مقدمة:
يشكل الفقر آفة من آفات الاقتصاد العالمي المعاصر. وهو يزداد اتساعا سواء على الصعيد الداخلي للأمم أو على الصعيد الدولي ما بين الأمم. وليست العولمة إلا مرحلة جديدة للاقتصاد العالمي الرأسمالي، حيث يشكل الفقر آخر الاهتمامات الفعلية والصادقة للإستراتيجيات القائمة والمعلنة.والفقر في العالم القروي وجه من الوجوه البنيوية للفقر عموما، ولا يمكن دراسته إلا ضمن رؤية شمولية، وبأدوات تحليلية غير الأدوات التي دأبت عليها النظرة الغربية الطاغية في عصرنا هذا وما هي مظاهر الفقر في العالم القروي.؟
المحور الأول : مظاهر الفقر في العالم القروي:
مظاهر الفقر في العالم القروي ندرجها بخلاصة من خلال تعريفات وأرقام ودراسات تشخيصية أوردتها الإحصاءات الفلاحية العامة ومخططات التنمية الاقتصادية والاجتماعية. ونقدم ملاحظات وتحليلات حولها، بعجالة، لأن معظم الدراسات التشخيصية عند المختصين المغاربة تمتاز بالوفرة، لكن بقدر ما تتعمق في التشخيص، بقدر ما تتميز الحلول المقترحة بالهزالة لعدة أسباب سوف نطلع عليها.
تعرف بعض الجهات الرسمية عتبة الفقر في المغرب تعريفا ماديا صرفا، ومن خلال ما يسد الرمق لا غير ، وكأن الفقير المغربي نوع بشري يمتاز بخشونة إنسان ما قبل التاريخ، وبصبر أيوب في دفع هواجس امتلاك شيء ما غير قوت يومه. فلا سكن ولا دواء ولا ضروريات تعتبر بديهية عند الأمم، تعتبر في هذا التعريف الذي يحدد عتبة الفقر بالقرى في توفرالشخص على 3000 درهم في السنة، وعتبة الفقر بالمدن في توفر 4000 درهم في السنة. منطق سخيف يحاولون تمريره : بقدر ما ندني عتبة الفقر بقدر ما تقل نسبة الفقراء حوالينا فيرتاح الضمير المزيف، ويستطيع المرور أمام الملأ بالكادياك، ولا حرج...
ورغم هذا التحايل السخيف، أرقام هذه الجهات توحي أن الفقر يهم حوالي 27 % من القروين و 12 % من الحضريين. المزارعون بدون أرض عام 1974 : كانوا 450.000 ؛ عام 1996: أصبحوا 64.700 . أين ذهب الآخرون؟ أليس هذا من قبيل إنطاق الأرقام المزيفة قوالبها؟ 90 % من الاستغلاليات تقل مساحتها عن 5 هكتارات، وهي الحد الأدنى المعاشي الذي لا يذر فائضا للاستثمار. الفئة التي تستغل 20 هكتار فما فوق لا تمثل سوى 4 % من مجموع المزارعين لكنها تستغل 1/3 من الأراضي الصالحة للزراعة، بينما يستغل 70 % من المزارعين (أكثر من مليون مزارع) أقل من ربع المساحة الزراعية. متوسط سن المزارع المغربي: 52 سنة. 81 % من المزارعين يعتبرون بدون تكوين.
تصرهذه الجهات الرسمية على ترديد القول بأن المغرب بلد فلاحي، والأرقام كما أوردها مخطط التنمية الاقتصادية و الاجتماعية (2000- 2004) توضح أن الناتج الداخلي الخام الفلاحي لا يشكل إلا أقل من 20 % من الناتج الداخلي الخام الإجمالي. يعتبرون الحد من الهجرة القروية غايتهم، ويفخرون أن البداوة متجدرة في البلد، حيث أن أكثر من 50 % من السكان يعيشون في البادية. كما أن 80 % من الأسر القروية تعيش على الفلاحة. و لا يعترفون أن ثمن حشر الناس في مرحلة البداوة يكلف البيئة غاليا، حيث تتفشى ظاهرة التصحر، بضياع الثروات الطبيعية المنتجة بنسبة 100.000 هكتار في السنة، ثلثها غابات يقتلع نباتها الطبيعي وأشجارها المنتجة، والباقي مراعي خصبة تتوسع على حسابها الفلاحة المعاشية الهزيلة، ثم سرعان ما تضيع تربتها تذروها الرياح في السماء، أوتهوي بها المياه في مكان سحيق.
ولا بأس من الإصرار على مدح "البداوة المنقذة" مع العلم أن نسبة الأمية تصل إلى 67 % في العالم القروي، ونسبة التمدرس فيه لا تتعدى 46% ، 23% فقط بالنسبة للفتيات. كما أن 45% من المناطق القروية تعيش في عزلة شبه كاملة، و63% من السكان القرويين لا يتوفرون على الماء الصالح للشرب. و 93% لا يستفيدون من التطبيب، و من غريب الصدف أن تمويل معظم الحاجيات الصحية في البادية يتم عبر المنظمات الدولية التي تشجع تحديد النسل. كما أن 87% من العائلات القروية لا تتوفر على الكهرباء، وهذا الرقم يوضع مستوى حظوظ البادية لاستقبال المشاريع التنموية.
يمدحون البداوة وقد قلص الأذكياء نسبتها في الدول المتقدمة: أقل من 5 % في بلدان الغرب، فهل تراهم يتسولون أقواتهم كما يفعل مغربنا الفلاحي جدا؟ "من بدا جفا" تحذير من الرسول عليه الصلاة والسلام وعلى آله، من حياة البداوة الجافية، وهم يصرون على الحد من الهجرة القروية، لئلا يزاحمهم البدو في الحواضر، ولتكريس الجفاء والاستئثار بما تتيحه الحياة المدنية.
ولا بأس من إبداء ملاحظات أخرى حول أرقامهم التي يرفعون عليها الحضر، مع شكنا المنهاجي وتخفظنا حول براءتها.
أرقام الإحصاء الفلاحي الأخير التي صرف عليها من المال العام ما لايحصى، اتفق بعض المختصين الفضلاء على عبثيتها وفراغ محتواها، لأن قوالبها ومنطلقاتها مزيفة، وغير مستقرة من إحصاء لآخر. هذه الأرقام أحصت الرجال في الأسر البدوية فقط دون النساء اللواتي حشرن تحت كفالة الرجال، وكأنهن يعملن تحت نظام الكلفة أو عمل الرقيق. استبعاد النساء وعدم رؤيتهن منتجات، كمثيلاتهن في البلدان المتقدمة توضح النظرة الدونية للمرأة التي تكرسها الإدارة التي تدعي الحداثة.
متوسط السن للمزارع المغربي 52 سنة، وله 3 إلى 5 أولاد بالغين يساعدونه؛ هؤلاء الشباب في نظر الإدارة مزارعون مساعدون يعيشون على إعانة آبائهم، والدولة غير معنية بضمانهم الاجتماعي كما هو الحال في البلدان المتقدمة. وتوشك الإدارة أن ترى من الطبيعي محاولة هروبهم إلى الخارج أو إلى مدن القصدير.
يتغير تعريف المزارع بدون أرض بين إحصاء وآخر، وفي كل الإحصاءات تراه لا يأخذ بعين الاعتبار المزارعات بدون أرض. وهذا التغيير التقني البسيط في التعريف كان له أثر كبير في مغالطة الناس حول الضغط السكاني على الأراضي الزراعية، وعن تفتت الضيعات التقليدية، وتكدس الأراضي الخصبة بيد أقلية.
50 % من السكان يعيشون في البادية، ولا ينتجون ما يكفي البلد من المواد الاستراتيجية، بينما أقل من 5 % من سكان البلدان الغربية ينتجون ما يمكن إغراق العالم به من منتوجات غذائية مختلفة.
الأرقام البئيسة المدرجة أصبحت أمرا مألوفا وتوشك أن تكون مدعاة للفخر للإدارة عند البنك الدولي يثبتون له بها أنهم حددوا من تناسل المسلمين ، وأفلحوا في تكريس تخلفهم وتبعيتهم لغيرهم من الأمم، وذلك لهثا وراء مناصب الخبرة في المنظمات الدولية المشبوهة، أو بعض الرشاوى المغلفة.
أولا : جذور الفقر في العالم القروي:
هناك من يريد تحميل الطبيعة والمناخ النصيب الأوفر من أسباب تعاسة بوادينا، سعيا وراء تقليص مسؤولية الإنسان في خلل وتعطل وسائل الإنتاج : الأرض والثروات الطبيعية. مناقشة هذا الرأي ندرجها عبر التحليل التالى، دون أن ننسى الإجابة المقتضبة التي تذكر أن مناخ بلدنا يشبه مناخ كاليفورنيا، فأين نحن من جنة أمريكا تلك؟
ثانيا : الإكراهات الطبيعية والمسألة العقارية:
الحالة الراهنة للرقعة الجغرافية القطرية التي تبلغ مساحتها الإجمالية 71 مليون هكتار لا ينكر أحد حالتها الطبيعية الهشة.
ما يقارب نصف هذه المساحة (31,8 مليون هكتار ) يمكن فعلا تصنيفه تحت نوع الأراضي الميتة لأنها تتميز بمناخها الصحراوي القاحل. العوامل المناخية في هذه المناطق الجافة هي السبب الأول في تفشي مظاهر الفقر الأشد وضوحا، خاصة عندما يتعلق الأمر بالافتقار لمياه الشرب. هذا إن سلمنا أنه لا سبيل لاستغلال هذه المناطق إلا عن طريق الفلاحة التقليدية، وهو تسليم بليد، لكن الواقع يكرسه مع كل الأسف.
المراعي الخاضعة حاليا لقانون أراضي الجموع أو مراعي الجماعات السلالية تقدر مساحتها بعشرين مليون هكتار، لا تزال في معظمها شركة عامة لكن بين أفراد الجماعة السلالية فقط، وتحت وصاية وزارة الداخلية و تحوم حولها الأطماع لتمليكها لبعض المحظوظين أو لمن يعرفون بذوي الحقوق مع غموض المصطلح بالنسبة لهذه الحقوق وبالنسبة لمصدرها. تتسم هذه المناطق كذلك بالجفاف الموسمي، وتظهر فيها علامات إتلاف الثروات الطبيعية المنتجة بسبب محاولات احتكارها للحراثة التي لا تتحملها.
الملك الغابوي ( بما فيه مروج الحلفا ) الذي يغطي مساحة تسعة ملايين هكتارهو ملك للدولة، تحت تسيير إدارة المياه والغابات. مشاكله لا يتسع لها موضوعنا، ويمكن الإشارة فقط لعناوين منها، تتعلق بنتائج تدبيرها وتسييرها من طرف الخبرة الأجنبية ومن يسير على نهجها، حيث تم رهنها لأحقاب من الزمن لتسديد القروض التي مولت مشاريع يوجه ريعها لصالح شركات لا تساهم إلا بقسط هزيل في تنمية البلد كمعامل الفلين والسيليلوز، وحيث يخطط ويشرع لكراء أراضي شاسعة لهذه الشركات بأثمنة رمزية، ولتفويت حقوق الصيد لشركات سياحية لا يأتي منها خير للبادية. فكان رد فعل السكان المجاورين للغابة منتظرا: الانتزاع الفوضوي لنصيبهم من الخيرات الغابوية من حطب وخشب و ثمار وكلأ وصيد. ويساهم المنتخبون عن السكان في تآكل الغابات كلما رجحوا مصالح الفترة الانتخابية على مصالح الأجيال المقبلة. ثروة طبيعية تكونت عبر مئات وأحيانا آلاف السنين، تذهب أدراج الرياح عندما تبدل خطط الاستغلال البعيدة المدى الراعية لشروط التنمية المستديمة، ببرامج ظرفية سياسية... وقس على ذلك من المشاكل الأخرى التي تؤدي للتفقير الشامل والمستديم لفئة عريضة من سكان البوادي.
الأراضي الزراعية: 9,2 مليون هكتار وهي حسب حكمها العقاري أنواع مختلفة سنذكرها بعد حين. هذا الصنف يمثل نسبة %13 من مساحة القطر الإجمالية، وهو في توسع مستمر على حساب المساحات العامرة طبيعيا: كالغابات و المراعي. عشر هذه الأراضي المحروثة يسقى بصفة دائمة بعد اعتماد سياسة محمودة : بناء السدود. إلا أن مجهود إيصال هذه المياه إلى الأراضي القابلة للسقي كان دون المستوى نظرا لعوامل مختلفة.
الهياكل العقارية لهذه الأراضي الزراعية، تتميز بمعضلات شتى أهمها: تفتت الملكيات بالنسبة للزراعة التقليدية و تكدس الإقطاعات الشاسعة في يد قلة من الملاك. وهذا الأمر يشكل السبب الرئيس في تفشي الفقر.
تفتت الملكيات وضآلة حجم الضيعات، نلمسها من خلال الإحصاءات الرسمية، حيث أن أكثرمن 80 في المائة من الضيعات معدل مساحتها لا يتجاوز 5 هكتارات. لكن الأخطر من هذه الحال وشيك: بعد فعل حكم التوارث في العالم القروي المعروف بمعدل زيادات في السكان تفوق 3 % ، يتوقع أن تنزل هذه المساحة إلى مستوى دون الهكتار الواحد للعائلة على المدى القريب جدا.
المساحة الدنيا الموفرة لمتطلبات العيش تختلف حسب المعطيات الزراعية والبيئية لكل منطقة. وعموما، الدراسات كانت تؤكد أن استغلال أقل من 5 هكتارات في المناطق المروية و 15 هكتار في المناطق البورية، بالكاد يسد رمق العائلة، ولا يمكن أن ينتج فائضا لمزاولة أي استثمار لمواكبة عوامل الإنتاج العصرية.
يعتبر انتشار الممتلكات الصغرى وكذا تفتتها وتوزيعها من أهم العوائق أمام استصلاح الأراضي و تكثيف الإنتاج، ولا يخول للقطاع الزراعي لا التكيف مع متطلبات الزراعة العصرية، ولامواجهة المشاكل التي يفرضها تزايد السكان، الشيء الذي يكرس اختلال التوازن بين الإنتاج ومتطلبات تغذية السكان.
وبالفعل، فقد أبانت التجربة على أن توزيع الممتلكات و تفتتها يتسبب في سلبيات خطيرة منها استحالة تطبيق مناوبة ملائمة على بقع محوطة وضيقة، و ضياع الوقت، و ارتفاع كلفة الإنتاج و صعوبة استعمال المعدات الزراعية في الضيعات الصغيرة.
وفي حالة الحفاظ على الاستغلال تحت نظام الملكية المشتركة، فإن عدة مشاكل تطرح، منها: صعوبة العمل بخيارات تقنية واقتصادية في مجال الاستغلال، و صعوبة تفاهم المشتركين في اختيار ممثل واحد للقيام بالتسيير.
كما أن ارتفاع عدد المشاركين في الملكية الواحدة يؤدي إلى توزيع المداخيل إلى الحدود التي لا تفي بحاجيات الفرد، مما يضيع فرص توفبر الجزء من الفائض الذي لا بد من توظيفه في الضيعة، كاستثمار لتحسين الإنتاج.
واقع الملكية المشتركة وصل حاليا إلى الطريق المسدود حيث أن نصيب الفرد في بعض الأحيان نزل إلى مستوى 0,14 هكتار في سنة 1991 بعدما كان سنة 1952 1,29 هكتار. ثم إن نسبة الضيعات التابعة لعرف الملكية على الشياع قفز من 48 % سنة 1952 إلى 78% سنة 1991 ( مثال مأخوذ من دراسة أنجزت في الدائرة السقوية لأولاد فرج بدكالة).
رغم مظهر الجمع الذي من المفترض أن تتيحه شكلا عملية ضم الأراضي، حالة تقسيم الأرض الغير المعلن بين الورثة وصل إلى الحدود التي تحول دون عمارة الأرض عمارة عقلانية كالعمارة التي يتيحها نظام التسيير عن طريق الشركات الشبه عمومية أو التعاونيات التي يبقى فيها شمل الأرض مجموعا و إمكانية الإستثمار فيها على المدى البعيد ممكنا لصالح كل المجتمع.
ومن ناحية أخرى، فإن الاستثمار الزراعي غير المباشر، عن طريق الاكتراءات القصيرة المدى، وبالمشاركات بنصيب من المحصول الزراعي، يمنع بذل أي جهد لتكثيف الإنتاج و مراعاة شروط التنمية المستديمة.
هذا الوضع العقاري المزري الذي يمكن اعتباره السبب الأول في تدهور إنتاجية الأراضي، وتفشي الفقر، له علاقة وطيدة مع المشكل المعاكس وهو تكدس الإقطاعات الشاسعة عند فئة قليلة من الملاك.
كارثة تفتت الأراضي الزراعية في العالم القروي التقليدي ترتبط ارتباطا وثيقا بمعضلة تكدس الإقطاعات الشاسعة تحت يد أقلية من الملاك الذين قل ما يبتغون فيما استولوا عليه الدار الآخرة. هذه الإقطاعات التي ننتظر، بدون جدوى، من الإحصاءات الفلاحية العامة الإفصاح عنها، يمكن لمسها عبر بعض الدراسات." ففي منطقة الغرب الذي يمثل بحق تركيز الأراضي الغنية، فنلاحظ أن 300.000 هكتار ( 58 بالمئة منها مروية ) مملوكة من طرف واحد في المئة من العائلات بينما 43,3 في المئة من العائلات هم مزارعون بدون أرض، و 40 بالمئة منها لا تملك سوى ما بين هكتار و 3 هكتارات غير مروية غالبا، و هي تغطي 11,7 بالمئة من الأراضي فقط " أن 5 إلى 10% من كبار المستفيدين من تصفية الإستعمار القروي، يملكون 60% من الاراضي، و 40 % من الفلاحين يملك الواحد منهم قطعة بنصف هكتار فقط.
المحوار الثاني : فشل في دمج القطاع الفلاحي العصري والقطاع الفلاحي التقليدي
من مؤشرات التخلف كذلك في العالم القروي: انعدام التضامن بين الزراعة التقليدية المفتتة العاجزة المكبلة بقيود الديون الربوية ، وبين الزراعة العصرية الغنية المرتبطة هيكليا بالخارج. هذه الزراعة العصرية التي تتعامل بموارد مالية داخلية و خارجية كبيرة، و تنعم بالعفو الجبائي، ولا تؤدي الحق المعلوم للسائل والمحروم، تجدها تسارع في التوسل بالأجانب لحل مشاكل تسويق منتوجاتها، عوض أن تلتفت تجاه الشعب لتلبية حاجياته الأساسية. التوسل بالأجانب يتخذ أشكالا مفجعة تذكرنا بزمن العار و قابلية الآستعمار في بداية هذا القرن. من هذه الفواجع كراء بعض الأراضي التي تسر الناظرين خصوبتها لبعض الصهاينة وبعض الصليبيين الذين لا يجدون أي حرج في غرسها بالكروم المنتجة للخمور، ربما تأسيا بشركات الدولة: أكبر منتج لها في هذا البلد المسلم. وقد تجد من يشعر بالحنين لزمن الاستعمار و يطعن في ظهيراسترجاع الأراضي المغتصبة ( قانون 2 مارس 1973 ). حتى أن بعض هؤلاء لم يتورع في اقتراح حل تفتت المستغلات في كرائها لأبناء المستعمرين أوغيرهم من الأجانب، وتعيين ملاكيها أجراء عند المستغل الجديد.
- سياسات فلاحية مترددة وخطر الكساد:
السياسة الزراعية المتبعة أثمرت عجزا في إنتاج الزراعات المعيشية الاستراتيجية (الحبوب والبقول)، و المنتوجات الغذائية الأساسية. و كرست التبعية للوسطاء الأجانب لعلاج مشاكل صادرات الفلاحة العصرية في زمن إجراءات الحماية التي وضعتها السوق الأوروبية المتحدة. وغدا يأتيك بأخبار كيد العولمة من لم تزود.
الزراعة الموجهة إلى التصدير تعتمد على مجموعة من المنتجات الساعية للربح الآني على حساب الأجيال، كلفتها باهظة بالنظر لما تخلف من عوامل الإفساد للبيئة و التبذير لمواردها الطبيعية . فهي مستهلكة لكميات كبيرة من مياه السقي، (سقي الهكتار الواحد منها يعادل سقي 5 هكتارات بواسطة السقي المركز أو السقي المكمل) ، وتحتاج لتربة خصبة، و تستهلك أسمدة ومبيدات كيماوية لا ننتجها بل تستنزف عملتنا الصعبة، و تجعل منا بلدا يستهلك أحيانا سموما محرمة في أغلب الأقطار.
الزراعة الموجهة إلى التصدير تستهلك كذلك تمويلات ومعونات الدولة، و تكبل البلد بقيود الديون والقروض الخارجية، سواء من أجل التجهيز (السدود، أشغال تهيئة الدوائر المسقية ...إلخ) أو الاستثمار (الأدوات الزراعية و البيوت البلاستيكية و التجهيزات المستوردة المتنوعة ... إلخ). هذا زيادة على إعفائها من أداء حتى الدرهم الرمزي في سبيل التكافل الاجتماعي عن طريق الزكاة أو الضرائب.
خيار الزراعة الموجهة إلى التصدير كان من أهم مبرراته جلب العملة الصعبة للبلد، وقد صعب فعلا جلبها، لأن جل السلع المصدرة تفتح أبواب تهريب الثروة الوطنية، التي ساهمت في تكوينها الأجيال الحاضرة والمقبلة، المتابعة بتسديد الديون مضاعفة بتبعات الربا المضاعف.
ولقد كره المزارع الأوروبي هذه السلع الرخيصة بسبب ما حشي فيها من إعانات الدولة المرئية وغير المرئية، حتى قيل أن المواطن المغربي يتبرع بنصف ثمن ما يبيع لنظيره الأوروبي. وهذا ما أدى إلى إجراءات الحماية التي وضعتها السوق الأوروبية، و بالتالي، تداعي الصادرات إلي حدود كارثية.
و كل المؤشرات تعلن أن الأمر سيستفحل والتبعية ستتكرس أكثر فأكثر في زمن العولمة الذي سيفاجئ من يهمهم الأمر ويداهمهم على حين غفلة منهم في غياب شبه كامل للدراسات المستقبلية لهذا الأمر.
و قد أصبحت خيبة أمل الصادرات الفلاحية هيكلية بفعل ميزان القوى الذي يتأرجح لصالح الاتحاد الأوروبي بصورة دائمة، وهو ما ساهم في تحطيم الاقتصاد المغربي و إضعافه رغم الخيار الأيديولوجي الرأسمالي و الليبرالي، ورغم محاولة اندماج الفلاحة و الاقتصاد المغربي في الاقتصاد الرأسمالي العالمي، ورغم تداخل المصالح الاقتصادية للطبقة الحاكمة مع مصالح الدول الأوروبية.
و نظرا لإعراض هذا النموذج الفلكي عن الحاجيات الاستهلاكية الداخلية، ظهرت معضلة ارتفاع الواردات الغذائية، وتظافرت مع معضلة انخفاض الصادرات الزراعية بفعل العراقيل الخارجية، مما أدى للعجز الهيكلي للميزان التجاري و تفاقم الديون الخارجية.
و قد انتقل معامل التبعية الغذائية الممثل بعلاقة الاستيراد بالاستهلاك من حدود 18 بالمئة بين 1961 و 1971 إلى حدود 28 بالمئة خلال الفترة 1986 - 1988 ، وقد يتجاوز 30 في المائة في السنوات العجاف التي صارت متواترة تحت أجوائنا.
- القطاع الصناعي في العالم القروي وتعثره:
كان من المنتظر أن يساهم القطاع الفلاحي العصري العمومي وكذلك الخاص في الانتقال بكبار الملاكين من طور الاستثمار الفلاحي إلى طور الاستثمار الصناعي للمساهمة في استيعاب اليد العاملة التي لفظها القطاع الفلاحي التقليدي المغلوب على أمره بسبب الإكراهات التي فات شرحها. فماذا تم في هذا الميدان الحيوي الذي كان مفتاح الحلول لمشاكل الفقر في البلدان المتطورة ماديا؟
إن تفاقم تبعية المغرب للغرب لم يقتصر على نمو الواردات الغذائية فقط، بل قام على نماذج أخرى من الواردات الناتج عن برنامج استيراد المعامل الجاهزة (clef en main) لتركيب 17 مصنعا للسكر و 13 مصنعا للحليب، وكذلك مصانع لمصبرات المواد الغذائية ومعامل للورق والفلين الخ... هذه التجهيزات الصناعية يبالغ في تقدير حجمها مما يجعلها تشتغل أحيانا تحت طاقتها الانتاجية. المستفيد الأول من هذا النوع من التصنيع الفلاحي التحويلي هي الجهة المصدرة لهذه المعامل الجاعزة، وكذلك بعض العائلات المحظوظة، زيادة على أن صيانتها كل خمس أو سبع سنوات يمثل في الحقيقة إعادة بناءها تقريبا. وهذا ما يجعلها تستهلك كل أرباحها في هذه التبعية التقنية للخارج.
أما الصناعات المصنعة (بكسر النون) التي تصنع الحديد وتنتج العتاد الفلاحي والآلات المحركة للزراعة العصرية، فهي مغيبة تماما عن العالم القروي وكذلك عن كل السياسات الفلاحية الخاضعة لإملاءات الغرب.
المحوار الثالث :الاستراتيجيات الإدارية الحالية لمعالجة عوز العالم القروي :
- مرجعية الاستراتيجيات الإدارية
من التوصيات المكيافالية التي يمليها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي على البلدان الفقيرة، حث المسؤولين على الاستعانة بخبرائه لوضع استراتيجية لمحاربة الفقر في بلدانهم. وهي مكيدة تمكن الغرب المهيمن على الحفاظ على مصالحه الحيوية والتخطيط لتكريس فلكية اقتصادياتنا.
وسيتضح ذلك من المنهجية التي وضعوها للإدارة لإعداد هذه الاستراتيجيات. إنهم يقترحون تصميما بريئا في ظاهره يروم في باطنه الحصول على أسرارنا ونوايا خططنا وأهدافنا، لكي يتم توجيهنا عن بعد لتكريس تبعيتنا واستغلال خيراتنا. يقترحون: 1. تشخيص معيقات التنمية و أسباب تدهور أسباب العيش في المجال القروي، وذلك بالانطلاق من الإحصائيات الرسمية، ثم وصف حالات الفقر وعتباته، ثم تحليل الحواجز الاقتصادية الاجتماعية البنيوية أو الهيكلية و المؤسسات التي تحول دون تدني حالة البؤس. 2. تحديد الأهداف المتوسطة و البعيدة المدى لاستراتيجية معالجة الفقر. 3. الإفصاح عن السياسات الاقتصادية البنيوية و الاجتماعية التي تشكل الاستراتيجية. 4. تحديد مؤشرات دالة على تحقيق تقدم في النتائج كمؤشر التمدرس و مؤشر النمو ومؤشر زيادات النسل ومؤشر إدماج المرأة. 5. الاستراتيجية تحدد كذلك كل تدخلات الدولة التي تتولى تحقيق الأهداف القريبة المدى في إطار الميزانية العامة للدولة. 6. التتبع، عبر تعيين مسئولي التتبع، وتحديد الوثائق و المعلومات التي يجب بعثها للبنك الدولي كأنه دولة فوق الدولة، ثم تحليل المعلومات، ثم دراسة النتائج، وانتهاءا بإعادة النظر في المؤشرات، وإذا اقتضى الحال في الأهداف. 7. متابعة وقع الديون الخارجية و أثرها في انتشار الفقر. 8. متابعة نتائج تحويل الديون إلى استثمارات. 9. متابعة نتائج الاعتماد على المجتمع المدني في محاربة الفقر.
ولا بد من الإشارة إلى أن البنك الدولي و صندوق النقد الدولي والبنوك الأوروبية يتطوعون لإعانة البلدان في إعداد الاستراتيجية. فهذه المؤسسات:
1. تعطي رأيها في الحواجز الأساسية التي تعوق معالجة الفقر و اقتراحاتها في السياسات التي تمكن من تجاوز هذه الحواجز من خلال حوار بينها وبين البلد حول توجيهاتها العامة.
2. تبعث لها مشروع الاستراتيجية للقبول أو الرفض، وفي حالة القبول تكون تسهيلات في منح القروض و بعض الإعفاءات...
و هكذا تتمكن الدول الغنية بواسطة هذه المؤسسات التحكم في وسائل التنمية. فإذا كانت الاستراتيجية تستهدف تحرير البلد من الاقتصاد الفلكي، وتستهدف البناء الحقيقي والاعتماد على الطاقات و الإمكانات والقرارات الذاتية، وإذا كانت ترمي لحماية السوق الداخلية من غزو منتوجات الغرب و إذا كانت تهدف لمبادلة عادلة بين الدول... فإن هذه المؤسسات تكون لها المرصاد.
- مضمون الاستراتيجيات الرسمية لمحاربة الفقر في البوادي
في إطار المنح الجديدة ( soft ) التي تتفضل بها المؤسسات الدولية للتحكم في مستقبلنا، تم تمويل وضع استراتيجية التنمية الفلاحية لسنة 2020. وهي من النماذج التي توضح مدى سقوط بعض مسؤولينا في فخ التخطيط الاستراتيجي للمؤسسات المصرفية الدولية. هذه الاستراتيجية تتمركز حول المحاور الأساسية التالية:( المناظرة الوطنية للفلاحة والتنمية القروية 19-20 يوليوز2000: التقرير النهائي ص. 100)
1. الحد من تأثر المنتوجات الفلاحية والموارد الأساسية بالجفاف؛
2. الرفع من القدرات الإنتاجية و الفعالية الاقتصادية للفلاحة المغربية؛ 3
. تحسين ظروف الاستغلاليات الفلاحية من أجل تنافسية أكبر و ملائمة المقاربات التنموية مع تنوع الاستغلاليات الفلاحية؛
4. اعتماد سياسات فلاحية مجالية من أجل التأقلم مع تنوع المؤهلات و المساهمة في ربح رهانات اللامركزية؛
5. تطوير سلاسل الإنتاج في إطار سياسات مبنية على التشاور و الدعم؛
6. ضمان تدبير مستديم للموارد الطبيعية؛
7. المساهمة في مكافحة الفقر و في التشغيل من خلال جعلهما الركن الأساسي في التنمية القروية.
أما استراتيجية التنمية القروية فهي تهدف لتحقيق سياسات معينة منها:
1. سياسة ماكرو– اقتصادية مواتية للتنمية الفلاحية و لإنعاش المناطق القروية
2. سياسة من أجل نمو فلاحي فعال و تكثيف اليد العاملة
3. سياسة لتدبير الموارد الطبيعية تنبني على "تسئيل" مستعمليها
4. سياسة لدعم التشغيل القروي و محاربة الفقر
5. سياسة لتنويع الأنشطة القروية في إطار إعداد التراب الوطني
6. سياسة تستهدف تيسير استفادة الساكنة القروية من الخدمات الصحية و التعليمية و الاجتماعية.
( المناظرة الوطنية للفلاحة والتنمية القروية 19-20 يوليوز2000: التقرير النهائي ص. 101)
- أساليب وأدوات التنفيذ و الإطار المؤسساتي:
فيما يتعلق بتنفيذ استراتيجية التنمية الفلاحية و استراتيجية التنمية القروية فإن المقاربة المقترحة تستدعي بإلحاح تدبيرا للتنمية مغايرا لما هو سائد حاليا. ويتجلى هذا التدبير في اعتماد الأساليب التالية:
1. الاندماج و النظرة الشمولية
2. المجالية و اللامركزية
3. التزام الدولة الواضح و القوي و انخراطها الفعلي في مسلسل التنمية الفلاحية و القروية
4. وضع إطار جديد للشراكة مع المنتخبين و الفاعلين على الصعيد الجهوي و المحلي، وعلى مستويات سلاسل الإنتاج و الإستغلاليات الفلاحية.
الإطار المؤسساتي تم التعرض له من خلال نظرة سلطوية بيروقراطية تقترح ما يلي:
1. ضرورة تقنين مهنة الفلاحة و كذلك مختلف المهن المرتبطة بها كما هو الشأن في ميادين أخرى؛
2. دعم المؤسسات ذات الطابع المحلي بما فيها المنظمات غير الحكومية العاملة في مجال التنمية الفلاحية و القروية؛
3. خلق لجن جهوية للتنمية الفلاحية و القروية تأخذ بعين الاعتبار الخصائص المجالية و المحلية للعملية التنموية
4. إعادة النظر في سياسة تمويل الفلاحة باتجاه سن مقاربة جديدة ترتكز على التمييزات حسب المنتوج و المجال و الوضعية الخاصة للاستغلاليات الفلاحية
5. توفير موارد مالية كافية و خطط عمل تتلاءم و الإرادة السياسية الهادفة إلى تحقيق التنمية الفلاحية و القروية
6. وضع ميثاق للتنمية الفلاحية و القروية يتجاوز مقتضيات قانون الاستثمار الفلاحي الحالي
7. إبرام عقد اجتماعي بين الدولة و شراكئها كمشروع مشترك لتنمية الفلاحة و العالم القروي.
- حدود الاستراتيجيات الإدارية اللاييكية.
ماذا يمكن للفلاح البئيس المشرف على حافة الكساد، المثقل بالديون، أن ينتظر من استراتيجية لم يكن له فيها رأي ولا نظر؟ إنها استراتيجية ذات مرجعية فلكية، مستسلمة خاضعة لإملاءات المؤسسات المصرفية الدولية. لذا لا تكاد تجد فيها ذكرا لمسألة احتكار وتعطيل وسائل الإنتاج وسبل فك عقدها، ولا لمسألة التصنيع القروي، ولا لمسألة التمويل الحلال للاستثمار في العالم القروي، ولا لمسألة التوزيع العادل للإنتاج على من ساهموا فيه، ولا للمسألة الحقوقية التكافلية، ولا للضمان الاجتماعي للقرويين وللقرويات... ولن تجد بالتأكيد أي ذكر للبواعث الإيمانية والضوابط الشرعية، لمقاربة مشكل عوز الفئات العريضة من سكان البادية مقابل تخمة فئة قليلة من المحتكرين لوسائل الإنتاج.
إنها إذن ليست سوى استراتيجيات تمكن الدول الغنية التحكم في مرجعية وأهداف ووسائل تنميتنا. أهدافها الحقيقية ليس سوى:
1. ترسيخ البداوة في عيشنا، رغم مخاطر تصحر مجالنا القروي، لكي نبقى دوما سوقا مستهلكة لمنتوج صناعاتهم وزراعتهم؛
2. تكريس الجفوة في أخلاقنا والتنافر في نسيجنا الاجتماعي، والقضاء على ما تبقى من أسس تضامننا ومرجعية تكافلنا؛
3. صرفنا عن البناء الحقيقي الذي يعتمد على الطاقات و الإمكانات والقرارات الذاتية.
وهذا ما يستدعي من الضرورة إعادة إنتاج سياسة جديدة للعالم القروي تتوخى إصلاح ما أفسده خبراء الذيلية وهذا النتائج كانت لها أثار سلبية على تنمية العالم القروي ،الشيئ الذي يجب النظر إليه مستقبلل في إطار الإصلاحات الدستورية الجديدة التي عرفها المغرب يجب التركيز على التنمية الشاملة للعالم القروي في ظل مشروع الجهوية المتقدمة الذي يسعى إلى تحقيق التنمية وتكون الجماعات الترابية قاطرة في التنمية القروية وفك العزلة والتهميش عن العالم القروي ويجب تغيير نظرة المنتخب الجماعي إتجاه العالم القروي .
المراجع المعتمدة:
1) وزارة الفلاحة والإصلاح الزراعي- الإحصاء الفلاحي العام لسنة 1974
2) وزارة الفلاحة والتنمية القروية والصيد البحري - الإحصاء الفلاحي العام لسنة 1996
3) وزارة التخطيط والتوقعات الاقتصادية- مخطط التنمية 2000-2004
4)عبد الحميد إبراهيمي، المغرب العربي على مفترق الطرق،
5)في الغمة المغربية، سلسلة شراع العدد 20 ص 51.
6)المناظرة الوطنية للفلاحة والتنمية القروية 19-20 يوليوز2000
7)Conseil Général de Développement Agricole, Stratégie 2020 de développement rural, edit consulting.
8)La banque Mondiale. Stratégie de lutte contre la pauvreté. http://www.worldbank.com