د. حبيب عنون
باحث في العلوم الاقتصادية والاجتماعية
ANOUNE64@gmail.com
في إطار الندوة التي أقيمت بكلية الآداب بالرباط بشراكة مع مؤسسة المعهد الدولي للمسرح المتوسطي والوكالة الإسبانية للتعاون الدولي والتنمية تحت عنوان "الجهوية، التنمية والديمقراطية: المغرب وإسبانيا، تجربتان للمستقبل" خلال يومي 21 و22 دجنبر الحالي، أشار السيد لحسن حداد إلى كون "الحلقة الضعيفة في تجارب اللامركزية في الدول النامية هو ضعف مشاركة المواطنين والجمعيات المحلية والقطاع الخاص في اتخاذ القرار والمحاسبة".
قد تبدو هذه الخلاصة من خلال قراءتها الأولى معبرة عن خلاصات باتت مألوفة في العديد من الكتابات إلا أن السيد حداد، وما كنا ننتظره منه كخبير مغربي دولي وعضو فعال ضمن المكتب السياسي لحزب الحركة الشعبية، لم يشر لا إلى الدوافع التي جعلت من مبادرات هذه الفعاليات، غير المتجانسة خصوصا من حيث موقعها ووزنها، تتصف بضعف المشاركة في اتخاذ القرار والمحاسبة؛ ولا إلى ما يجب القيام به لتجاوز هذه الإشكالية الجوهرية في تطور المشهد السياسي والاقتصادي والاجتماعي في المغرب.
كان من المفترض أن تنظم هذه الندوة تحت عنوان "الديمقراطية، الجهوية والتنمية" ذلك أن الديمقراطية هي الركيزة الأساسية الضامنة لنجاح قيام جهوية فعالة لخدمة التنمية المحلية. فالإشارة إلى ضعف مشاركة المواطنين مسألة مغلوطة وموهمة والمراد بها إبعاد مسؤولية الأحزاب السياسية عن هذا الواقع. فعدم دمقرطة الأحزاب السياسية في المغرب لا من حيث هيكلتها ولا من حيث اشتغالها ولا من حيث اختيارها لنخبها ... تجعل من المواطن الطموح لولوج مجال المساهمة في اتخاذ القرار والمحاسبة أي مجالي السياسة والاقتصاد، مقصيا وهذا أمر واقع ولا جدال فيه. ويكفي تتبع التجمعات السياسية والندوات وغيرها وستلاحظ أن "المنصة الشرفية" لا تضم سوى أشخاصا ألف المواطن المغربي رؤيتها. لا مكان للتجديد لا من حيث التمثيلية ولا من حيث الخطاب. هذا في الوقت الذي ينادي فيه جلالة الملك في كل خطاباته بضرورة فسح المجال أمام المؤهلات الشابة الحاملة لمشروع سياسي واقتصادي جديد.
فالمبدأ أو المفهوم البسيط والمليء بالدلالات لمصطلح الديمقراطية، يكمن في ضرورة تغيير النخب وفق ما تستلزمه الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تمر منها البلاد. وهذا ما يقوم به جلالته ولا تقوم به الأحزاب. وهنا تكمن الحلقة المفقودة التي ألصقها، بغير صواب السيد حداد، بالمواطنين. إذا كنا نتحدث عن اتخاذ القرار والمحاسبة، فهل سيوافق أي حزب على سن قانون يسمح من خلاله للمواطنين بإزاحة أي منتخب قد خل بواجبه بتخليه عن من وضعوا ثقتهم فيه ورحل ليمكث في العاصمة دون الإبقاء على أية وسيلة للتواصل.
إن الحلقة المفقودة هي دمقرطة الأحزاب. أما المواطن المغربي فهو صامد طموح وقد وجد في المبادرة الوطنية للتنمية البشرية المنبثقة من فكر جلالته السبيل الأنجع لإبراز قدرته على اتخاذ القرار والمحاسبة على الصعيد المحلي من خلال تشكيله لجمعيات في مختلف المجالات. فالحلقة المفقودة والتي باتت تقلق لا الأحزاب ولا النقابات هي هاته الشريحة من المؤهلات المتعددة الميولات والتخصصات محليا وجهويا والتي باتت "خارج تغطية الأحزاب" بل باتت تنبذها بسب الآثار السلبية للسياسات العمومية التي مورست عليه من طرف هذه الأحزاب خلال عقود والتي جعلت من المواطن المغربي مواطنا هامشيا ومن الاقتصاد الوطني اقتصاد الريع والامتيازات والعبث بثروات البلاد.
من الأكيد أن بعض المثقفين، لكثرة سفرياتهم وانتقالاتهم بين الدول، باتوا يتعرفون على الخارج أكثر من معرفتهم لبلدهم والمواطن المغربي الذي لم يعد، كما يتصورونه، مواطنا "معزولا" بل أصبح مواطنا فعالا مندمجا في جمعيات محلية والذي بفضل المبادرة الوطنية للتنمية البشرية استطاع أن يحقق محليا وإقليميا خلال السنوات الأخيرة ما لم تحققه له الأحزاب خلال عقود مضت. بل ما زالت تنظر إليه وإلى جهته كخزان للأصوات يتم "فتحها" كل موسم انتخابي و"إغلاقها" بعده.
وفي حقيقة الأمر، المواطن المغربي لم يغب بتاتا عن اتخاذ القرار والمحاسبة لكونه أوكل واجبه لمن يمثله في هذه المهمة لعلمه أن هذه المسالة تمر عبر مؤسسات وأولها المؤسسة التشريعية. وما أدراك ما مؤسسة تشريعية وانشغالات فعالياتها بالصراعات الحزبية وتجاهلها لقضايا المواطن. وهنا يكمن الجواب عن البحث عن الحلقة المفقودة.
أما مسألة المحاسبة فهي مصطلح إذا ما تم تغييبه، غابت الديمقراطية بل غاب أحد الركائز الأساسية للديمقراطية وبالتالي غابت الجهوية وغابت معها التنمية المنشودة كما أرادها جلالته لمواطنيه. والقول بأن المواطن المغربي غائب عن ممارسة المحاسبة، فهذا أمر مغلوط وموهوم كما أشرت لذلك سابقا. والاستحقاقات الانتخابية ونتائجها لخير دليل عن قيام المواطن المغربي بواجب المحاسبة، أي محاسبة من قادوه للتهميش.
المحاسبة المهمة هي تلك التي تقوم بها مؤسسة المجلس الأعلى للحسابات والمفتشيات التابعة لوزارة الداخلية من خلال التقارير والإجراءات التي تتخذها في حق عديمي الضمير الوطني المتلاعبين بثروات وخيرات البلاد وما أنتجه المواطن المغربي. والغريب، وما هو بغريب، أن تقوم بعض الأحزاب السياسية بانتقاد عمل مؤسسة دستورية محايدة ومحاولة إقحامها وإدراجها في المتاهات السياسية أو محاولة جعلها أداة تصيغ تقاريرها وفق ما تتبناه هذه الأحزاب. ربما رغبت هذه الأحزاب لو كان مدير المجلس الأعلى للحسابات ورئيس ديوان المظاليم... تابعين لحزب معين. علاوة على هذا، فبعض المؤسسات العمومية لا تستجيب حتى إلى مساءلة ديوان المظاليم. فإذا كانت بعض الأحزاب السياسية وخاصة تلك التي عهد إليها تدبير بعض المؤسسات العمومية لا تمتثل لقرارات مؤسسات مغربية محايدة للتدقيق والتفتيش، فعن أية حلقة مفقودة يتم البحث؟ والكل بين وواضح.
أما القطاع الخاص، الفاعل الثالث في الحلقة المفقودة المبحوث عنها، فيمكن القول، لعدم تجانسه، أنه منقسم إلى فئتين: فئة القطاع الخاص المتحضر أو الرأسمالي (secteur privé capitaliste) وهذه الفئة لها وزن في اتخاذ القرارات والتأثير عليها أولا لكونها منضوية تحت إطار الكنفدرالية العامة للمقاولين المغاربة (CGEM) وثانيا عندما يضاف إلى بعض المقاولين أو جلهم "سلهام قبة السلطة التشريعية". أما الفئة الثانية (secteur privé traditionnel) فاهتمامها الأولوي هو محاولة العمل على تحقيق ، في إطار سوق داخلي ضيق والمنافسة، ما يمكن تحقيقه من ربح لتغطية كلفة الانتاج وتسديد مستحقات الضرائب "بعيدة"، أو متجاهلة للمجال السياسي كأنها لا صلة لها به أو لاعتقادها أنه مجال لا يهمها وهو مجال مخصص لأناس آخرين معتقدين "أنه لكل حرفته"، كل البعد عن المجال السياسي أي مجال اتخاذ القرار والمحاسبة.
فالفئة الأولى، وبالرغم من قلتها إلا أن وزنها جد قوي ولها تاثير على اتخاذ القرار وتفعيل أو عرقلة تفعيل المحاسبة. كما لها تأثير في مآل صياغة قانون المالية، قانون مدونة الشغل، قانون الاضراب،...ومن مميزاتها أنها "مقاولات سياسوية" لكون رئيسها غالبا ما يكون منتميا لحزب ما بل يعتبر من الأعيان وتتم المناداة عليه والاعتماد عليه من طرف بعض الأحزاب لضمان نجاح الحزب في جهة معينة. ف"الاستفادة تكون مزدوجة".
كل ما سلف ذكره يجعل من المجال السياسي هو قاطرة تدبير الشأن العام والخاص في المغرب. وهذا المنحى يتنافى مع فكر عاهل البلاد الذي يريد جعل المجال الاقتصادي والاجتماعي هو العمود الفقري والقاطرة الفعلية لتدبير الشأن العام. وحتى في مجال إرساء الجهوية في المغرب، فإذا ما تم اعتماد العنصر السياسي، فلن نحقق الركائز الأربع التي سنها جلالته للتفكير في إرساء جهوية مغربية المميزات.
فالحلقة المفقودة لا تكمن لا في المواطن ولا في الجمعيات المحلية ولا في القطاع الخاص وإنما تكمن في تشردم المشهد السياسي المغربي وعدم دمقرطة اجهزته. ذلك أن كل هذه الفعاليات التي اعتبرها السيد حداد بالحلقة المفقودة كان بالامكان احتواءها وتأطيرها وإشراكها من طرف الأحزاب السياسية عوض تجاهلها وتهميشها وعدم تأهيلها وعدم فسح المجال لها للإسهام في اتخاذ القرار والمحاسبة. إذا كان السيد حداد قد صرح بما صرح به مكتفيا بالتعليق لا بإيجاد الحلول، فهذا أمر كان منتظرا لكونه كان يحاور، لا بلغة الخبير الدولي الاقتصادي "المحايد"، ولكن كان ينطق بلغة السياسي المغربي. والقول الحق لشرح لغز الحلقة المفقودة تكمن في الفاعل السياسي أي الأحزاب ولا فاعل سواها من خلال انغلاقها وانفرادها وصد أبوابها أمام الفعاليات "المتهمة أعلاه" قصد ولوج مجال المساهمة في إعداد واتخاذ القرار من جهة؛ ومن جهة أخرى، رفضها أو عرقلتها لعمل مؤسسات المحاسبة.