لقد اصبح مفهوم الانتقال الديمقراطي من اكثر المفاهيم استعمالا في الفترة الراهنة ، سواء في الحقل الاكاديمي او السياسي ، وهو يشير الى عملية التحول من نمط غير ديمقراطي ( مدني او عسكري ) الى نمط يحوي مؤشرات ديمقراطية كما هو متعرف عليه في الادبيات النظرية كالتداول على السلطة ، احترام الاقليات ، احترام حرية الرأي و الفكر ، و احترام حقوق الانسان... وقد اختلف الباحثون و علماء الاجتماع في اعطاء تعريف محدد لهذا الانتقال ، فالفرنسي " ألان تورين " Alain Touraine ذهب إلى اعتبار أن الانتقال الديمقراطي هو عملية متدرجة تتبلور في سياق علاقة الدولة بالمجتمع بعد صراع سياسي قد يطول أمده ، في حين اعتبر عالم الاجتماع الأمريكي " فليب شميتر flip chmitter " أن الانتقال الديمقراطي هو مجموعة من مراحل تطور المجتمع الذي يخضع إلى أحداث متكررة ، و لتطورات فجائية و غير متوقعة ، تجعل الدولة تقبل حلول اضطرارية .
وقد تكرست عمليات التحول الديمقراطي منذ انطلاق ما عرف " بالموجة الثالثة "، التي عاشها العالم في سبعينيات القرن العشرين ، و التي اتضح من خلالها عدة اساليب لهذا الانتقال من اهمها :
- الانتقال من اعلى ، و الذي تتصدره القوى الاصلاحية في النخبة الحاكمة ، فهو يتم من داخل البنيات السياسية لا من خارجها . و غالبا ما يبدأ هذا الانتقال عندما تتوفر قناعة للنظام السياسي على انه لا نهج له عن الاصلاح لتجاوز الاصطدام مع المجتمع ، وقد اعتبرت اسبانيا و البرتغال نماذج لذلك.
- الانتقال من خلال عمليات التفاوض : و التي تقع بين النظام السياسي و المعارضة ، بحيث يقوم الانتقال هنا عبر العمليات الاتفاق و المساومات بين طرفي المعادلة كما حدث في " السالفادور و جنوب افريقيا و النيكاراغوا ".
- الانتقال من خلال التدخل العسكري الخارجي : و الذي يتصل غالبا بإشكالية التدخل الدولي عبر اليات تجاذب المصالح الاستراتيجية ، و التوازنات الدولية و الاقليمية على غرار ما حدث في العراق.
- و اخيرا الانتقال من الاسفل و الذي يتشكل نتيجة الضغط على النظام الحاكم من طرف الحركات الاجتماعية التي تلجأ الى عامل التعبئة الجماهيرية ، بحيث تجبر النظام على تقديم تنازلات سياسية تمهد لعملية الانتقال ، وقد كانت الحراك الجماهيري لسنة 2011 خير مثالا لذلك.
فبعد اندلاع ما سمي "بالربيع العربي " ، تم اعادة النظر في مجموعة من الاطروحات النظرية التي اهتمت بدراسة النظم السياسية العربية " الابوية " ، خصوصا بعد تراجع منظور التحول الديمقراطي ، بحيث ذهب اغلب الباحثين بعد الحراك مباشرة في اتجاه قدرة هذه الانظمة السياسية على التكيف بشكل كبير ، و مرونتها في التعامل مع التحديات الداخلية و الخارجية ، و استطاعتها خلق و فبركة صراعات و اصطدامات افقية بين مختلف البنيات السياسية و العسكرية . و هكذا تم الترويج لمجموعة من المبررات التي تبقي الانظمة السياسية على سدة الحكم كغياب التجانس المجتمعي و الثقافي ، و موقع القرب الجيوستراتيجي من مركز الصراع العربي- الاسرائيلي ، لكنها دحضت وأصبحت متجاوزة بعد ما سمي " ربيعا عربيا " .
وبغض النظر عن طبيعة ما وقع( انتفاضة – ثورة – انقلاب – مؤامرة ...) تم تحريك المياه الراكدة مجتمعيا ، و اعاد اشكالية الانتقال الديمقراطي في العالم العربي و معيقاته الى الساحة الاكاديمية و السياسية ، على اعتبار ان المسافة الزمنية الفاصلة بين انطلاق الحراك الاجتماعي و نتائجه اثبتت تغيرات في الرؤى و التصورات ، ففي البداية ذهب اغلب الباحثين و المهتمين بالدراسات الديمقراطية في العالم العربي الى القول ان هناك انتقالا ديمقراطيا على الابواب ، خصوصا بعد ظهور مجموعة من المؤشرات الدالة على ذلك : كتنحي وهروب الرؤساء ، استمرار المظاهرات ، تأسيس مجالس تأسيسية ركنت اليها مهام صياغة الدساتير ، تنظيم انتخابات حرة و نزيهة ، عودة التقاطبات السياسية و الاديولوجية ، محدودية التدخل الاجنبي في البداية ,,,
لكن بعد مرور الوقت ظهرت متغيرات اخرى قلبت الطاولة على تطلعات الانتقال الديمقراطي ، لتبدأ بالظهور معيقات تحول دون تحقيق المبتغى و الهدف المنشود ، فمنها ما يرتبط بالأنظمة السياسية العربية و قدرتها على اعادة تجديد مشروعيتها " التسلطية " ، ومنها ما يرتبط ايضا بطبيعة المجتمعات العربية ، و بنياتها الثقافية التقليدية ، دون ان ننسى ايضا استحضار العامل الخارجي و قدرته على التأثير على المتغيرات الداخلية ، مادمت هذه الانظمة لم تستطع تحقيق استقلالها الذاتي اقتصاديا ( كمحدد اساسي ) و سياسيا ، و بثر التبعية " للإمبريالية العالمية " .
فماهي ابرز هذه المعيقات ؟ وهل يمكن تجاوزها و المضي قدما لوضع ارضية مناسبة لتأسيس انتقال ديمقراطي يخلق القطيعة مع الانطمة السلطوية ، ؟
اولا : حركات الاسلام السياسي :
رغم ان ادبيات الانتقال الديمقراطي تذهب الى اعتبار وصول المعارضة الى السلطة تعتبر مؤشرا على امكانية انتقال نظام سياسي من مرحلة اللاديمقراطية الى مرحلة ديمقراطية عبر الية التداول على السلطة . إلا ان وصول حركات الاسلام السياسي في العالم العربي الى السلطة بعد ما سمي " بالربيع العربي " ذهب عكس ذلك ، و اعتبر معيقا لتحقيق الانتقال ، لاستئثارهم بالسلطة السياسية ، و ابعاد كافة القوى السياسية و المجتمعية عن تدبير الشأن العام العربي ، خاصة القوى القومية و العلمانية التي تشكل شريحة هامة من المجتمع العربي ، باعتبارهم مهددين للمشروع " الاخواني " . و يعود السبب في هذا الاقصاء ، و عدم قابليتهم لتحقيق توافق مع المكونات السياسية الاخرى هو التماهي الحاصل بين الجناح الدعوي لهذه الحركات ، ودراعها السياسي ، اضافة الى الاديولوجية الوهابية التي لا تؤمن بالاختلاف ، و تناقض المرجعية الديمقراطية التي تستمد بدورها اصولها من الفلسفة الليبرالية الغربية المرفوضة من طرف هذه الجماعات . فلا يمكن الحديث اذن عن الديمقراطية ، و عن الانتقال الديمقراطي دون الايمان بالمذهب الليبرالي ، و الحرية الفردية ، فهذا يناقض المرجعية الوهابية التي تؤمن بمبدأ " الحاكمية لله ".
ثانيا : البنية الثقافية للمجتمعات العربية :
لقد نهلت الثقافة العربية الكلاسيكية مرجعيتها من ظروف موضوعية تعود جذورها الى مرحلة البداوة في شبه الجزيرة العربية ، و التي اتصفت بركود لعقود طويلة خلفت نتائج سلبية مازلت كامنة في الثقافة العربية الى حد الساعة. و من بين سمات هذه الثقافة طبيعة العلاقات الابوية القائمة بين الاب و الاسرة ، بين الشيخ والمريد ، بين الراعي و الرعية.
ويمكن اسقاط هده العلاقة على الحاكم و المحكوم في الانظمة السياسية العربية ، و التي تكرس الخضوع الى الحاكم حتى ولو استبد بشعبه ، مع الذكر ان الحاكم يشرعن استبداده باسم الدين و التقاليد و الاعراف ، و يكرس الحفاظ عليها و على استمرارها ، بغض النظر ان كانت مازلت تساير تطور المجتمع ، او تكرس التخلف .
ثالثا - الدولة العميقة :
الدولة العميقة مفهوم تداول في مجموعة الدول ، كأميركا أللاتينية ، ثم إنه لقى شهرة في تركيا بوجه أخص منذ أكثر من نصف قرن . ويقصد به " شبكة العملاء الذين ينتمون إلى تنظيم غير رسمي ، لهم مصالحهم الواسعة وامتداداتهم في الداخل والخارج. ونقطة القوة فيهم أن عناصرهم الأساسية لها وجودها في مختلف مؤسسات ومفاصل الدولة ، المدنية والعسكرية والسياسية والإعلامية والأمنية ". الأمر الذى يوفر لتلك العناصر فرصة توجيه أنشطة مؤسسات الدولة الرسمية والتأثير في القرار السياسي. وللدولة العميقة وجهان، أحدهما معلن وظاهر يتمثل في رجالها الذين يتبوؤون مواقع متقدمة في مؤسسات الدولة والجيش والبرلمان والنقابات إلى جانب مؤسسات الإعلام و حتى علماء و رجال الدين. الوجه الآخر خفي غير معلن يتولى تحريك الأطراف المعنية في مؤسسات الدولة لتنفيذ المخططات المرسومة .
ان تحرك ما يعرف بالدولة العميقة اثناء ما عرف " بالربيع العربي " شيء طبيعي ، وكان محتملا ، لمحافظتها على الوضع السياسي الذي يخدم مصالحها و استراتيجيها المعلنة و الخفية ايضا ، على اعتبار ان أي اعادة لتوزيع الادوار السياسية بين الفاعلين السياسيين يعيد في نفي الوقت ترتيب القوة و المصالح الاقتصادية بين كل اللاعبين .
رابعا: الصراعات الطائفية و الدينية :
تعتبر الصراعات الطائفية و الدينية من اهم معيقات الانتقال الديمقراطي بالعالم العربي ، باعتبارها قنابل موقوتة تهدد استقرار هذه النظم ، و اذكائها يعود الى الانظمة السياسية نفسها التي تلعب على هذا الوثر لخلق وفبركة صراعات افقية بين القوى و المكونات السياسية و المجتمعية ، ولتفادي ايضا توجيه الصراع عموديا إن توافقت القوى المعارضة بالغض النظر على انتماءاتها الاديولوجية و الدينية . كما يعود تأجيجها ايضا من طرف القوى الاجنبية باعتبارها مدخلا للتفتيت و التسهيل الطريق نحو الاستعمار . ويعيش العالم العربي في هذه الاونة صراعات طائفية بين الشيعة و السنة في العراق و سوريا و لبنان ، تذهب الى تفتيت المجتمع و المؤسسات و سيادة الدول . وما ينطبق على الصراعات الطائفية يمكن اسقاطه ايضا على الصراعات الدينية. وقد كان اخرها الاصطدام بين المسلمين و الاقباط في مصر الذي خلف العديد من القتلى و حرق رموز دينية.
خامسا - المجتمع المدني :
يشير مصطلح منظمات المجتمع المدني إلى جمعيات ينشئها أشخاص تعمل لنصرة قضية مشتركة وهي تشمل المنظمات غير الحكومية ، والنقابات العمالية، وجماعات السكان الأصليين ، والمنظمات الخيرية ، والمنظمات الدينية ، والنقابات المهنية ، ومؤسسات العمل الخيري ، فهي تتمثل باستقلالها عن الحكومة والقطاع الخاص مبدئيا .. لكن الاشكال المطروح بخصوص هذه هيئات في الدول العربية هو مدى تحقيق هذه الاستقلالية عن توجهات الدول ، بحيث تعمل الانظمة السياسية على التضييق عليها ، و جعلها ابواقا تخدم اجنداتها السياسية ، بل اكثر من ذلك تصبح ادوات للتجسس تعمل عمل مخابراتي ، لتصير اداة مراقبة للشعوب عوض ان تراقب السلطة . فملاحظ ان اغلب الانظمة السياسية العربية تقوم بخلق نقابة او جمعية كدرع لأحزابها السياسية ، ليصير التماهي و الخلط بين العمل السياسي و عمل هيئات المجتمع المدني. فتحقيق انتقال ديمقراطي حقيقي في الدول العربية كفيل بمدى قدرة هذه المنظمات بتحقيق استقلالها عن السلطة .
سادسا - التدخل الخارجي :
رغم الخطاب التي تروجه القوى الدولية العظمى بنشر الديمقراطية و ثقافة حقوق الانسان ، إلا ان التجربة اثبتت ان التدخل الاجنبي معيق للانتقال الديمقراطي ، و انه لا يمكن نسخ تجارب ديمقراطية لمجتمعات اخرى ، على اساس ان لكل دولة خصوصياتها . فالتدخل اذن في شؤون الدول الداخلية حتى وان كانت تبريرات قانونية ، او كان تحت غطاء الشرعية الدولية لا يهدف إلا لتحقيق مصالح استراتيجية للقوى المتدخلة عبر استنزاف ثروات بلدها و التحكم فيها سياسيا ، عسكريا ، و ثقافيا ، فالتجارب السابقة التي سجلت التدخل الاجنبي لم تنبث قط اي تأسيس لانتقال ديمقراطي في اي دولة .
خلاصة القول ان العالم العربي يعيش مند مدة طويلة على مخاض الانتقال من انظمة " تسلطوية " الى انظمة ديمقراطية ، من خلال بناء دولة مدنية " علمانية " ، لا عسكرية ولا دينة . ورغم ظهور معيقات عديدة حالت دون ذلك ، او اجلت الوصول الى عملية الانتقال ، إلا ان التجاذب و الصراع بين القوى الداعية للديمقراطية ، والأخرى المناقضة لها مازال قائما في انتظار متغيرات يمكن ان تكون حاسمة مستقبلا . فتحقيق انتقال ديمقراطي في البلدان العربية لا تتحمل مسؤوليته الانظمة السياسية فقط ، بل حتى المجتمعات بكل مكوناتها ، على اعتبار ان الديمقراطية ثقافة قبل ان تكون ممارسة سياسية.
المراجع المعتمدة :
- الان تورين ما الديمقراطية ؟ دراسات فلسفية ، ترجمة عبود كسوحة ، منشورات وزارة الثقافة ، سوريا 2000
- فيليب شميتر ، الرأسمالية و الاشتراكية و الديمقراطية ، ترجمة حيدر حاج اسماعيل ، المنظمة العربية للترجمة ، الطبعة 1 ، بيروت مارس 2011.
- شادية فتحي ابراهيم عبد الله ، الاتجاهات المعاصرة في دراسة النظرية الديمقراطية ، سلسلة الدراسات السياسية ، المركز العلمي للدراسات السياسية ، الطبعة الاولى ، 2005
عبد الله حمودي الشيخ و المريد : النسق الثقافي للسلطة في المجتمعات العربية الحديثة ، ترجمة عبد المجيد جحفة ، دار توبقال للنشر الطبعة 2010
_ عزمي بشارة ، المجتمع المدني : دراسة نقدية ، المركز العربي للابحاث ودراسات السياسيات ، الطبعة 6 2011
-
حسنين توفيق إبراهيم ، الانتقال الديمقراطي: إطار نظري ، مركز دراسات الجزيرة للدراسات: http://studies.aljazeera.net/files/arabworlddemocracy/2013/01/201312495334831438.htm