عرفت المنظومة القضائي في الآونة الأخيرة فتح أواش عديدة لمناقشة أوضاعه ومشاكله،وتجلى ذلك على كافة المستويات سواء من خلال لقاء المسئولين على القطاع مع مختلف الفعاليات القضائية،أو من خلال مجموعة من اللقاءات أو الندوات المنظمة من قبل العديد من الهيئات و الجمعيات، توجت بالخطاب المالكي السامي بتعيين اللجنة الملكية للإصلاح منظومة القضاء يوم 8 ماي 2012.
فالسلطة القضائية بفضل دورها الأساسي والحيوي في توفير الأمن القضائي وضمان المساواة بين المواطنين و المواطنات،أصبح يستدعي بالفعل حركة إصلاحية شمولية لمسايرة التطور الاقتصادي و الاجتماعي و كذا السياسي ببلادنا،وإرساء دعائم الدولة المبنية على الانفتاح و الديمقراطية و حقوق الإنسان.إذ تعد مسؤوليته كبيرة في هذا المجال على اعتبار أنه يشكل الدعامة الأساسية لحماية الحقوق و الحريات الأساسية للاستقرار السياسي،و توفير الثقة و الاطمئنان للمواطنين،وحافز مهم لتشجيع الاستثمار وتطوير الاقتصاد.
إذ لا يمكن في الوقت الراهن خلق بيئة استثمارية تستقطب وتلهم المستثمرين الأجانب إذا لم يصاحبها جهاز عدالة متين كفيل بتأمين أموالهم و حماية مصالحهم1
وهذا ما أصبح يتطلب بالفعل الغوص العميق في عناصر الإصلاح القضائي و الخوض في مشاكله الأساسية و الجوهرية، و القيام بتشخيص معمق لكافة حاجياته و محاولة الكشف عنها وإيجاد الإجابة الصحيحة لها،و هذا لن يتأتى إلا من خلال تسطير برامج متنوعة على المستوى الأني و المستقبلي تتناول مختلف العناصر المكونة لهذا الجهاز،سواء تعلق الأمر بالنصوص و القوانين أو بالعنصر البشري العامل بالقطاع.
فورش الإصلاح إذن واسع و لا يمكن الوقوف عنده من خلال زاوية محددة،ولذلك ارتأينا من خلال هذه المقالة مناقشة أحد المواضيع المهمة التي أثارت الباحثين و المهتمين بالمجال، وركز عليها الخطاب الملكي السامي بمناسبة تنصيب الجنة المكلفة بإعداد تصور حول إصلاح منظومة القضاء، ألا وهي العنصر البشري المؤهل و مدى ارتباطه بتطور القضاء الإداري بالمغرب.
فالعنصر البشري عنصر أساسي بل جوهر العملية القضائية عامة،إذ له ارتباط وثيق و تأثير بالغ على الحياة المهنية،على اعتبار أن تأهيل الموارد البشرية رهين بمجال اختصاصهم المعرفي و العلمي،ملائما في ذلك تطورات الحياة الاقتصادية و الاجتماعية ببلادنا،أهمها التعديل الدستوري الأخير لفاتح يوليوزلسنة2011.
وكون فكرة الموارد البشرية كمدخل للإصلاح منظومة القضاء،وخاصة مستقبل القضاء الإداري، لا يمكن أن تتم إلا في إطار عملية الإصلاح الشامل. و احترام سلطة القضاء2 لا تقوم الا بالإعتماد على موراد بشرية مؤهلة ومتمتعة بمجموعة من المواصفات الشخصية و المهنية، اجملتها مدونة القيم الأخلاق التي اعتمدتها الودادية الحسنية للقضاة مؤخرا "لاستقلال و النزاهة و التجرد و الحياد و المساواة و الشجاعة الأدبية و الوقار و التحفظ و الكفاءة و السلوك القضائي و اللياقة و التضامن "3
وعلى هذا الأساس،يشكل موقع القاضي الإداري بالمغرب أحد المرتكزات الأساسية و المكرسة للقضاء المتخصص (الفقرة الأولى من الفصل127 من دستور المملكة لفاتح يوليوز2011).
فالقاضي الإداري هو حامي الحقوق و الحريات،وتتحكم في قيامه بهذا الدور الحيوي عوامل متعددة من بينها التكوين القانوني الذي تلقاه ومدى تأصل روح الإقدام المتزن لديه و الحرية و الاستقلال في الجهر بالحق من خلال دفاعه عن سيادة القانون،فهو يبتكر القاعدة القانونية التي تكون في كثير من الأحيان غير مقننة،إنه قاضي انشائي يحاول على الرغم من اختلال ميزان القوة بين طرفي المنازعة الإدارية (وهما الإدارة كخصم قوي و الفرد كطرف ضعيف)،أن يقيم توازنا دقيقا بين المصلحة العامة و المصلحة الخاصة في إطار سياسة قضائية تتطلب من القاضي الإداري تكوينا قانونيا متينا متشبع بقيم و مبادىء القانون العام وإطلاعا على دواليب الإدارة التي يحكم عليها،في استقلال تام دون تعرضه لأية ضغوط مادية أو معنوية (الفصل 109 من دستور المملكة لفاتح يوليو 2011 ).
وقصد توضيح أكثر هذه النقطة المرتبطة بتكوين القضاة و خاصة القاضي الإداري الذي يهمنا في هذا المقام،نجد أن النظام الأساسي للقضاة المتمثل في ظهير 11نونبر 1974 المعدل بالقانون 90- 34 ـ4ـ والمقتضيات القانونية التي تضبط مهام القاضي و مسار حياته المهنية،بحيث يسري على قضاة المحاكم الإدارية 5
،و محاكم الاستئناف الإدارية نفس النظام القانوني الساري على باقي القضاة مع مراعاة بعض الخصوصيات
حيث تنظم وزارة العدل و الحريات سنويا مباراة الملحقين القضائيين التي تفتح في وجه حملة الإجازة في القانون الخاص أو الشريعة الإسلامية من جامعة القرويين..،مع مراعاة الشروط العامة للتوظيف من حيث الجنسية،التمتع بالحقوق الوطنية،المروءة،القدرة البدنية و السن الذي لا يقل عن 21 سنة[6].
ومما تجدر الإشارة إليه في هذا الصدد،هو أن هناك استثناء وارد عن الأصل(السالف ذكره) يتمثل في فتح مباراة الملحقين القضائيين لفائدة حملة الإجازة في القانون العام أو الماستر في القضاء الإداري،وهو استثناء تم سنة 2000 في وجه حملة الإجازة في القانون العام،إلا أن هذه البادرة الإيجابية كانت محدودة،حيث همت 12 قاضيا فقط (الفوج30)،كما أنها لم تتكرر في السنوات الموالية بالرغم من كون المادة الخامسة من ظهير 11نونبر 1974 بعد تعديلها تسمح بقبول المرشحين حملة الإجازة في القانون العام لاجتياز المباراة التي تخص قضاة المحاكم الإدارية،وهو مطلب ضروري ويستمد راهنيته من الدور الحيوي و المهم الذي أصبح يلعبه القضاء الإداري في تطور الأوضاع الاقتصادية و الاجتماعية وكذا السياسية في بلادنا،خصوصا و أن المرسوم الجديد رقم 178-05-2 الصادر في 21 أبريل 2006 المتعلق بتحديد شروط المشاركة في مباراة الملحقين القضائيين يعطي الإمكانية لوزير العدل و الحريات بالإعلان عن افتتاح المباراة المذكورة بقرار يتضمن نوع التخصص في الشهادات المقبولة تبعا لوجهة القضاء المطلوبة،مما يمكن معه تخصيص مباراة لفائدة حاملي دبلوم القضاء الإداري.
وارتباطا بتكوين القضاة، يقضي المرشحون الناجحون تكوينا لمدة سنتين ينقسم إلى جانب نظري مدته خمسة أشهر بالمعهد الوطني لدراسات القضائية،حيث يتلقون المرشحون دروسا نظرية تهم بالأساس مواد القانون الخاص،ثم تدريب عملي لمدة عشرين شهرا بمحاكم المملكة،يليه تدريب آخر لمدة أربعة أشهر ما بين المؤسسات العمومية و شبه العمومية.
ويعين المرشحون ( الذين يحملون اسم الملحقين القضائيين خلال فترة التكوين في المعهد) الناجحون في اختبار نهاية التخرج بواسطة ظهائر ملكية باقتراح من وزارة العدل و الحريات،قضاة من الدرجة الثالثة[7].
ورغم أهمية هذا التكوين، إلا أنه مع ذلك يظل ناقصا سواء على المستوى النظري أو على المستوى التطبيقي،لذلك فمن اللازم ونحن في إطار ورش إصلاح المنظومة القضائية بالمغرب التفكير في تكوين مكتمل يستند على الرؤية الجديدة لتطور المستقبلي للقضاء الإداري المغربي،وذلك بعد مرحلة النضج التي وصلت إليها المحاكم الإدارية مند إنشائها بمقتضى قانون رقم 90-41 و الدخول في مرحلة البناء القضائي بموجب احداث محاكم الاستئناف الإدارية بمقتضى قانون رقم03-80 على غرار ما معمول به في الأنظمة القضائية المقارنة خاصة فرنسا و مصر.
لذلك فلا بد من من تفعيل مقتضيات المادة الثالثة من النظام الأساسي لرجال القضاة التي تنص على إمكانية التعيين في إحدى الدرجات الأولى و الثانية أو الثالثة في السلك القضائي من توفرت فيه الشروط التالية:
à أساتذة الحقوق الذين قاموا بتدريس مادة أساسية طوال عشر سنوات؛
à المحامون الذين زاولو المهنة لمدة خمسة عشر سنة؛
à فيما يخص المحاكم الإدارية،الموظفون المنتمون إلى درجة مرتبة في سلم الأجور رقم 11 أو درجة في حكمها بشرط أن يكونوا قد قضوا ما لا يقل عن عشر سنوات في الخدمة العامة و الفعلية و أن يكونوا حاصلين على الإجازة في الحقوق أو ما يعادلها.
ويعتبر اضافة الفقرة الأخيرة بموجب التعديل1993 إلى المادة السالفة الذكر،طفرة ايجابية على اعتبار أن طائفة من أطر الدولة لها من المؤهلات ما يجعلها الأنسب إلى تولي منصب قاضي إداري لأنها الأقرب إلى الإدارة بحكم ممارستها للحياة الادارية ومعرفة اشكاليتها،فكل عملية ادارية هي في نفس الوقت تقنية و قضائية،ويتمتل الوجه التقني في أن كل قضية ادارية تعتمد على عدة تقنيات تستلزم أن تكون للهيئة القضائية خبرة واسعة بها قد لا تتوفر لدى القاضي العادي خاصة إذا كانت درايته بالقانون الإداري جد محدودة[8].
فالإدارة تقبل بصعوبة رقابة شخص غريب عنها،في حين أنها كلما كان القاضي الإداري معايشا للإدارة وملما بخباياها كلما توفرت لديه الخبرة و الجرأة في التعامل مع المنازعة الإدارية،و من تم تكون الادارة أكثر تقبلا لهذه الرقابة مادام هذا القاضي بحكم تكوينه هو مناسب لها،فالرقابة الفعالة للإدارة تستلزم أن يكون القاضي الإداري متشبع بقيم و مبادئ المرفق العمومي و الإدارة بصفة عامة و على القانون المطبق عليها،ذلك أن تعقيدات عمل المرافق العمومية يتطلب ليس فقط مهارات و معارف قانونية و لكن أيضا كفاءة خاصة،وبتعبير آخر فالقاضي الإداري لا ينبغي أن يكون قاضيا محضا،بل عليه أن يجمع بين حنكة المسير الإداري و تبصر رجل القانون وهذا لن يتأتى إلا بتكوين في القضاء الإداري يجمع ما بين المؤهلات القانونية و المعارف المرتبطة بعمل الإدارة بشكل عام.
و مما له دلالته في هذا الصدد،كون الاختصاص الذي يمارسه القاضي الإداري ينحصر في البث في المنازعات،وهو في نظرنا تقييد لدور و سلطة القاضي الإداري بحكم دوره الإنشائي،وذلك على عكس القاضي الإداري الفرنسي الذي يمارس اختصاصا مهما يقربه من الإدارة هو قضاء التفسير،حيث توكل للقاضي الإداري مهمة تحديد مغزى قرار إداري أو مقرر قضائي يبدو غامضا،و بالتالي تمكنه هذه الاختصاصات الاستشارية من بسط رقابة فعلية على الإدارة،وهو تطور ايجابي سلكه المشرع الأساسي(دستور المملكة المغربية لقاتح يوليوز2011)في فقرته الثالثة من فصل113 منه ،و إن كانت العبارة المستعملة أو المصطلح الذي أتى به الفصل المذكور يتحدث عن رأي و ليس استشارة بقوله "يصدر المجلس الأعلى للسلطة القضائية،بطلب من الملك أو الحكومة أو البرلمان ،أراء مفصلة حول كل مسألة تتعلق بالعدالة مع مراعاة مبدأ فصل السلط" و من تم فإن الفرق بين الرأي و الاستشارة واضح وعميق.
وبالرجوع إلى مجلس الدولة الفرنسي نجد يمارس اختصاصيين أساسيين:الأول قضائي و الثاني استشاري،حيث كان بمثابة مستشار للحكومة،علاوة على مساهمة أعضائه في الوظائف الحكومية العليا،و هو ما ساعد القاضي الإداري الفرنسي على أداء مهامه القضائية بتبصر،فبفضل الاختصاصات الاستشارية المتعلقة بالإفتاء و الصياغة (وهو اختصاص نجده في النظام القضائي المصري و المتمثل في قسم الفتوى بمجلس الدولة المصري) استمد مجلس الدولة الفرنسي قوته المعنوية و هو ما ساعده على ممارسة رقابة فعالة على الإدارة،إلا أنه رغم مزايا الدور الاستشاري لم يعهد للقاضي الإداري المغربي إلا بدور قضائي محض.
إن للقاضي الإداري دور مهم ليس فحسب،لأنه يساعد على تحقيق فعالية العمل الإداري،بل أيضا لأنه يضمن بشكل خاص حماية حقوق و حريات الأفراد اتجاه الإدارة،غير أن فعالية القاضي الإداري يجب أن تبدأ من استيعابه لدور القضاء الإداري ،وذلك بإعطاء مفهوم متطور للقاعدة القانونية ينسجم ومتغيرات المجتمع،هذا الأخير الذي ما فتئ يطالب بضرورة إصلاح المنظومة القضائية من مختلف جوانبها،وهو ورش إصلاحي انطلاق بالفعل بمبادرة صاحب الجلالة بتعيين اللجنة الملكية للإصلاح المنظومة القضائية بالمغرب، والتي ندعو من خلالها تضمين موقع ومستقبل القضاء الإداري ضمن توصياته الختامية، المزمع رفعها إلى صاحب الجلالة.
وعليه، فإن الدور المستقبلي الذي يفترض اتسامه في القاضي الإداري يتجاوز مجرد التطبيق الحرفي للقاعدة القانونية إلى وضع مبادئ قضائية و اجتهاداته تكون بمثابة قواعد قانونية،و من تم يمكن القول بأن القاضي الإداري يقوم بدور يشبه دور المشرع.
فالسلطة القضائية بفضل دورها الأساسي والحيوي في توفير الأمن القضائي وضمان المساواة بين المواطنين و المواطنات،أصبح يستدعي بالفعل حركة إصلاحية شمولية لمسايرة التطور الاقتصادي و الاجتماعي و كذا السياسي ببلادنا،وإرساء دعائم الدولة المبنية على الانفتاح و الديمقراطية و حقوق الإنسان.إذ تعد مسؤوليته كبيرة في هذا المجال على اعتبار أنه يشكل الدعامة الأساسية لحماية الحقوق و الحريات الأساسية للاستقرار السياسي،و توفير الثقة و الاطمئنان للمواطنين،وحافز مهم لتشجيع الاستثمار وتطوير الاقتصاد.
إذ لا يمكن في الوقت الراهن خلق بيئة استثمارية تستقطب وتلهم المستثمرين الأجانب إذا لم يصاحبها جهاز عدالة متين كفيل بتأمين أموالهم و حماية مصالحهم1
وهذا ما أصبح يتطلب بالفعل الغوص العميق في عناصر الإصلاح القضائي و الخوض في مشاكله الأساسية و الجوهرية، و القيام بتشخيص معمق لكافة حاجياته و محاولة الكشف عنها وإيجاد الإجابة الصحيحة لها،و هذا لن يتأتى إلا من خلال تسطير برامج متنوعة على المستوى الأني و المستقبلي تتناول مختلف العناصر المكونة لهذا الجهاز،سواء تعلق الأمر بالنصوص و القوانين أو بالعنصر البشري العامل بالقطاع.
فورش الإصلاح إذن واسع و لا يمكن الوقوف عنده من خلال زاوية محددة،ولذلك ارتأينا من خلال هذه المقالة مناقشة أحد المواضيع المهمة التي أثارت الباحثين و المهتمين بالمجال، وركز عليها الخطاب الملكي السامي بمناسبة تنصيب الجنة المكلفة بإعداد تصور حول إصلاح منظومة القضاء، ألا وهي العنصر البشري المؤهل و مدى ارتباطه بتطور القضاء الإداري بالمغرب.
فالعنصر البشري عنصر أساسي بل جوهر العملية القضائية عامة،إذ له ارتباط وثيق و تأثير بالغ على الحياة المهنية،على اعتبار أن تأهيل الموارد البشرية رهين بمجال اختصاصهم المعرفي و العلمي،ملائما في ذلك تطورات الحياة الاقتصادية و الاجتماعية ببلادنا،أهمها التعديل الدستوري الأخير لفاتح يوليوزلسنة2011.
وكون فكرة الموارد البشرية كمدخل للإصلاح منظومة القضاء،وخاصة مستقبل القضاء الإداري، لا يمكن أن تتم إلا في إطار عملية الإصلاح الشامل. و احترام سلطة القضاء2 لا تقوم الا بالإعتماد على موراد بشرية مؤهلة ومتمتعة بمجموعة من المواصفات الشخصية و المهنية، اجملتها مدونة القيم الأخلاق التي اعتمدتها الودادية الحسنية للقضاة مؤخرا "لاستقلال و النزاهة و التجرد و الحياد و المساواة و الشجاعة الأدبية و الوقار و التحفظ و الكفاءة و السلوك القضائي و اللياقة و التضامن "3
وعلى هذا الأساس،يشكل موقع القاضي الإداري بالمغرب أحد المرتكزات الأساسية و المكرسة للقضاء المتخصص (الفقرة الأولى من الفصل127 من دستور المملكة لفاتح يوليوز2011).
فالقاضي الإداري هو حامي الحقوق و الحريات،وتتحكم في قيامه بهذا الدور الحيوي عوامل متعددة من بينها التكوين القانوني الذي تلقاه ومدى تأصل روح الإقدام المتزن لديه و الحرية و الاستقلال في الجهر بالحق من خلال دفاعه عن سيادة القانون،فهو يبتكر القاعدة القانونية التي تكون في كثير من الأحيان غير مقننة،إنه قاضي انشائي يحاول على الرغم من اختلال ميزان القوة بين طرفي المنازعة الإدارية (وهما الإدارة كخصم قوي و الفرد كطرف ضعيف)،أن يقيم توازنا دقيقا بين المصلحة العامة و المصلحة الخاصة في إطار سياسة قضائية تتطلب من القاضي الإداري تكوينا قانونيا متينا متشبع بقيم و مبادىء القانون العام وإطلاعا على دواليب الإدارة التي يحكم عليها،في استقلال تام دون تعرضه لأية ضغوط مادية أو معنوية (الفصل 109 من دستور المملكة لفاتح يوليو 2011 ).
وقصد توضيح أكثر هذه النقطة المرتبطة بتكوين القضاة و خاصة القاضي الإداري الذي يهمنا في هذا المقام،نجد أن النظام الأساسي للقضاة المتمثل في ظهير 11نونبر 1974 المعدل بالقانون 90- 34 ـ4ـ والمقتضيات القانونية التي تضبط مهام القاضي و مسار حياته المهنية،بحيث يسري على قضاة المحاكم الإدارية 5
،و محاكم الاستئناف الإدارية نفس النظام القانوني الساري على باقي القضاة مع مراعاة بعض الخصوصيات
حيث تنظم وزارة العدل و الحريات سنويا مباراة الملحقين القضائيين التي تفتح في وجه حملة الإجازة في القانون الخاص أو الشريعة الإسلامية من جامعة القرويين..،مع مراعاة الشروط العامة للتوظيف من حيث الجنسية،التمتع بالحقوق الوطنية،المروءة،القدرة البدنية و السن الذي لا يقل عن 21 سنة[6].
ومما تجدر الإشارة إليه في هذا الصدد،هو أن هناك استثناء وارد عن الأصل(السالف ذكره) يتمثل في فتح مباراة الملحقين القضائيين لفائدة حملة الإجازة في القانون العام أو الماستر في القضاء الإداري،وهو استثناء تم سنة 2000 في وجه حملة الإجازة في القانون العام،إلا أن هذه البادرة الإيجابية كانت محدودة،حيث همت 12 قاضيا فقط (الفوج30)،كما أنها لم تتكرر في السنوات الموالية بالرغم من كون المادة الخامسة من ظهير 11نونبر 1974 بعد تعديلها تسمح بقبول المرشحين حملة الإجازة في القانون العام لاجتياز المباراة التي تخص قضاة المحاكم الإدارية،وهو مطلب ضروري ويستمد راهنيته من الدور الحيوي و المهم الذي أصبح يلعبه القضاء الإداري في تطور الأوضاع الاقتصادية و الاجتماعية وكذا السياسية في بلادنا،خصوصا و أن المرسوم الجديد رقم 178-05-2 الصادر في 21 أبريل 2006 المتعلق بتحديد شروط المشاركة في مباراة الملحقين القضائيين يعطي الإمكانية لوزير العدل و الحريات بالإعلان عن افتتاح المباراة المذكورة بقرار يتضمن نوع التخصص في الشهادات المقبولة تبعا لوجهة القضاء المطلوبة،مما يمكن معه تخصيص مباراة لفائدة حاملي دبلوم القضاء الإداري.
وارتباطا بتكوين القضاة، يقضي المرشحون الناجحون تكوينا لمدة سنتين ينقسم إلى جانب نظري مدته خمسة أشهر بالمعهد الوطني لدراسات القضائية،حيث يتلقون المرشحون دروسا نظرية تهم بالأساس مواد القانون الخاص،ثم تدريب عملي لمدة عشرين شهرا بمحاكم المملكة،يليه تدريب آخر لمدة أربعة أشهر ما بين المؤسسات العمومية و شبه العمومية.
ويعين المرشحون ( الذين يحملون اسم الملحقين القضائيين خلال فترة التكوين في المعهد) الناجحون في اختبار نهاية التخرج بواسطة ظهائر ملكية باقتراح من وزارة العدل و الحريات،قضاة من الدرجة الثالثة[7].
ورغم أهمية هذا التكوين، إلا أنه مع ذلك يظل ناقصا سواء على المستوى النظري أو على المستوى التطبيقي،لذلك فمن اللازم ونحن في إطار ورش إصلاح المنظومة القضائية بالمغرب التفكير في تكوين مكتمل يستند على الرؤية الجديدة لتطور المستقبلي للقضاء الإداري المغربي،وذلك بعد مرحلة النضج التي وصلت إليها المحاكم الإدارية مند إنشائها بمقتضى قانون رقم 90-41 و الدخول في مرحلة البناء القضائي بموجب احداث محاكم الاستئناف الإدارية بمقتضى قانون رقم03-80 على غرار ما معمول به في الأنظمة القضائية المقارنة خاصة فرنسا و مصر.
لذلك فلا بد من من تفعيل مقتضيات المادة الثالثة من النظام الأساسي لرجال القضاة التي تنص على إمكانية التعيين في إحدى الدرجات الأولى و الثانية أو الثالثة في السلك القضائي من توفرت فيه الشروط التالية:
à أساتذة الحقوق الذين قاموا بتدريس مادة أساسية طوال عشر سنوات؛
à المحامون الذين زاولو المهنة لمدة خمسة عشر سنة؛
à فيما يخص المحاكم الإدارية،الموظفون المنتمون إلى درجة مرتبة في سلم الأجور رقم 11 أو درجة في حكمها بشرط أن يكونوا قد قضوا ما لا يقل عن عشر سنوات في الخدمة العامة و الفعلية و أن يكونوا حاصلين على الإجازة في الحقوق أو ما يعادلها.
ويعتبر اضافة الفقرة الأخيرة بموجب التعديل1993 إلى المادة السالفة الذكر،طفرة ايجابية على اعتبار أن طائفة من أطر الدولة لها من المؤهلات ما يجعلها الأنسب إلى تولي منصب قاضي إداري لأنها الأقرب إلى الإدارة بحكم ممارستها للحياة الادارية ومعرفة اشكاليتها،فكل عملية ادارية هي في نفس الوقت تقنية و قضائية،ويتمتل الوجه التقني في أن كل قضية ادارية تعتمد على عدة تقنيات تستلزم أن تكون للهيئة القضائية خبرة واسعة بها قد لا تتوفر لدى القاضي العادي خاصة إذا كانت درايته بالقانون الإداري جد محدودة[8].
فالإدارة تقبل بصعوبة رقابة شخص غريب عنها،في حين أنها كلما كان القاضي الإداري معايشا للإدارة وملما بخباياها كلما توفرت لديه الخبرة و الجرأة في التعامل مع المنازعة الإدارية،و من تم تكون الادارة أكثر تقبلا لهذه الرقابة مادام هذا القاضي بحكم تكوينه هو مناسب لها،فالرقابة الفعالة للإدارة تستلزم أن يكون القاضي الإداري متشبع بقيم و مبادئ المرفق العمومي و الإدارة بصفة عامة و على القانون المطبق عليها،ذلك أن تعقيدات عمل المرافق العمومية يتطلب ليس فقط مهارات و معارف قانونية و لكن أيضا كفاءة خاصة،وبتعبير آخر فالقاضي الإداري لا ينبغي أن يكون قاضيا محضا،بل عليه أن يجمع بين حنكة المسير الإداري و تبصر رجل القانون وهذا لن يتأتى إلا بتكوين في القضاء الإداري يجمع ما بين المؤهلات القانونية و المعارف المرتبطة بعمل الإدارة بشكل عام.
و مما له دلالته في هذا الصدد،كون الاختصاص الذي يمارسه القاضي الإداري ينحصر في البث في المنازعات،وهو في نظرنا تقييد لدور و سلطة القاضي الإداري بحكم دوره الإنشائي،وذلك على عكس القاضي الإداري الفرنسي الذي يمارس اختصاصا مهما يقربه من الإدارة هو قضاء التفسير،حيث توكل للقاضي الإداري مهمة تحديد مغزى قرار إداري أو مقرر قضائي يبدو غامضا،و بالتالي تمكنه هذه الاختصاصات الاستشارية من بسط رقابة فعلية على الإدارة،وهو تطور ايجابي سلكه المشرع الأساسي(دستور المملكة المغربية لقاتح يوليوز2011)في فقرته الثالثة من فصل113 منه ،و إن كانت العبارة المستعملة أو المصطلح الذي أتى به الفصل المذكور يتحدث عن رأي و ليس استشارة بقوله "يصدر المجلس الأعلى للسلطة القضائية،بطلب من الملك أو الحكومة أو البرلمان ،أراء مفصلة حول كل مسألة تتعلق بالعدالة مع مراعاة مبدأ فصل السلط" و من تم فإن الفرق بين الرأي و الاستشارة واضح وعميق.
وبالرجوع إلى مجلس الدولة الفرنسي نجد يمارس اختصاصيين أساسيين:الأول قضائي و الثاني استشاري،حيث كان بمثابة مستشار للحكومة،علاوة على مساهمة أعضائه في الوظائف الحكومية العليا،و هو ما ساعد القاضي الإداري الفرنسي على أداء مهامه القضائية بتبصر،فبفضل الاختصاصات الاستشارية المتعلقة بالإفتاء و الصياغة (وهو اختصاص نجده في النظام القضائي المصري و المتمثل في قسم الفتوى بمجلس الدولة المصري) استمد مجلس الدولة الفرنسي قوته المعنوية و هو ما ساعده على ممارسة رقابة فعالة على الإدارة،إلا أنه رغم مزايا الدور الاستشاري لم يعهد للقاضي الإداري المغربي إلا بدور قضائي محض.
إن للقاضي الإداري دور مهم ليس فحسب،لأنه يساعد على تحقيق فعالية العمل الإداري،بل أيضا لأنه يضمن بشكل خاص حماية حقوق و حريات الأفراد اتجاه الإدارة،غير أن فعالية القاضي الإداري يجب أن تبدأ من استيعابه لدور القضاء الإداري ،وذلك بإعطاء مفهوم متطور للقاعدة القانونية ينسجم ومتغيرات المجتمع،هذا الأخير الذي ما فتئ يطالب بضرورة إصلاح المنظومة القضائية من مختلف جوانبها،وهو ورش إصلاحي انطلاق بالفعل بمبادرة صاحب الجلالة بتعيين اللجنة الملكية للإصلاح المنظومة القضائية بالمغرب، والتي ندعو من خلالها تضمين موقع ومستقبل القضاء الإداري ضمن توصياته الختامية، المزمع رفعها إلى صاحب الجلالة.
وعليه، فإن الدور المستقبلي الذي يفترض اتسامه في القاضي الإداري يتجاوز مجرد التطبيق الحرفي للقاعدة القانونية إلى وضع مبادئ قضائية و اجتهاداته تكون بمثابة قواعد قانونية،و من تم يمكن القول بأن القاضي الإداري يقوم بدور يشبه دور المشرع.
1- يوسف طائف،وضعية القضاء بين تكريس مبادىء التخليق و التحفيز،منشورات المجلة المغربية للإدارة المحلية و التنمية، سلسلة دراسات،عدد93،يوليوز-غشت2010،ص 1
2- لقد تم الإرتقاء بالقضاء الى مفهوم السلطة القضائية على غرار السلطتين الالتشريعية و التنفيذية وذلك بموجب دستورفاتح يوليوز2011،عوض مصطلح جهاز القضاء الذي كان معتمدا في ضل دستور المعدل لسنة 1996،وهو تغيير له أكثر من دلالة من أجل الدفع و تكريس استقلالية القضاء.
- مدونة القيم القضائية،منشورات الودادية الحسنية للقضاة سنة 2009[3]
- الصادر الأمر بتنفيذه بمقتضى ظهير 10شتنبر1993،ج.ر،عدد4227،الصادرة بتاريخ 3نونبر 1993[4]
5- تنص المادة الأولى من قانون المحدث للمحاكم الادارية رقم 90-41 على ما يلي"تحدث محاكم إدارية تحدد مقارها و دوائر اختصاصها بمقتضى مرسوم،وتسري على قضاة المحاكم الإدارية أحكام الظهير الشريف المعتبر بمثابة قانون رقم467-74-1الصادر سنة 1974 المتعلق بالنظام الأساسي للقضاة،مع مراعاة الأحكام الخاصة الوارة فيه باعتبار خصوصية المهام المنوطة بقضاة المحاكم الإدارية"
6- يترتب عن هذا الشرط ممارسة بعض القضاة لمهامهم وهم في سن 23سنة فقط،وكان الأجدر هو رفع السن إلى 30سنة مع اشتراط التجربة في الميدان القانوني و الحصول على شهادة تفوف الإجازة.
7- يعرف السلك القضائي خمس وضعيات تتكون من ثلاث درجات و درجة استثنائية ووضعية خارج الدرجة،تبتدئ بالدرجة الثالثة فالثانية فالأولى،ثم الدرجة الاستثنائية و تنتهي بوضعية خارج الدرجة و هي الأعلى سلما
8- مصطفى التراب، للقضاء الإداري المغربي،منشورات المجلة المغربية للإدارة المحلية و التنمية،عدد مزدوج81-82،2008،ص 29