تعد وظيفة التحكيم الملكي ممارسة سياسية وعرفية وقاعدة دستورية جديدة تعزز للنظام السياسي وحدته السياسية والجغرافية وتساعد على تجاوز كثير من الأزمات السياسية والمجتمعية الحرجة. وبهدف محاولة الإحاطة بمضمون وظيفة التحكيم الملكي سنرجع لمرجعيته التاريخية وتطوره الدستوري، قبل أن نصل إلى رصد خصائص وشروط التحكيم الملكي .
1- المرجعية التاريخية التقليدية للتحكيم الملكي
لقد أفرز المجتمع المغربي التقليدي واقعا تاريخيا سابقا متميزا بهيمنة تنظيمات قبلية لم تكن منغلقة على نفسها، بل كانت تدخل في علاقات متغيرة لحماية مجالها ومصالحا. وفي ظل واقع الصراع القبلي والعصبي وضرورة البحث عن سبل العيش في ظل الاستقرار الاجتماعي و السياسي، عمدت السلالات الحاكمة للبحث عن آليات لضبط التوازن القبلي والتحكم في السلطة السياسية لضمان حد أدنى من شروط الاندماج في نسق الدولة المغربية والمحافظة على رصيد الولاء و التعايش السلمي.
وقد ساعد الانتقال من الارتكاز على قوة القبيلة ، كمحدد حاسم سابقا للسلطة، لفائدة الاستناد على رصيد الولاء لرمزية مسؤولية إمارة المؤمنين إلى تعزيز وظيفة التحكيم لفائدة عدم التحيز القبلي ولتحقيق التوازن الاجتماعي والسياسي وضمان التعايش السلمي بين مختلف الفرقاء والمناطق المغربية.وهذا ما كان يدفع حتى قبائل ومناطق السيبة المستقلة إلى طلب التدخل التحكيمي في نزاعاتها. مما يؤكد أن الاستقلال الذاتي الذي كانت تتمتع به بعض القبائل في تسيير شؤونها الداخلية لم يكن يتنافى بتاتاً مع خضوعها للسلطة التحكيمية للسلطان واعترافها بمشروعيته الرمزية للمحافظة على التعايش السلمي.
2- المرجعية الدستورية الضمنية للتحكيم الملكي
بعد دخول المغرب مرحلة الملكية الدستورية تم تكييف وظيفة التحكيم الملكي بما يضمن الانسجام مع المتطلبات العصرية والمحا فظة على الوحدة الوطنية.
ولئن كانت وظيفة التحكيم الملكي لم ترد قبل ربيع الإصلاحات الدستورية الجديدة متضمنة بشكل صريح ومباشر في فحوى الوثيقة الدستورية ، فإنها كانت تستمد من مفهوم التمثيلية الدستورية الأسمى وباقي المقتضيات الدستورية التي تكرس سمو الملك وتعاليه عن الصراع السياسي و الحزبي . فبالإحالة على فصل الفصول ، التاسع عشرة سابقا ، نجده يضفي على الملك صفة "الممثل الأسمى للأمة"، بصيغة ضمنية في دستور 1962 وبصيغة صريحة في باقي الدساتير اللاحقة. فالملك، الحائز على الولاء الدستوري العام ، يعتبر هو المسؤول الأول عن تجسيد رمزية وسلطة التحكيم. لذلك عمدت المعارضة البرلمانية في بعض الحالات إلى إثارتها كما حصل بخصوص الحالات التالية:
- النزاع حول الدورة الاستثنائية خلال التجربة البرلمانية الأولى ) 1963- 1965
- النزاع حول قانون الخوصصة خلال التجربة البرلمانية الرابعة )1984-1992
- النزاع حول القانون الانتخابي في إطار الإعداد للاستحقاقات الانتخابية التي أعقبت انتهاء الولاية الانتخابية لمجلس النواب)1984-1992( وباقي الهيئات المنتخبة .
كما أن المرجعية الدستورية الضمنية للتحكيم الملكي تجسدت على مستوى تكريس الالتزام الدستوري بالتعددية الحزبية ومنع نظام الحزب الواحد، وعلى مستوى تكريس الالتزام الملكي بالتموقع فوق صراع الأحزاب وممارسة وظيفة " الموحد المرشد والناصح الأمين والحكم الذي يعلو فوق كل انتماء" في
طاب العرش الأول لمحمد السادس.
3- المرجعية الدستورية الصريحة للتحكيم الملكي
أصبحت وظيفة التحكيم الملكي تكتسي صبغة دستورية صريحة تبعا للإصلاح الدستوري الأخير ، حيث أصبحت واردة في فحوى الفصل الثاني والأربعون من دستور 2011 فالملك باعتباره رئيسا للدولة وممثلها القانوني الأسمى، هو الحكم الأسمى بين مؤسساتها . وبموجب هذه الخاصية الدستورية يتحمل مسؤولية السهر على احترام المقتضيات الدستورية وضمان حسن سير المؤسسات الدستورية، و صيانة الاختيار الديمقراطي، وحقوق وحريات المواطنين والمواطنات والجماعات، وكذا احترام التعهدات الدولية للمملكة.
مما يعني بالتصريح المنطوق أن الملك يمكنه أن يمارس وظيفته التحكيمية الدستورية بشكل تلقائي وفي نطاق المقتضيات الدستورية والاختصاصات المنوطة به دستوريا ، بما يخدم ويحقق غرض اعتباره حكما أسمى . كما يمكنه أن يمارس هذا التحكيم بناء على طلب صريح أو ضمني من الفرقاء في الحالات المحددة دستوريا والمتعلقة أساسا بتجاوز مقتضيات دستورية أو تعثر سير مؤسسات دستورية ووجود تهديد للاختيار الديموقراطي أو للحقوق والحريات الفردية أو الجماعية أو الإخلال بتعهدات دولية .
وبالنتيجة البينة فالمشرع الدستوري قد حدد على سبيل الحصر الحالات التي يمكن اللجوء فيها لطلب التحكيم الملكي، حتى لا يصبح هذا الطلب مطية مجانية ،ربما يمكن أن تستغل لممارسة الضغط الحزبي أو البرلماني أو حتى في إطار تصريف الصراع الحزبي والسياسي خارج نطاقه الدستوري الاعتيادي. مع الإشارة في هذا الصدد إلى أن الملك غير ملزم دستوريا بالجواب الإيجابي أو السلبي على طلبات التحكيم في كل الأحوال.
وجدير بالذكر أن ممارسة مسؤولية وظيفة التحكيم الدستوري الملكي والتفاعل مع الطلبات الصريحة أو الضمنية، التي قد ترفع في هذا الشأن بمقتضى الفصل المذكور، تتجسد نتائجها بمقتضى ظهائر، من خلال السلطات الملكية المخولة صراحة بنص الدستور. كما أن هذه الظهائر توقع بالعطف من طرف رئيس الحكومة، في إطار فتح المجال لإمكانية إثارة مسؤوليته السياسية الدستورية بشأنها. حيث تم حصر حالات الظهائر الخالصة للتوقيع الملكي بموجب الفصل الواحد والأربعون وباقي الفصول المحال عليها بموجبه. ويتعلق الأمر، على سبيل المثال، بالظهائر المتعلقة بممارسة الصلاحيات الدينية المتعلقة بإمارة المؤمنين. وتعيين رئيس الحكومة من الحزب السياسي الذي تصدر انتخابات أعضاء مجلس النواب، وعلى أساس نتائجها. وإعفاء الحكومة بكاملها على إثر استقالة لرئيس الحكومة .أو ممارسة حق حل مجلسي البرلمان أو أحدهما .
وفضلا عن الاختصاصات الدستورية المنوطة بالملك فإن هذا الأخير يمكنه ممارسة الوظيفة التحكيمية الدستورية في نطاق الاختصاصات والتقنيات الدستورية التي خولها له الدستور صراحة و في نطاق المصلحة الدستورية والسياسية العليا المحددة في حد ذاتها صراحة بموجب الوثيقة الدستورية.و يمكن الإشارة إلى بعضها في سياق محدد كما يلي:
-تعيين أعضاء الحكومة باقتراح من رئيسها، الفصل 47 الفقرة الثانية،
- إعفاء عضوا أو أكثر من أعضاء الحكومة من مهامهم بمبادرة منه، وبعد استشارة رئيس الحكومة، الفصل 47 الفقرة الثالثة،
- النظر في الطلب الموجه إليه من طرف رئيس الحكومة بشأن إعفاء عضو أو أكثر، من أعضاء الحكومة ، الفصل 47 الفقرة . ومن المعلوم أن نظره في مثل هذه النازلة السياسية مفتوحة على الاستجابة الإيجابية أو السلبية تبعا للتقدير الملكي للطلب في سياق مسؤوليته الدستورية .
- النظر في الطلب الموجه إليه من طرف رئيس الحكومة بخصوص إعفاء عضو أو أكثر، من أعضاء الحكومة، بناء على استقالتهم الفردية أو الجماعية، مما يعني أن النظر والحسم في نازلة استقالة الوزراء موكول لنظر الملك وذلك في إطار تكريس العقلنة البرلمانية وتفادي توالد وتواتر لحظات الأزمات الحكومية والسياسية .
--إعلان حالة الاستثناء في حالة وجود تهديد جدي للتراب الوطني أو ووقوع حالة من الأحداث المعرقلة للسير العادي للمؤسسات الدستورية، الفصل 59.
ودون حاجة إلى عرض جميع الاختصاصات الدستورية التي تمارس بظهير ملكي، والتي يمكن الملك مباشرتها في سياق مهامه الدستورية العادية وفي نطاق التعاون والتوزيع التشاركي الدستوري للاختصاصات مع باقي المؤسسات الدستورية، فإنه من المهم الإشارة إلى أنه قد يقتضي نظره الدستوري التقديري تفعيل بعض مقتضياتها في سياق تفاعله مع لحظات الأزمات السياسية التي تقترن بشكل مباشر وجوهري بضرورة الاستجابة لمطالب تحكيمية ذات خصوصية دستورية تستوجب تصحيح الأمور المخلة بشكل جلي بمقتضيات دستورية أو المهددة بشكل أمني لسير المؤسسات الدستورية وفي نطاق المصلحة الدستورية والسياسية العليا . وهنا فلا يمكن لظهائر نتائج التدخل الملكي التحكيمي بشأنها إلا أن تجسد درجة السمو الملكي المدعم لصيانة الاختيار الديموقراطي المتعالي عن درجة التنافس السياسي والحزبي وتقديرات المصالح الحزبية السياسية المغلفة أحيانا بمصلحة عامة ، ،بحيث لا يمكن من الناحية الدستورية التقنية والموضوعية تصور رهنها بنطاق التحكيم الدستوري الملكي .
4- خصائص وشروط التحكيم الملكي
تتجلى الخاصية الأولى للتحكيم في تدخل جلالة الملك كفاعل إيجابي موجه لقواعد اللعبة السياسية. أما الخاصية الثانية فتتجلى في حياد الملك وتموقعه فوق الصراع السياسي والحزبي.
:الخاصية الأولى: الفعالية الإيجابية
تثير ممارسة وظيفة التحكيم الملكي الإحالة على فلسفة ملكية حاكمة تحقق التوازن والاستقرار وسير الأمور في الاتجاه الإستراتيجي الصحيح ف" الملك لم يأخذ من الاختصاصات إلا ما كان يلزم لتمكينه بالضبط من التدخل عندما يختل سير الأمور"[1].
مما يثير الاستناد على منظور للتحكيم يراهن على استراتيجية الفعالية الإيجابية الدائمة في الحقل السياسي والدستوري واحتواء مختلف الفرقاء السياسيين بما يضمن النهوض بدور " الموحد المرشد والناصح الأمين والحكم الذي يعلو فوق كل انتماء" حسب تعبير جلالة الملك محمد السادس في خطاب العرش بعد توليه الحكم.
ويعبر الحسن الثاني عن المفهوم الملكي للتحكيم بقوله: " إن الدستور يجعل منا حكما، وأنا متيقن أن الكثيرين قالوا إن سلطات الملك ضخمة، ولكن أيها السادة ليعلموا بكل بساطة أن الملك لم يأخذ إلا ما يلزمه ليتمكن من التدخل إذا تعثر سير الأمور أو للمساعدة على حسن سيرها، وسأقول لهم أخيرا، وكمثال بسيط: تخيلوا فريقين لكرة القدم في ملعب واحد وانزعوا من الحكم سلطة التصفير وطرد لاعب، والعبوا أيها السادة".
فهذا المفهوم يجعل الملك حكما إيجابيا وفاعلا يتمتع بالسلطة الكافية حتى يتمكن من إرساء هبة النظام السياسي والدستوري وتجاوز الأزمات الحرجة، بحيث يمكن توقيف ومحاصرة كل من يتجاوز أسس المشروعية السياسية والدينية أو يوظف إيديولوجية الفكر الخوارجي الرافض لثقافة المشاركة السلمية والاندماج السياسي في البنيات الرسمية للمجتمع.
وتنسجم خاصية التحكيم الفاعل والإيجابي مع واقع تجذر التعددية الحزبية والسياسية والثقافية في المجتمع المغربي، إذ لا تتماشى وظيفة التحكيم الملكي مع وجود حزب وحيد أو مهيمن.
الخاصية الثانية: الحياد فوق الصراع
ترتكز وظيفة التحكيم الملكي على خاصية الحياد التي تعني سمو الملك فوق الصراعات السياسية وتجسيده لمفهوم التمثيلية الأسمى للأمة، بحيث يعد الملك هو أسمى وأفضل معبر عن المصلحة العامة ،والذي يعلو شأنه ودوره على كل المصالح الفئوية والشخصية، وكل ما يؤثر في الحياة الحزبية، مما يجعله قادرا لوحده على إخضاع الجميع لسلطته التحكيمية. فهو يستطيع أن " يحكم وأن يفصل بكل حياد وتجرد من غير أن يتهم بمحاباة فئة على حساب فئة أخرى"[2].
ومما يعزز هذه الخاصية كذلك عدم ارتكاز الملكية على مشروع ديني آو عصبي. ولتوضيح هذه الفكرة يكفي أن نشير إلى أن المؤسسة الملكية تعيش في الوقت الحالي في كنف ثقافة سياسية تعددية وغير منسجمة في كثير من تمظهراتها، مما يدعم وظيفتها التحكيمية وحيادها السياسي. فهي لا تنحاز بصفة مطلقة إلى الثقافة السياسية الدينية التي تجسدها تيارات الحركات الإسلامية الحزبية وغير الحزبية ولا تنحاز بالقدر نفسه إلى الثقافة السياسية الحداثية التي تشخصها التيارات اللبرالية والاشتراكية بمختلف تجلياتها الحزبية وغير الحزبية. كما أنها في الوقت الذي لا تقبل فيه الخضوع لإيديولوجية إدماج الدين في الصراع السياسي لا ترفض الاستجابة لإيديولوجية المطالبة بإبعاد الدين من السياسة وفصل الدين عن الدولة. يقول جلالة الملك محمد السادس في توضيحه للمستوى الأول: "...أقول بلسانك شعبي العزيز إننا لن نقبل أبدا اتخاذ الإسلام مطية للزعامة باسم الدين أو القيام بأعمال إرهابية وتمزيق الوحدة المذهبية للأمة والتكفير وسفك الدماء..." مضيف و " ... باعتبار أمير المؤمنين مرجعية دينية وحيدة للأمة المغربية، فلا مجال لوجود أحزاب أو جمعيات تحتكر لنفسها التحدث باسم الإسلام أو الوصاية عليه...".
وفي توضيحه للمستوى الثاني يقول جلالته: "...وبنفس القوة، فإننا نؤكد أن علاقة الدين بالدولة محسومة في بلادنا، في ظل تنصيص الدستور على أن الملكية المغربية دولة إسلامية وأن الملك أمير المؤمنين مؤتمن على حماية الدين وضمان الحريات بما فيها حرية ممارسة شعائر الأديان السماوية الأخرى"[3].
كما أن وظيفة التحكيم الملكي تثير عدم الارتباط بأي تنظيم أو تيار مهما كان ولاءه . فلم يحصل أن نوه جلالة الملك بأي تيار سياسي على حساب تيار آخر، كما لم يسبق له أن دافع عن موقف حزب سياسي آو تبنى برنامجه ، فهو فوق الأغلبية والمعارضة. فالمغاربة جميعهم عند جلالة الملك على حد سواء.
ومن الملاحظ أن خاصيتي التحكيم الملكي تتجسد حتى على مستوى الرموز السياسية ولغة الخطاب السياسي التي تحقق من خلالها علاقة التواصل مع الشعب بمختلف شرائحه. فجلالة الملك يجسم تجميعه لمظاهر الأصالة والمعاصرة بلباس الزي التقليدي في بعض المناسبات، ولباس الهندام العصري في المناسبات الأخرى، وبركوبه صهوة الجواد حينا وركوب السيارة حينا آخر...، كما يزاوج داخل فحوى نفس الخطاب الواحد بين مفاهيم تراثية وأخرى حداثية.
الهوامش
[1] - مقتطف من حوار صحفي ملكي بتاريخ 13 دجنبر1962 بعد المصادقة على دستور 1962، انبعاث أمة المجلد الثاني ،ص: 270
[2] - الحسن الثاني: التحدي... ، مرجع سابق، ص: 273
[3] - خطاب العرش بتاريخ يوليوز 2003
1- المرجعية التاريخية التقليدية للتحكيم الملكي
لقد أفرز المجتمع المغربي التقليدي واقعا تاريخيا سابقا متميزا بهيمنة تنظيمات قبلية لم تكن منغلقة على نفسها، بل كانت تدخل في علاقات متغيرة لحماية مجالها ومصالحا. وفي ظل واقع الصراع القبلي والعصبي وضرورة البحث عن سبل العيش في ظل الاستقرار الاجتماعي و السياسي، عمدت السلالات الحاكمة للبحث عن آليات لضبط التوازن القبلي والتحكم في السلطة السياسية لضمان حد أدنى من شروط الاندماج في نسق الدولة المغربية والمحافظة على رصيد الولاء و التعايش السلمي.
وقد ساعد الانتقال من الارتكاز على قوة القبيلة ، كمحدد حاسم سابقا للسلطة، لفائدة الاستناد على رصيد الولاء لرمزية مسؤولية إمارة المؤمنين إلى تعزيز وظيفة التحكيم لفائدة عدم التحيز القبلي ولتحقيق التوازن الاجتماعي والسياسي وضمان التعايش السلمي بين مختلف الفرقاء والمناطق المغربية.وهذا ما كان يدفع حتى قبائل ومناطق السيبة المستقلة إلى طلب التدخل التحكيمي في نزاعاتها. مما يؤكد أن الاستقلال الذاتي الذي كانت تتمتع به بعض القبائل في تسيير شؤونها الداخلية لم يكن يتنافى بتاتاً مع خضوعها للسلطة التحكيمية للسلطان واعترافها بمشروعيته الرمزية للمحافظة على التعايش السلمي.
2- المرجعية الدستورية الضمنية للتحكيم الملكي
بعد دخول المغرب مرحلة الملكية الدستورية تم تكييف وظيفة التحكيم الملكي بما يضمن الانسجام مع المتطلبات العصرية والمحا فظة على الوحدة الوطنية.
ولئن كانت وظيفة التحكيم الملكي لم ترد قبل ربيع الإصلاحات الدستورية الجديدة متضمنة بشكل صريح ومباشر في فحوى الوثيقة الدستورية ، فإنها كانت تستمد من مفهوم التمثيلية الدستورية الأسمى وباقي المقتضيات الدستورية التي تكرس سمو الملك وتعاليه عن الصراع السياسي و الحزبي . فبالإحالة على فصل الفصول ، التاسع عشرة سابقا ، نجده يضفي على الملك صفة "الممثل الأسمى للأمة"، بصيغة ضمنية في دستور 1962 وبصيغة صريحة في باقي الدساتير اللاحقة. فالملك، الحائز على الولاء الدستوري العام ، يعتبر هو المسؤول الأول عن تجسيد رمزية وسلطة التحكيم. لذلك عمدت المعارضة البرلمانية في بعض الحالات إلى إثارتها كما حصل بخصوص الحالات التالية:
- النزاع حول الدورة الاستثنائية خلال التجربة البرلمانية الأولى ) 1963- 1965
- النزاع حول قانون الخوصصة خلال التجربة البرلمانية الرابعة )1984-1992
- النزاع حول القانون الانتخابي في إطار الإعداد للاستحقاقات الانتخابية التي أعقبت انتهاء الولاية الانتخابية لمجلس النواب)1984-1992( وباقي الهيئات المنتخبة .
كما أن المرجعية الدستورية الضمنية للتحكيم الملكي تجسدت على مستوى تكريس الالتزام الدستوري بالتعددية الحزبية ومنع نظام الحزب الواحد، وعلى مستوى تكريس الالتزام الملكي بالتموقع فوق صراع الأحزاب وممارسة وظيفة " الموحد المرشد والناصح الأمين والحكم الذي يعلو فوق كل انتماء" في
طاب العرش الأول لمحمد السادس.
3- المرجعية الدستورية الصريحة للتحكيم الملكي
أصبحت وظيفة التحكيم الملكي تكتسي صبغة دستورية صريحة تبعا للإصلاح الدستوري الأخير ، حيث أصبحت واردة في فحوى الفصل الثاني والأربعون من دستور 2011 فالملك باعتباره رئيسا للدولة وممثلها القانوني الأسمى، هو الحكم الأسمى بين مؤسساتها . وبموجب هذه الخاصية الدستورية يتحمل مسؤولية السهر على احترام المقتضيات الدستورية وضمان حسن سير المؤسسات الدستورية، و صيانة الاختيار الديمقراطي، وحقوق وحريات المواطنين والمواطنات والجماعات، وكذا احترام التعهدات الدولية للمملكة.
مما يعني بالتصريح المنطوق أن الملك يمكنه أن يمارس وظيفته التحكيمية الدستورية بشكل تلقائي وفي نطاق المقتضيات الدستورية والاختصاصات المنوطة به دستوريا ، بما يخدم ويحقق غرض اعتباره حكما أسمى . كما يمكنه أن يمارس هذا التحكيم بناء على طلب صريح أو ضمني من الفرقاء في الحالات المحددة دستوريا والمتعلقة أساسا بتجاوز مقتضيات دستورية أو تعثر سير مؤسسات دستورية ووجود تهديد للاختيار الديموقراطي أو للحقوق والحريات الفردية أو الجماعية أو الإخلال بتعهدات دولية .
وبالنتيجة البينة فالمشرع الدستوري قد حدد على سبيل الحصر الحالات التي يمكن اللجوء فيها لطلب التحكيم الملكي، حتى لا يصبح هذا الطلب مطية مجانية ،ربما يمكن أن تستغل لممارسة الضغط الحزبي أو البرلماني أو حتى في إطار تصريف الصراع الحزبي والسياسي خارج نطاقه الدستوري الاعتيادي. مع الإشارة في هذا الصدد إلى أن الملك غير ملزم دستوريا بالجواب الإيجابي أو السلبي على طلبات التحكيم في كل الأحوال.
وجدير بالذكر أن ممارسة مسؤولية وظيفة التحكيم الدستوري الملكي والتفاعل مع الطلبات الصريحة أو الضمنية، التي قد ترفع في هذا الشأن بمقتضى الفصل المذكور، تتجسد نتائجها بمقتضى ظهائر، من خلال السلطات الملكية المخولة صراحة بنص الدستور. كما أن هذه الظهائر توقع بالعطف من طرف رئيس الحكومة، في إطار فتح المجال لإمكانية إثارة مسؤوليته السياسية الدستورية بشأنها. حيث تم حصر حالات الظهائر الخالصة للتوقيع الملكي بموجب الفصل الواحد والأربعون وباقي الفصول المحال عليها بموجبه. ويتعلق الأمر، على سبيل المثال، بالظهائر المتعلقة بممارسة الصلاحيات الدينية المتعلقة بإمارة المؤمنين. وتعيين رئيس الحكومة من الحزب السياسي الذي تصدر انتخابات أعضاء مجلس النواب، وعلى أساس نتائجها. وإعفاء الحكومة بكاملها على إثر استقالة لرئيس الحكومة .أو ممارسة حق حل مجلسي البرلمان أو أحدهما .
وفضلا عن الاختصاصات الدستورية المنوطة بالملك فإن هذا الأخير يمكنه ممارسة الوظيفة التحكيمية الدستورية في نطاق الاختصاصات والتقنيات الدستورية التي خولها له الدستور صراحة و في نطاق المصلحة الدستورية والسياسية العليا المحددة في حد ذاتها صراحة بموجب الوثيقة الدستورية.و يمكن الإشارة إلى بعضها في سياق محدد كما يلي:
-تعيين أعضاء الحكومة باقتراح من رئيسها، الفصل 47 الفقرة الثانية،
- إعفاء عضوا أو أكثر من أعضاء الحكومة من مهامهم بمبادرة منه، وبعد استشارة رئيس الحكومة، الفصل 47 الفقرة الثالثة،
- النظر في الطلب الموجه إليه من طرف رئيس الحكومة بشأن إعفاء عضو أو أكثر، من أعضاء الحكومة ، الفصل 47 الفقرة . ومن المعلوم أن نظره في مثل هذه النازلة السياسية مفتوحة على الاستجابة الإيجابية أو السلبية تبعا للتقدير الملكي للطلب في سياق مسؤوليته الدستورية .
- النظر في الطلب الموجه إليه من طرف رئيس الحكومة بخصوص إعفاء عضو أو أكثر، من أعضاء الحكومة، بناء على استقالتهم الفردية أو الجماعية، مما يعني أن النظر والحسم في نازلة استقالة الوزراء موكول لنظر الملك وذلك في إطار تكريس العقلنة البرلمانية وتفادي توالد وتواتر لحظات الأزمات الحكومية والسياسية .
--إعلان حالة الاستثناء في حالة وجود تهديد جدي للتراب الوطني أو ووقوع حالة من الأحداث المعرقلة للسير العادي للمؤسسات الدستورية، الفصل 59.
ودون حاجة إلى عرض جميع الاختصاصات الدستورية التي تمارس بظهير ملكي، والتي يمكن الملك مباشرتها في سياق مهامه الدستورية العادية وفي نطاق التعاون والتوزيع التشاركي الدستوري للاختصاصات مع باقي المؤسسات الدستورية، فإنه من المهم الإشارة إلى أنه قد يقتضي نظره الدستوري التقديري تفعيل بعض مقتضياتها في سياق تفاعله مع لحظات الأزمات السياسية التي تقترن بشكل مباشر وجوهري بضرورة الاستجابة لمطالب تحكيمية ذات خصوصية دستورية تستوجب تصحيح الأمور المخلة بشكل جلي بمقتضيات دستورية أو المهددة بشكل أمني لسير المؤسسات الدستورية وفي نطاق المصلحة الدستورية والسياسية العليا . وهنا فلا يمكن لظهائر نتائج التدخل الملكي التحكيمي بشأنها إلا أن تجسد درجة السمو الملكي المدعم لصيانة الاختيار الديموقراطي المتعالي عن درجة التنافس السياسي والحزبي وتقديرات المصالح الحزبية السياسية المغلفة أحيانا بمصلحة عامة ، ،بحيث لا يمكن من الناحية الدستورية التقنية والموضوعية تصور رهنها بنطاق التحكيم الدستوري الملكي .
4- خصائص وشروط التحكيم الملكي
تتجلى الخاصية الأولى للتحكيم في تدخل جلالة الملك كفاعل إيجابي موجه لقواعد اللعبة السياسية. أما الخاصية الثانية فتتجلى في حياد الملك وتموقعه فوق الصراع السياسي والحزبي.
:الخاصية الأولى: الفعالية الإيجابية
تثير ممارسة وظيفة التحكيم الملكي الإحالة على فلسفة ملكية حاكمة تحقق التوازن والاستقرار وسير الأمور في الاتجاه الإستراتيجي الصحيح ف" الملك لم يأخذ من الاختصاصات إلا ما كان يلزم لتمكينه بالضبط من التدخل عندما يختل سير الأمور"[1].
مما يثير الاستناد على منظور للتحكيم يراهن على استراتيجية الفعالية الإيجابية الدائمة في الحقل السياسي والدستوري واحتواء مختلف الفرقاء السياسيين بما يضمن النهوض بدور " الموحد المرشد والناصح الأمين والحكم الذي يعلو فوق كل انتماء" حسب تعبير جلالة الملك محمد السادس في خطاب العرش بعد توليه الحكم.
ويعبر الحسن الثاني عن المفهوم الملكي للتحكيم بقوله: " إن الدستور يجعل منا حكما، وأنا متيقن أن الكثيرين قالوا إن سلطات الملك ضخمة، ولكن أيها السادة ليعلموا بكل بساطة أن الملك لم يأخذ إلا ما يلزمه ليتمكن من التدخل إذا تعثر سير الأمور أو للمساعدة على حسن سيرها، وسأقول لهم أخيرا، وكمثال بسيط: تخيلوا فريقين لكرة القدم في ملعب واحد وانزعوا من الحكم سلطة التصفير وطرد لاعب، والعبوا أيها السادة".
فهذا المفهوم يجعل الملك حكما إيجابيا وفاعلا يتمتع بالسلطة الكافية حتى يتمكن من إرساء هبة النظام السياسي والدستوري وتجاوز الأزمات الحرجة، بحيث يمكن توقيف ومحاصرة كل من يتجاوز أسس المشروعية السياسية والدينية أو يوظف إيديولوجية الفكر الخوارجي الرافض لثقافة المشاركة السلمية والاندماج السياسي في البنيات الرسمية للمجتمع.
وتنسجم خاصية التحكيم الفاعل والإيجابي مع واقع تجذر التعددية الحزبية والسياسية والثقافية في المجتمع المغربي، إذ لا تتماشى وظيفة التحكيم الملكي مع وجود حزب وحيد أو مهيمن.
الخاصية الثانية: الحياد فوق الصراع
ترتكز وظيفة التحكيم الملكي على خاصية الحياد التي تعني سمو الملك فوق الصراعات السياسية وتجسيده لمفهوم التمثيلية الأسمى للأمة، بحيث يعد الملك هو أسمى وأفضل معبر عن المصلحة العامة ،والذي يعلو شأنه ودوره على كل المصالح الفئوية والشخصية، وكل ما يؤثر في الحياة الحزبية، مما يجعله قادرا لوحده على إخضاع الجميع لسلطته التحكيمية. فهو يستطيع أن " يحكم وأن يفصل بكل حياد وتجرد من غير أن يتهم بمحاباة فئة على حساب فئة أخرى"[2].
ومما يعزز هذه الخاصية كذلك عدم ارتكاز الملكية على مشروع ديني آو عصبي. ولتوضيح هذه الفكرة يكفي أن نشير إلى أن المؤسسة الملكية تعيش في الوقت الحالي في كنف ثقافة سياسية تعددية وغير منسجمة في كثير من تمظهراتها، مما يدعم وظيفتها التحكيمية وحيادها السياسي. فهي لا تنحاز بصفة مطلقة إلى الثقافة السياسية الدينية التي تجسدها تيارات الحركات الإسلامية الحزبية وغير الحزبية ولا تنحاز بالقدر نفسه إلى الثقافة السياسية الحداثية التي تشخصها التيارات اللبرالية والاشتراكية بمختلف تجلياتها الحزبية وغير الحزبية. كما أنها في الوقت الذي لا تقبل فيه الخضوع لإيديولوجية إدماج الدين في الصراع السياسي لا ترفض الاستجابة لإيديولوجية المطالبة بإبعاد الدين من السياسة وفصل الدين عن الدولة. يقول جلالة الملك محمد السادس في توضيحه للمستوى الأول: "...أقول بلسانك شعبي العزيز إننا لن نقبل أبدا اتخاذ الإسلام مطية للزعامة باسم الدين أو القيام بأعمال إرهابية وتمزيق الوحدة المذهبية للأمة والتكفير وسفك الدماء..." مضيف و " ... باعتبار أمير المؤمنين مرجعية دينية وحيدة للأمة المغربية، فلا مجال لوجود أحزاب أو جمعيات تحتكر لنفسها التحدث باسم الإسلام أو الوصاية عليه...".
وفي توضيحه للمستوى الثاني يقول جلالته: "...وبنفس القوة، فإننا نؤكد أن علاقة الدين بالدولة محسومة في بلادنا، في ظل تنصيص الدستور على أن الملكية المغربية دولة إسلامية وأن الملك أمير المؤمنين مؤتمن على حماية الدين وضمان الحريات بما فيها حرية ممارسة شعائر الأديان السماوية الأخرى"[3].
كما أن وظيفة التحكيم الملكي تثير عدم الارتباط بأي تنظيم أو تيار مهما كان ولاءه . فلم يحصل أن نوه جلالة الملك بأي تيار سياسي على حساب تيار آخر، كما لم يسبق له أن دافع عن موقف حزب سياسي آو تبنى برنامجه ، فهو فوق الأغلبية والمعارضة. فالمغاربة جميعهم عند جلالة الملك على حد سواء.
ومن الملاحظ أن خاصيتي التحكيم الملكي تتجسد حتى على مستوى الرموز السياسية ولغة الخطاب السياسي التي تحقق من خلالها علاقة التواصل مع الشعب بمختلف شرائحه. فجلالة الملك يجسم تجميعه لمظاهر الأصالة والمعاصرة بلباس الزي التقليدي في بعض المناسبات، ولباس الهندام العصري في المناسبات الأخرى، وبركوبه صهوة الجواد حينا وركوب السيارة حينا آخر...، كما يزاوج داخل فحوى نفس الخطاب الواحد بين مفاهيم تراثية وأخرى حداثية.
الهوامش
[1] - مقتطف من حوار صحفي ملكي بتاريخ 13 دجنبر1962 بعد المصادقة على دستور 1962، انبعاث أمة المجلد الثاني ،ص: 270
[2] - الحسن الثاني: التحدي... ، مرجع سابق، ص: 273
[3] - خطاب العرش بتاريخ يوليوز 2003