رغم المقتضيات المهمة التي تضمنتها المسودة الجديدة فإن بعض التنقيحات المدخلة عليها أسهمت في خلق كثير من الإبهام وهو ما يمكن ابرازه من خلال المعطيات التالية :
- أي اعمال لمقاربة النوع الاجتماعي على مستوى المجلس الأعلى للسلطة القضائية في أفق المناصفة ؟
لكن المسودة الجديدة تراجعت عن هذا المقترح وأبقت على لائحة واحدة وهو ما يعني تباري السيدات والسادة القضاة من خلال لائحة واحدة، ومن ثم اختيار الحاصلات على أكبر عدد من الأصوات من بين النساء القاضيات في حدود المناصب المقررة لهن بحسب تمثيليتهم حتى وان تأخر ترتيبهن على زملائهن القضاة .
وإذا كان المجال لا يتسع لشرح ايجابيات وسلبيات كل مقترح في علاقته بمقاربة النوع الاجتماعي التي تم الارتقاء بها إلى مستوى الدسترة من خلال دستور 2011، إلا أنه يمكن القول أن المقترح الأخير لن يسهم في اعطاء آفاق أكبر للمرأة القاضية من أجل تجاوز الصورة النمطية التي حالت دون وصولها إلى مراكز صنع القرار القضائي طوال مدة تجاوزت أكثر من نصف قرن من تجربة المجلس الاعلى للقضاء. وبالتالي كان من شأن الابقاء على اعتماد لائحة وطنية للنساء القاضيات تشجيع الكفاءات النسائية على البروز والتباري للوصول إلى تمثيلية المجلس، وتجاوز الحاجز النفسي الذي وضعته سنوات الممارسة التي حالت دون نجاح أي امرأة قاضية في الفوز بثقة زميلاتها وزملائها القضاة، فضلا عن الغاء أي مجال للتشكيك في جدارتها واستحقاقها للوصول إلى هذا المنصب أو اعطائه طابعا "احسانيا" أو وضعا أقل من الوضع المخول لزميلها القاضي لا سيما اذا استحضرنا كون المقترح الجديد للمسودة سيؤدي الى فوز النساء المرشحات حتى لو كن في مذيلة لائحة الأصوات المحصل عليها.
- مستجدات مسودة قانون المجلس الأعلى للسلطة القضائية علامات تساؤل !
- حذف مجموعة من المقترحات :
- تعديل المادة 4 من المشروع التي كانت تنص على كون الرئيس المنتدب "يمثل المجلس الأعلى للسلطة القضائية أمام القضاء ولدى باقي السلطات والإدارات العمومية والهيئات والمؤسسات الأجنبية والدولية"، حيث تم حذف مقتضى تمثيل الرئيس المنتدب للمجلس أمام الهيئات والمؤسسات الأجنبية والدولية وهو ما يدفع لطرح أكثر من علامة استفهام حول أهداف ودواعي هذا التعديل.
- تعديل المادة 101 من المشروع التي تتعلق بمدونة سلوك القضاة : فمن بين النقاط المهمة في مسودة مشروع قانون المجلس الأعلى للسلطة القضائية تلك المتعلقة بمهمة وضع مدونة سلوك للقضاة ففي الوقت الذي تركزت أهم الانتقادات التي وجهت للمسودة السابقة في كونها تعرضت وبإطناب شديد للمقتضيات التي ينبغي تضمينها في مدونة السلوك ودعت عدة توصيات للاكتفاء بالفقرة الأولى من المادة 101 من المسودة السابقة التي تنص على أنه :"يضع المجلس، بعد استشارة الجمعيات المهنية للقضاة، مدونة للسلوك تتضمن القواعد الأخلاقية والمهنية الأساسية اعتبارا لسمو المهمة القضائية وثقل أمانتها وجسامة مسؤوليتها"، إلا أن واضعي المسودة الجديدة اقترحوا الابقاء على نفس المقتضيات السابقة المتعلقة بمضامين مدونة السلوك بعد اختزالها بحذف بعض المقتضيات منها التي كانت واردة على سبيل المثال لا الحصر، ولعل من المفارقات التي تم الوقوف عليها في هذا الصدد هو حذف المقتضى الذي كان ينص على وجوب امتناع القضاة "عن طلب أو قبول أي هدية أو هبة أو أي فوائد أخرى من أي نوع كانت، بشكل مباشر أو غير مباشر، قد يكون لها تأثير مهما كان حجمه على أداء الواجبات القضائية حالا أو استقبالا" وهو مقتضى على درجة كبيرة من الأهمية في علاقته بملف التخليق تم حذفه، بينما تم اضافة مقتضى جديد ينص على تقيد القضاة "بتأمين استمرارية مرفق القضاء والعمل على ضمان سيره"، الشيء الذي يؤكد الحضور القوي للمقاربة الأمنية في المسودة الجديدة لا سيما اذا استحضرنا ما نادى به نادي القضاة أكثر من مرة من امكانية تعليق العمل بالمحاكم.
- حذف المقتضيات القانونية التي كانت تنص في مسودة ديسمبر (المادة 84) على احداث لجنة خاصة في المجلس تعرض عليها نتائج الأبحاث والتحريات التي تم اجراؤها في الاخلالات المنسوبة للقضاة ترفع مقترحاتها إلى المجلس على ضوء نتائج الأبحاث والتحريات المنجزة وهي تتكون من :الرئيس المنتدب للمجلس والوكيل العام للملك لدى محكمة النقض، و أربعة أعضاء على الأقل يعينهم المجلس كالتالي :
* عضو من بين القضاة المنتخبين عن محاكم أول درجة ؛
* عضوان من بين الأعضاء غير القضاة.
وهكذا أصبحت المادة 82 من المسودة الجديدة تنص على أنه : "يعرض الرئيس المنتدب للمجلس نتائج الأبحاث والتحريات المنجزة على أنظار المجلس الذي يقرر على إثر ذلك إما الحفظ أو تعيين قاض مقرر تفوق درجته أو توازي درجة القاضي المعني مع مراعاة الأقدمية في السلك القضائي".
ان قراءة المادة الجديدة من المشروع تدفع لإبداء عدة ملاحظات أهمها أنه تم تحويل الاختصاص الذي كان مخولا للجنة من المجلس متنوعة من حيث تركيبها بحسب تركيبة المجلس ذاته، لتصبح هذه المهمة من اختصاص شخص واحد وهو الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية : الذي له أن ينظر لوحده في الاختلالات المنسوبة للقضاة،
وفي الوقت الذي تم فيه قصر مجال اهتمام اللجنة المذكورة أعلاه في تقديم المشورة للرئيس المنتدب فيما يتعلق بالبت في طلبات الحاق القضاة وجعلهم في حالة استيداع أور رهن الاشارة أو توقيف قاض مؤقتا عن مزاولة مهامه إذا توبع جنائيا أو أرتكب خطأ جسيما، تم تحويل باقي الاختصاصات للرئيس المنتدب وهو ما يعني تركيز السلطات في يد شخص واحد، بشكل يعيد تكرار نفس الصلاحيات التي كانت مخولة للسيد وزير العدل حيث اكتفى المشروع بنقلها حرفيا لتصبح من صلاحيات الرئيس المنتدب وكأن جوهر الاصلاح الجديد اكتفى بتغيير المسميات ونقل الصلاحيات من شخص لآخر دون التفكير في اعادة توزيع هذه الصلاحيات ووضع حد لتركيزها، باعمال المقاربة التشاركية التي أقرها الدستور الجديد وطالبت بها الفعاليات الحقوقية المهتمة من خلال توصياتها ومذكراتها المرفوعة لوزارة العدل التي أشرفت على تهيئ مسودة القوانين الجديدة للسلطة القضائية.
من جهة أخرى ومن علامات الاستفهام التي لا تزال عالقة تلك المرتبطة بعلاقة المديريات التابعة لوزارة العدل والحريات بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية، ومرد هذا الغموض هو أن التعديل الذي طرأت عليه المادة 47 من المسودة المتعلقة بتنظيم المجلس الأعلى للسلطة القضائية عمد إلى حذف عبارة "مديريات" من مشتملات مكونات المجلس، وهو ما يدفع للتساؤل حول مآل المديريات التابعة اليوم لوزارة العدل، ومن بينها مديرية الشؤون الجنائية، ومديرية الشؤون المدنية.. فهل سيبقى الوضع على ما هو عليه وستبقى تابعة للسلطة الحكومية المكلفة بالعدل، أم ستصبح تابعة للمجلس الأعلى للسلطة القضائية في اطار المساعي الرامية إلى فك الارتباط بين القضاء ووزارة العدل وفق ما يقتضيه التأويل الديمقراطي للدستور الجديد، وما يدفع لطرح هذا التساؤل هو الغموض الذي خلقته المادة 109 من المسودة الجديدة التي قصرت الوثائق الواجب احالتها من لدن السلطة الحكومية المكلفة بالعدل على المجلس وفي اطار الاجراءات الانتقالية على تلك التي تخص القضاة دون سواهم.
إن هذا الموضوع يدفع للبحت في قضية أشمل تتعلق بحدود العلاقة بين وزارة العدل والسلطة القضائية في ظل مسودة القوانين الجديدة التي يبدو أنها تعمدت الحفاظ على شعرة تكرس الارتباط بين الجهتين رغم ما يمكن ان تخلقه هذه الوضعية من اشكاليات.
- إدخال مجموعة تعديلات :
من جهة ثانية فإذا كان الاتحاد العالمي للقضاة قد عرف واجب التحفظ الملقى على عاتق القاضي بأنه يعني : أن يمارس القاضي واجباته باعتدال وكرامة باحترام مهامه وأي شخص معني، فإن هاجس تكريس واجب التحفظ حضر وبقوة في التعديل الجديد للمسودة إذ لم يكفي الاقتصار على ما تم تضمينه من مقتضيات على مستوى المسودة السابقة خاصة ما ورد في المادة 10 من المسودة السابقة التي تنص على أنه : "يلتزم الأعضاء بواجب التحفظ والكتمان فيما يخص مداولات المجلس ومقرراته، وكذا الوثائق والمستندات والأسرار التي يطلعون عليها خلال مزاولتهم لمهامهم". بل تمت اضافة فقرة جديدة لهذه المادة تضمن تمديد نطاقها من حيث الزمان تنص على أنه : "يبقى هذا الالتزام ساريا ولو بعد انتهاء مدة عضويتهم بالمجلس".
بل إن المتأمل للمسودة الجديدة يلاحظ أنه تم تمديد نطاق موجب التحفظ من حيث الأشخاص أيضا إذ تمت اضافة فقرة جديدة للمادة 47 من المسودة التي أصبحت تنص على أنه : "يجب على جميع العاملين بالمجلس بأي صفة من الصفات التقيد بواجب كتمان السر المهني فيما يطلعون عليه من معلومات ووثائق بمناسبة مزاولة مهامهم، ويبقى هذا الالتزام ساريا ولو بعد انتهاء مدة عملهم بالمجلس".
من جهة أخرى عرفت المسودة اضافة بعض المقتضيات على مستوى الأحكام الانتقالية من بينها :
- تقليص أجل اعداد المجلس الأعلى للسلطة القضائية قانونه الداخلي وإحالته على المحكمة الدستورية من 6 أشهر (المادة 46 من مسودة ديسمبر)، إلى 3 أشهر (المادة 111 من المسودة الجديدة).
- مراجعة مقتضيات المادة 113 من مسودة ديسمبر التي كانت تنص على أن السلطة الحكومية المكلفة بالعدل تضع رهن اشارة المجلس الموارد البشرية والاعتمادات المالية الضرورية إلى حين رصد الميزانية الخاصة به، وجعل هذا الالتزام من مسؤولية الدولة عوض وزارة العدل (المادة 110 من المسودة الجديدة).