مقدمة
يعتبر المنطق من المواضيع الفلسفية ذو الأهمية البالغة، وتعود جذوره إلى أرسطو، حيث اعتبره فنا وأداة في خدمة المعرفة، في ضوء ذلك عرفه الفارابي بأنه:" مجموعة قوانين تستخدم لقياس المعقولات كما تستخدم الموازين و المكاييل في قياس الاجسام". و عرفه الغزالي على أنه:" القانون الذي يميز الحد و القياس من غيره، كأنه الميزان و المعيار للعلوم كلها، وكل ما لم يوزن بالميزان لا يتميز فيه الرجحان من النقصان ولا الربح من الخسران".1
أما المنطق القانوني فقد ظهر سنة 1615 مع شيخاردوس (Schickhardus) في مؤلفه " المنطق القانوني" (logica iuridica)، ثم بعد ذلك استعمله مجموعة من المؤلفين الاخرين أمثال: رينييروس (Regnerus) 1638، وليبنيز (Leibnez) 1696، وبيولا (Piola) 1895، وبيريلمان (Perelman) 1976 و اخرون.
و في القرنين 19 و 20 ظهرت مصطلحات أخرى من قبيل " منطق القانون"، و" المنطق القضائي" ، بل "منطق القاضي". وهاذين الاخيرين يحيلان على أهمية التطبيق القضائي للقانون وما يتطلبه من تفسير.
وقد عرفه شيخاردوس:" المنطق القانوني، أي القواعد والمبادئ وطرق الحجاج (argumentation) عن طريق الاستنباط (induction)وتفسيرالقوانين، في اتجاه هذا الجزء من القانون الذي يقوم على أساس تفسير ماوراء النصوص و التعاريف المعطاة من طرف المشرع ..."2
و عرفه لوروي (Le Roy) بكونه: « science qui étudie les raisonnements juridiques. » وأيضا:
Logique juridique : « Partie de la logique qui a pour objet l'étude des spécificités du raisonnement et de la méthode juridique »3
أي العلم الذي يدرس خصوصيات التبرير والمنهج القانوني.
وهو مفهوم يختلف من حيث الزمن و المكان و ذلك لاعتبارات عدة:
- المنطق القانوني يختلف بحسب تصورنا للقانون.
-رجل القانون يقوم باختيار العناصر التي يؤسس عليها تبريره. وبالتالي فهذه الاختيارات تتأثر بالظروف المحيطة بها.
- الاسباب التي تدفع إلى اختيار حل قد لا تتفق مع أسباب أخرى لحل آخر، ذلك أن الحل المعتبر صائبا في وقت ما، قد لا يكون كذلك بعد زمن.4
والخوض في هذا الموضوع، يضعنا أمام التساؤل التالي: هل يخضع القانون والتحليل القانوني للمنطق؟ إذا كان كذلك فهل هو منطق خاص أو المنطق ذاته المعمول به في المجالات الاخرى للنشاط الانساني؟
وتتفرع عنه مجموعة من الأسئلة: ما هو تاريخ المنطق القانوني؟ ماذا نعرف عنه؟ وإذا كان القانون يخضع للمنطق فهل هو المنطق الشكلي أم منطق اخر؟
للإحاطة بهذا الموضوع، سنحاول معالجته في مبحثين:
المبحث الأول: مشكلة منطق القانون .
المبحث الثاني: اتجاهات منطق القانون .
المبحث الأول: مشكلة المنطق القانوني
يتناول المنطق5 تلك العلاقات بين اقتراحات تصف واقعا وقابلة لأن تكون صحيحة أو خاطئة، في حين أن القانون يتألف من عدة قواعد، حيث ثمة إجماع على أتها ليست صحيحة ولا خاطئة.
وقد أدى تضارب الأراء بشأن وجود منطق للقانون من عدمه، إلى ظهور موقفين مختلفين. أحدهما يقول بعدم امكانية وجود منطق للقواعد (مطلب أول) في حين ذهب الاخر إلى الاعتراف بوجود منطق لهذه القواعد (مطلب ثان)
المطلب الأول: عدم امكانية وجود منطق للقواعد
إن الحسم لصالح وجود منطق القانون، هو أمر صعب من الناحية الواقعية ذلك أن كلمة قانون قد تعطى لها عدة معان: القانون الوضعي أو المنظومة القانونية أو علم القانون... فضلا عن تعدد النظريات المتعلقة بالقانون، بالمنطق والعلم.
يرى هانس كلسن ان القاعدة القانونية تعبر عن إرادة من أطلقها. والإرادة واقعة، والعلاقات بين الوقائع ليست علاقات منطقية. من ناحية ثانية، يستحيل أن ننقل إلى القواعد العلاقات بين الاقتراحات التي نجدها في العملية القياسية6. فإذا أخذنا مثلا هذه العملية القياسية: إذا كان صحيحا أن كل البشر يموتون، وكان سقراط بشريا، إذن يكون صحيحا أن سقراط فان. فالقول إن جميع البشر فانون، هو افتراض عام، يعني أن المقصود كل الناس فانون، وسقراط أدمي، فسقراط فان، فهو صحيح أيضا لأنه ينطلق من افتراض عام.
فهل يمكن نقل هذه العملية إلى القواعد؟ فإذا اعتبرنا القاعدة (يجب أن يعاقب جميع السارقين) التي ليست لا صحيحة ولا خاطئة، لأنها أمر( و الاوامر لا يمكن أن نقول عنها صحيحة أو خاطئة)، فهل يمكن استنتاج أمر اخر: علان سارق، يجب أن يعاقب. فهذه القاعدة تعبر عن إرادة المشرع، و المشرع لا يشرع إلا للمستقبل فهو عندما يصدر بيانا عاما و مجردا فهو لا يمكن أن يشمل علان الذي لا يعرفه. فأن يريد معاقبة جميع السارقين، لا يعني بالضرورة أن يعاقب علان لأنه لا يعرفه.7
وإذا كان هذا الموقف يستبعد إمكانية وجود منطق للقواعد القانونية ، فإنه يمكن الرد عليه بضرورة التمييز بين المنطق والسيرورات العقلية أي أن المنطق لا يستند إلى المعنى الذي يعطيه الأشخاص الحقيقيون للعبارات اللغوية، بل يستند إلى المحتوى الدلالي لهذه العبارات2. فعندما نفترض عكس القاعدة الأولى، أي كل البشر غير فانون، فإن علان يكون غير فان، هو النتيجة للعملية القياسية، حتى و لو عرفنا أن ليس من صفة البشر الخلود، وحتى لو كنا نجهل وجود علان. ولهذا فإن ما يريده المشرع لا يهم كثيرا، فإذا أمر بمعاقبة جميع السارقين فإن الصيغة (جميع السارقين) تشمل حتما السيد علان.8
المطلب الثاني: امكانية وجود منطق للقواعد القانونية
إذا كان الموقف السابق كما سلف لا يرى ثمة منطق للقانون، فإن البعض الاخر يقر بوجود منطق يحكم القواعد القانونية، معتبرا أن القانون علم عقلي، بحيث يتضمن مجموعة من المبادئ المنسقة تنسيقا منطقيا و يستنتج منها أو يترتب عنها قواعد قانونية لا يتيسر الوصول اليها إلا من خلال عملية مزدوجة هي التحليل و التركيب9
وهذه الإمكانية تنطلق من وجود منطق ممكن للقواعد، إما لاعتبار القواعد رغم كل شيء قابلة ان تكون صحيحة أو خاطئة، وإما لأنها تمتلك نوعية متكافئة (qualité équivalente). هكذا فإن البعض يؤيدون فكرة أن القواعد هي صحيحة أو خاطئة، و أنه من الخطإ تشبيهها بالأوامر. فإذا كان من الخطإ وصف الإيعاز ( عاقبوا السارقين) بالخطإ أو الصواب، فإنه ليس من الخطإ القول صحيح أو غير صحيح (أن السارقين يجب أن يعاقبوا).10
إلا أن هذا الموقف لا يستقيم تماما لأن العبارة (يجب أن يعاقب السارقون) تحمل في الحقيقة معنيين. فهو من ناحية يمكن أن يحمل على أنه اقتراح قانوني يصف قاعدة آمرة، و بالتالي امكانية أن يكون صحيحا أو خاطئا. ومن ناحية أخرى يمكن أن يعبر الاقتراح عن إرادة المشرع، فيمتلك معنى القاعدة و يكون مسايا للأمر:( عاقبوا السارقين)، فهو بذلك لا يمكن ان يكون خاطئا ولا صحيحا.
وهناك موقف آخر يقول بوجود منطق للقانون بناء على الصحة القانونية (la validité juridique) بمعنى أن القاعدة تكون شرعية بانتمائها إلى المنظومة القانونية و التي يجب الخضوع لها.
وينطلق هذا الموقف من فكرة ان القانون لا يجب أن يكون إلا القانون11 أي خالصا، فرجل القانون يجب أن يبقى في منأى عن القواعد الاخلاقية والدينية لأنها تؤثر في قراراته وتجعلها غير أكيدة .
وهكذا فإن الحكم الذي تصدره محكمة معينة بسجن علان السارق مدة سنة هو قاعدة صحيحة، إذا تم استنتاجها من قاعدة عامة " يجب معاقبة جميع السارقين لمدة سنة"، ولا يكون الحكم صحيحا في الحالة المعاكسة.
والحال أن هذا التوجه هو الاخر غير مقبول، وذلك لسببين الأول هو أن الصحة القانونية ليست صفة للقاعدة كما تكون الحقيقة صفة للاقتراح. فالقاعدة هي بيان ينتمي إلى منظومة قانونية، وهذا الانتماء هو بالضبط ما يسمى بالصحة القانونية، فينتج عن كل هذا أن القاعدة غير الشرعية لا تكون أبدا قاعدة، فهذه الشرعية هي معيار قيامها (هانس كلسن)، فيما يبقى الاقتراح الخاطئ اقتراحا. والسبب الثاني يكمن في أن وجود القواعد لا يرتبط بالعلاقات المنطقية للقواعد، بل ببعض الوقائع التجريبية.12
وهناك موقف ثالث ينبني على تحميل منطق القواعد على لغة وصفية (langage descriptif) لا على أمرية. فالمنطق في هذه الحالة يتناول بيانات على القواعد أو اقتراحات قانون، وهذه الاخيرة قد تكون صحيحة أو خاطئة. وهكذا كان الاعتقاد بحل مشكل تعريف التعارض بتقديمها على أنه تناقض بين اقتراحين للقواعد. فإذا كانت القاعدة " ممنوع التدخين" ليست متناقضة مع القاعدة " ممنوع عدم التدخين" (تكافئ وجوب التدخين)، الاقتراح ''
توجد قاعدة ممنوع التدخين" لا تتناقض مع " توجد قاعدة ممنوع عدم التدخين".13
وهذا الموقف أيضا، لم يسلم من النقد على اعتبار أنه لا يكون اقتراحين متناقضين، إلا في الحالة التي لا يوجد فيها الاقتراحين معا. و قد يكون هناك مشرع غير مهووس بمسألة التماسك، فيصدر بالتوالي أو في آن واحد نصوصا منها ما يأمر الناس بالتدخين و منها ما يأمرهم بعدم التدخين.
المبحث الثاني: اتجاهات المنطق القانوني
عرفت النظرة لمنطق القانون تطورا عبر التاريخ، و كان لهذا التطور أثر في ظهور اتجاهات فلسفية مختلفة حول تصورها للمنطق القانوني. وسنخصص هذا المبحث للحديث عن أبرز هذه الاتجاهات. و ذلك في مطلبين.
المطلب الأول: المنطق القانوني التقليدي
ارتبط المنطق القانوني التقليدي بتاريخ التفسير، والقول بوجود رابط بين المنطق القانوني والتفسير، خصوصا التفسير القانوني لا يكفي لتمييز المنطق القانوني التقليدي، من حسن الحظ أن ممارسيها يعرفونها بشكل آخر، وهكذا نجد المنطق القانوني عند شيخاردوس يعني القواعد والمبادئ وطرق الحجاج عن طريق الاستنباط وتفسير القوانين، موجها ذلك نحو هذا الجزء من القانون الذي يهتم بتفسير القانون بما وراء النص والتعريف المعطى له من طرف المشرع، في حين أن ليبنيز، نجده خص المنطق القانوني بخصائص انطلاقا من أجزائه ومهامه، حيث عمل على تجزيئه إلى ثلاتة أقسام وحدد له ثلاتة مهام، تكمن الأولى منها في فقه الشروط، أي مجموعة قواعد تفسير الشروط القانونية، بحيث إن هذه الشروط الضرورية، يلزم أن تفسر بشكل ضيق. أما الثانية فترتبط بالحجاج، بمعنى الطريقة الأنسب للتعليل، والتي ترمي إلى تطبيق القانون عن طريق الخلق والتعريف والتقسيم وحل الحالات. أما الثالتة منها فتتعلق برفع التعارضات.
وكلتا المهمتان(الثانية والثالثة)، تخدمان تفسير القانون، فالمنطق القانوني مجموعة من القواعد، أي قواعد تفسير القانون، أما تفسير القانون فهو العملية نفسها التي تفرضها هذه القواعد، لهذا أثارهما ليبنز في مؤلفه "المنهجية
الجديدة " (nova methodus) بشكل منفصل، فهو بذلك يميز بين الفعل وقاعدته.
وهناك كتاب آخرون أعطوا قواعد تفسير القانون، وإن كانت قي الغالب غير مصاغة بتعابير قاعدية’’يجب ‘’ ''يمكن''، فهو لا يغير من مضمونها شيئا، وفي أي وقت يعبر عنها دائما بنفس الطريقة، والقواعد القانونية لا تشكل استثناءا. فلماذا قواعد التفسير يجب أن تصاغ بطريقة قاعدية خاصة؟
فعند تعداد الحجج القانونية من قبل هؤلاء الفلاسفة(أبيلوس، شيخاردوس...)، يخبرون قراءهم برخصة وإلا فبإلزامية التفسير انطلاقا من المحاججة من خلال التعريف أو الايتمولوجيا أو الشكل المحدد لفئة معينة من الأفعال، وفي هذا السياق يقول شيخاردوس ''المستشارون القانونيين ( les jurisconsultes) ، لا يمكن أن يقبلوا بالتفسير أي شيء هو مخالف للطبيعة أو ما من شأنه أن يحمل شخصا ضررا ليس بسببه"،1 وحتى تكتمل الصورة عن المنطق التقليدي فهؤلاء الكتاب وهم يعرضون ويعلقون على قواعد تفسير قواعد القانون لا يتوقفون عند الحديث عن طرق المحاججة (العملية القياسية، الاستقراء، المثال...)،بل يعطون نماذج عن الاستدلالات المنطقية وأيضا يصفون بنية صور ( (schèmesالاستدلال التي تعتبر هذه الاخيرة تطبيقا لها.
وقد زاد الاهتمام بتفسير القانون مند النصف التاني من القرن 15، ليس فقط من طرف القانونيين أمثال كونستانتيوس (Canstantius)، روجيريوس( (Rogerius ، ولكن أيضا من طرف اللاهوتيين(théologiens) مثل سواريز(suarez) الذي تناول تفسير القانون خصوصا، التفسير الضيق و التفسير الواسع، وأيضا عدم تطبيق التفسير لأسباب مرتبطة بالعدالة. مصير هذه النظرية المتعلقة بتفسير القانون وتحولها إلى المنطق القانوني، يجد تفسيره في النهضة و الاصلاح. فالأولى عن طريق إحياء المشاكل المثارة في القدم، و الثانية عن طريق الاهمية المتعلقة بقراءة و تفسير الكتاب المقدس(la bible).
بعد الذي قيل عن النظرية التفسيرية (المنطق القانوني التقليدي)، ماذا عن المنطق القانوني الحديث.14
المطلب الثاني : المنطق القانوني الحديث
في العصر الحديث ظهر اتجاهين أساسين في المنطق القانوني، الأول يستقي مبادئه من علم الكلام للفلاسفة السابقين الأرسطي بالخصوص، والثاني من أفكار ليبنيز.
أ- المنطق القانوني حسب بيريلمان Perelman
ركز بيريلمان على تفسير القانون في علاقته بالتطبيق القضائي له . ولمعرفة ما هو المنطق القانوني من وجهة نظره، اختار ثلاث أنتظمة قانونية: القانون اليهودي، والقانون الانجلوساكسوني، و القانون الخاص بالقارة الاوربية ممثلا بالقانون البلجيكي و الفرنسي. بقصد تبيان أن كل هذه الانظمة رغم اختلافها تضع القانونيين أمام نفس المشكل: تكييف القانون مع حاجيات الحياة المتغيرة. و سواء كان أصل هذا القانون إلاهيا أو عرفا أو إرادة عامة، فهو عاجلا أم آجلا سيصبح قاصرا على مواكبة متطلبات الحياة المتغيرة باستمرار. و بالتالي نجد أنفسنا مضطرين لتكييفه مع متطلبات الحياة من خلال تفسيره بطريقة أو بأخرى. و يكون ذلك بواسطة الاستدلالات. وكل استدلال يفترض حسب بنيته المنطقية وجود مقدمة أو مقدمات ونتيجة.15
فهو يفضل ان يوجه القاضي اتجاه الجسم الاجتماعي بتوظيف بلاغته التي تحرره من القانون 16. وهذا ما سماه بيريلمان "البلاغة الجديدة " أي أن ما يجب دراسته ليس مجموعة من القواعد بل تحاليل القانونيين الممارسين، وبخاصة تلك التي تسمح لهم بتبرير قراراتهم . وهي تحاليل لا تنتمي الى المنطق الشكلي بل الى منطق المحاججة. فالمنطق بحسبه لا يهدف الى الاستنتاج انطلاقا من مقدمات بل الى خيار المقدمات نفسها، وهو بذلك لايهدف الى وضع شروط حقيقة الاقتراحات ولا حتى الصحة القانونية للقواعد بل الى وصف الوسائل المستخدمة للاقناع، فالقضاة حسب هذا المفهوم لايستطيعون ان يحكمو طبقا لنظرية القياس القضائي و لا يقصروا دورهم في البحث عن حل عادل، بل يجب أن يجدو حلا حكيما أي متوافق في آن مع القانون والعدل. 17
فالأمر يتعلق إذن بتحديد المنهجية التي من خلالها يتوصل القاضي، إلى مقدمات صحيحة، لحكم عادل ومقبول لأته عقلاني (raisonnable). و ليس بإسعاد المخاطب بالسحر أو بالخداع ولكن، بعيدا عن الدوغمائية الشكلية ودون الوقوع في السفسطائية، ولكن عن طريق وضع تحاليل عقلانية مؤسسة مع الأخذ بعين الاعتبار السياق. وبالتالي فالتحليل، كرونولوجيا ومنطقيا،ينطلق من الوقائع و من بعض القيم، و ليس من النصوص القانونية .18
وفي الواقع أطروحة بيريلمان، حسب تروبيه، تتسم بصفة حشوية أو توتولوجية. فإذا استطاع الدفاع عن فكرة أن القانون و التحليل يخضعان للمنطق، ولكن لمنطق مختلف عن المنطق الشكلي، فذلك فقط لأنه حدد المنطق القانوني بطريقة جعلت هذا المنطق هو ذاته نمط التحليل و المحاججة الخاص بالقانونيين. يمكنه إذن بسهولة أن يستنتج أن تحليل القانونيين يتوافق مع نمط تحليل القانونيين.
ب- البحث عن الاساس المنطقي للاستدلالات القانونية
يرى كالينوفسكي ان يطلق على هذه النظرية عبارة " المنطق القانوني المنطقي" لأنها تبحث عن ما هو منطقي محض في الاستدلالات القانونية، أي معرفة بنياتها وقواعدها الاستدلالية، بمعنى ما يجعل هذه البنيات خلاصاتية وقواعدها صحيحة، وبعبارة أخرى الأساس المنطقي لهذه أو تلك انطلاق من الاستدلالات القانونية باعتبارها استدلالات.
ويعتبر ليبنيز السباق إلى هذا التوجه، وقد ميز في مؤلفه "المنهجية الجديدة " 1667 بين التفسير النحوي للقانون، والبلاغي، والمنطقي. وقد عرف هذه الأخيرة كاختبار للتعريفات ، الاقتراحات، التقسيمات، العمليات القياسية. وقد خلص الى نتائج مهمة في مؤلفه، منطق القواعد، اعتبرت اساسا لبعض الاستدلالات المنجزة في مجال من الحياة القانونية. و يعتبر واقعة ان بعض اطروحات منطق القواعد تؤسس قواعد منطقية للاستدلال قابلة للتطبيق ليس فقط في الجانب القضائي او خارج القضائي للقانون، ولكن ايضا عند تأسيس او دراسة القانون.
وقد ميز ليبنز بين مختلف انواع الاستدلالات القانونية بناءا على معياري نوعية وكمية المقدمات. وهذا الاتجاه له رواد عديدين امثال كارسيا ماينيز، و تاميلو، وكينجر ...، ويفسر تعدد روادها باعتبار ان منطق القواعد يشكل جزءا من الاساس المنطقي للاستدلالات المنطقية، وهكذا نجد ان ممارسيها يساهمون، بطريقة او باخرى في اغناء المنطق القانوني، ما يفسر ادراج اعمالهم في ببلغرافيا القانونية.19
خاتـــــــمة
ان معرفة مسالة اذا كان القانون يخضع او لا يخضع للمنطق ليست اذا مسألة تجريبية، يمكن الاجابة عليها بمجرد دراسة سير العمل الفعلي للمنظومة القانونية.فهذه المسألة مرتبطة في نهاية الامر بالخيار الانطولوجي الذي يرتبط بدوره بالخيار الابستيمولوجي، وهذا يعني بطريقة اخرى ان القانون لايعطى بل تبنيه النظرية التي تقود معالجته.
وتظهر الاهمية القانونية للمنطق في قدرته التفسيرية.فالمنطق يضيء تحليل القضاة، وهذا التحليل يرتبط
بالعقلانية. وهكذا فهذا التحليل قد يبرر او يسمح بأفعال او قرارات غير عادلة.
المراجع المعتمدة
باللغة العربية:
- ميشيل تروبيه، فلسفة القانون،ترجمة جورج سعد، المنشورات الجامعية الفرنسية، طبعة أولى 2004.
- فارس حميد عبد الكريم، أساس مقولة: إن التشريع متى توقفت حكمته توقف حكمه. منشور ب http://www.babil-nl.org/b02x036fh.htm .
باللغة الفرنسية:
- George KALLINOVSKI, la logique juridique et son histoire, publié sur le site : dspace.unav.es/dspace/bitstream/10171/2160/1/08. GEORGES KALINOWSKI (París), La lógica jurídica y su historia.pdf .
-La rhétorique juridique, Marie-Anne Frison-Roche.
الفهرس
مـــــــــــقدمـــــــة..............................................................................................................2
المبحث الأول: مشكلة المنطق القانوني.....................................................................................4
المطلب الأول: عدم امكانية وجود منطق للقواعد..........................................................................4
المطلب الثاني: امكانية وجود منطق للقواعد القانونية....................................................................5
المبحث الثاني: اتجاهات المنطق القانوني..................................................................................7
المطلب الأول: المنطق القانوني التقليدي...................................................................................7
المطلب الثاني : المنطق القانوني الحديث..................................................................................9
المراجع المعتمدة...............................................................................12
الهوامش
1- فارس حميد عبد الكريم، أساس مقولة: إن التشريع متى توقفت حكمته توقف حكمه. منشور ب http://www.babil-nl.org/b02x036fh.htm . تاريخ الاطلاع 13 دجنبر 2012.
2- George KALLINOVSKI, la logique juridique et son histoire, publié sur le site : dspace.unav.es/dspace/bitstream/10171/2160/1/08. GEORGES KALINOWSKI (París), La lógica jurídica y su historia.pdf . Vu le 20/12/2012
6- ميشيل تروبيه، فلسفة القانون،ترجمة جورج سعد، المنشورات الجامعية الفرنسية، طبعة أولى 2004،ص 115.
-7Michel TROPER, la philosophie du droit, presses universitaires de Frances,2003, edition : 2005, p 115
12-ميشيل تروبيه، ترجمة جورج سعد، مرجع سابق، ص 117.
13-Michel troper, La philosophie du droit,o.p , p 117.
13-"les jurisconsultes ne peuvent admettre par interprétation rien qui soit contre nature ou qui ait pour effet de faire subit par quelqu‘un un préjudice indu" Georges kallinovski, la logique juridique et son histoire,p 339
14- Georges kallinovski, o.p, p 335-342
15- George Kallinovski, o.p, p «343.
16-"Marie-anne frison-roche.o.p.p73
17- ميشيل تروبيه، ترجمة جورج سعد، مرجع سابق، ص 122.
18 Marie Anne Frison-roche,o.p,p76.
19 George kallinovski, o.p, p 343-349 .
يعتبر المنطق من المواضيع الفلسفية ذو الأهمية البالغة، وتعود جذوره إلى أرسطو، حيث اعتبره فنا وأداة في خدمة المعرفة، في ضوء ذلك عرفه الفارابي بأنه:" مجموعة قوانين تستخدم لقياس المعقولات كما تستخدم الموازين و المكاييل في قياس الاجسام". و عرفه الغزالي على أنه:" القانون الذي يميز الحد و القياس من غيره، كأنه الميزان و المعيار للعلوم كلها، وكل ما لم يوزن بالميزان لا يتميز فيه الرجحان من النقصان ولا الربح من الخسران".1
أما المنطق القانوني فقد ظهر سنة 1615 مع شيخاردوس (Schickhardus) في مؤلفه " المنطق القانوني" (logica iuridica)، ثم بعد ذلك استعمله مجموعة من المؤلفين الاخرين أمثال: رينييروس (Regnerus) 1638، وليبنيز (Leibnez) 1696، وبيولا (Piola) 1895، وبيريلمان (Perelman) 1976 و اخرون.
و في القرنين 19 و 20 ظهرت مصطلحات أخرى من قبيل " منطق القانون"، و" المنطق القضائي" ، بل "منطق القاضي". وهاذين الاخيرين يحيلان على أهمية التطبيق القضائي للقانون وما يتطلبه من تفسير.
وقد عرفه شيخاردوس:" المنطق القانوني، أي القواعد والمبادئ وطرق الحجاج (argumentation) عن طريق الاستنباط (induction)وتفسيرالقوانين، في اتجاه هذا الجزء من القانون الذي يقوم على أساس تفسير ماوراء النصوص و التعاريف المعطاة من طرف المشرع ..."2
و عرفه لوروي (Le Roy) بكونه: « science qui étudie les raisonnements juridiques. » وأيضا:
Logique juridique : « Partie de la logique qui a pour objet l'étude des spécificités du raisonnement et de la méthode juridique »3
أي العلم الذي يدرس خصوصيات التبرير والمنهج القانوني.
وهو مفهوم يختلف من حيث الزمن و المكان و ذلك لاعتبارات عدة:
- المنطق القانوني يختلف بحسب تصورنا للقانون.
-رجل القانون يقوم باختيار العناصر التي يؤسس عليها تبريره. وبالتالي فهذه الاختيارات تتأثر بالظروف المحيطة بها.
- الاسباب التي تدفع إلى اختيار حل قد لا تتفق مع أسباب أخرى لحل آخر، ذلك أن الحل المعتبر صائبا في وقت ما، قد لا يكون كذلك بعد زمن.4
والخوض في هذا الموضوع، يضعنا أمام التساؤل التالي: هل يخضع القانون والتحليل القانوني للمنطق؟ إذا كان كذلك فهل هو منطق خاص أو المنطق ذاته المعمول به في المجالات الاخرى للنشاط الانساني؟
وتتفرع عنه مجموعة من الأسئلة: ما هو تاريخ المنطق القانوني؟ ماذا نعرف عنه؟ وإذا كان القانون يخضع للمنطق فهل هو المنطق الشكلي أم منطق اخر؟
للإحاطة بهذا الموضوع، سنحاول معالجته في مبحثين:
المبحث الأول: مشكلة منطق القانون .
المبحث الثاني: اتجاهات منطق القانون .
المبحث الأول: مشكلة المنطق القانوني
يتناول المنطق5 تلك العلاقات بين اقتراحات تصف واقعا وقابلة لأن تكون صحيحة أو خاطئة، في حين أن القانون يتألف من عدة قواعد، حيث ثمة إجماع على أتها ليست صحيحة ولا خاطئة.
وقد أدى تضارب الأراء بشأن وجود منطق للقانون من عدمه، إلى ظهور موقفين مختلفين. أحدهما يقول بعدم امكانية وجود منطق للقواعد (مطلب أول) في حين ذهب الاخر إلى الاعتراف بوجود منطق لهذه القواعد (مطلب ثان)
المطلب الأول: عدم امكانية وجود منطق للقواعد
إن الحسم لصالح وجود منطق القانون، هو أمر صعب من الناحية الواقعية ذلك أن كلمة قانون قد تعطى لها عدة معان: القانون الوضعي أو المنظومة القانونية أو علم القانون... فضلا عن تعدد النظريات المتعلقة بالقانون، بالمنطق والعلم.
يرى هانس كلسن ان القاعدة القانونية تعبر عن إرادة من أطلقها. والإرادة واقعة، والعلاقات بين الوقائع ليست علاقات منطقية. من ناحية ثانية، يستحيل أن ننقل إلى القواعد العلاقات بين الاقتراحات التي نجدها في العملية القياسية6. فإذا أخذنا مثلا هذه العملية القياسية: إذا كان صحيحا أن كل البشر يموتون، وكان سقراط بشريا، إذن يكون صحيحا أن سقراط فان. فالقول إن جميع البشر فانون، هو افتراض عام، يعني أن المقصود كل الناس فانون، وسقراط أدمي، فسقراط فان، فهو صحيح أيضا لأنه ينطلق من افتراض عام.
فهل يمكن نقل هذه العملية إلى القواعد؟ فإذا اعتبرنا القاعدة (يجب أن يعاقب جميع السارقين) التي ليست لا صحيحة ولا خاطئة، لأنها أمر( و الاوامر لا يمكن أن نقول عنها صحيحة أو خاطئة)، فهل يمكن استنتاج أمر اخر: علان سارق، يجب أن يعاقب. فهذه القاعدة تعبر عن إرادة المشرع، و المشرع لا يشرع إلا للمستقبل فهو عندما يصدر بيانا عاما و مجردا فهو لا يمكن أن يشمل علان الذي لا يعرفه. فأن يريد معاقبة جميع السارقين، لا يعني بالضرورة أن يعاقب علان لأنه لا يعرفه.7
وإذا كان هذا الموقف يستبعد إمكانية وجود منطق للقواعد القانونية ، فإنه يمكن الرد عليه بضرورة التمييز بين المنطق والسيرورات العقلية أي أن المنطق لا يستند إلى المعنى الذي يعطيه الأشخاص الحقيقيون للعبارات اللغوية، بل يستند إلى المحتوى الدلالي لهذه العبارات2. فعندما نفترض عكس القاعدة الأولى، أي كل البشر غير فانون، فإن علان يكون غير فان، هو النتيجة للعملية القياسية، حتى و لو عرفنا أن ليس من صفة البشر الخلود، وحتى لو كنا نجهل وجود علان. ولهذا فإن ما يريده المشرع لا يهم كثيرا، فإذا أمر بمعاقبة جميع السارقين فإن الصيغة (جميع السارقين) تشمل حتما السيد علان.8
المطلب الثاني: امكانية وجود منطق للقواعد القانونية
إذا كان الموقف السابق كما سلف لا يرى ثمة منطق للقانون، فإن البعض الاخر يقر بوجود منطق يحكم القواعد القانونية، معتبرا أن القانون علم عقلي، بحيث يتضمن مجموعة من المبادئ المنسقة تنسيقا منطقيا و يستنتج منها أو يترتب عنها قواعد قانونية لا يتيسر الوصول اليها إلا من خلال عملية مزدوجة هي التحليل و التركيب9
وهذه الإمكانية تنطلق من وجود منطق ممكن للقواعد، إما لاعتبار القواعد رغم كل شيء قابلة ان تكون صحيحة أو خاطئة، وإما لأنها تمتلك نوعية متكافئة (qualité équivalente). هكذا فإن البعض يؤيدون فكرة أن القواعد هي صحيحة أو خاطئة، و أنه من الخطإ تشبيهها بالأوامر. فإذا كان من الخطإ وصف الإيعاز ( عاقبوا السارقين) بالخطإ أو الصواب، فإنه ليس من الخطإ القول صحيح أو غير صحيح (أن السارقين يجب أن يعاقبوا).10
إلا أن هذا الموقف لا يستقيم تماما لأن العبارة (يجب أن يعاقب السارقون) تحمل في الحقيقة معنيين. فهو من ناحية يمكن أن يحمل على أنه اقتراح قانوني يصف قاعدة آمرة، و بالتالي امكانية أن يكون صحيحا أو خاطئا. ومن ناحية أخرى يمكن أن يعبر الاقتراح عن إرادة المشرع، فيمتلك معنى القاعدة و يكون مسايا للأمر:( عاقبوا السارقين)، فهو بذلك لا يمكن ان يكون خاطئا ولا صحيحا.
وهناك موقف آخر يقول بوجود منطق للقانون بناء على الصحة القانونية (la validité juridique) بمعنى أن القاعدة تكون شرعية بانتمائها إلى المنظومة القانونية و التي يجب الخضوع لها.
وينطلق هذا الموقف من فكرة ان القانون لا يجب أن يكون إلا القانون11 أي خالصا، فرجل القانون يجب أن يبقى في منأى عن القواعد الاخلاقية والدينية لأنها تؤثر في قراراته وتجعلها غير أكيدة .
وهكذا فإن الحكم الذي تصدره محكمة معينة بسجن علان السارق مدة سنة هو قاعدة صحيحة، إذا تم استنتاجها من قاعدة عامة " يجب معاقبة جميع السارقين لمدة سنة"، ولا يكون الحكم صحيحا في الحالة المعاكسة.
والحال أن هذا التوجه هو الاخر غير مقبول، وذلك لسببين الأول هو أن الصحة القانونية ليست صفة للقاعدة كما تكون الحقيقة صفة للاقتراح. فالقاعدة هي بيان ينتمي إلى منظومة قانونية، وهذا الانتماء هو بالضبط ما يسمى بالصحة القانونية، فينتج عن كل هذا أن القاعدة غير الشرعية لا تكون أبدا قاعدة، فهذه الشرعية هي معيار قيامها (هانس كلسن)، فيما يبقى الاقتراح الخاطئ اقتراحا. والسبب الثاني يكمن في أن وجود القواعد لا يرتبط بالعلاقات المنطقية للقواعد، بل ببعض الوقائع التجريبية.12
وهناك موقف ثالث ينبني على تحميل منطق القواعد على لغة وصفية (langage descriptif) لا على أمرية. فالمنطق في هذه الحالة يتناول بيانات على القواعد أو اقتراحات قانون، وهذه الاخيرة قد تكون صحيحة أو خاطئة. وهكذا كان الاعتقاد بحل مشكل تعريف التعارض بتقديمها على أنه تناقض بين اقتراحين للقواعد. فإذا كانت القاعدة " ممنوع التدخين" ليست متناقضة مع القاعدة " ممنوع عدم التدخين" (تكافئ وجوب التدخين)، الاقتراح ''
توجد قاعدة ممنوع التدخين" لا تتناقض مع " توجد قاعدة ممنوع عدم التدخين".13
وهذا الموقف أيضا، لم يسلم من النقد على اعتبار أنه لا يكون اقتراحين متناقضين، إلا في الحالة التي لا يوجد فيها الاقتراحين معا. و قد يكون هناك مشرع غير مهووس بمسألة التماسك، فيصدر بالتوالي أو في آن واحد نصوصا منها ما يأمر الناس بالتدخين و منها ما يأمرهم بعدم التدخين.
المبحث الثاني: اتجاهات المنطق القانوني
عرفت النظرة لمنطق القانون تطورا عبر التاريخ، و كان لهذا التطور أثر في ظهور اتجاهات فلسفية مختلفة حول تصورها للمنطق القانوني. وسنخصص هذا المبحث للحديث عن أبرز هذه الاتجاهات. و ذلك في مطلبين.
المطلب الأول: المنطق القانوني التقليدي
ارتبط المنطق القانوني التقليدي بتاريخ التفسير، والقول بوجود رابط بين المنطق القانوني والتفسير، خصوصا التفسير القانوني لا يكفي لتمييز المنطق القانوني التقليدي، من حسن الحظ أن ممارسيها يعرفونها بشكل آخر، وهكذا نجد المنطق القانوني عند شيخاردوس يعني القواعد والمبادئ وطرق الحجاج عن طريق الاستنباط وتفسير القوانين، موجها ذلك نحو هذا الجزء من القانون الذي يهتم بتفسير القانون بما وراء النص والتعريف المعطى له من طرف المشرع، في حين أن ليبنيز، نجده خص المنطق القانوني بخصائص انطلاقا من أجزائه ومهامه، حيث عمل على تجزيئه إلى ثلاتة أقسام وحدد له ثلاتة مهام، تكمن الأولى منها في فقه الشروط، أي مجموعة قواعد تفسير الشروط القانونية، بحيث إن هذه الشروط الضرورية، يلزم أن تفسر بشكل ضيق. أما الثانية فترتبط بالحجاج، بمعنى الطريقة الأنسب للتعليل، والتي ترمي إلى تطبيق القانون عن طريق الخلق والتعريف والتقسيم وحل الحالات. أما الثالتة منها فتتعلق برفع التعارضات.
وكلتا المهمتان(الثانية والثالثة)، تخدمان تفسير القانون، فالمنطق القانوني مجموعة من القواعد، أي قواعد تفسير القانون، أما تفسير القانون فهو العملية نفسها التي تفرضها هذه القواعد، لهذا أثارهما ليبنز في مؤلفه "المنهجية
الجديدة " (nova methodus) بشكل منفصل، فهو بذلك يميز بين الفعل وقاعدته.
وهناك كتاب آخرون أعطوا قواعد تفسير القانون، وإن كانت قي الغالب غير مصاغة بتعابير قاعدية’’يجب ‘’ ''يمكن''، فهو لا يغير من مضمونها شيئا، وفي أي وقت يعبر عنها دائما بنفس الطريقة، والقواعد القانونية لا تشكل استثناءا. فلماذا قواعد التفسير يجب أن تصاغ بطريقة قاعدية خاصة؟
فعند تعداد الحجج القانونية من قبل هؤلاء الفلاسفة(أبيلوس، شيخاردوس...)، يخبرون قراءهم برخصة وإلا فبإلزامية التفسير انطلاقا من المحاججة من خلال التعريف أو الايتمولوجيا أو الشكل المحدد لفئة معينة من الأفعال، وفي هذا السياق يقول شيخاردوس ''المستشارون القانونيين ( les jurisconsultes) ، لا يمكن أن يقبلوا بالتفسير أي شيء هو مخالف للطبيعة أو ما من شأنه أن يحمل شخصا ضررا ليس بسببه"،1 وحتى تكتمل الصورة عن المنطق التقليدي فهؤلاء الكتاب وهم يعرضون ويعلقون على قواعد تفسير قواعد القانون لا يتوقفون عند الحديث عن طرق المحاججة (العملية القياسية، الاستقراء، المثال...)،بل يعطون نماذج عن الاستدلالات المنطقية وأيضا يصفون بنية صور ( (schèmesالاستدلال التي تعتبر هذه الاخيرة تطبيقا لها.
وقد زاد الاهتمام بتفسير القانون مند النصف التاني من القرن 15، ليس فقط من طرف القانونيين أمثال كونستانتيوس (Canstantius)، روجيريوس( (Rogerius ، ولكن أيضا من طرف اللاهوتيين(théologiens) مثل سواريز(suarez) الذي تناول تفسير القانون خصوصا، التفسير الضيق و التفسير الواسع، وأيضا عدم تطبيق التفسير لأسباب مرتبطة بالعدالة. مصير هذه النظرية المتعلقة بتفسير القانون وتحولها إلى المنطق القانوني، يجد تفسيره في النهضة و الاصلاح. فالأولى عن طريق إحياء المشاكل المثارة في القدم، و الثانية عن طريق الاهمية المتعلقة بقراءة و تفسير الكتاب المقدس(la bible).
بعد الذي قيل عن النظرية التفسيرية (المنطق القانوني التقليدي)، ماذا عن المنطق القانوني الحديث.14
المطلب الثاني : المنطق القانوني الحديث
في العصر الحديث ظهر اتجاهين أساسين في المنطق القانوني، الأول يستقي مبادئه من علم الكلام للفلاسفة السابقين الأرسطي بالخصوص، والثاني من أفكار ليبنيز.
أ- المنطق القانوني حسب بيريلمان Perelman
ركز بيريلمان على تفسير القانون في علاقته بالتطبيق القضائي له . ولمعرفة ما هو المنطق القانوني من وجهة نظره، اختار ثلاث أنتظمة قانونية: القانون اليهودي، والقانون الانجلوساكسوني، و القانون الخاص بالقارة الاوربية ممثلا بالقانون البلجيكي و الفرنسي. بقصد تبيان أن كل هذه الانظمة رغم اختلافها تضع القانونيين أمام نفس المشكل: تكييف القانون مع حاجيات الحياة المتغيرة. و سواء كان أصل هذا القانون إلاهيا أو عرفا أو إرادة عامة، فهو عاجلا أم آجلا سيصبح قاصرا على مواكبة متطلبات الحياة المتغيرة باستمرار. و بالتالي نجد أنفسنا مضطرين لتكييفه مع متطلبات الحياة من خلال تفسيره بطريقة أو بأخرى. و يكون ذلك بواسطة الاستدلالات. وكل استدلال يفترض حسب بنيته المنطقية وجود مقدمة أو مقدمات ونتيجة.15
فهو يفضل ان يوجه القاضي اتجاه الجسم الاجتماعي بتوظيف بلاغته التي تحرره من القانون 16. وهذا ما سماه بيريلمان "البلاغة الجديدة " أي أن ما يجب دراسته ليس مجموعة من القواعد بل تحاليل القانونيين الممارسين، وبخاصة تلك التي تسمح لهم بتبرير قراراتهم . وهي تحاليل لا تنتمي الى المنطق الشكلي بل الى منطق المحاججة. فالمنطق بحسبه لا يهدف الى الاستنتاج انطلاقا من مقدمات بل الى خيار المقدمات نفسها، وهو بذلك لايهدف الى وضع شروط حقيقة الاقتراحات ولا حتى الصحة القانونية للقواعد بل الى وصف الوسائل المستخدمة للاقناع، فالقضاة حسب هذا المفهوم لايستطيعون ان يحكمو طبقا لنظرية القياس القضائي و لا يقصروا دورهم في البحث عن حل عادل، بل يجب أن يجدو حلا حكيما أي متوافق في آن مع القانون والعدل. 17
فالأمر يتعلق إذن بتحديد المنهجية التي من خلالها يتوصل القاضي، إلى مقدمات صحيحة، لحكم عادل ومقبول لأته عقلاني (raisonnable). و ليس بإسعاد المخاطب بالسحر أو بالخداع ولكن، بعيدا عن الدوغمائية الشكلية ودون الوقوع في السفسطائية، ولكن عن طريق وضع تحاليل عقلانية مؤسسة مع الأخذ بعين الاعتبار السياق. وبالتالي فالتحليل، كرونولوجيا ومنطقيا،ينطلق من الوقائع و من بعض القيم، و ليس من النصوص القانونية .18
وفي الواقع أطروحة بيريلمان، حسب تروبيه، تتسم بصفة حشوية أو توتولوجية. فإذا استطاع الدفاع عن فكرة أن القانون و التحليل يخضعان للمنطق، ولكن لمنطق مختلف عن المنطق الشكلي، فذلك فقط لأنه حدد المنطق القانوني بطريقة جعلت هذا المنطق هو ذاته نمط التحليل و المحاججة الخاص بالقانونيين. يمكنه إذن بسهولة أن يستنتج أن تحليل القانونيين يتوافق مع نمط تحليل القانونيين.
ب- البحث عن الاساس المنطقي للاستدلالات القانونية
يرى كالينوفسكي ان يطلق على هذه النظرية عبارة " المنطق القانوني المنطقي" لأنها تبحث عن ما هو منطقي محض في الاستدلالات القانونية، أي معرفة بنياتها وقواعدها الاستدلالية، بمعنى ما يجعل هذه البنيات خلاصاتية وقواعدها صحيحة، وبعبارة أخرى الأساس المنطقي لهذه أو تلك انطلاق من الاستدلالات القانونية باعتبارها استدلالات.
ويعتبر ليبنيز السباق إلى هذا التوجه، وقد ميز في مؤلفه "المنهجية الجديدة " 1667 بين التفسير النحوي للقانون، والبلاغي، والمنطقي. وقد عرف هذه الأخيرة كاختبار للتعريفات ، الاقتراحات، التقسيمات، العمليات القياسية. وقد خلص الى نتائج مهمة في مؤلفه، منطق القواعد، اعتبرت اساسا لبعض الاستدلالات المنجزة في مجال من الحياة القانونية. و يعتبر واقعة ان بعض اطروحات منطق القواعد تؤسس قواعد منطقية للاستدلال قابلة للتطبيق ليس فقط في الجانب القضائي او خارج القضائي للقانون، ولكن ايضا عند تأسيس او دراسة القانون.
وقد ميز ليبنز بين مختلف انواع الاستدلالات القانونية بناءا على معياري نوعية وكمية المقدمات. وهذا الاتجاه له رواد عديدين امثال كارسيا ماينيز، و تاميلو، وكينجر ...، ويفسر تعدد روادها باعتبار ان منطق القواعد يشكل جزءا من الاساس المنطقي للاستدلالات المنطقية، وهكذا نجد ان ممارسيها يساهمون، بطريقة او باخرى في اغناء المنطق القانوني، ما يفسر ادراج اعمالهم في ببلغرافيا القانونية.19
خاتـــــــمة
ان معرفة مسالة اذا كان القانون يخضع او لا يخضع للمنطق ليست اذا مسألة تجريبية، يمكن الاجابة عليها بمجرد دراسة سير العمل الفعلي للمنظومة القانونية.فهذه المسألة مرتبطة في نهاية الامر بالخيار الانطولوجي الذي يرتبط بدوره بالخيار الابستيمولوجي، وهذا يعني بطريقة اخرى ان القانون لايعطى بل تبنيه النظرية التي تقود معالجته.
وتظهر الاهمية القانونية للمنطق في قدرته التفسيرية.فالمنطق يضيء تحليل القضاة، وهذا التحليل يرتبط
بالعقلانية. وهكذا فهذا التحليل قد يبرر او يسمح بأفعال او قرارات غير عادلة.
المراجع المعتمدة
باللغة العربية:
- ميشيل تروبيه، فلسفة القانون،ترجمة جورج سعد، المنشورات الجامعية الفرنسية، طبعة أولى 2004.
- فارس حميد عبد الكريم، أساس مقولة: إن التشريع متى توقفت حكمته توقف حكمه. منشور ب http://www.babil-nl.org/b02x036fh.htm .
باللغة الفرنسية:
- George KALLINOVSKI, la logique juridique et son histoire, publié sur le site : dspace.unav.es/dspace/bitstream/10171/2160/1/08. GEORGES KALINOWSKI (París), La lógica jurídica y su historia.pdf .
- Le Roy, Introduction au droit, 10- definitions, cours donné lors de l'année 96/97,. publié sur le site :http://www.lawscape.ch/p_intro.htm.
- Le Roy, Introduction au droit, 9- la technique du droit, cours donné lors de l'année 96/97, publié sur le site :http://www.lawscape.ch/p_intro.htm
-Michel TROPER, la philosophie du droit, presses universitaires de Frances,2003, edition : 2005.-La rhétorique juridique, Marie-Anne Frison-Roche.
الفهرس
مـــــــــــقدمـــــــة..............................................................................................................2
المبحث الأول: مشكلة المنطق القانوني.....................................................................................4
المطلب الأول: عدم امكانية وجود منطق للقواعد..........................................................................4
المطلب الثاني: امكانية وجود منطق للقواعد القانونية....................................................................5
المبحث الثاني: اتجاهات المنطق القانوني..................................................................................7
المطلب الأول: المنطق القانوني التقليدي...................................................................................7
المطلب الثاني : المنطق القانوني الحديث..................................................................................9
- المنطق القانوني حسب بيريلمان Perelman..................................................................9
- البحث عن الاساس المنطقي للاستدلالات القانونية..............................................................10
المراجع المعتمدة...............................................................................12
الهوامش
1- فارس حميد عبد الكريم، أساس مقولة: إن التشريع متى توقفت حكمته توقف حكمه. منشور ب http://www.babil-nl.org/b02x036fh.htm . تاريخ الاطلاع 13 دجنبر 2012.
2- George KALLINOVSKI, la logique juridique et son histoire, publié sur le site : dspace.unav.es/dspace/bitstream/10171/2160/1/08. GEORGES KALINOWSKI (París), La lógica jurídica y su historia.pdf . Vu le 20/12/2012
3- Le Roy, Introduction au droit, 10- definitions, cours donné lors de l'année 96/97, p :18. publié sur le site :
http://www.lawscape.ch/p_intro.htm . Vu le 20/12/2012.
4- Le Roy, Introduction au droit, 9- la technique du du droit, cours donné lors de l'année 96/97, p :1. publié sur le site :
http://www.lawscape.ch/p_intro.htm . vu le 20/12/2012.
5-« Etymologiquement, le terme de logique vient du grec logos, la ‘’ parole ’’. Et la parole du juge, même s’il le nie, fait la loi. logo en soi est pourtant un terme neutre, la parole peut être vraie, fausse, ou sans définition. mais la parole fait lier les choses. ainsi la logique est un moyen de faire des connexions, et de communiquer ces connexions aux autres. on appelle ainsi on appelle ainsi la logique, la science de ces connexions, ou la science du raisonnement correct. ». ERIC A. Engle, la logique juridque et sa critique dite post-moderne. janvier 1999 publié sur : http ://www.works.bepress.com/eric_engle/26- ميشيل تروبيه، فلسفة القانون،ترجمة جورج سعد، المنشورات الجامعية الفرنسية، طبعة أولى 2004،ص 115.
-7Michel TROPER, la philosophie du droit, presses universitaires de Frances,2003, edition : 2005, p 115
- ميشيل تروبيه، ترجمة جورج سعد، مرجع سابق، ص 116.
- فارس حامد عبد الكريم، مرجع سابق، غير مرقم.
- جورج كالينوفسكي ، نقلا عن ميشيل تروبيه، مرجع سابق، ص 115.
12-ميشيل تروبيه، ترجمة جورج سعد، مرجع سابق، ص 117.
13-Michel troper, La philosophie du droit,o.p , p 117.
13-"les jurisconsultes ne peuvent admettre par interprétation rien qui soit contre nature ou qui ait pour effet de faire subit par quelqu‘un un préjudice indu" Georges kallinovski, la logique juridique et son histoire,p 339
14- Georges kallinovski, o.p, p 335-342
15- George Kallinovski, o.p, p «343.
16-"Marie-anne frison-roche.o.p.p73
17- ميشيل تروبيه، ترجمة جورج سعد، مرجع سابق، ص 122.
18 Marie Anne Frison-roche,o.p,p76.
19 George kallinovski, o.p, p 343-349 .