بعد إقرار مشاريع القوانين التنظيمية الخاصة بالجماعات الترابية بالمجلس الوزاري عملا بمقتضيات الفصل 49 من الدستور، أثار عدد من الباحثين والفاعلين السياسيين ومعهم عدد من المنابر الصحفية، إشكالية مهمة تتعلق بمن له حق الأسبقية للتداول في هذه المشاريع؟ هل هو مجلس النواب أم مجلس المستشارين؟ وبالتالي إلى أي مجلس من مجلسي البرلمان يتعين على الحكومة إحالة هذه المشاريع؟
بالعودة إلى النصين المعتمدين في هذا الباب، نقرأ في الفقرة الأولى من الفصل 85 من الدستور أنه "لا يتم التداول في مشاريع ومقترحات القوانين التنظيمية من قبل مجلس النواب، إلا بعد مضي عشرة أيام على وضعها لدى مكتبه، وفق المسطرة المشار إليها في الفصل 84..." ونقرأ في الفقرة الثانية من الفصل 78 من الدستور "تودع مشاريع القوانين بالأسبقية لدى مكتب مجلس النواب، غير أن مشاريع القوانين المتعلقة، على وجه الخصوص، بالجماعات الترابية وبالتنمية الجهوية، وبالقضايا الاجتماعية، تودع بالأسبقية لدى مكتب مجلس المستشارين"، تفسير وتحليل منطوق النصين أثارا خلافا بين المهتمين والباحثين والفاعلين داخل كل مجلس برلماني، حيث برز في هذا الاطار رأيين الأول يتمسك بأحقية مجلس المستشارين في التداول بالأسبقية في مشاريع القوانين التنظيمية المتعلقة بالجماعات الترابية تطبيقا لمقتضيات الفقرة الثانية من الفصل 78 من الدستور. والثاني ينادي بضرورة إحالة هذه القوانين على مكتب مجلس النواب معتمدا في قراءته على منطوق الفصل 85 من الدستور.
سنركز في هذه المقالة على الرأي الذي أخذت به الحكومة، محاولين إبراز بعض الاشكالات التي يطرحها التأويل القائل بأحقية مجلس النواب في النظر بالأسبقية في مشاريع القوانين التنظيمية المتعلقة بالجماعات الترابية، مع التنبيه بداية أن المناقشة ستكون على مستوى التأويل وليس التفسير، مادام النص الدستوري لا يقدم صيغة واضحة دقيقة يمكن أن تسعف الباحث على بسط تفاصيل الخلاف بدون التحرش بالفراغات التجلية بين النص والنص والمعنى والمعنى.
يتأسس الرأي موضوع المناقشة على تأويل مبني على جملة من القرائن، للقول بأن القوانين التنظيمية يجب إحالتها بالأسبقية على مجلس النواب، منها أن " الفصل 78 جاء علی وجه التخصيص والفصل 85 جاء علی وجه التعميم"، وبالتالي وجب تطبيق القاعدة العامة على حساب القاعدة الخاصة، وبعيدا عن مبدأ أسبقية العام على الخاص، هناك من ذهب للقول بأن مقتضيات الفصل 78 تسرى فقط على مشاريع القوانين العادية، ولا يمكن الاحتجاج بها عند الحديث عن مشاريع القوانين التنظيمية، التي يجب إحالتها بشكل مباشر على مكتب مجلس النواب، تطبيقا للفصل 85 من الدستور، ويضيف البعض، قرائن أخرى للتعبير عن متانة هذا الطرح، منها، الأعراف الدستورية التي ترسخت سلفا في هذا الباب، وقرارات المجلس الدستوري التي صرحت بدستورية عدد من القوانين التنظيمية التي أحيلت على مجلس النواب وتداول فيها بالأسبقية، فماهي أبرز الاشكاليات التي يطرحها هذا التأويل؟
لننطلق من الأرضية الموجهة للإحالة على مجلس النواب، ونسلم بالتأويل القائل بأن هذا الأخير، له الأسبقية بالنظر في جميع القوانين التنظيمية بدون استثناء أو تمييز، لأن الفصل 85 من الدستور ينص على أن مجلس النواب لا يتداول في مشاريع ومقترحات القوانين التنظيمية إلا بعد مضي عشرة أيام من وضعها على مكتبه. نفهم من هذا التحليل أن مجلس النواب، وحده دون غيره المعني بخطاب المشرع عبر الفصل 85، ووحده المعني كذلك، بشرط احترام أجل عشرة أيام قبل التداول في مشاريع ومقترحات القوانين التنظيمية المحالة على مكتبه. لكن هذا الفهم يواجه تشويشا جديا مصدره مجلس المستشارين، فحواه أن فريقا من هذا المجلس صاغ مقترحا لقانون تنظيمي في مجال من المجالات المذكورة على سبيل الحصر في الدستور، هل سيعرضه على مكتب مجلس النواب تطبيقا لخطاب المشرع الصادر عبر الفصل 85، أم سيعرضه على مكتب مجلس المستشارين؟ جميع المهتمين بالدستور والشاربين لمنطقه والمستوعبين لروحه سيشيرون إلى أن مقترح القانون التنظيمي هذا، يتوجب إحالته على مكتب مجلس المستشارين، ومن الخبل والجنون القول بخلاف ذلك، بمعنى أنه حال قيام فريق برلماني بمجلس المستشارين بوضع مقترح قانون تنظيمي على مكتبه يتوجب انتظار مرور عشرة أيام قبل التداول في المقترح من طرف اللجنة المختصة، وهو ما يعني أن الفصل 85 يخاطب مجلس النواب ومجلس المستشارين على السواء، وهو بالتالي، يعد مرجعا لمجلس المستشارين رغم أنه يتحدث فقط عن مجلس النواب.
وما دامت الحكومة قد أحالت مشاريع القوانين التنظيمية الخاصة بالجماعات الترابية بالأسبقية على مجلس النواب، انسجاما مع تأويلها لمقتضيات الفقرة الأولى من الفصل 85، وفق أية مسطرة سيتم اعتماد هذه المشاريع؟ بمعنى، هل ستخضع هذه المشاريع لمسطرة التداول المكوكي؟ أم ستخضع لمسطرة التصويت النهائي المنصوص عليها في الفقرة الثانية من الفصل 84 من الدستور؟ سيجيب الجميع انسجاما مع وضوح النص على هذا المستوى، بأن المسطرة المتعمدة في إقرار مشاريع القوانين المتعلقة بالجماعات الترابية هي التصويت النهائي لمجلس النواب، كما هو الحال بالنسبة لمشاريع القوانين ذات الصلة بالتنمية الجهوية والشؤون الاجتماعية، عملا بالفقرة الثانية من الفصل 84، معنى هذا، أن القوانين الخاضعة لمسطرة التصويت النهائي، هي نفسها من أوجب المشرع الدستوري على الحكومة إحالتها على مجلس المستشارين بالأسبقية عملا بمقتضيات الفقرة الثانية من الفصل 78 من الدستور، لأنها ترتبط بقضايا من جنس ومحتوى وبنية وتركيبة واختصاصات مجلس المستشارين، فكيف يستقيم من الناحية الدستورية وجود حكمين في موضوع واحد، أحدهما يجيز لمجلس المستشارين النظر بالأسبقية في النصوص التي تهم هذه القضايا، والآخر يحرم نفس المجلس من النظر بالأسبقية في ذلك القضايا؟ وكيف يستقيم اعمال مسطرة التصويت النهائي لمجلس النواب على إطلاقها لإقرار مشاريع القوانين التي تهم الجماعات الترابية والتنمية الجهوية والقضايا الاجتماعية، دون تفعيل مسطرة أسبقية مجلس المستشارين على إطلاقها للتداول في نفس المشاريع؟ مع العلم أن الفصل 85 من الدستور يحيل على الفصل 84 من الدستور.
في ضوء ما سبق، نقول بأن تركيز الفصل 85 من الدستور على مجلس النواب، ليس الهدف منه هو تنصيب هذا المجلس كمختص وحيد وحصري بالتداول بالأسبقية في جميع مشاريع ومقترحات القوانين التنظيمية، وإنما الهدف منه هو إبراز مركزية مجلس النواب في مجال صنع القوانين التنظيمية باستثناء مجال ضيق عهد لمجلس المستشارين التداول فيه بالأسبقية ويتعلق الأمر بمشاريع القوانين التي تهم الجماعات الترابية والتنمية الجهوية والقضايا الاجتماعية، مع احتفاظ مجلس النواب بالكلمة الأخيرة "التصويت النهائي" في المجالات التي أخرجها المشرع من عهدته، مع التأكيد على أن التطبيق السليم لهذه القراءة الدستورية يحتاج إلى وجود مجلسين برلمانيين ينتميان إلى حقل دستور 2011.