 18 من هذه الاتفاقية تتطرق إلى مقتضيات تخص التزام كل طرف في الاتفاقية بنشر مجموع الوثائق القانونية التي لها علاقة بمضامينها. والهدف من هذه المسطرة، حسب المرسوم السالف الذكر هو إتاحة الإمكانية للأشخاص المهتمين لإبداء تعاليق بشأن النصوص القانونية التي تتعلق ب :
-تجارة البضائع بما فيها تجارة المنتجات الفلاحية ومنتوجات النسيج؛
-جميع الإجراءات التجارية بما فيها الإجراءات الصحية والسلامة النباتية والمنشأ والإدارة الجمركية والعوائق التقنية للتجارة والإجراءات الحمائية والمعايير والمواصفات القياسية؛
-الصفقات العمومية والاستثمار والتجارة الإلكترونية وحقوق الملكية الفكرية وقانون الشغل.
بالإضافة إلى تحديد مجالات تطبيقها، حدد هذا المرسوم جوانب أخرى من هذه المسطرة كشكليات تخص مشاريع النصوص التشريعية والتنظيمية، وتركيبة اللجنة المكلفة بدراستها، والسلطة المختصة بنشر المشاريع، ومدة نشرها، وكذلك شروط استقبال التعاليق، وتتبعها وتلخيصها والرد عليها من قبل المصلحة التي صدر عنها النص القانوني. ويمكن العودة إلى تفاصيل هذه الجوانب كما وردت في مرسوم رقم 2.08.229 الذي نشر بالجريدة الرسمية تحت عدد 5744 بتاريخ 18 يونيو2009.
هذا وقد كان الإصلاح الأخير المتعلق بالصفقات العمومية أول نص تنظيمي (مرسوم) حضي بإدراجه في إطار مسطرة النشر الإلكتروني للنصوص القانونية بتاريخ 18 فبراير 2010 ليخرج بعد مخاض طويل إلى الوجود حيث نشر في الجريدة الرسمية عدد 6140 بتاريخ 4 أبريل 2013. منذ ذلك الحين توالت النصوص القانونية المعروضة على أنظار العموم لتصل إلى حدود كتابة هذه السطور حوالي 80 نصا. وهو مؤشر كمي ضئيل بالنظر إلى أعداد النصوص القانونية التي تمت المصادقة عليها منذ بدء العمل بهذه المسطرة.
و ضعف هذه الحصيلة يعود إلى مجال تطبيق المسطرة كما رسمه المشرع في حدود ما التزم به البلدان في إطار اتفاقية التبادل الحر؛ وإن كنا نعتقد أن الأمانة العامة للحكومة، بالنظر إلى إيجابيات العمل بهذه المسطرة، قد عمدت على عرض نصوص لا تدخل بشكل مباشر في هذا المجال. وإن صحت هذه القراءة، فهذا تطور مرغوب يتناسب مع معايير قانونية أقوى من الإطار التنظيمي لهذه العملية. لذلك، نعتقد أن مسطرة النشر الإلكتروني للنصوص القانونية، موضوع البحث، يمكنها على المدى القريب أن تتطور لتشمل قطاعات ومجالات أوسع من التي نص عليها المرسوم 2.08.229، لاسيما وأن مقتضيات دستور 2011 تكفل حق المواطنين والمواطنات في تقديم ملتمسات في مجال التشريع (المادة 15)، الشيء الذي سيفتح الباب أمام المواطنين للمساهمة في التشريع وفق مقاربة تشاركية مباشرة تعزز الدور التشريعي التقليدي الغير مباشرة الذي يمارس بموجبه رئيس الحكومة المعين وأعضاء البرلمان المنتخبين السلطة التشريعية. وبالنظر إلى السياق الذي أحدثت بموجبه هذه المسطرة، وكذلك إلى تنزيل مقتضيات الدستور المغربي، فإن تطوير مجال تطبيق مسطرة نشر النصوص القانونية سيخرج، عند الاقتضاء، عن الإطار التنظيمي المعمول به حاليا ليُدرج -تخمينا واقتراحا لا جزما- في القانون التنظيمي المزمع إحداثه لكي يحدد شروط وكيفيات ممارسة حق تقديم الملتمسات.