رفقته نسخة للتحميل
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله رب العالمين، الواحد المنفرد المتفرد بصفات الجمال والكمال العليم الحكيم الذي علم الإنسان مالم يعلم، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه ومن سار على دربه إلى يوم الدين.
وبعد:
يعد مجال الأسرة من القضايا التي تنظم شؤون الناس وتنظيم حياتهم ومستقبل المجتمع.
لذلك حرص الإسلام على مجموعة من المبادئ والقوانين الشرعية، وأفرد لها مفهوما شرعيا، وسمى الرابطة التي تجمع بين الزوج والزوجة اللذان يكونان الأسرة بالميثاق الغليظ، "وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقاً غَلِيظًا".[1]
ومنذ فجر الإسلام، أولى العلماء والمجتهدون حرصا شديدا على العناية بالأسرة، سواء من ناحية الحقوق والواجبات، ومن رعاية الأطفال وحفظ حقوقهم وحسن تربيتهم على القيم الإسلامية، أو من ناحية الأحكام التي يصدرها الحاكم أو القاضي المكلف بحل النزاعات بين أفراد الأسرة، إما عن طريق الصلح أو المشورة أو الوعظ أو غير ذلك من الطرق المؤدية إلى الغاية الكبرى من التشريع الأسري، وهو استقرار الأسرة كما نصت عليها مدونة الأسرة في تعريفها للزواج "وإنشاء أسرة مستقرة برعاية الزوجين"[2]، وأيضا حفظ حقوق أفرادها.
وفي عصرنا الحالي ارتأت الدول إلى وضع قوانين وضعية خاصة منها الإسلامية، تستمد أصولها من القرآن الكريم، والسنة النبوية، واجتهادات الفقهاء والقضاة، لحل بعض المشاكل التي حدثت للأسر.
ولما كانت هذه القوانين الوضعية أرضية يعتمد قاضي الأسرة في جميع المشاكل المعروضة عليه، كان من اللازم لهذه القوانين، وكذا الأحكام والقرارات التي تصدرها المحكمة أن تراعي في تعليل الأحكام وتسبيبها المقاصد الشرعية، والتي بدورها تعتبر المرقى الأعلى في تصنيف العلوم الشرعية، لأنها تعطي للأحكام روحا تظهر الغاية من هذا القرار الصادر في هذه المسألة.
لذلك ارتأيت معالجة هذا الموضوع، وأسميته ب "إعمال المقاصد الشرعية في الأحكام والقرارات القضائية الأسرية". خاصة وأن المطلع على الأحكام والقرارات القضائية يظهر من خلال إصدراها أن القاضي استخدم المقاصد، لكن هذا الاستخدام أحيانا يكون صريحا، وأحيانا يكون ضمنيا ينبغي الكف عنه.
بالإضافة وجود دراسات تتناول موضوع المقاصد بصفة خاصة في مجال الأسرة ككتاب "الأسرة في مقاصد الشريعة الإسلامية قراءة في قضايا الزواج والطلاق في أمريكا"[3] لزينب طه العلواني، حيث تناول هذا الكتاب بعض مقاصد الأسرة في الشريعة، ونظام الأسرة في الإسلام، وفقه الأقليات في بلاد المهجر. لكن هذا الكتاب لم يتناول الأسرة من جانب القضاء.
وصلة بإعمال المقاصد الشرعية في القضاء، توجد بعض الدراسات الأكاديمية في هذا الصدد من قبيل "دور مقاصد الشريعة الإسلامية في إرساء نظام القضاء"[4] لمحمد سمير البردويل، حيث تناول الباحث مقاصد الشريعة في القضاء وأهميته في انتظام الأمة، ولم يخصص بحثه في مجال الأسرة.
وكرسالة بعنوان "إعمال المقاصد الشرعية في القضاء عند علماء الغرب الإسلامي من خلال كتاب مذاهب الحكام للقاضي عياض وابنه محمد"[5] للباحث مسعود داودي، حيث حاول من خلال هذه الرسالة التنظير للمقاصد أهميتها للمفتي والمجتهد إليها عموما، ومناقشة ما ورد في كتاب القاضي عياض من فتاوى، لكنه لم يتعرض للأحكام والقرارات القضائية الأسرية الصادرة عن المحاكم المغربية وإعمال المقاصد الشرعية في تعليلها.
وعلاقة بمجال الأسرة هناك رسالة بعنوان "ضابط المصلحة في مدونة الأسرة"[6] لعبد الكبير توفيق، حيث تناول الباحث المصلحة باعتبارها صيغة من صيغ المقاصد التي تراعى كثيرا في الأحكام والقرارات القضائية، فعمل على استقرائها من نصوص مدونة الأسرة وما سار عليه العمل القضائي، لكنه لم يتناول الصيغ الأخرى للمقاصد التي تستعمل في تعليل الأحكام والقرارات القضائية، الشيء الذي حاولت إضافته في هذا البحث.
بالإضافة إلى صعوبة الحصول على الأحكام القضائية الجديدة، حيث إن عددا منها غير منشور، وصعوبة في الوصول إليها من المحكمة مباشرة.
ومن هذا السؤال يمكن أن نطرح أسئلة فرعية أخرى تغني البحث وهي كالآتي:
الفصل الأول: المقاصد الشرعية، والأحكام والقرارات القضائية
المبحث الأول: المقاصد الشرعية: مفهومها وأقسامها، حجيتها وأهميتها
سنتناول في هذا المبحث مفهوم المقاصد الشرعية، وأقسامها في (المطلب الأول)، وسنعمل على بيان حجية هذه المقاصد وأهميتها في (المطلب الثاني).
المطلب الأول: المقاصد الشرعية: مفهومها، أقسامها وأنواعها
درج العلماء على تعريف المقاصد الشرعية، وتحديد أقسامها وأنواعها، لتتضح معالم هذا الفن العظيم، ولذلك سنتحدث عن مفهوم المقاصد لغة واصطلاحا (فرع أول)، ثم عن بيان أنواع المقاصد وأقسامها (فرع ثان).
الفرع الأول: مفهوم المقاصد لغة واصطلاحا
ستعرض لتعريف المقاصد لغة في (الفقرة الأولى)، وعن تعريفها في الاصطلاح في (الفقرة الثانية).
الفقرة الأولى: مفهوم المقاصد لغة
جاء في لسان العرب بعض المعاني اللغوية لاشتقاقات المقاصد بصيغ مختلفة:
"القصد: استقامة الطريق، قصد يقصد قصدا فهو قاصد، وقوله تعالى: (وعلى الله قصد السبيل)[1] أي على الله تبيين الطريق المستقيم...
وطريق قاصد: سهل مستقيم، وسفر قاصد سهل قريب:
والقصد: العدل، قال أبو اللحام التغلبي، ويروى لعبد الرحمن بن الحكم:
والقصد: الاعتماد والأم...
والقصدة من النساء: العظيمة الهامة التي لا يراها أحد إلا أعجبته.
والقاصد: القريب.
والقصيد من الشعر: ما تم شطر أبياته".[2]
وجاء في مقاييس اللغة: عن أصل [قصد]:
"قصد: القاف والصاد والدال أصول ثلاثة يدل أحدهما على إتيان الشيء وأمه، والآخر على اكتناز في الشيء".[3]
ونلاحظ من خلال المعنى اللغوي للمقاصد أو لمادة [قصد] يدور حول: الاستقامة والاعتدال، والسهولة واليسر والقرب، والعدل، والاعتماد والأمُّ بمعنى التوجه، والعظمة ولفت الانتباه..
وهي معان اشتمل عليها مفهوم المقاصد في الاصطلاح، -لأن المعنى الاصطلاحي جزء من عموم المعنى اللغوي- كما سنرى في الفقرة الثانية.
الفقرة الثانية: مفهوم المقاصد اصطلاحا
لم يرد تعريف اصطلاحي مضبوط للمقاصد عند المتقدمين من الأصوليين والفقهاء[4]، وذلك لأن بعضهم كان يتعرض للكلام عن المقاصد تبعا لموضوع آخر في الأصول كالعلل أو المصالح أو غير ذلك.[5]
وقد حاول علماء المقاصد المحدثين كالإمام الطاهر بن عاشور رحمه الله، وعلال الفاسي، والدكتور أحمد الريسوني:
أولا: الطاهر بن عاشور:
عرف المقاصد من زاويتين: المقاصد العامة والمقاصد الخاصة:
كما قد عرفها أستاذ علال الفاسي رحمه الله بقوله: "المراد بمقاصد الشريعة: الغاية منها والأسرار التي وضعها الشارع عند كل حكم من أحكامها".[8]
وهذه هي المعبر عنها بالمقاصد الجزئية التي تهتم ببيان المقصد المتوخى من ذلك الحكم الذي يندرج تحت فصل أو فرع من ذلك الباب الشامل المنظم لذلك الباب.
ومما يمكن التمثيل لهذا النوع من المقاصد، مثلا ما هو المقصد المتوخى من تحمل العادل عن الخطبة خسارة ما قدمه للمخطوبة من هدايا بصدد الخطبة، وهناك أمر مستجد في مدونة الأسرة، ما هو القصد من إثبات النسب الناتج عن الحمل أثناء فترة الخطبة عن طريق الشبهة من خلال المادة 156 من المدونة، وما هو المقصد ف الاجتهاد القضائي الصادر عن محكمة النقض من عدم استحقاق الزوجة للمتعة في التطليق للشقاق إن هي طلبت التطليق؟ وهكذا.
ثالثا: الدكتور أحمد الريسوني
وقد عرفها بقوله: "إن مقاصد الشريعة هي الغايات التي وضعت الشريعة لأجل تحقيقها لمصلحة العباد".[9]
ركز هذا التعريف على قضية تحقيق مصالح العباد، فكأن هذه الشريعة ما جاءت إلا لأجل هذه الغاية الفضلى، وهي مصلحة العباد، أو كل أوامرها جلب مصلحة، وكل نواهيها درء لمفسدة.
وفي الأخير بعد سرد كل هذه التعريفات، نلاحظ أن هذه التعاريف الثلاثة اشتملت على الألفاظ الآتية: المعاني، الحِكم، الكيفيات المقصودة، الغايات، الأسرار، تحقيق مصالح العباد...
وهذه الألفاظ هي الأكثر تعبيرا عن المقاصد لدى المجتهدين، ومن خلالها يمكن أن نعطي تعريفا شاملا للمقاصد -بناء على التعاريف السابقة- على أنها هي: "المعاني والحكم والغايات والأسرار والكيفيات المقصودة للشارع لتحقيق مصالح العباد، وفق الشريعة الإسلامية وما جاء به القانون، وما جاد به الاجتهاد القضائي".
الفرع الثاني: المقاصد الشرعية: أقسامها وأنواعها
قسمت المقاصد باعتبارات مختلفة إلى عدة أقسام حسب الزاوية التي ينظر تناولها كل باحث (مقاصد الابتداء عند الإمام الشاطبي، والمقاصد الأصلية والتبعية، والمقاصد العامة والخاصة، والمقاصد الكلية والمقاصد الجزية، ومقاصد الخطاب ومقاصد المكلفين...).
لكننا سنقتصر على قسمين فقط لارتباطهما بموضوع هذا البحث، المقاصد العامة والخاصة والجزئية في (الفقرة الأولى)، ثم مقاصد الخطاب ومقاصد المكلفين في (الفقرة الثانية).
الفقرة الأولى: المقاصد العامة والخاصة والجزئية
يقول الدكتور أحمد الريسوني في نظريته: كما يمكن -لزيادة الإيضاح- تقسيمها لثلاثة أقسام:
أولا: المقاصد العامة
"هي التي تراعيها الشريعة وتعمل على تحقيقها في كل أبوابها التشريعية، أو في كثير منها كما في الأمثلة المتقدمة عند ابن عاشور وعلال الفاسي... وهذا القسم هو الذي يعنيه غالبا المتحدثون عن مقاصد الشريعة، وظاهر أن بعضه أعم من بعض، وما كان أعم فهو أهم، أي إن المقاصد التي رعيت في جميع أبواب الشريعة أعم وأهم من التي روعيت في كثير أبوابها".[10]
كالقواعد الفقهية الكبرى الخمس، هي تشمل جميع الأبواب.
ثانيا: المقاصد الخاصة
"وأعني بها المقاصد التي تهدف الشريعة إلى تحقيقها في باب معين، أو في أبواب قليلة متجانسة، من أبواب التشريع، ولعل الشيخ ابن عاشور رحمه الله هو خير من اعتنى بهذا القسم من المقاصد"[11]
ثالثا: المقاصد الجزئية
"وهو ما يقصده الشارع من كل حكم شرعي من إيجاب أو تحريم، أو ندب أو كراهة، أو إباحة أو شرط، أو سبب...، وهي التي يشير إليها الأستاذ علال الفاسي بقوله: <الأسرار التي وضعها الله عند كل حكم من أحكامها> وهي التي ينطبق عليها أمثلة الشيخ ابن عاشور من كون عقدة الرهن مقصودها التوثق، وعقدة النكاح مقصودها إقامة المؤسسة العائلية وتثبيتها، ومشروعية الطلاق مقصودها وضع حد للضرر المستمر".[12]
الفقرة الثانية: مقاصد الشارع والمشرع، ومقاصد المكلفين
أولا: مقاصد الشارع: (مقاصد الخطاب ومقاصد الأحكام)
لأن الحكم الشرعي الذي يريد المجتهد أن يصل إليه هو "خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين: اقتضاء أو تخييرا أو وضعا.
فلاستنباط الحكم الشرعي -التكليفي أو الوضعي- من ذلك الخطاب، لا بد من الفهم السليم لذلك الخطاب الذي يتعلق بأفعال المكلفين إما بالوجوب الجازم أو غير الجازم، أو الوضع (الشروط، الأسباب، الموانع)، وعليه ينبني الحكم الشرعي.
يقول الدكتور أحمد الريسوني: "حين نعرف مقصود الخطاب على وجهه الصحيح، محترمين في ذلك قواعد اللغة ومسلمات الشرع وغيرها من الأسس التي يجب اعتمادها في تفسير النصوص الشرعية، حينئذ نكون قد عرفنا مقصود الشرع في خطابه، وعرفنا المقتضى الصحيح لذلك الخطاب، أي ما هو المطلوب منا بمقتضى ذلك الخطاب، ولكن يبقى علينا ونحن نبحث عن المقاصد أن نعرف ما هي الغايات التي يرمي الخطاب الشرعي إلى تحقيقها، وإيصال الناس إليها؟ وما هي الفوائد التي يحققها لنا العمل بمقتضى الحكم الشرعي؟ بعبارة أخرى: ما هي مقاصد ذلك التشريع؟ ... وهذا المستوى من المقاصد أي مقاصد الأحكام، بمعنى الفوائد والنتائج المتوخاة من وراء العمل بالأحكام الشرعية، هو عادة ما يقصده المتحدثون عن مقاصد الشريعة.[16]
ومن الأمثلة التطبيقية لمقاصد الأحكام: مشروعية التعدد في الآية: (فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع).[17]
قد شرع الله تعدد النساء للقادر العادل لمصالح جمة، منها: أن في ذلك وسيلة إلى تكثير عدد الأمة بازدياد المواليد فيها، ومنها أن ذلك يعين على كفالة النساء اللاتي هن أكثر من الرجال في كل أمة، لأن الأنوثة في المواليد أكثر من الذكورة، ولأن الرجال يعرف لهم من أسباب الهلاك في الحروب والشدائد ما لا يعرض له النساء، ولأن النساء أطول أعمارا من الرجال بما فطرهن الله عليه، ومنها أن الشريعة قد حرمت الزنا وضيقت في تحريمه لما يجر عليه من الفساد في الأخلاق والأنساب ونظام العائلات والأنساب ونظام العائلات فناسب أن توسع على الناس في تعدد النساء.[18]
ثانيا: مقاصد المكلفين
هذا الصنف الثاني من المقاصد الذي يقابل مقاصد الخطاب وهو مقاصد المكلفين، وتعني ما يقصده المكلفون في أفعالهم وتصرفاتهم انطلاقا من نياتهم.
والذي ينظر في استعمال العرب لهذه الكلمة "النية" يجد أنها تدور في تصاريفها على القصد، فنجدهم يقولون: "نَوَى الشيء ينويه نيّة...، وانْتَواه: قصده ونَوَى المنزل وانْتَواه، ويقولون: نواك الله بالخير قصدك به، وأوصلك إليه، ثم خصت النية في غالب الاستعمال بعزم القلب على أمر من الأمور.[19]
أما النية في الاصطلاح: فذهب جمع من العلماء إلى تعريف النية بمدلولها اللغوي -العزم والقصد- ومنهم الإمام النووي رحمه الله، قال: "النية هي القصد إلى الشيء، والعزيمة على فعله، ومنه قولهم في الجاهلية: نواك الله بحفظه أي قصدك به. ومنهم القرافي رحمه الله قال: "هي قَصْد الإنسان بقلبه ما يريده بفعله".[20]
وقد روعيت نيات المكلفين ومقاصدهم في المدونة منها:
المطلب الثاني: المقاصد الشرعية: حجية إعمالها، وأهميتها في العملية الاجتهادية
لقد تم التنصيص على المقاصد كشرط أساسي في المجتهد والاجتهاد، لا من جهة الشارع والمشرع الأسري، لما لها من أهمية كبيرة وفضل كبير في العملية الاجتهاد بصفة عامة والاجتهاد القضائي بصفة خاصة، فبها حققت الشريعة الإسلامية خاصية المرونة، والفقه والقضاء استطاعا أن يجدا حلولا لقضايا ونوازل لم تكن معهودة في السابق، الشيء الذي يطرح التساؤل الآتي: ما حجية إعمال المقاصد في الاجتهاد القضائي؟ (فرع أول)، وما أهمية المقاصد في الاجتهاد القضائي؟ (فرع ثان).
الفرع الأول: حجية إعمالها في العملية الاجتهادية
يثار النقاش حول حجية إعمال المقاصد في الاجتهاد، نورد هنا ما يجيب على ذلك من نصوص الشرع في (الفقرة الأولى)، ومن نصوص القانون الوضعي -مدونة الأسرة- في (الفقرة الثانية).
الفقرة الأولى: حجية إعمالها في العملية الاجتهادية من الشرع
إن الناظر في النصوص الشرعية كلها يجد أنها تضع في مقدمتها مصالح العباد، إما بالتنصيص عليها صراحة أو إشارة في تشريع الأحكام الشرعية، قال الإمام الشاطبي رحمه الله: "... وهي أن وضع الشرائع إنما هو لمصالح العباد في العاجل والآجل"[21]، ومن الأمثلة على ذلك:
الفقرة الثانية: حجية إعمالها في العملية الاجتهادية من مدونة الأسرة
إن مدونة الأسرة بدورها تنص على استحضار مقاصد الشريعة السمحة في أحكامها من أجل ترسيخ قيم العدل بين الزوجين واستقرار الأسرة المغربية:
كما جاء في ديباجتها ما يلي: "لقد جعل مولانا أمير المؤمنين، صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله، منذ اعتلائه عرش أسلافه الميامين، النهوض بحقوق الإنسان في صلب المشروع المجتمعي الديمقراطي الحداثي، الذي يقوده جلالته حفظه الله. ومن ذلك إنصاف المرأة، وحماية الطفل، وصيانة كرامة الرجل، في تشبت بمقاصد الإسلام السمحة، في العدل والمساواة والتضامن، واجتهاد وانفتاح على روح العصر ومتطلبات التطور والتقدم".
كما تدعو ديباجة المدونة إلى ضرورة مراعاة مقاصد الشريعة في الاجتهاد "كما حرص جلالته، أعزه الله على تزويد هذه اللجنة باستمرار، بإرشاداته النيرة، وتوجيهاته السامية، بغية إعداد مشروع مدونة الأسرة، مشددا بأحكام الشرع، ومقاصد الإسلام السمحة، وداعيا إلى إعمال الاجتهاد في استنباط الأحكام، مع الاستهداء بما تقتضيه روح العصر والتطور، والتزام المملكة بحقوق الإنسان كما هو متعارف عليها عالميا".
كما توضح هذه الديباجة أن مدونة الأسرة هي مصاغة صياغة فقهية قانونية حديثة، متطابقة مع أحكام الشرع ومقاصد الشريعة "أن هذه المدونة الرائدة، في مقتضياتها وصياغتها بأسلوب قانوني فقهي حديث، متطابقة مع أحكام الإسلام السمحة ومقاصده المثلى، واضعة حلولا متوازنة ومنصفة وعملية، تنم عن الاجتهاد المستنير المتفتح، وتنص على تكريس حقوق الإنسان والمواطنة للمغاربة نساء ورجالا على حد سواء، في احترام للمرجعيات الدينية السماوية".
كما بينت على أنها اعتمدت في تعديلاتها على مقاصد الشرع كتعديل التعدد من أحكام مطلقة إلى تقييده بشروط مثلا: "رابعا: فيما يخص التعدد، فقد راعينا في شأنه الالتزام بمقاصد الإسلام السمحة في الحرص على العدل، الذي جعل الحق سبحانه يقيد إمكان التعدد بتوفيره، في قوله تعالى: (فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة...)، وحيث إنه تعالى نفى هذا العدل بقوله: (ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم)[28].
الفرع الثاني: المقاصد الشرعية: أهميتها في العملية الاجتهادية القضائية
كان الرسول ﷺ هو الذي يفتي ويفصل فيما استجد من حوادث ووقائع، سواء فيما ورد فيه نص أو لم يرد، أو من اجتهاده الخاص.
لكن بموت رسول الله ﷺ، لم يجد الناس أمامهم إلا نصوصا شرعية أحيانا يجدون فيها ما يقضي غرضهم، وأحيانا لا يجدون ما يشفي غليلهم.
وبما أن النصوص الشرعية هي محدودة في استيعابها لسائر الأحداث والنوازل المستجدة، والوقائع لا حد لها ولا حصر، احتاجت الأمة إلى فتح باب الاجتهاد على مصراعيه وتفعيل وسائل استنباط الأحكام الشرعية وأدواتها، لتنزيل النصوص على وقائعها تنزيلا صحيحا، أو استنباط حكم شرعي بناء على عموم تلك النصوص. قال الإمام الشاطبي رحمه الله في الموافقات: "الوقائع في الوجود لا تنحصر فلا يصح دخولها تحت الأدلة المنحصرة، ولذلك احتيج إلى فتح باب الاجتهاد من القياس وغيره من حدوث وقائع لا تكون منصوصا على حكمها، ولا يوجد للأولين فيها اجتهاد".[29]
ومن بين الأدوات المساعدة على الاجتهاد الصحيح، هو إعمال المقاصد أثناء العملية الاجتهادية والنظر في النازلة. فكان للمقاصد الشرعية أهمية كبرى في الاجتهاد، وبالأحرى في الاجتهاد القضائي، الذي يتطلب نوعا من الدقة والوضوح للنطق بالحكم الذي يحقق العدل بين المتخاصمين، وخاصة في القضايا الأسرية التي تعتبر من ضمن القضايا الحساسة ذات الصعوبة في إصدار حكم يلائم الأسرة ككل وليس الزوجين، تجنبا لنشوب العداوات بين الزوجين، أو بين أحد الزوجين والأبناء.
ويمكننا أن نسجل بعض فوائد إعمال المقاصد الشرعية في الاجتهاد:
المبحث الثاني: الأحكام والقرارات القضائية: مفهومهما، علاقتهما بالمقاصد الشرعية
إن الأحكام والقرارات القضائية هي المجال الذي سيطبق فيه القاضي هذه المقاصد، وهو الميدان الذي يبرز فيه القاضي براعته في صناعته للحكم القضائي.
وعليه، سنبين في هذا المبحث مفهوم الأحكام والقرارات القضائية ومكوناتها (المطلب الأول)، كما سنعرج على بيان الفرق بينهما، وعلاقتهما بالمقاصد (المطلب الثاني).
المطلب الأول: الأحكام القضائية والقرارات القضائية: مفهومهما وعناصرهما الأساسية
لدراسة موضوع إعمال مقاصد الشريعة في الأحكام والقرارات القضائية، لا بد من التعرف على مفهوم الأحكام والقرارات القضائية (فرع أول)، وعلى تحديد عناصرهما ومكوناتهما (فرع ثان).
الفرع الأول: الأحكام والقرارات القضائية: مفهومهما
سنبين مفهوم الأحكام القضائية ومميزاتها وأنواعها في (الفقرة الأولى)، ثم مفهوم القرارات القضائية والجهة الصادرة عنها في (الفقرة الثانية).
الفقرة الأولى: مفهوم الأحكام القضائية ومميزاتها وأنواعها
أولا: مفهومها
يعرف الحكم القضائي بأنه "كل ما يصدر عن المحكمة للبت نهائيا في النزاع، أو للأمر باتخاذ إجراء يرمي إلى تهيئة البت النهائي".[34]
والحكم بمعناه الخاص في مذهب الفقه المقارن هو: "القرار الصادر من محكمة مشكلة تشكيلا صحيحا، ومختصة (أو صارت مختصة بعدم الاعتراض على اختصاصها في الوقت المناسب)، في خصومة رفعت إليها وفق قواعد المرافعات، سواء أكان صادرا في موضوع الخصومة أو في شق منه أو في مسألة متفرعة عنه".[35]
ثانيا: مميزاتها
يتميز الحكم القضائي على ما يشبهه بما يلي:
تتنوع الأحكام بحسب الزاوية التي ننظر إليها منها[37]:
وفائدة هذا التنوع في الأحكام، على القاضي أن يراعي مصالح العباد من خلالها، فالأحكام الباتة أو النهائية التي لا يجوز الطعن فيها كالحكم بالتطليق للشقاق مثلا في شقه المتعلق بإنهاء العلاقة الزوجية، ينبغي أن يتحرى كثيرا قبل إصدار الحكم خاصة إذا كانت الطلقة ثالثة، لأنه لا مجال للطعن فيها فيما بعد، عكس الأحكام الانتهائية التي تقبل الطعن بعدها، فهنا يمكن للقاضي أن يتوسع إن ارتأى ذلك.
الفقرة الثانية: مفهوم القرارات القضائية
يسمى قرارا قضائيا ما صدر عن محاكم الدرجة الثانية أو من محكمة النقض[38].
ويقصد بمحاكم الدرجة الثانية: محاكم الاستئناف حسب التنظيم القضائي المغربي.
تتوفر القرارات القضائية على نفس مكونات وعناصر الأحكام القضائية (الوقائع – التعليل – منطوق الحكم).
إلا أن ما يمكن أن نميز به بين القرار القضائي الفاصل في النزاع بين محاكم الاستئناف ومحكمة النقض، أن القرار الصادر عن محاكم الاستئناف يفصل في ذات النزاع لأنها محكمة موضوع، والقرار الصادر عن محكمة النقض يقضي بمدى إصابة أو عدم إصابة المحاكم الدنيا في اجتهادها، ومدى مراعاتها لتطبيق القانون وخاصة القانون الأسري، ومدى مراعاته لمقاصد الإسلام السمحة المتمثلة في قيم العدل، وتطبيق القانون أحسن تطبيق.
الفرع الثاني: الأحكام والقرارات القضائية: مكوناتهما وعناصرهما
إن الأحكام والقرارات القضائية باعتبارها المجال الذي يعمل فيه القاضي، أو هي مجال عمل القاضي، وتطبيق كل أدوات الاجتهاد بما فيها المقاصد الشرعية في استنباط الأحكام وتنزيلها على القضايا والنوازل، يجب أن تتحد فيها عناصر ومكونات؛ استخلاص الوقائع ورقابة محكمة النقض (فقرة أولى)، التعليل ومنطوق الحكم (فقرة ثانية).
الفقرة الأولى: استخلاص الوقائع ورقابة محكمة النقض
سنتحدث عن استخلاص الوقائع كمكون من مكونات الحكم القضائي (أولا)، وعن رقابة محكمة النقض على استخلاص الوقائع (ثانيا).
أولا: استخلاص الوقائع
يقصد بالوقائع: "المسائل التي لا معقب على رأي قاضي الدعوى فيها بوقائع الدعوى وموضوعها".[39]
وقيل هو "السرد التاريخي للنزاع المعروض على المحكمة مع ذكر الأدلة الواقعية والحجج القانونية، وما حصل فيها من إجراءات في جلسة المناقشات والمرافعات، وتكون هذه الوقائع متمشية مع أسباب الحكم ومنطوقه وتؤثر على نتيجة الدعوى".[40]
وتكمن أهمية الوقائع في أنها تبين المراحل التي مرت بها المنازعة، وتعطي فكرة عن مدى التزام القاضي في حكمه بحدود طلبات الأطراف وبالحياد في توجيه الإجراءات وباحترام قواعد الإثبات.[41]
وفي هذا ينص الفصل 50 من قانون المسطرة المدنية:" "تتضمن أيضا الاستماع إلى الأطراف الحاضرين أو إلى وكلائهم وكذا مستنتجات النيابة العامة عند الاقتضاء؛
يشار فيها إلى مستنتجات الأطراف مع تحليل موجز لوسائل دفاعهم والتنصيص على المستندات المدلى بها والمقتضيات القانونية المطبقة...".
وكما هو معلوم أن على القاضي أن يلتزم فقط بالوقائع المفيدة في القضية، ولا يلزم أن يذكر ما لا فائدة فيه في حل ذلك النزاع.
ثانيا: رقابة محكمة النقض على استخلاص الوقائع
من المعلوم أن مسألة استخلاص الوقائع التي سيرتب عليها القاضي اجتهاده -حكما قضائيا- تخضع لسلطته التقديرية، وهذه السلطة تخضع بدورها لرقابة محكمة النقض إن لم يحسن تقدير الوقائع والأحداث.
لأن تلك الوقائع قد تكون تتضمن في حد ذاتها قواعد للإثبات، أو يكون أحد أحداثها هو الفاصل في موضوع الدعوى. كارتكاب بعض الأفعال المخالفة للأخلاق الحميدة بالنسبة للحاضن.
الفقرة الثانية: التعليل ومنطوق الحكم
من بين العناصر الأساسية التي يجب أن تكون في الحكم أو القرار القضائي مسألة التعليل (أولا)، وأخيرا النطق بالحكم (ثانيا).
أولا: التعليل
إن المشرع المغربي لم يتعرض لتعريف التعليل، وإنما عرفه بعض فقه المسطرة المدنية، فجاء فيه عدة تعريفات:
ثانيا: منطوق الحكم
يعد منطوق الحكم آخر جزء وأهم عنصر من عناصر الحكم أو القرار القضائي، الذي يهدف في الأخير إلى حل النزاع المطروح أمام القاضي.
وقد عرفه بعضهم[45] بأنه:
المطلب الثاني: الأحكام والقرارات القضائية: الفرق بينهما، علاقتهما بالمقاصد
الفرع الأول: الأحكام والقرارات القضائية: الفرق بينهما، فائدة التقسيم
إن الأحكام والقرارات القضائية كلا منهما صادر عن القضاء وعن المحاكم، إلا أن بينهما فرقا من عدة نواح (فقرة أولى)، ويطرح إشكال لم هذا التعدد في هرمية المحاكم في التنظيم القضائي من درجة أولى وثانية وثالثة (فقرة ثانية).
الفقرة الأولى: الفرق بين الأحكام والقرارات القضائية
يتم التمييز بينهما من عدة حيثيات نوردها كالآتي:
وفائدة هذا التقسيم، أن الاقتصار على جهة واحدة قد يضر بمصالح المتقاضين، قد يكون القاضي قد ظهر له من القضية ما ظهر من الصواب وهو في الواقع لم يصب الصواب، فينتقل الأمر إلى المحكمة ثاني درجة، فتنظر في تلك القضية المطعون فيها إما بالتأييد أو بالرفض، وقد تكون هي الأخرى غير صائبة في قرارها، فينتقل الأمر إلى محكمة النقض التي تعتبر محكمة قانون، فتنظر في مدى توفيق قضاة الموضوع في النظر في تلك النازلة ومدى تحكيم النصوص والمقاصد في تنزيلها على القضية أم لا.
وهكذا تصان الأحكام القضائية وتوفر لها ما أمكن لتحقيق العدل بين المتقاضين وما يحقق مصالحهم ويذهب العنت والمشقة عنهم بإقامة العدل، وهذا هو المقصد الأساسي من وجود القضاء.
الفرع الثاني: الأحكام والقرارات القضائية: علاقتهما بالاجتهاد القضائي المقاصدي
إن الأحكام والقرارات القضائية هي عبارة عن مجموعة من وقائع وأحداث تعرض أمام القاضي، فيكون ملزما بالاجتهاد في تلك النازلة اجتهادا مقاصديا (فقرة أولى)، بمحاولته إيجاد الوصف والعلة المناسبة لها مع ما يتوافق مع النصوص الشرعية والتشريعية (فقرة ثانية).
الفقرة الأولى: مفهوم الاجتهاد القضائي المقاصدي
لتعريف الاجتهاد القضائي المقاصدي، لا بد من تجزيء التعريف إلى ثلاثة أشطر: مفهوم الاجتهاد (أولا)، ومفهوم القضاء (ثانيا)، ثم إعطاء تعريف جامع للمعنى الإضافي (ثالثا)، ليتضح مفهوم هذا المصطلح.
أولا: مفهوم الاجتهاد لغة واصطلاحا
و"الجَهد بالفتح": المشقة؛ يقال "جَهد دابته وأَجْهدها"، إذا حمل عليها في السير فوق طاقتها.
و"جَهد الرجل في كذا": أي جد فيه وبالغ.
و"التجاهد": بذل الوسع. اه
بمعنى أن الاجتهاد لا بد فيه من مجهود.
فقد عرفه الإمام الرازي رحمه الله في المحصول، بقوله: "وأما في عرف الفقهاء فهو استفراغ الوسع في النظر فيما لا يلحقه فيه لوم مع استفراغ الوسع فيه".[48]
وقيل هو في الاصطلاح "بذل الوسع في نيل حكم شرعي عملي بطريق الاستنباط". فقولنا بذل الوسع: يخرج ما يحصل مع التقصير، فإن معنى بذل الوسع أن يحس من نفسه العجز عن مزيد طلب.[49]
ولهذا فإن من لا يستفرغ وسعه يكون مقصرا ولا يعد مجتهدا بالمعنى الشرعي.[50]
وقد بينت هذه التعريفات حقيقة الاجتهاد من حيث إنها استفراغ الوسع وبذل المجهود في استنباط الحكم الشرعي وحتى القضائي. وبما أن القاضي مجتهد فهو ملزم باستفراغ قصارى جهده في الاجتهاد في النظر في القضية لاستنباط الحكم المناسب لها.
ثانيا: مفهوم القضاء
جاء في مختار الصحاح: "القضاء": الحكم، والجمع "الأقضية"، و"القضايا"، و "قضى قضاء": أي حكم، ومنه قوله تعالى: "وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه".[51]
كما جاء في تعريفه: "النظر بين المترافعين له للإلزام وفصل الخصومات"[53]
ومؤدى هذه التعريفات واحد من حيث إن القضاء يتضمن النظر بين المترافعين؛ وهو الاجتهاد في الوصول إلى الحكم، حتى إذا تولد لديه غلبة ظن بحكم أخبر به الخصوم، ولهذا عرفه بعضهم بأنه: "إخبار عن حكم شرعي، أو تبيين للحكم، وهذا الإخبار ملزم، وهو كذلك حكم بين الناس بالحق، وهو كذلك فصل للخصومة".[54]
فبالقضاء تفصل الخصومة وينتهي النزاع، ويصل كل ذي حق إلى حقه، وهذا هو المقصد الأكبر من القضاء.
ثالثا: مفهوم الاجتهاد القضائي المقاصدي
بعد تعريف "الاجتهاد" و "القضاء" وسبق تعريف "المقاصد" في المبحث الأول، آن لنا أن نعرف الاجتهاد القضائي المقاصدي بالمعنى الإضافي.
جاء في تعريف الاجتهاد القضائي ما يلي: "استفراغ القاضي وسعه وطاقته لتحصيل ظن بحكم شرعي فاصل في الخصومة في واقعة متنازع عليها وملزم لأطرافها".[55]
إذن فالاجتهاد القضائي المقاصدي هو: استفراغ القاضي وسعه وطاقته لتحصيل ظن بحكم شرعي، فاصل في الخصومة، في واقعة متنازع عليها، وملزم لأطرافها، وفق المقاصد التي يرمي إليها الشارع والمشرع.
الفقرة الثانية: الأحكام والقرارات القضائية: تعليلها وعلاقتها بالمقاصد
رأينا سابقا أن من بين العناصر الأساسية التي يجب أن يتوفر عليها الحكم أو القرار القضائي هو عنصر التعليل، ويمكننا أن نقول عنه التعليل المقاصدي في الأحكام القضائية، لذلك سنعمل على بيان مفهومه من جهة المقاصد والقانون (أولا)، وعلاقته بمقاصد الشريعة (ثانيا).
أولا: مفهوم التعليل لغة واصطلاحا
بمعنى أن العلة تشغل المجتهد شغلا كبيرا وتثقل باله كما يثقل المرض جسد الإنسان، فكذلك المجتهد عندما يعلل حكما في نازلة معينة، فهو أولا يعمل باله وينشغل انشغالا تاما في تلك النازلة، ثم إنه يحس من نفسه الجهد الذهني والفكري قد أثقل باله بإعمال عقله في تلك النازلة. وأرى أنه منه أخذ مصطلح العلة أو التعليل.
ومرادنا به هنا بيان العلل، وكيفية استخراجها، وهذا قد يكون لأجل القياس، وهو رد فرع إلى أصل لمساواته في علة حكمه، وقد يكون لغير ذلك، بأن يبحث المجتهد في الحادثة المستجدة عن معنى يصلح مناطا لحكم شرعي يحكم به بناء على ذلك المعنى؛ وهو المسمى عندهم بالاستصلاح أو المصالح المرسلة، أو بأن يبحث عن علة الحكم المنصوص لا لتعديته؛ وهو ما سموه بالعلة القاصرة أو بيان الحكمة.[59]
ثانيا: علاقة تعليل الأحكام بالمقاصد
من المعلوم أن القاضي لما تعرض عليه قضية النزاع، فإنه ملزم بالقيام بتفكيك عناصر النزاع وتجزيء عناصره، بتحييث الحكم تحييثا مفصلا، للوصول إلى عمق النزاع الذي عرض عليه.
حيث ينص الفصل 50 من قانون المسطرة المدنية على ما يلي:
"تتضمن أيضا الاستماع إلى الأطراف الحاضرين أو إلى وكلائهم وكذا مستنتجات النيابة العامة عند الاقتضاء؛
يشار فيها إلى مستنتجات الأطراف مع تحليل موجز لوسائل دفاعهم والتنصيص على المستندات المدلى بها والمقتضيات القانونية المطبقة؛
يجب أن تكون الأحكام دائما معللة".[60]
وهذه العملية -تعليل الأحكام- هي روح المقاصد، لأن جميع الأحكام معللة بعلة، وإلا كانت محط اتهام بالعبث واللغط، وحينئذ تكون معرضة للنقض من طرف محكمة النقض.
كما ينص على ذلك الفصل 359 من ق م م: "يجب أن تكون طلبات نقض الأحكام المعروضة على محكمة النقض مبنية على أحد الأسباب التالية: 5-عدم ارتكاز الحكم على أساس قانوني أو انعدام التعليل".
جاء في قرار للمجلس الأعلى (محكمة النقض حاليا) "... حيث ينعى الطالب القرار في السبب بخرق القانون وحقوق الدفاع وبفساد التعليل، ذلك أن محكمة الدرجة الأولى وقفت على حقيقة أساسية وهي أن المطلوبة مقيمة بدولة إسبانبا أي خارج بيت الزوجية الكائن بالمغرب فقضت عن صواب برفض طلبها، غير أن القرار المطعون فيه بالرغم من ذلك استجاب لطلب النفقة رغم نشوز المطعون ضدها مما يجعله على غير أساس وخارقا للقانون مستوجبا النقض".[61]
لذلك كان التعليل -الذي هو روح المقاصد- هو أحد العناصر الأساسية التي يجب أن يتوفر عليه الحكم القضائي، تحت طائلة البطلان والنقض.
الفصل الثاني: مقاصد الشريعة والقاضي الأسري، وسبل تفعيلها في الأحكام والقرارات القضائية
المبحث الأول: مقاصد الشريعة والقاضي الأسري: شروط القاضي الأسري، وحاجته إلى مقاصد الشريعة
إن الأحكام القضائية بدون مقاصد كالجسد بدون روح -كما قال الإمام الشاطبي رحمه الله، فالقاضي الأسري في حاجة ماسة دائما إلى المقاصد كحاجة الجسد لتغذيته بالطعام والشراب، ولأجل هذه الغاية يجب أن تتوفر فيه مجموعة من الشروط ليكون مؤهلا ليكون قاضيا مقاصديا بامتياز، سنعمل على بيانها في (المطلب الأول)، كما سنبين مدى حاجته إلى المقاصد لتذييلها في الأحكام القضائية، وفي عمليته الاجتهادية في (المطلب الثاني).
المطلب الأول: شروط القاضي الأسري العامة والخاصة
قد نص فقهاء الشريعة الإسلامية على الشروط التي يجب توفرها فيمن يتولى القضاء، لما لهذا المنصب من مكانة عظيمة وهو الفصل في المنازعات وإصلاح ذات البين بين الناس مما يجب معه الحزم في الشروط وصرامتها.
يمكن أن نصنف هذه الشروط إلى شروط عامة (فرع أول)، وشروط خاصة بالقضاء الأسري (فرع ثان).
الفرع الأول: شروط القاضي الأسري العامة
وإن الشروط العامة التي اشترطها الفقهاء يكادون يتفقون عليها في الجملة، ويسميها البعض ب "صفات القاضي" لأنها قائمة به.
قال ابن عاصم رحمه الله:
وقال بعضهم: "شرائط القضاء عشرة: الإسلام والحرية والذكورة والتكليف والعدالة والبصر والسمع والنطق والكتابة والعلم بالأحكام الشرعية"[62].
فهذه الشروط يمكن تقسيمها إلى قسيمن: شروط صحة (فقرة أولى) وشروط كمال (فقرة ثانية).
الفقرة الأولى: شروط الصحة
وهي الشروط التي لا يصح القضاء إلا بها:
أولا: التكليف
فاشترط فيه التكليف المشتمل على شرطي العقل والبلوغ، لأن غير العاقل وغير البالغ لا يجري عليهما قلم، ولا يتوجه إليهما خطاب، فلا يتعلق بقول واحد منهما حكم على نفسه فأولى على غيره، ولا يكتفي في شرط العقل بالعقل الذي يتعلم به التكليف من علمه بالمدركات الضروريات، بل حتى يكون صحيح التمييز جيد الفطنة بعيدا من السهو والغفلة، حتى يتوصل بذلك إلى وضوح ما أشكل وفصل ما أعضل[63].
فالانسان المكلف يتميز برجاحة العقل وحصافة الرأي، وبعد النظر في الحال والمآل.
ثانيا: العدالة
وهي معتبرة في كل ولاية، والعدالة أن يكون صادق اللهجة، ظاهر الأمانة عفيفا عن المحارم، متوقيا للمآثم، بعيدا عن الريب، مأمونا في الرضى والغضب، مستعملا لمروءة مثله في دينه ودنياه، فإذا تكاملت فيه هذه الخصال، فهي العدالة التي تجوز بها شهادته وتصح معها ولايته، وإن انخرم منها وصف منع من الشهادة والولاية، فلم يسمع له قول ولم ينفذ له حكم"[64]
وقد عرف بن عاصم رحمه الله العدل:
ولما لهذا الشرط من أهمية كبيرة في مجال القضاء لم يغفل المشرع المغربي هو الآخر التنصيص عليه في النظام الأساسي للقضاة.
فقد جاء في المادة 7 منه في الفقرتين الثانية والثالثة: "يشترط في المترشح لولوج السلك القضائي:
ثالثا: الذكورة
واشترطت فيه الذكورة لأن القضاء فرع عن الإمامة العظمى، وولاية المرأة ممتنع لقوله ﷺ: "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة" فكذلك النائب عنه لا يكون امرأة، وبالجملة فمنصب الولاية غير مستحق للنساء[66].
فاشتراطهم الذكورة في القضاء كان معللا بكون القضاء فرعا من عن الإمامة العظمى التي يشترط فيها أن يكون الإمام ذكرا طبقا للحديث النبوي الشريف.
ولعل تأكيد الفقهاء على هذا الشرط كان من باب الحفاظ على هيبة القضاء التي أعطاها الله تعالى للرجل من سمات الحزم والجدية والمنطقية، على خلاف المرأة التي تفتقد فطريا وجينيا لهاته السمات.
لكن أصبح هذا الشرط متجاوزا في عصرنا الحاضر بل أصبح متاحا للمرأة ممارسة القضاء إسوة بالرجل.
رابعا: الحرية
لم يعد الرق موجودا في عصرنا الحاضر.
خامسا: السمع والبصر والكلام
فلا تنفذ أحكام الأعمى والأصم والأبكم[67] وإنما اشترطت السلامة في الأعضاء الثلاثة لعدم تأتي المقصود من الفهم والإبهام لفاقد بعضها فضلا عن كلها.[68]
الفقرة الثانية: شروط الكمال
وهي الشروط التي تصح ولايته بدونها، لكن الأولى وجودها[69].
وهي التي أشار إليها ابن عاصم رحمه الله بقوله:
وهذه الشروط يمكن إجمالها فيما يلي:
أولا: الجزالة
من جزل فهو جزيل، أي عاقل أصيل الرأي وكأنه أراد لازمها الذي هو جودة الفطنة[70]. والفطنة هي المهارة التي يجب أن تكون متوفرة في القاضي بالإضافة إلى المعارف الشرعية والقانونية، فبها يدرك الظالم من المظلوم، وبها يتوصل إلى حقائق لم يظهرها المدعي ولا المدعى عليه.
ثانيا: العلم
على حذف مضاف أي يستحب غزارة العلم فيه أي زيادته بأن يكون أفضل مقلد وأفضل مجتهد، أو على حذف الصفة كقوله تعالى: (الآن جئت بالحق)[71] أي البين، أي يستحب فيه العلم الموصل للاجتهاد، وأن العلم المستحب علم خاص وهو ما يتوصل به للاجتهاد.[72]
والمطلوب في القاضي الأسري أن يكون عالما بأحكام الأسرة بجميع تفاصيلها كلها فقها وقانونا، لأن رتبة إعمال المقاصد الشرعية تأتي بعد العلم بالأحكام الشرعية وحتى القانونية.
ثالثا: الورع
وهو ترك الشبهات أو التوقف في الأمور والتثبت فيها.[73] ويمكننا أن نزيد عنصر الزهد وعدم قبول الهدايا والرشاوي، حماية لنزاهة القضاء وثقة الناس فيه، وإلا لما انعدمت الثقة في القضاء، وشرع الناس في تفعيل شرع اليد دون اللجوء إليه.
رابعا: جمعه الفقه والحديث
الفرع الثاني: شروط القاضي الأسري الخاصة
فبالإضافة إلى الشروط العامة للقاضي، سنتطرق إلى الحديث عن شروط القاضي الأسري، حتى تكون الأحكام الصادرة عنه تطبق فيها المقاصد أحسن تطبيق ويُرى فيها أثر غايات الشارع والمشرع من التشريع الأسري.
يمكن إجمال هذه الشروط في العلم بمقاصد الأسرة المعتبرة شرعا وقانونا (فقرة أولى)، ودرايته بواقع الناس وخصائصهم، وأهل البلد الذي يسمى بفقه الواقع (فقرة ثانية)، وهي كالآتي:
الفقرة الأولى: العلم بمقاصد الأسرة:
يجب على القاضي الأسري أن يكون عالما بمقاصد الأسرة الكلية والجزئية، الضرورية والحاجية والتحسينية، التي جاءت الشريعة الإسلامية من أجلها الشريعة الإسلامية، ويتوخاها كذلك القانون الوضعي (مدونة الأسرة حاليا). في كل باب من الأبواب الفقهية المتعلقة بالأسرة، وفي كل نص من النصوص الشرعية والقانونية.
قال الإمام الشاطبي رحمه الله في الموافقات: "إنما تحصل درجة الاجتهاد لمن اتصف بوصفين: أحدهما: فهم مقاصد الشريعة على كمالها...".[74]
لكن هذا الشرط رغم أهميته ليس شرطا لبلوغ رتبة الاجتهاد بل هو شرط لصحة الاجتهاد واستقامته.[75]
إذن على القاضي الأسري أن يكون عالما بمقاصد الأسرة العامة والخاصة، بل في كل باب أو كتاب من كتب مدونة الأسرة، ويدرك غايات الشرع في ذلك، ويدرك كذلك غايات المشرع الأسري المغربي من تلك الأحكام، ويدرك مواضع مخالفة المدونة للمذهب المالكي، وغايات ذلك في المخالفة.
وهذا فالعلم بمقاصد الأسرة بالنسبة للقاضي ضروري، حتى يكون موفقا أكثر في أحكامه التي يصدرها، وتكسب القوة القضائية، لأنها مبنية على أساس مقاصدي ومعللة بتعليل مقاصدي، الذي لا يهدف إلا لتحقيق مصالح المتقاضين بالعدل.
الفقرة الثانية: العلم بخصائص المجتمع وعاداتهم وتقاليدهم (فقه الواقع)
وهذا شرط لم يذكره الأصوليون كشرط من شروط الاجتهاد، وهو معرفة المجتهد بالناس والحياة، وذلك أنه لا يجتهد في فراغ، بل في وقائع تنزل بالأفراد والمجتمعات من حوله، وهؤلاء تؤثر في أفكارهم وسلوكهم تيارات وعوامل مختلفة: نفسية وثقافية واجتماعية واقتصادية، وسياسية... فلا بد للمجتهد أن يكون على حظ من المعرفة بأحوال عصره وظروف مجتمعه.[76]
فالواقع إذن هو كل ما ينظم حياة الناس في جميع المجالات، بكل مظاهرها وظواهرها وأعراضها وطوارئها، فهو الفهم العميق لما تدور عليه حياة الناس وما يعترضها وما يوجهها، والفهم العميق للأسس التي تقوم عليها حياتهم وما يعترضها وما يواجهها.[77]
ولقد نقل ابن القيم رحمه الله عن الإمام أحمد أنه قال: "لا ينبغي للرجل أن ينصب نفسه للفتيا حتى يكون فيه خمس خصال: ... والخامسة: معرفة الناس".[78]
وبناء على ذلك، فإنه لا بد للقاضي الأسري أن يكون على دراية بواقع الناس ومراعاة ذلك في الأحكام القضائية، حتى تكون تلك الأحكام معللة تعليلا مقاصديا تتميز بالواقعية لا بالافتراضية تراعي، مصالح العباد، ويكون ذلك الاجتهاد القضائي اجتهادا يقضي بتنزيل الأحكام الشرعية والقانونية تنزيلا حقا يليق بحلول مشاكل المكلفين حلا حقيقيا وواقعيا، ويكون اجتهاد آفاق لا اجتهاد أوراق.
ولا يتأتى ذلك إلا ب:
المطلب الثاني: حاجة القاضي الأسري إلى المقاصد في الاجتهاد القضائي
تواجه القاضي في كل وقت وحين مجموعة من النوازل القضائية، فهو ملزم بالاجتهاد فيها اجتهادا يحقق العدل والمصالح، وهذا لا يتأتى إلا بإعمال المقاصد، وبالتالي تزداد حاجته إلى المقاصد كلما صادف نازلة ليس فيها نص أو وجود نص مع عدم وضوحه وضوحا كافيا لتطبيقه على النازلة.
لذلك سنبين في هذا المطلب حاجة القاضي الأسري إلى المقاصد كآلية من آليات الاجتهاد (فرع أول)، كما سنبين حاجته إلى المقاصد تلبية للمادة 400 من المدونة (فرع ثان).
الفرع الأول: حاجة القاضي الأسري للمقاصد كآلية من آليات الاجتهاد
إن الحاجة إلى المقاصد حاجة دائمة ومستمرة، لأن الوقائع غير محدودة ولا متناهية، والنصوص محدودة متناهية، لأن المجتهد ومنه القاضي، وهو ينظر في النصوص ليطبقها على النازلة المعروضة أمامه، يحتاج إلى تعليل الأحكام تعليلا دقيقا ليجد الوصف المناسب لها ليحسن تنزيله عليها، وحينئذ لا مفر له من إعمال المقاصد إعمالا دقيقا وفق ما يلبي مقاصد المكلفين، وفي نفس الوقت غير مخالف لمقاصد الشارع والمشرع التي من أجلها شرعت، وأراد تحقيقها.
يقول الإمام الشاطبي رحمه الله: "الوقائع في الوجود لا تنحصر فلا يصح دخولها تحت الأدلة المنحصرة، ولذلك احتيج إلى فتح باب الاجتهاد من القياس وغيره من حدوث وقائع لا تكون منصوصا على حكمها، ولا يوجد للأولين فيها اجتهاد".[82]
فنبه الشاطبي على مسألة أن ليس كل الوقائع منصوصا على حكمها، بل إن هناك وقائع مستجدة لا يمكن استنباط حكمها إلا بالاجتهاد فيها باستعمال المقاصد.
لأن المقاصد هي روح الأعمال، والفقه بدون مقاصد فقه بلا روح، والفقيه بلا مقاصد فقيه بلا روح، إن لم نقل إنه ليس بفقيه، كما قال الإمام الشاطبي رحمه الله.[83]
الفرع الثاني: حاجة القاضي الأسري إلى المقاصد طبقا للمادة 400 من المدونة
أمام كثرة النزاعات والنوازل الأسرية، لم يستطع المشرع المغربي الإحاطة بكل جزئيات وتفاصيل النزاعات، بل هو الآخر وضع قواعد عامة منظمة لقضايا الأسرة، فلم يجد بدا من فتح باب الاجتهاد وإعمال المقاصد الذي يحقق قيم العدل والمساواة.
لذلك يجب على القاضي الأسري الالتجاء إلى المقاصد الشرعية، والالتفات إليها عند الحكم، وذلك تطبيقا لفحوى المادة 400 التي توجب ذلك، حيث نصت على أنه: "كل ما لم يرد به نص في هذه المدونة، يرجع فيه إلى المذهب المالكي، والاجتهاد الذي يراعى فيه تحقيق قيم الإسلام في العدل والمساواة والمعاشرة بالمعروف".
حيث إن قيم الإسلام المتمثلة في العدل والمساواة والمعاشرة بالمعروف من أهم المقاصد المرعية في الشريعة الإسلامية في شتى المجالات، سيما المجال الأسري المبني على توازنات محكمة.[84]
وقد يطرح التساؤل حول توجيه المشرع القضاة إلى الفقه المالكي فيما لم يرد به في المدونة؟ فيجاب على هذا أن المذهب المالكي هو مذهب المملكة المغربية الرسمي أولا، ثم إن هذا المذهب من خصائصه: أنه مذهب يتميز بالبعد المقاصدي بامتياز على باقي المذاهب الأخرى.
حيث يعتبر الفقه المالكي من أعمق المذاهب الفقهية فهما لروح الشريعة الإسلامية ومقاصدها، وأبعدها نظرا واعتبارا لمآلاتها، وأكثرها التزاما بمراعاة حكمها وأسرارها عند استنباط الأحكام من نصوصها، وتفريع الفروع عليها، وخاصة ما يتعلق بالضروريات الخمس: الدين، النفس، المال، والعرض، والعقل، فإنه تفوق على كثير من المذاهب الفقهية، في العناية بها والمحافظة عليها، ومنع المساس بها من قريب أو بعيد، وبأي وجه من الوجوه.[85]
المبحث الثاني: المقاصد الشرعية والأحكام والقرارات القضائية: تعبيراتها وصيغها، ومدى تفعيلها
المطلب الأول: المقاصد الشرعية والأحكام والقرارات القضائية: تعبيراتها وصيغها في الأحكام والقرارات القضائية
إن الأحكام والقرارات القضائية لا تكمن جماليتها إلا إذا كانت معللة تعليلا مقاصديا، فالقضاة لما يعللون أحكامهم بهاته المقاصد أحيانا يصرحون بها، وأحيانا يعملونها دون تصريح.
وتتجلى هذه المقاصد في مراعاة المصالح وأحيانا الاستحسان بشروطه (فرع أول)، وأحيانا يعملون على دفع ما يفتح باب الفساد وما يؤدي إليه وهو ما يسمى بسد الذرائع، وأحيانا يعللون أحكامهم بإحدى القواعد الفقهية المقاصدية التي يعبر عنها بالقواعد الكبرى (فرع ثان).
الفرع الأول: المصلحة والاستحسان
سنتحدث في هذا الفرع حول تعبيرين من تعبيرات المقاصد الشرعية التي يمكن أن تراعىى في صياغة الأحكام القضائية، المصلحة في (الفقرة الأولى)، والاستحسان في (الفقرة الثانية).
الفقرة الأولى: المصلحة
أولا: تعريفها
عرفها ابن منظور في لسان العرب على أنها: "المصلحة واحدة المصالح، فكل ما كان فيه نفع سواء بالجلب والتحصيل كالاستحسان والفوائد واللذائذ، أو بالدافع والاتقاء فهو جدير بأن يسمى مصلحة".[87]
ومما يمكن ملاحظته على هذا التعريف أنه الأقرب إلى مجال المقاصد وأصول الفقه منه إلى اللغة، فهو استخدم مفردات اصطلاحية أصولية في التعبير عن مفهوم المصالح لغة.
وجدير بالذكر أن المصلحة هي الأكثر تعبيرا عن المقاصد في الأحكام والقرارات القضائية، خاصة في باب الحضانة. حيث تنص المادة 186 من المدونة "تراعي المحكمة مصلحة المحضون في تطبيق مواد هذا الباب".
ثانيا: أنواعها
تتنوع المصالح إلى أنواع عدة من حيث الزاوية التي ينظر منها إليها، وهي كما صنفها العلماء كالتالي:
ومما يمكن التمثيل لهذا النوع المصاح الفاسدة، الحكم القضائي الصادر عن محكمة طنجة[96]
الفريد من نوعه، والذي يقضي بأن المحكمة الابتدائية قضت بحق الطفلة المولودة خارج إطار الزواج في انتسابها لأبويها البيولوجيين، حيث اعتمدت في تعليلها على الخبرة الطبية التي تفيد صلة المولود بالمدعى عليه، وعلى الاتفاقيات الدولية المتعلقة بحقوق الطفل التي صادق عليها المغرب، من بينها الاتفاقية الصادرة ب 21/06/1993، والاتفاقية الأوروبية بشأن حقوق الطفل الموقعة باستراسبورغ ب 25/01/1996 والتي صادق عليها المغرب في 27/03/2014. وكذا الفصل 36 من الدستور. واستنادا كذلك على الحكم الجنحي رقم: 2012/16/278، الذي يثبت جريمة الفساد المنسوبة إليه، والتي تسببت في ولادة طفلة، وبالتالي قيام المسؤولية المدنية المتمثلة في المسؤولية التقصيرية بالتعويض.
فكان الحكم بما يلي:
الاعتراف بالبنوة دون النسب؛
التعويض للأم بدلا عن النفقة؛
فتم الطعن فيه بالاستيناف وتم تأييد الطعن من طرف استينافية طنجة بتاريخ 09/10/2017 وعللت قرارها بما يلي: "أن الحكم الابتدائي المطعون فيه وإن قضى بثبوت بنوة البنت للمشتكى به طبيعيا، فإن عدم حملها لاسمه العائلي والشخصي، في رسم الولادة، ودون أن تحظى برعايته ماديا ومعنويا كتلك التي يقرها القانون للأبناء الشرعيين يجعل الحكم الابتدائي كالمعدوم... وأن الحكم بالتعويض للأم لا يتوفر على عناصر التعويض لأن الفعل غير مشروع وأن والدة الطفل طرف في هذا العمل... قال ابن حزم في المحلى: ابن الزنا لا يلحق مطلقا بأبيه، فلا يترتب عن البنوة غير الشرعية أي أثر من آثار علاقة القرابة".[97]
فالمحكمة الابتدائية ولو أنها أرادت تحقيق مصلة وهي إلحاق النسب، إلا أن هذه المصلحة فاسدة لكونها تخالف نصوصا شرعية فاصلة في هذا الباب "الولد للفراش وللعاهر الحجر"، ونص المادة 148 من المدونة "لا يترتب على البنوة غير الشرعية أي أثر من آثار البنوة الشرعية"، ولكون القاعدة الفقهية التي تقضي بأن المعدوم شرعا كالمعدوم حسا، ولكونها تفتح الباب على مصراعيه للزنا والفساد، لأن النسب مضمون، والتعويض المالي كذلك مضمون هو الآخر، فوجب سد هذه الذريعة التي تؤدي إلى الفساد، ولما فيه من حفظ الأنساب وصونها من التلاعب فيها التي تعتبر من الضروريات الخمس.
أولهما: المصلحة المتغيرة بتغير الزمان والبيئات والأشخاص؛
وثانيهما: المصلحة الثابتة على مدى الأيام؛
وقد رتب على هذا التقسيم نتيجة في غاية من الأهمية، فقرر أن المصلحة المتغيرة تقدم على النص والإجماع في أبواب المعاملات والعادات.[100]
وفائدة هذا التقسيم أن المصلحة في نظره هو أنه يسمح للقول بتغير الأحكام بتغير المصالح.[101]
الفقرة الثانية: الاستحسان
أولا: مفهومه
سبق أن رأينا تعبيرين من تعبيرات المقاصد في الأحكام والقرارات القضائية: المصلحة والاستحسان، سنرى في هذا الفرع أيضا تعبيرين آخريين من صيغ المقاصد الشرعية هما سد الذرائع في (الفقرة الأولى)، والقواعد الفقهية المقاصدية الكبرى المشهورة بالقواعد الخمس في (الفقرة الثانية).
الفقرة الأولى: سد الذرائع
أولا: تعريفها
و"الذَّرِيعَة": حلقة يتعلم عليها الرامي، وما يستتر به الصائد، والوسيلة إلى الشيء، ج: "ذَرَائِعُ".[105]
وورد في المختار الصحاح: "والذريعة": وقد تذرع فلان بذريعة، أي توسل بوسيلة، والجمع: "الذرائع".[106]
من خلال المعنى اللغوي للذريعة، من معانيها: التوصل إلى الشيء، وهي الوسيلة التي توصلك إلى شيء معين..
وهو المعنى الذي قصده الأصوليون أثناء تعريفهم لسد الذرائع كدليل من الأدلة الشرعية، كما سيأتي في الاصطلاح.
ثانيا: الفرق بين الذريعة والمقدمة والحيلة
والعلاقة بين الذرائع التي يجب سدها وبين الحيل المحرمة، علاقة تلازم في معظم الحالات، حيث عندما تحدث الأئمة الكرام عن الحيل أو الذرائع، ربطوا بينهما ربطا محكما؛ أمثال ابن تيمية وابن القيم والشاطبي، ويمكن أن نفهم من كلامهم أن العلاقة هي علاقة العموم والخصوص من وجه، أي أنهما يلتقيان عندما تكون الذريعة مفضية إلى محرم بقصد. وتتحقق الذريعة دون الحيلة عندما لا يكون هناك قصد.[110]
بمعنى أن الحيلة تتحقق حينما يكون هناك قصد مقصود، والذريعة تتحقق حينما لا يكون هناك قصد مباشر. وكلا منعهما الشرع إذا كانا يؤديان إلى الحرام.
ثالثا: أنواع الذرائع
قسم الشاطبي رحمه الله[111] الذرائع إلى أربعة أقسام:
جاء في إعلام الموقعين عن رب العالمين لابن القيم الجوزية: "ولذا فإن سد الذرائع يمثل الدور الدفاعي والوقائي بالنسبة لمقاصد الشريعة، ولاسيما أن المصلحة ينبغي أن ينظر إليها من جانبين: الوجود والعدم. ولذا فإن جماع المقاصد وقوامها: جلب المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، وهذا يلتقي مع ضرورة النظر في مآلات الأفعال، ويقودنا إلى القول بأن الأخذ بسد الذرائع يمثل سدا لأبواب التحيل على الشرع. ويقودنا هذا إلى القول بأن الأخذ بسد الذرائع يمثل سدا لأبواب التحيل على الشرع، وحسما لمادة الشر والفساد، لعلم الشارع بما جلبت عليه النفوس...، فسد الذرائع يمثل تقويما لمسار المكلفين ومقاصدهم، ويحملهم على أن يوافقوا قصد الشارع في تكاليفه وأحكامه".[113]
الفقرة الثانية: القواعد الفقهية المقاصدية
أولا: تعريف القواعد الفقهية المقاصدية
ثانيا: أهميتها في الاجتهاد القضائي
إن الإحاطة بالقواعد الفقهية يسهل على القاضي جمع شتات الأحكام التي تندرج تحتها، لأنها تجمع أبواب الفقه المتعددة، وتلك الفروع الكثيرة بمناط واحد يقيس بعضها على بعض، ويقربه من معرفة الحكم بشكل أسرع وأدق.
يقول الامام المقري في قواعده: "ولولا هذه القواعد، لبقيت الأحكام الفقهية فروعا مشتتة قد تتعارض ظواهرها دون أصول تمسك بها في الأفكار وتبرز فيها العلل الجامعة وتعين اتجاهاتها التشريعية، وتمهد بينها طريق المقايسة والمجانسة".[118]
وفي الأخير يقول الإمام القرافي رحمه الله في الفروق: "وهذه القواعد مهمة في الفقه، عظيمة النفع، وبقدر الإحاطة بها يعظم قدر الفقيه، وتتضح له مناهج الفتوى، ومن أخذ بالفروع الجزئية، دون القواعد الكلية تناقضت عليه تلك الفروع، واضطربت واحتاج إلى حفظ جزئيات لا تتناهى.
ومن ضبط الفقه بقواعده، استغنى عن حفظ أكثر الجزئيات لاندراجها في الكليات، واتحد عنده ما تناقض عند غيره وتناسب، وأجاب الشاسع البعيد وتقارب، وحصل طلبته في أقرب الأزمان، وانشرح صدره لما أشرق فيه من البيان، فبين المقامين شـأو بعيد، وبين المنزلتين تفاوت شديد".[119]
ثالثا: أمثلة القواعد الفقهية المقاصدية
تبرز المقاصد بشكل أكبر في هذه القواعد الخمس، وهي المعبر عنها بالقواعد الفقهية الكبرى، أو بالقواعد الأمهات، التي يكاد لا يخلو من حاكميتها باب من أبواب الفقه، نظمها أحمد بن أبي كف الولاتي رحمه الله:
فهذه القواعد هي: الأمور بمقاصدها – اليقين لا يزول بالشك – المشقة تجلب التيسير – الضرر يزال - العادة محكمة.
سنعمل على بيان شرح كل قاعدة وسوق مثال لها من الأحكام والقرارات القضائية:
فالعمل إذا تعلق به القصد تعلقت به الأحكام التكليفية، وإذا عري عن القصد لم يتعلق به شيء منها، كفعل النائم والغافل والمجنون.[124]
ومعنى القاعدة: أن الأمر المتيقن منه لا يرتفع بمجرد الشك فيه، إلا إذا تيقن منه باليقين التام، فيكون معنى القاعدة إذن: أن اليقين لا يزول بالشك، وإنما يزول باليقين.
وقال الإمام النووي رحمه الله في شرح هذا الحديث: وهذا الحديث أصل من أصول الإسلام، وقاعدة عظيمة من قواعد الفقه، وهي أن الأشياء يحكم ببقائها على أصولها حتى يتيقن خلاف ذلك، ولا يضر الشك الطارئ عليها.[129]
فالنسب ثابت بالتفاف القرائن على ثبوته، لا يمكن نفيه بمجرد الشكوك فيه إلا بيقين كذلك. وهذا ما نصت عليه المدونة في المادة 151 "يثبت النسب بالظن ولا ينتفي إلا بحكم قضائي"
فالضرر هو: إلحاق مفسدة بالغير، والضرار: مقابلة الضرر بالضرر، فلا يجوز لأحد أن يلحق ضررا ولا ضرارا بآخر، وأسلوب نفي الجنس أبلغ في النهي والزجر.[131]
وقيل إنهما لفظتان بمعنى واحد تكلم بهما جميعا على وجه التأكيد.[132]
وهذه القاعدة من أركان الشريعة، وتشهد لها نصوص كثيرة من الكتاب والسنة، وهي أساس لمنع الفعل الضار، وترتيب نتائجه في التعويض المالي والعقوبة، كما أنها سند لمبدأ الاستصلاح في جلب المنافع ودرء المفاسد، وهي عدة الفقهاء وعمدتهم وميزانهم في طريقة تقرير الأحكام الشرعية للحوادث.[133]
أي كلما وقعت المشقة حسا، جاء التيسير شرعا[136] (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ في الدِّيِن مِنْ حَرَجٍ)[137].
بمعنى أن الله تعالى شاء لعباده رفع الحرج والمشقة عنهم، تخفيفا عنهم، حتى لا يلحقهم المشقة والعنت فيعجزوا عن أداء ما أمروا به.
قال صاحب المجموع المذهب: "يتخرج على هذه القاعدة جميع رخص الشرع وتخفيفاته".[138]
والعادة أيضا: الاستمرار على شيء مقبول الطبع السليم، والمعاودة إليه مرة بعد أخرى، وهي المرادة بالعرف العملي. والمراد بها حينئذ مالا يكون مغايرا لما عليه أهل الدين والعقل المستقيم ولا منكرا في نظرهم.[144]
والمراد من كونها عامة: أن تكون مطردة أو غالبة في جميع البلدان، ومن كونها خاصة: أن تكون كذلك في بعضها، فالاطراد والغلبة شرط لاعتبارها سواء كانت عامة أو خاصة.[145]
وهو ما جاء في القاعدة "إنما تعتبر العادة اطردت أو غلبت"، وقاعدة " العبرة للغالب الشائع لا النادر".[146]
قوله تعالى: (وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَاكُلْ بِالْمَعْرُوفِ).[147]
وقال ﷺ: لهند، (خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بالمعروف).[148]
وورد عن ابن مسعود رضي الله عنه موقوفا (ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن، وما رآه المسلمون قبيحا فهو عند الله قبيح).[149]
المطلب الثاني: المقاصد الشرعية والأحكام والقرارات القضائية: مدى استعمال القضاء الأسري لمقاصد الشريعة في الأحكام والقرارات القضائية
إن القضايا الأسرية ومجال الأسرة هو المجال الخصب لتنزيل المقاصد الشرعية، نسوق في هذا المطلب بعض نماذج من الأحكام والقرارات القضائية سواء لدى محاكم الموضوع (فرع أول)، أو لدى محكمة القانون (فرع ثان)، نرى من خلالها مدى استعمال القاضي المقاصد الشرعية في تعليل الحكم أو القرار القضائي، ومدى توفيقه في ذلك.
الفرع الأول: مدى استعمال محاكم الموضوع للمقاصد الشرعية
رأينا سابقا أن محاكم الموضوع هي محاكم الدرجة الأولى هي المحاكم الابتدائية (أقسام قضاء الأسرة)، ومحاكم الدرجة الثانية هي محاكم الاستيناف (غرفة الأحوال الشخصية)، حسب التنظيم القضائي المغربي.
وسنتحدث عن مدى تطبيق أقسام قضاء الأسرة للمقاصد الشرعية في تعليل أحكامها (فقرة أولى)، ثم عن غرف الأحوال الشخصية بمحاكم الاستيناف (فقرة ثانية).
الفقرة الأولى: لدى أقسام قضاء الأسرة
أولا: الحكم
الوقــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــائع:
بناء على المقال الافتتاحي للدعوى المودع بكتابة ضبط هذه المحكمة بتاريخ 15/09/2022 والمعفى من أداء الرسوم القضائية .... والذي تعرض من خلاله المدعية على أن المدعى عليه -زوجها- ولها منه الابن .....، وأنه توقف عن الإنفاق عليها وعلى ابنها مدة خمس سنوات رغم جميع الطرق الحبية المستعملة معه، ملتمسة الحكم على المدعى عليه بأدائه نفقتها ونفقة ابنها من تاريخ الإمساك، حسب تقدير المحكمة وكسوتهما وواجب الأعياد والمناسبات مع النفاذ المعجل والإجبار في الأقصى.
المرفقات:......
وبناء على المقال الإضافي:....
وبناء على المذكرة الجوابية المدلى بها من طرف المدعي بواسطة نائبه بجلسة 08/11/2022 والتي جاء فيها على أن مقال المدعية مخالف لمقتضيات المادة 1 و 32 من ق م م، بسبب عدم إرفاق مقاله الافتتاحي بنسخة من عقد الزواج، في حين كان عليها الإدلاء بأصله .... بالإضافة إلى أن مقال المدعية جاء خاليا من إثبات ما تدعيه، وأنه كان ينفق عليها طيلة هذه المدة، والثابت فقها وقضاء أن الزوج الحاضر الحائز لزوجته طيلة الفترة التي تطالب فيها بالنفقة يصدق بادعائه الانفاق بعد أن يؤدي اليمين على ذلك.... متلتمسا عدم قبول طلبها في الشكل والموضوع للأسباب أعلاه.
وبناء على ملتمس النيابة العامة الرامي إلى تطبيق القانون.
وبناء على إدراج القضية بعدة جلسات آخرها: .....
وبعد التأمل طبقا للقانون
في الشكل:
في الطلبين الأصلي والإضافي:
حيث التمست المدعية الحكم لها بمصاريف الولادة والتطبيب ومصاريف العقيقة وفق التفصيل الوارد أعلاه.
وحيث إن مقال المدعية جاء مجردا من كل ما يفيد تحملها لأية مصاريف تتعلق بالولادة والتطبيب مما يكون معه طلبها بهذا الخصوص غير مبني على أساس ويتعين عدم قبوله.
وحيث إنه وإن كانت العقيقة من المسائل التي تقتضيها التقاليد والأعراف المغربية والمستقاة من قواعد الشريعة الإسلامية فإن مطالبة المدعية بها دون أن تدلي بما يفيد إنفاقها لأية مصاريف بخصوصها يجعل طلبها هذا غير مؤسس ويتعين عدم قبوله.
وحيث إن باقي الطلب قدم على الصفة والشكل المتطلبين قانونا مما يتعين معه التصريح بقبوله من هذا الجانب.
في الموضوع
في الطلبين الأصلي والإضافي:
حيث تهدف المدعية من طلبها الحكم على المدعى عليه بأدئه لها نفقتها ونفقة ابنها منه من تاريخ الإمساك، الذي هو خمس سنوات مرت من تاريخه حسب تقدير المحكمة وكسوتهما، وواجب الأعياد، والمناسبات، مع النفاذ المعجل والإجبار في الأقصى.
وحيث إن العلاقة الزوجية ثابتة بين الطرفين...
وحيث إن العلاقة الزوجية والقرابة من الأسباب الموجبة للنفقة.
وحيث إن نفقة كل إنسان في ماله إلا الزوجة فنفقتها في مال زوجها، ويقضى بها من تاريخ الإمساك ولا تسقط بمضي المدة.
وحيث أفادت المدعية أن المدعى عليه أمسك عن الإنفاق عليها منذ خمس سنوات ...
وحيث إن المدعى عليه وفي معرض جوابه أوضح على أنه يتردد على بيت الزوجية وحاضر وحائز لزوجته وينفق عليها وعلى ابنها.
وحيث إن المقرر فقها وقضاء أن الأصل هو تواجد الزوجة مع زوجها ببيت الزوجية وإنفاق هذا الأخير عليها وأنه في وفي غياب إثبات المدعية خلاف هذا الأصل بقي ادعاؤها مجردا من أي دليل يجعل القول قول الزوج بيمينه، تطبيقا للقواعد الفقهية في الذهب المالكي: "يبقى القول قول الزوج بيمينه باعتباره حاضرا بالبلد، وإن واقعة الحوز ببيت الزوجية التي تعتبر هب الأصل وتقوم شاهدا عرفيا لصالحه يعضدده بيمينه عملا بقاعدة الاستصحاب والاستمرار إلى أن يثبت ما يخالفه ولقول الشيخ خليل "إن الزوج الحاضر بالبلد يكون القول قوله من غير تفصيل" ولقول البرزلي "القول قول الحائز مما يتعين معه والحالة هذه إلزام الزوج بأداء اليمين على واقعة الانفاق عن المدة من ..... إلى تاريخ صدور هذا الحكم. مع تطبيق قاعدة النكول، وهذا ما دأب عليه اجتهاد محكمة النقض في عدة قرارات؛ منها القرار عدد 514 الصادر ب 27/09/2011 في الملف الشرعي عدد 267/2/1/2010 والذي جاء فيه "من المقرر فقها في باب التنازع في النفقة أن القول قول الزوج الحاضر بيمينه في ادعاء الإنفاق، إذ بمقتضى عقد الزوجية يعتبر الزوج حائزا لزوجته والقول قول الحائز.
الزوج مصدق في ادعائه الانفاق على زوجته حتى تاريخ مغادرتها لبيت الزوجية ما دام القول قوله ما لم يثبت العكس".
وحيث إنه بخصوص نفقة الإبن، فإن الثابت من وثائق الملف أنه لم يسبق للمدعى عليه أن كان موضوع كطالبة بنفقة الإبن وإن لم يثبت للمحكمة تاريخ التوقف عن الإنفاق عليه، ومن ثم فإنها لا تستحق نفقة ابنها إلا من تاريخ تقديم هذه الدعوى....... إلى غاية تاريخ صدور هذا الحكم، بيمين المدعى عليه، ما دام أنه ادعى الحوز والإنفاق، ويبقى طلبها لنفقة الإبن عن الفترة السابقة غير مؤسس لا قانونا ولا شرعا، طالما أن سكوتها عن المطالبة بها يجعلها تسقط بمضي المدة، وهكذا جاء في قرار للمجبس الأعلى عدد 853 بتاريخ 22/09/1987 في الملف عدد 5037/85 "إن نفقة الأولاد إن كانت تسقط بمضي زمنها، لأنها شرعت لسد الخلة كما نص على ذلك الشيخ ليل رحمه الله بقوله في باب النفقة <وسقطت بمضي زمنها> قال شارحها العلامة الدردير لأنها لسد الخلة أي الحاجة وقد سدت بمضي زمنها.
وحيث إنه وما دام إن الثابت من وقائع النازلة ومن تصريح المدعى عليه على انه والمدعية يقيمان ببيت الزوجية وانه لازال ينفق عليها فإن الدعوى تبقى غير محققة والطلب بدون أساس مما يتعين معه إلغاؤه على حالته ابتداء من تاريخ صدور هذا الحكم.
وحيث إن الحكم الصادر بتقدير النفقة يبقى ساري المفعول إلى أن يصدر حكم آخر يحل محله أو يسقط حق المحكوم له بها.
وحيث إن النفقة تشمل الغذاء والكسوة والعلاج وما يعتبر من الضروريات والتعليم للأولاد مع مراعاة أحكام المادة 168 من المدونة
وحيث يراعى في تقدير النفقة ومشتملاتها التوسط والاعتدال ودخل الملزم بالنفقة وحال مستحقها ومستوى الأسعار والأعراف والعادات السائدة في الوسط الذي تفرض فيه النفقة طبقا للمادة 189 من المدونة، ولقول المتحف:
وحيث إن المحكمة بما لها من سلطة تقديرية في هذا الشأن مع مراعاتها للتوسط والاعتدال وحال الطرفين وأخذها بيعن الاعتبار الوضعية المادية للمدعى عليه ارتأت تحديدها وفق الوارد بمنطوق هذا الحكم.
وحيث إن الحكم بتقدير النفقة ساري المفعول إلى أن يصدر حكم آخر يحل محله أو يسقط حق المحكوم له في النفقة (المادة 191 من المدونة).
وحيث إن واجب توسعة الأعياد يتطلب مصاريف زائدة عن المألوف ولطبيعتها الاجتماعية، جرى العمل القضائي على الحكم بها للأبناء دون الزوجات بعد انفصام العلاقة الزوجية، مما يبقى معه طلب المدعية بهذا الخصوص غير مؤسس ويتعين رفضه.
وحيث إن مصاريف الكسوة تعتبر من مشتملات النفقة المنصوص عليها في المادة 189 من المدونة.
وحيث إنه وبخصوص طلب تحديد مدة الإكراه البدني فإنه بالرجوع إلى مقتضيات المادة 636 من ق م ج يتبين أن المبلغ المالي المطلوب الإكراه عليه دين بين الزوج وزوجته وبالتالي لا يجوز الحكم بالإكراه أو تطبيقه مما يتعين معه رفضه.
وحيث يتعين شمول النفقة بالنفاذ المعجل ... الفصل 179 مكرر ق م م.
وحيث إن خاسر الدعوى يتحمل الصائر.....
لهذه الأسباب:
حكمت المحكمة بجلستها العلنية ابتدائيا وحضوريا في حق الطرفين:
في الشكل: بعدم قبول الطلب في الشق المتعلق بمصاريف الولادة والعقيقة والتطبيب وقبوله في الباقي.
في الموضوع: بأداء المدعى عيه ... اليمين الشرعية على أنه كان ينفق على زوجته .... ببيت الزوجية خلال هذه المدة .... وعلى ابنه منها ... كلاهما. فإن حلف برئت ذمته، وإن نكل حلفت المدعية على واقعة عدم الإنفاق، وعليه بأدائه لها نفقتها بحساب 400 درهم شهريا ونفقة ابنها بحساب 300 درهم شهريا، وإن نكلت اعتبر نكولها تصديقا للناكل الأول مع شمول الحكم بالنفاذ المعجل وتحميل المدعى عليه الصائر وبرفض باقي الطلبات.[151]
ثانيا: التعليق
جاء في وقائع هذا الحكم، أن الزوجة المدعية تدعي أن زوجها المدعى عليه توقف عن الإنفاق عليها وعلى ابنها مدة خمس سنوات رغم جميع الطرق السلمية، وأنها تحملت مصاريف العقيقة والتطبيب...، تطلب من خلاله الحكم على المدعى عليه بأداء النفقة لها ولابنها من تاريخ الإمساك (5 سنوات)، حسب تقدير المحكمة وكسوتهما وتوسعة الأعياد والمناسبات مع النفاذ المعجل والإجبار في الأقصى.
إلا أن الزوج تشبت بالإنفاق عليها وعلى ابنها، وأن ما ادعته عاريا عن الصحة والدليل، وأنها في حوزته هي وابنها، ويتردد على بيت الزوجية باستمرار، القرينة الكافية لتفنيد ما ادعته الزوجة.
وجاء في حيثيات هذا الحكم أن المدعية لم تثبت كما ادعته، وأن الأصل في حضور الزوج ببيت الزوجية وحوز زوجته وابنه إليه دليل إنفاق هذا الأخير على بيته وتحمل كافة مصاريفه، إذ يفترض فيه هذا، إلا إذا قام الدليل على خلاف ذلك، وهو الشيء الذي لم تمتلكه الزوجة المدعية، فتعين حينئذ تفنيد ما ادعاه الزوجة، لأنه خلاف الأصل، واستدلت المحكمة بقاصد أصولية مقاصدية وهي قاعدة "الاستصحاب" التي هي أصل قاعدة "اليقين لا يزول بالشك" او "اليقين لا يزول إلا بيقين مثله..." مع اليمين.
بالإضافة إلى أن المحكمة راعت تقدير النفقة في حالة النكول عن اليمين، وبنت تقديرها على "التوسط والاعتدال ودخل الملزم بالنفقة وحال مستحقها ومستوى الأسعار والأعراف والعادات السائدة في الوسط الذي تفرض فيه النفقة".
والمحكمة كانت موفقة في هذا اجتهادها في هذا الحكم -حيث انعدام النص الشرعي والقانوني- وفي تأسيس حكمها على المشهور من المذهب المالكي على قاعدة "الاستصحاب" التي هي أصل من أصول الإمام مالك الستة عشر. فالزوج الحاضر وأمام انعدام ما يثبت عدم إنفاقه وفي مدة لا يستهان بها (5 سنوات)، وأنه لم يسبق أن كان مطلبوبا بالنفقة خلال هذه المدة...، قرائن قوية على افتراض إنفاق الزوج على زوجته وعلى عياله، بالإضافة إلى تعزيز هذه القرائن باليمين، فكانت هذه الحجة قوية كاليقين لما تعززت أكثر باليمين، واليقين لا يزول إلا بالشك والادعاء المجرد، بل يرتفع بيقين مثله.
بالإضافة إلى أنها بنت تحديد النفقة على أساس مستوى الأسعار والأعراف والعادات السائدة، حيث إن مستوى الأسعار تختلف من مكان إلى مكان بل وفي نفس المدينة نجد هذا الاختلاف، وعلى الأعراف والعادات السائدة، والتي بدورها تختلف من مكان إلى آخر، حيث تم تحكيم العرف والعادة كنص بل كدليل، لما فيه من تحقيق مقاصد جليلة لا يضر الزوج ولا المنفق عليهم.
الفقرة الثاني: لدى محاكم الاستيناف
أولا: القرار
"حيث إن المحكمة وبعد اطلاعها على وثائق الملف ودراستها لعلل الحكم المستأنفن وما أثير بشأنه من أسباب تبيم لها صحة ما نعاه الطاعن، ذلك أن هذا الأخير كان قد أدلى على المرحلة الابتدائية بالقرار الاستئنافي عدد 308 الصادر بتاريخ 2010/04/28 في القضية عدد 09/216 والذي قضى بإسقاط حضانة الابن عن والدته المستأنف عليها وبتسلميه لوالده وبإسناد من حضانته له وأن هذا القرار قد تم تنفيذه بحيث أصبح الإبن يعيش تحت كنف والده.
وحيث إن القرار الاستئنافي المذكور وإن كانت ليست قوة الشيء المقضي به فإنه يتوفر على حجية الأمر المقضي به أصبح له أثر قائم بين الطرفين ما لم يلغ أو يعدل وإلى حين ذلك فإن أثره ساري المفعول وقابل للتنفيذ لا يوقفه الطعن بالنقض من حيث ما قضى به وعلى الطرف المستفيد منه أن يواجه الطرف المحكوم عليه بمقتضاه علما بأن إسقاط الحضانة وما يترتب عليه من آثار قانونية وإن كانت تدخل في إطار قضايا الأحوال الشخصية بالمفهوم العام، فإن المقصود بها بمفهوم المادة 361 من ق م م وكذا الفصل 9 من نفس القانون أي هي القضايا التي يوجد فيها نزاع جوهري في الحالات الشخصية مثل إنكار الزوجية وإنكار النسب (قرار المجلس الأعلى عدد 20 بتاريخ 1977/03/16 ملف 55661 والقرار عدد 61 بتاريخ 77/05/24 ملف عدد 57913 مشار إليه بمرجع في اجتهاد المجلس الأعلى ذ إبراهيم زعيم ص: 425)، وعليه فإن ما علل به الحكم المستأنف قضاءه يكون مخالفا للمقتضيات القانونية كذلك.
وحيث إنه من القواعد الفقهية والقضائية أن السبب الواحد لا يمكن أن يعوض عليه مرتين وما دام أن الإبن أصبح يعيش تحت حضانة ونفقة والده الطاعن منذ صدور القرار الاستئنافي المشار إليه أعلاه، وبإقرار المستأنف عليها نفسها أمام الضابطة القضائية ، وحسب محضر الامتنع المؤرخ في 2010/05/06 والذي يثبت منه أن المستأنف عليها امتنعت عن تنفيذ القرار الاستئنافي المشار إليه، الشيء الذي يتوجب معه ترتيب الأثر القانوني للقرار الاستئنافي المذكور ومحضر الامتناع وإقرار المستأنف عليها المضمن بمحضر الضابطة القضائية، وذلك بإسقاط نفقة اللإبن المحددة في مبلغ 600 درهم شهريا، وأجرة سكناه المحددة في مبلغ 466.66 درهم شهريا واجرة حضانته المحددة في مبيلغ 166.66 درهم شهريا عن المستأنف الكل ابتداء من تاريخ 2010/05/18 وهو تاريخ تواجد الابن مع والده حسب إقرار المستأنف عليها المضمن بمحضر الضابطة القضائية تنفيذا للقرار الاستئنافي المشار إلى مراجعه هذا الإقرار الذي يعتبر حجة عليها المضمن بمحضر الضابطة القضائية تنفيذا للقرار الاستئنافي المشار إلى مراجعه. هذا الإقرار يراب أثره القانوني بخصوص تاريخ بداية إسقاط وأجرة الحضانة وواجب السكن عن المستأنف.
وحيث إن ما تمست به المستأنف عليها من كون أجرة السكن وأجرة الحضانة حددت جزافيا للأبناء الثلاثة وليس هناك أي نص قانوني يجيز إنقاص أو خصم جزء من المبالغ المحددة قبلهما فإنه يرد بكون أن المحكمة لما قضت بمبالغ أجرة السكن وأجرة الحضان ةقد راعت عدد الأطفال المطلوب عنهم هذه الواجبات وبالتالي فإن إنقاص أحد ألأطفال من خضوعه لحضانة الأم يستلزم قانونا خصم المبلغ الذي يقابله ونفس الشيء لباقي المستحقات.
وحيث إنه واعتبارا لعلل أعلاه، فإن الحكم المستأنف لما قضى خلاف ما ذكر يكون قد جانب الصواب وتوجب إلغاؤه وفق منطوق القرار.
لهذه الأسباب:
إن محكمة الاستئناف وهي تقضي علنيا حضوريا انتهائيا:
في الشكل: قبول الاستئناف
في الموضوع: بإلغاء الحكم المستأنف وتصديا الحكم من جديد بإسقاط نفقة الإبن المحددة في مبلغ 600 درهم شهريا وأجرة سكناه المحدةة في 466.66 شهريا وأجرة حضانته المحددة في مبلغ 166.66 شهريا الكل ابتداء من 2010/05/18 وبتحميل المستأنف عليها الصائر وإعفائها منه طبقا للقانون.[152]
ثانيا: التعليق
جاء في وقائع هذا القرار أن الحاضنة تم الحكم عليها بإسقاط حضانة الإبن عنها وتم تنفيذ هذا الحكم. وأن الإبن الذي اسقطت حضانته عنها يعيش معه.
المدعي يلتمس من المحكمة إسقاط سريان مفعول نفقة الابن وأجرة الحضانة والسكن، التي تتلقاها الأم الحاضنة، بعد الإسقاط.
محكمة الاستئناف تلغي الحكم الابتدائي المستأنف. وتؤيد ما طلبه الزوج.
محكمة الاستيناف كانت موفقة في قرارها هذا، حيث إن استمرار سريان نفقة الابن لفائدة الأم التي أسقطت حضانتها والتي لا زالت تستفيد من نفقة هذا الإبن، يسبب مشقة للأب، وإعمالا للقاعدة "المشقة تجلب التيسير" أسقطت ما يقابل هذا الطفل من النفقة، وأجرة الحضانة والسكنى، ما دام الطفل تحت كنف أبيه.
الفرع الثاني: لدى محكمة النقض
أولا: القرار
تطليق للشقاق – طلب الزوجة – عدم استحقاق المتعة – تعويض – مسؤولية أحد الزوجين
إن مقتضيات المادة 84 من مدونة الأسرة تتعلق بالطلاق الذي يوقعه الزوج على زوجته، ويراعى فيه أساسه ومدى تعسفه، ومن المقرر فقها كذلك أنه لا متعة في كل فراق تختاره المرأة والمحكمة لما قضت للزوجة بالمتعة رغم أنها هي التي طلبت التطليق للشقاق تكون قد خرقت القانون والفقه المالكي.
وطبقا للمادة 97 من مدونة الأسرة، فإن التعويض يحكم به في الفراق الذي يطلبه أحد الزوجين بسبب مسؤولية الزوج الآخر، والمحكمة لما ردت طلب التعويض من جهة اعتبار الزوج في إطار سلطتها مسؤولا بدوره عن إنهاء العلاقة الزوجية بسببب ما صدر عنه من كلام جارح في حق الزوجة وقد أقر به، ومن جهة أن العذرية لم تشترط في العقد وبالتالي فلا كلام للزوج، بشأنها ولو صدق كما هو مقرر فقها تكون قد طبقت القانون والفقه.
نقض جزئي وإحالة
بسم جلالة الملك وطبقا للقانون
حيث يستفاد من وثائق الملف والقرار المطعون فيه رقم 370/2012 الصادر بتاريخ 10/04/2012 في الملف عدد 963/11 عن محكمة الاستيناف بفاس ادعاء المطلوبة في النقض ... بمقال سجل بتاريخ 07/03/2011 بالمحكمة الابتدائية بنفس المدينة على الطالب ... أنه زوجها وفق الكتاب والسنة، وأن علاقتهما الزوجية لم تعد في وئام بسبب تفاقم الخلافات بينهما، ملتمسة الحكم بتطليقها منه للشقاق، وأجاب الطالب بمذكرة مع مقال مضاد مؤدى عنه بتاريخ 11/04/2011 بأنه ليلة الدخول بالمطلوبة فوجئ بكونها ثيبا ومع ذلك تستر عليها رغبة في استمرار العلاقة الزوجية ملتمسا الحكم له بتعويض مبلغة ستون ألف درهم، وعقبت المطلوبة بمقال إضافي عرضت فيه أنها وقت العقد عليها من الطالب كانت بكرا عذراء، وقد أخبرته بأنها مصابة برحمها وأن غشاء من نوع الغشاء المطاطي الذي لا ينزف عند الدخول، ملتمسة الحكم لها بمستحقات الفراق وبنفقتها ابتداء من تاريخ عقد الزواج بحسب 1000 درهم في الشهر وبأن يرد لها حوائجها، وتمسك الطالب بالإنفاق وباستمرار العلاقة الزوجية وتعذر الصلح ثم قضت المحكمة بتاريخ 02/05/2011 في الملف 768/1607/2011 بتطليق المطلوبة من عصمة زوجها الطالب طلقة واحدة بائنة للشقاق وبأدائه مستحقاتها محددة في مبلغ 8000 درهم من قبل المتعة وفي مبلغ 4500 درهم لقاء كراء عدتها، وبيمينه على أنه كان قائم الإنفاق عليها خلال المدة 25/12/2012 إلى 06/01/2011 فإن حلف برء وإن نكل حلفت واستحقت عن تلك المدة.....
في شأن الوسيلة الأولى: خرق المواد 84 و 85و 97 و400 من مدونة الأسرة، ذلك أن المحكمة قضت بالمتعة رغم أن المطلوبة في النقض هي التي طلبت الفراق مما يعد خرقا للقانون والفقه المالكي ويعرض القرار المعطون فيه للنقض.
حيث صح ما عابته الوسيلة على القرار ذلك إن مقتضات المادة 84 من مدونة الأسرة إنما تتعلق بالطلاق الذي يوقعه الزوج على زوجته ويراعي فيه أسبابه ومدى تعسفه، ومن المقرر فقها كذلك أنه لا متعة في كل فراق تختاره المرأة، كما لابن جزي في كتابه القوانين الفقهية في الفصل 5 من الباب 7 المخصص للعدة والاستبراء وما يتصل بهما، فتكون المحكمة لما قضت للمطلوبة بالمتعة رغم أنها هي التي طلبت التطليق للشقاق قد خرقت المادة المذكورة والفقه المالكي المحرر مما يعرض قرارها للنقض في هذا الخصوص.
الوسيلة الثانية: مستمدة من خرق المادة 97 من مدونة الأسرة ونقصان التعليل الموازي لانعدامه بدعوى أن للمحكمة رفضت الطلب المضاد الرامي إلى نيل التعويض بعلة أن الطالب ساهم بدوره في إنهاء العلاقة الزوجية حينما أنهاها واصدر في حقها كلاما جارحا دون أ، تحدد ما نوع الكلام الجارح، علما أنه صدر عنه كرد فعل ضمني لما علم ليلة الدخول بأن المطلوبة ثيب وتذرعت بأنها مصابة على مستوى رحمها، وأن بكارتها من الغشاء المطاطي الذي لا ينزف من الدم دون أن تثبت ذلك ملتمسا نقض القرار المطعون فيه.
لكن حيث إنه طبقا للمادة 97 من مدونة الأسرة فإن التعويض يحكم به في الفراق الذي يطلبه أحد الزوجين بسبب اعتبار الطالب في إطار سلطتها مسؤولا بدوره عن إنهاء العلاقة الزوجية بسبب ما صدر عنه من كلام جارح في حق المطلوبة وقد أقر به، ومن جهة أن العذرية لم تشترط في العقد، وبالتالي فلا كلام للزوج بشأنها ولو صدق كما هو مقرر فقها فكان ما بالوسيلة غير مؤسس ومردود في هذا الخصوص.
لهذه الأسباب
قضت محكمة النقض بنقض القرار المطعون فيه جزئيا فيما قضى به من متعة.[153]
ثانيا: التعليق
جاء في وقائع هذا القرار أن الزوجة طلبت التطليق للشقاق بسبب تفاقم الخلافات مع زوجها.
لكن الزوج تمسك بكون الزوجة ليلة الدخلة فوج بكونها ثيبا، ومع ذلك تستر على ذلك رغبة في استمرار العلاقة الزوجية، ملتمسا طلب التعويض.
وأضافت الزوجة أنه وقت انعقاد العقد كانت بكرا، وقد أخبرته بأنها مصابة برحمها، وأن غشاء بكارتها من النوع المطاطي، ملتمسة الحكم لها التطليق للشقا، وبمستحقات الفراق.
فحكمت المحكمة الابتدائية بتطليق الزوجة للشقاق -بعد فشل الصلح- والحكم لها بمستحقاتها منها المتعة.
تم الطعن فيه الاستيناف في شأن المتعة لا تستحقها الزوجة لكونها هي من طلبت الفراق، فتم تأييد الحكم الابتدائي، فتم الطعن فيه بالنقض.
محكمة النقض، أيدت الطعن بخصوص المتعة، لكون وجود فراغ تشريعي في المتعة في التطليق للشقاق إن هي طلبت الفراق. فيتعين الرجوع إلى الفقه المالكي.
محكمة النقض كانت موفقة في نقضها هذا الحكم، حيث ارتكزت في نقضها هذا الحكم والقرار معا، أولا على المادة 97 من المدونة "في حالة تعذر الإصلاح واستمرار الشقاق، تثبت ذلك المحكمة في محضر، وتحكم بالتطليق وبالمستحقات طبقا للمواد 83 و 84 و 85 أعلاه، مراعية مسؤولية كل من الزوجين عن سبب الفراق في تقدير ما يمكن أن تحكم به على المسؤول لفائدة الزوج الآخر". وأن المادة 84 من المدونة هي خاصة بالزوج إن كان هو طالب الفراق، فتجب عليه المتعة، فالمادة 84 صريحة في كون المتعة إلزامية حالة طلب الزوج الفراق، وغير إلزامية إن لم يطلب.
فاستغلت هذه الفجوة -في تقدير ما يمكن أن تحكم به على المسؤول لفائدة الزوج الآخر- لتحقيق بعض المقاصد التالية باجتهادها هذا:
وفيه رحمة بالزوج سيجمع عليه ألم الفراق، وألم تحمله دفع المبالغ الباهضة لفائدة الزوجة المتسببة في الفراق.
الحمد لله رب العالمين، الواحد المنفرد المتفرد بصفات الجمال والكمال العليم الحكيم الذي علم الإنسان مالم يعلم، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه ومن سار على دربه إلى يوم الدين.
وبعد:
يعد مجال الأسرة من القضايا التي تنظم شؤون الناس وتنظيم حياتهم ومستقبل المجتمع.
لذلك حرص الإسلام على مجموعة من المبادئ والقوانين الشرعية، وأفرد لها مفهوما شرعيا، وسمى الرابطة التي تجمع بين الزوج والزوجة اللذان يكونان الأسرة بالميثاق الغليظ، "وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقاً غَلِيظًا".[1]
ومنذ فجر الإسلام، أولى العلماء والمجتهدون حرصا شديدا على العناية بالأسرة، سواء من ناحية الحقوق والواجبات، ومن رعاية الأطفال وحفظ حقوقهم وحسن تربيتهم على القيم الإسلامية، أو من ناحية الأحكام التي يصدرها الحاكم أو القاضي المكلف بحل النزاعات بين أفراد الأسرة، إما عن طريق الصلح أو المشورة أو الوعظ أو غير ذلك من الطرق المؤدية إلى الغاية الكبرى من التشريع الأسري، وهو استقرار الأسرة كما نصت عليها مدونة الأسرة في تعريفها للزواج "وإنشاء أسرة مستقرة برعاية الزوجين"[2]، وأيضا حفظ حقوق أفرادها.
وفي عصرنا الحالي ارتأت الدول إلى وضع قوانين وضعية خاصة منها الإسلامية، تستمد أصولها من القرآن الكريم، والسنة النبوية، واجتهادات الفقهاء والقضاة، لحل بعض المشاكل التي حدثت للأسر.
ولما كانت هذه القوانين الوضعية أرضية يعتمد قاضي الأسرة في جميع المشاكل المعروضة عليه، كان من اللازم لهذه القوانين، وكذا الأحكام والقرارات التي تصدرها المحكمة أن تراعي في تعليل الأحكام وتسبيبها المقاصد الشرعية، والتي بدورها تعتبر المرقى الأعلى في تصنيف العلوم الشرعية، لأنها تعطي للأحكام روحا تظهر الغاية من هذا القرار الصادر في هذه المسألة.
لذلك ارتأيت معالجة هذا الموضوع، وأسميته ب "إعمال المقاصد الشرعية في الأحكام والقرارات القضائية الأسرية". خاصة وأن المطلع على الأحكام والقرارات القضائية يظهر من خلال إصدراها أن القاضي استخدم المقاصد، لكن هذا الاستخدام أحيانا يكون صريحا، وأحيانا يكون ضمنيا ينبغي الكف عنه.
أهمية الموضوع:
تتجلى أهمية هذا البحث في النقاط الآتية:- التعريف بالمقاصد الشرعية في المجال القضائي الأسري الزاخر بالمقاصد الشرعية؛
- إبراز العلاقة الرابطة بين موضوع المقاصد الشرعية، ومجال الأسرة، وأثرهما في الأحكام والقرارات القضائية؛
- بيان مجموعة من الصور والنماذج لإعمال مقاصد الشريعة الإسلامية في قضايا الأسرة وخاصة في الجانب القضائي؛
- تمكين القاضي من مجموعة من السبل والصيغ لتفعيل المقاصد الشرعية ومراعاتها في صياغة الأحكام والقرارات القضائية؛
أهداف البحث:
يهدف هذا البحث إلى تحقيق مجموعة من الأهداف الكبرى منها:- التعريف بمجموعة من المفاهيم المؤطرة لموضوع البحث وإبراز خصائصها؛
- تحديد العلاقات التي بين المقاصد الشرعية والأحكام والقرارات القضائية، وكيفية توظيف المقاصد الشرعية في مجال القضاء الأسري؛
- الوصول إلى مدى توفق القاضي الأسري في إعماله وتفعليه للمقاصد الشرعية في مزاولته لمهامه المرتبطة بالمشاكل الأسرية؛
- التعرف على سبل تفعيل المقاصد وصيغها في الأحكام والقرارات القضائية؛
- العمل بالمقاصد الشرعية وتوظيفها وإعطائها الأهمية كما لباقي العناصر الضرورية المكونة للأحكام والقرارات القضائية؛
- جعل المقاصد الشرعية أمرا لا يفارق الأحكام والقرارات القضائية؛
دوافع اختيار الموضوع:
تعود دواعي اختيار هذا الموضوع إلى أسباب مختلفة:- بعضها يعود إلى اهتمامي الشخصي: بمجال المقاصد الشرعية ومجال الأسرة، والمقاصد الجزئية التي تتعلق بالأسرة، وتحليل الأحكام والقرارات القضائية؛
- بعضها يعود إلى أسباب موضوعية: فهذا الموضوع لم أجد من بحث فيه بهذه الكيفية، من إبراز حاجة القضاء إلى المقاصد الشرعية، وبيان الصيغ التي يمكن أن يعبر بها عن المقاصد إما بطريقة صريحة أو بطريقة غير مصرح بها، والكشف عنها مضمنة في الأحكام والقرارات القضائية، فحاولت أن أخوض غمار هذا البحث، رجائي أن أكون قد أسهمت فيه ولو بالقليل في إغناء المكتبة الجامعية.
الدراسات السابقة:
كما هو معلوم أن موضوع المقاصد بصفة عامة، كتب فيه المتقدمون كالإمام الشاطبي رحمه الله في "الموافقات"، والمعاصرون كتابات غزيرة، وأجادوا وأفادوا من قبيل الدكتور أحمد الريسوني في "نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي"، و "الذريعة إلى مقاصد الشريعة"، و "الجمع والتصنيف لمقاصد الشرع الحنيف"، و "مقاصد المقاصد " والدكتور علال الفاسي رحمه الله في "مقاصد الشريعة ومكارمها" إلى غير ذلك.بالإضافة وجود دراسات تتناول موضوع المقاصد بصفة خاصة في مجال الأسرة ككتاب "الأسرة في مقاصد الشريعة الإسلامية قراءة في قضايا الزواج والطلاق في أمريكا"[3] لزينب طه العلواني، حيث تناول هذا الكتاب بعض مقاصد الأسرة في الشريعة، ونظام الأسرة في الإسلام، وفقه الأقليات في بلاد المهجر. لكن هذا الكتاب لم يتناول الأسرة من جانب القضاء.
وصلة بإعمال المقاصد الشرعية في القضاء، توجد بعض الدراسات الأكاديمية في هذا الصدد من قبيل "دور مقاصد الشريعة الإسلامية في إرساء نظام القضاء"[4] لمحمد سمير البردويل، حيث تناول الباحث مقاصد الشريعة في القضاء وأهميته في انتظام الأمة، ولم يخصص بحثه في مجال الأسرة.
وكرسالة بعنوان "إعمال المقاصد الشرعية في القضاء عند علماء الغرب الإسلامي من خلال كتاب مذاهب الحكام للقاضي عياض وابنه محمد"[5] للباحث مسعود داودي، حيث حاول من خلال هذه الرسالة التنظير للمقاصد أهميتها للمفتي والمجتهد إليها عموما، ومناقشة ما ورد في كتاب القاضي عياض من فتاوى، لكنه لم يتعرض للأحكام والقرارات القضائية الأسرية الصادرة عن المحاكم المغربية وإعمال المقاصد الشرعية في تعليلها.
وعلاقة بمجال الأسرة هناك رسالة بعنوان "ضابط المصلحة في مدونة الأسرة"[6] لعبد الكبير توفيق، حيث تناول الباحث المصلحة باعتبارها صيغة من صيغ المقاصد التي تراعى كثيرا في الأحكام والقرارات القضائية، فعمل على استقرائها من نصوص مدونة الأسرة وما سار عليه العمل القضائي، لكنه لم يتناول الصيغ الأخرى للمقاصد التي تستعمل في تعليل الأحكام والقرارات القضائية، الشيء الذي حاولت إضافته في هذا البحث.
صعوبات البحث:
وكأي باحث أكاديمي اعترضتني مجموعة من الصعوبات، وذلك لقلة المصادر التي تتحدث عن موضوع إعمال المقاصد الشرعية وصيغها في الحكام والقرارات القضائية، خاصة في الشق المتعلق ببيان صيغ المقاصد المعمول بها في الأحكام والقرارات القضائية، خاصة التي لم يصرح بها القضاة إنما يعملونها تلقائيا.بالإضافة إلى صعوبة الحصول على الأحكام القضائية الجديدة، حيث إن عددا منها غير منشور، وصعوبة في الوصول إليها من المحكمة مباشرة.
إشكالية البحث:
يروم هذا البحث الإجابة عن إشكالية رئيسية وهي هل يستخدم قاضي الأسرة في تعليله للأحكام والقرارات القضائية، المقاصد الشرعية؟ومن هذا السؤال يمكن أن نطرح أسئلة فرعية أخرى تغني البحث وهي كالآتي:
- ما مفهوم المقاصد الشرعية والأحكام والقرارات القضائية؟
- ما هي المقاصد الشرعية التي يحتاج إليها قاضي الأسرة، وكيف يستفيد منها؟
- ما هي السبل لتفعيل المقاصد الشرعية في تعليل الأحكام والقرارات القضائية؟
- ما هي الشروط التي يجب أن تتوفر في القاضي الأسري ليفعل هذه المقاصد في الأحكام والقرارات القضائية؟
- وكيف يتم الكشف عن المقاصد في الأحكام والقرارات القضائية الصادرة عن قضاة الأسرة؟
منهج البحث
اعتمدت في بحثي مجموعة من المناهج التي تقتضيها طبيعة هذه الدراسة، ومن بينها:- المنهج الوصفي: في جمع المعلومات والبيانات التي تسهم في إغناء هذا البحث؛ (نصوص فقهية وقانونية ومقاصدية، أحكام وقرارات قضائية، إحصائيات...)
- المنهج الاستقرائي: في استقراء بعض الأحكام والقرارات القضائية للنظر في مدى استخدامها للمقاصد من عدمه؛
- المنهج الاستنباطي: في استنباط المقاصد الشرعية من الأحكام والقرارات القضائية؛
- المنهج التحليلي: في تحليل الموضوع ودعمه بنماذج من الأحكام والقرارات القضائية؛
خطة البحث:
من أجل معالجة هذا الموضوع لا بد من تفريغه في قالب منهجي لتقسيم هذا البحث، وفق الآتي:- الفصل الأول: المقاصد الشرعية، والأحكام والقرارات القضائية
- المبحث الأول: المقاصد الشرعية: مفهومها وأقسامها، حجيتها وأهميتها
- المبحث الثاني: الأحكام والقرارات القضائية: مفهومهما، علاقتهما بالمقاصد الشرعية
- الفصل الثاني: المقاصد الشرعية والقضاء الأسري، وسبل تفعيلها في الأحكام والقرارات القضائية
- المبحث الأول: المقاصد الشريعة والقضاء الأسري: شروط القاضي الأسري، وحاجته إلى المقاصد.
- المبحث الثاني: المقاصد الشرعية والأحكام والقرارات القضائية: تعبيراتها وصيغها، ومدى تفعيلها في تعليل الأحكام والقرارات القضائية.
[[1]]url:#_ftnref1 - سورة النساء، الآية 21
[[2]]url:#_ftnref2 - المادة 4 من مدونة الأسرة
[[3]]url:#_ftnref3 - الأسرة في مقاصد الشريعة الإسلامية قراءة في قضايا الزواج والطلاق في أمريكا، زينب طه العلواني، الطبعة الأولى (1434ه/2013م)، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، الولايات المتحدة الأمريكية.
[[4]]url:#_ftnref4 - مقال بعنوان دور مقاصد الشريعة الإسلامية في إرساء نظام القضاء، محمد سيمر البردويل، منشور بالجريدة الإلكترونية الحوار المتمدن العدد 3229 بتاريخ 28/12/2010
[[5]]url:#_ftnref5 - رسالة بعنوان إعمال المقاصد الشرعية في القضاء عند علماء الغرب الإسلامي من خلال كتاب مذاهب الحكام للقاضي عياض وابنه محمد، مسعود داودي، ماستر مقاصد الشريعة الإسلامية عند مالكية الغرب الإسلامي بين النظرية والتطبيق (2013-2014)، جامعة سيدي محمد بن عبد الله كلية الآداب سايس فاس.
[[6]]url:#_ftnref6 - رسالة بعنوان ضابط المصلحة في مدونة الأسرة، عبد الكبير توفيق، ماستر قضاء الأسرة (2021-2022)، جامعة سيدي محمد بن عبد الله كلية الشريعة فاس.
الفصل الأول: المقاصد الشرعية، والأحكام والقرارات القضائية
المبحث الأول: المقاصد الشرعية: مفهومها وأقسامها، حجيتها وأهميتها
سنتناول في هذا المبحث مفهوم المقاصد الشرعية، وأقسامها في (المطلب الأول)، وسنعمل على بيان حجية هذه المقاصد وأهميتها في (المطلب الثاني).
المطلب الأول: المقاصد الشرعية: مفهومها، أقسامها وأنواعها
درج العلماء على تعريف المقاصد الشرعية، وتحديد أقسامها وأنواعها، لتتضح معالم هذا الفن العظيم، ولذلك سنتحدث عن مفهوم المقاصد لغة واصطلاحا (فرع أول)، ثم عن بيان أنواع المقاصد وأقسامها (فرع ثان).
الفرع الأول: مفهوم المقاصد لغة واصطلاحا
ستعرض لتعريف المقاصد لغة في (الفقرة الأولى)، وعن تعريفها في الاصطلاح في (الفقرة الثانية).
الفقرة الأولى: مفهوم المقاصد لغة
جاء في لسان العرب بعض المعاني اللغوية لاشتقاقات المقاصد بصيغ مختلفة:
"القصد: استقامة الطريق، قصد يقصد قصدا فهو قاصد، وقوله تعالى: (وعلى الله قصد السبيل)[1] أي على الله تبيين الطريق المستقيم...
على الحَكَمِ المأتي يوما إذا قضى قَضِيَّته ألا يَجُور ويَعْدل |
والقصد: العدل، قال أبو اللحام التغلبي، ويروى لعبد الرحمن بن الحكم:
والقصد: الاعتماد والأم...
والقصدة من النساء: العظيمة الهامة التي لا يراها أحد إلا أعجبته.
والقاصد: القريب.
والقصيد من الشعر: ما تم شطر أبياته".[2]
وجاء في مقاييس اللغة: عن أصل [قصد]:
"قصد: القاف والصاد والدال أصول ثلاثة يدل أحدهما على إتيان الشيء وأمه، والآخر على اكتناز في الشيء".[3]
ونلاحظ من خلال المعنى اللغوي للمقاصد أو لمادة [قصد] يدور حول: الاستقامة والاعتدال، والسهولة واليسر والقرب، والعدل، والاعتماد والأمُّ بمعنى التوجه، والعظمة ولفت الانتباه..
وهي معان اشتمل عليها مفهوم المقاصد في الاصطلاح، -لأن المعنى الاصطلاحي جزء من عموم المعنى اللغوي- كما سنرى في الفقرة الثانية.
الفقرة الثانية: مفهوم المقاصد اصطلاحا
لم يرد تعريف اصطلاحي مضبوط للمقاصد عند المتقدمين من الأصوليين والفقهاء[4]، وذلك لأن بعضهم كان يتعرض للكلام عن المقاصد تبعا لموضوع آخر في الأصول كالعلل أو المصالح أو غير ذلك.[5]
وقد حاول علماء المقاصد المحدثين كالإمام الطاهر بن عاشور رحمه الله، وعلال الفاسي، والدكتور أحمد الريسوني:
أولا: الطاهر بن عاشور:
عرف المقاصد من زاويتين: المقاصد العامة والمقاصد الخاصة:
- المقاصد العامة: "هي المعاني والحكم الملحوظة للشارع في جميع أحوال التشريع أو معظمها، بحيث لا تختص ملاحظتها بالكون في نوع خاص من أحكام الشريعة، فيدخل في هذا أوصاف الشريعة، وغايتها العامة والمعاني التي لا يخلو التشريع عن ملاحظتها، ويدخل في هذا أيضا معان من الحكم التي ليست ملحوظة في سائر أنواع الأحكام، ولكنها ملحوظة في أنواع كثيرة منها".[6]
- المقاصد الخاصة: "أما المقاصد الخاصة، فيعنى بها: الكيفيات المقصودة للشارع لتحقيق مقاصد الناس النافعة، أو لحفظ مصالحهم العامة في تصرفاتهم الخاصة... ويدخل في ذلك كل حكمة روعيت في تشريع أحكام تصرفات الناس، مثل قصد التوثيق في عقدة الرهن، وإقامة نظام المنزل والعائلة في عقدة النكاح، ودفع الضرر المستدام في مشروعية الطلاق".[7]
كما قد عرفها أستاذ علال الفاسي رحمه الله بقوله: "المراد بمقاصد الشريعة: الغاية منها والأسرار التي وضعها الشارع عند كل حكم من أحكامها".[8]
وهذه هي المعبر عنها بالمقاصد الجزئية التي تهتم ببيان المقصد المتوخى من ذلك الحكم الذي يندرج تحت فصل أو فرع من ذلك الباب الشامل المنظم لذلك الباب.
ومما يمكن التمثيل لهذا النوع من المقاصد، مثلا ما هو المقصد المتوخى من تحمل العادل عن الخطبة خسارة ما قدمه للمخطوبة من هدايا بصدد الخطبة، وهناك أمر مستجد في مدونة الأسرة، ما هو القصد من إثبات النسب الناتج عن الحمل أثناء فترة الخطبة عن طريق الشبهة من خلال المادة 156 من المدونة، وما هو المقصد ف الاجتهاد القضائي الصادر عن محكمة النقض من عدم استحقاق الزوجة للمتعة في التطليق للشقاق إن هي طلبت التطليق؟ وهكذا.
ثالثا: الدكتور أحمد الريسوني
وقد عرفها بقوله: "إن مقاصد الشريعة هي الغايات التي وضعت الشريعة لأجل تحقيقها لمصلحة العباد".[9]
ركز هذا التعريف على قضية تحقيق مصالح العباد، فكأن هذه الشريعة ما جاءت إلا لأجل هذه الغاية الفضلى، وهي مصلحة العباد، أو كل أوامرها جلب مصلحة، وكل نواهيها درء لمفسدة.
وفي الأخير بعد سرد كل هذه التعريفات، نلاحظ أن هذه التعاريف الثلاثة اشتملت على الألفاظ الآتية: المعاني، الحِكم، الكيفيات المقصودة، الغايات، الأسرار، تحقيق مصالح العباد...
وهذه الألفاظ هي الأكثر تعبيرا عن المقاصد لدى المجتهدين، ومن خلالها يمكن أن نعطي تعريفا شاملا للمقاصد -بناء على التعاريف السابقة- على أنها هي: "المعاني والحكم والغايات والأسرار والكيفيات المقصودة للشارع لتحقيق مصالح العباد، وفق الشريعة الإسلامية وما جاء به القانون، وما جاد به الاجتهاد القضائي".
الفرع الثاني: المقاصد الشرعية: أقسامها وأنواعها
قسمت المقاصد باعتبارات مختلفة إلى عدة أقسام حسب الزاوية التي ينظر تناولها كل باحث (مقاصد الابتداء عند الإمام الشاطبي، والمقاصد الأصلية والتبعية، والمقاصد العامة والخاصة، والمقاصد الكلية والمقاصد الجزية، ومقاصد الخطاب ومقاصد المكلفين...).
لكننا سنقتصر على قسمين فقط لارتباطهما بموضوع هذا البحث، المقاصد العامة والخاصة والجزئية في (الفقرة الأولى)، ثم مقاصد الخطاب ومقاصد المكلفين في (الفقرة الثانية).
الفقرة الأولى: المقاصد العامة والخاصة والجزئية
يقول الدكتور أحمد الريسوني في نظريته: كما يمكن -لزيادة الإيضاح- تقسيمها لثلاثة أقسام:
أولا: المقاصد العامة
"هي التي تراعيها الشريعة وتعمل على تحقيقها في كل أبوابها التشريعية، أو في كثير منها كما في الأمثلة المتقدمة عند ابن عاشور وعلال الفاسي... وهذا القسم هو الذي يعنيه غالبا المتحدثون عن مقاصد الشريعة، وظاهر أن بعضه أعم من بعض، وما كان أعم فهو أهم، أي إن المقاصد التي رعيت في جميع أبواب الشريعة أعم وأهم من التي روعيت في كثير أبوابها".[10]
كالقواعد الفقهية الكبرى الخمس، هي تشمل جميع الأبواب.
ثانيا: المقاصد الخاصة
"وأعني بها المقاصد التي تهدف الشريعة إلى تحقيقها في باب معين، أو في أبواب قليلة متجانسة، من أبواب التشريع، ولعل الشيخ ابن عاشور رحمه الله هو خير من اعتنى بهذا القسم من المقاصد"[11]
ثالثا: المقاصد الجزئية
"وهو ما يقصده الشارع من كل حكم شرعي من إيجاب أو تحريم، أو ندب أو كراهة، أو إباحة أو شرط، أو سبب...، وهي التي يشير إليها الأستاذ علال الفاسي بقوله: <الأسرار التي وضعها الله عند كل حكم من أحكامها> وهي التي ينطبق عليها أمثلة الشيخ ابن عاشور من كون عقدة الرهن مقصودها التوثق، وعقدة النكاح مقصودها إقامة المؤسسة العائلية وتثبيتها، ومشروعية الطلاق مقصودها وضع حد للضرر المستمر".[12]
الفقرة الثانية: مقاصد الشارع والمشرع، ومقاصد المكلفين
أولا: مقاصد الشارع: (مقاصد الخطاب ومقاصد الأحكام)
- مقاصد الخطاب
لأن الحكم الشرعي الذي يريد المجتهد أن يصل إليه هو "خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين: اقتضاء أو تخييرا أو وضعا.
فلاستنباط الحكم الشرعي -التكليفي أو الوضعي- من ذلك الخطاب، لا بد من الفهم السليم لذلك الخطاب الذي يتعلق بأفعال المكلفين إما بالوجوب الجازم أو غير الجازم، أو الوضع (الشروط، الأسباب، الموانع)، وعليه ينبني الحكم الشرعي.
- هذا ما ورد في قصة بني قريضة من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال النبي ﷺ لنا لما رجع من الأحزاب: "لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريضة"، فأدرك بعضهم العصر في الطريق، فقال بعضهم: لا نصلي حتى نأتيها، وقال بعضهم: بل نصلي لم يرد منا ذلك، فذكر للنبي ﷺ فلم يعنف واحدا منهم.[14]
- مقاصد الأحكام
يقول الدكتور أحمد الريسوني: "حين نعرف مقصود الخطاب على وجهه الصحيح، محترمين في ذلك قواعد اللغة ومسلمات الشرع وغيرها من الأسس التي يجب اعتمادها في تفسير النصوص الشرعية، حينئذ نكون قد عرفنا مقصود الشرع في خطابه، وعرفنا المقتضى الصحيح لذلك الخطاب، أي ما هو المطلوب منا بمقتضى ذلك الخطاب، ولكن يبقى علينا ونحن نبحث عن المقاصد أن نعرف ما هي الغايات التي يرمي الخطاب الشرعي إلى تحقيقها، وإيصال الناس إليها؟ وما هي الفوائد التي يحققها لنا العمل بمقتضى الحكم الشرعي؟ بعبارة أخرى: ما هي مقاصد ذلك التشريع؟ ... وهذا المستوى من المقاصد أي مقاصد الأحكام، بمعنى الفوائد والنتائج المتوخاة من وراء العمل بالأحكام الشرعية، هو عادة ما يقصده المتحدثون عن مقاصد الشريعة.[16]
ومن الأمثلة التطبيقية لمقاصد الأحكام: مشروعية التعدد في الآية: (فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع).[17]
قد شرع الله تعدد النساء للقادر العادل لمصالح جمة، منها: أن في ذلك وسيلة إلى تكثير عدد الأمة بازدياد المواليد فيها، ومنها أن ذلك يعين على كفالة النساء اللاتي هن أكثر من الرجال في كل أمة، لأن الأنوثة في المواليد أكثر من الذكورة، ولأن الرجال يعرف لهم من أسباب الهلاك في الحروب والشدائد ما لا يعرض له النساء، ولأن النساء أطول أعمارا من الرجال بما فطرهن الله عليه، ومنها أن الشريعة قد حرمت الزنا وضيقت في تحريمه لما يجر عليه من الفساد في الأخلاق والأنساب ونظام العائلات والأنساب ونظام العائلات فناسب أن توسع على الناس في تعدد النساء.[18]
ثانيا: مقاصد المكلفين
هذا الصنف الثاني من المقاصد الذي يقابل مقاصد الخطاب وهو مقاصد المكلفين، وتعني ما يقصده المكلفون في أفعالهم وتصرفاتهم انطلاقا من نياتهم.
والذي ينظر في استعمال العرب لهذه الكلمة "النية" يجد أنها تدور في تصاريفها على القصد، فنجدهم يقولون: "نَوَى الشيء ينويه نيّة...، وانْتَواه: قصده ونَوَى المنزل وانْتَواه، ويقولون: نواك الله بالخير قصدك به، وأوصلك إليه، ثم خصت النية في غالب الاستعمال بعزم القلب على أمر من الأمور.[19]
أما النية في الاصطلاح: فذهب جمع من العلماء إلى تعريف النية بمدلولها اللغوي -العزم والقصد- ومنهم الإمام النووي رحمه الله، قال: "النية هي القصد إلى الشيء، والعزيمة على فعله، ومنه قولهم في الجاهلية: نواك الله بحفظه أي قصدك به. ومنهم القرافي رحمه الله قال: "هي قَصْد الإنسان بقلبه ما يريده بفعله".[20]
وقد روعيت نيات المكلفين ومقاصدهم في المدونة منها:
- مسألة التعدد: تعمد تقديم الزوج عنوان الزوجة خاطئا، حيث تنص الفقرة الثالثة من المادة 43 من المدونة: "إذا كان سبب عدم توصل الزوجة بالاستدعاء ناتجا عن تقديم الزوج بسوء نية لعنوان غير صحيح أو تحريف في اسم الزوجة، تطبق على الزوج العقوبة المنصوص عليها في الفصل 31 من القانون الجنائي بطلب من الزوجة المتضررة".
- الزواج الباطل: الأصل في الزواج الباطل لا يرتب شيئا غير الاستبراء والصداق بعد البناء، لأن المعدوم شرعا كالمعدوم حسا، لكن تترتب عليه بعض الآثار عند حسن النية لحوق النسب وحرمة المصاهرة.. كما تنص على ذلك الفقرة الثانية من المادة 58 من المدونة: "يترتب على هذا الزواج بعد لبناء الصداق والاستبراء، كما يترتب عليه عند حسن النية لحوق النسب وحرمة المصاهرة".
- الزواج الفاسد: حيث إن من بين الحالات التي توجب فسخ الزواج لفساده، هو الزواج بقصد تحليل الزوجة المطلقة ثلاثا لزوجها الأول، حيث تنص المادة 61 من المدونة: "يفسخ الزواج الفاسد لعقده قبل البناء وبعده، وذلك في الحالات الآتية: ... إذا قصد الزوج بالزواج تحليل المبتوتة لمن طلقها ثلاثا...".
- قضية الإكراه التدليس: يتحقق الإكراه والتدليس بسبق سوء نية الشخص مسبقا، ولا يكون إلا عن قصد مقصود، وهو من أحد الأسباب الموجبة لفسخ العقد قبل البناء وبعده، حيث تنص المادة 63 من المدونة: "يمكن للمكره أو المدلس عليه من الزوجين بوقائع كان التدليس بها هو الدافع إلى قبول الزواج أو اشترطها صراحة في العقد، أن يطلب فسخ الزواج قبل البناء وبعده خلال أجل لا يتعدى شهرين من يوم زوال الإكراه، ومن تاريخ العلم بالتدليس مع حقه في طلب التعويض".
المطلب الثاني: المقاصد الشرعية: حجية إعمالها، وأهميتها في العملية الاجتهادية
لقد تم التنصيص على المقاصد كشرط أساسي في المجتهد والاجتهاد، لا من جهة الشارع والمشرع الأسري، لما لها من أهمية كبيرة وفضل كبير في العملية الاجتهاد بصفة عامة والاجتهاد القضائي بصفة خاصة، فبها حققت الشريعة الإسلامية خاصية المرونة، والفقه والقضاء استطاعا أن يجدا حلولا لقضايا ونوازل لم تكن معهودة في السابق، الشيء الذي يطرح التساؤل الآتي: ما حجية إعمال المقاصد في الاجتهاد القضائي؟ (فرع أول)، وما أهمية المقاصد في الاجتهاد القضائي؟ (فرع ثان).
الفرع الأول: حجية إعمالها في العملية الاجتهادية
يثار النقاش حول حجية إعمال المقاصد في الاجتهاد، نورد هنا ما يجيب على ذلك من نصوص الشرع في (الفقرة الأولى)، ومن نصوص القانون الوضعي -مدونة الأسرة- في (الفقرة الثانية).
الفقرة الأولى: حجية إعمالها في العملية الاجتهادية من الشرع
إن الناظر في النصوص الشرعية كلها يجد أنها تضع في مقدمتها مصالح العباد، إما بالتنصيص عليها صراحة أو إشارة في تشريع الأحكام الشرعية، قال الإمام الشاطبي رحمه الله: "... وهي أن وضع الشرائع إنما هو لمصالح العباد في العاجل والآجل"[21]، ومن الأمثلة على ذلك:
- كنفي الحرج عن المكلفين؛ كقوله تعالى: (وما جَعَل عَليْكُم في الدِّين من حَرَج)[22].
- وكجلب المنفعة لهم؛ كقوله تعالى: (ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون)[23]، وكقوله تعالى: (فَمَن يعْمل مِثْقال ذَرَّة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره)[24].
- وتيسير الأمور؛ كقوله تعالى: (لا تكلف نفس إلا وسعها)[25]، وكقوله تعالى: (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها)[26]، (ادفع بالتي هي أحسن)[27].
الفقرة الثانية: حجية إعمالها في العملية الاجتهادية من مدونة الأسرة
إن مدونة الأسرة بدورها تنص على استحضار مقاصد الشريعة السمحة في أحكامها من أجل ترسيخ قيم العدل بين الزوجين واستقرار الأسرة المغربية:
كما جاء في ديباجتها ما يلي: "لقد جعل مولانا أمير المؤمنين، صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله، منذ اعتلائه عرش أسلافه الميامين، النهوض بحقوق الإنسان في صلب المشروع المجتمعي الديمقراطي الحداثي، الذي يقوده جلالته حفظه الله. ومن ذلك إنصاف المرأة، وحماية الطفل، وصيانة كرامة الرجل، في تشبت بمقاصد الإسلام السمحة، في العدل والمساواة والتضامن، واجتهاد وانفتاح على روح العصر ومتطلبات التطور والتقدم".
كما تدعو ديباجة المدونة إلى ضرورة مراعاة مقاصد الشريعة في الاجتهاد "كما حرص جلالته، أعزه الله على تزويد هذه اللجنة باستمرار، بإرشاداته النيرة، وتوجيهاته السامية، بغية إعداد مشروع مدونة الأسرة، مشددا بأحكام الشرع، ومقاصد الإسلام السمحة، وداعيا إلى إعمال الاجتهاد في استنباط الأحكام، مع الاستهداء بما تقتضيه روح العصر والتطور، والتزام المملكة بحقوق الإنسان كما هو متعارف عليها عالميا".
كما توضح هذه الديباجة أن مدونة الأسرة هي مصاغة صياغة فقهية قانونية حديثة، متطابقة مع أحكام الشرع ومقاصد الشريعة "أن هذه المدونة الرائدة، في مقتضياتها وصياغتها بأسلوب قانوني فقهي حديث، متطابقة مع أحكام الإسلام السمحة ومقاصده المثلى، واضعة حلولا متوازنة ومنصفة وعملية، تنم عن الاجتهاد المستنير المتفتح، وتنص على تكريس حقوق الإنسان والمواطنة للمغاربة نساء ورجالا على حد سواء، في احترام للمرجعيات الدينية السماوية".
كما بينت على أنها اعتمدت في تعديلاتها على مقاصد الشرع كتعديل التعدد من أحكام مطلقة إلى تقييده بشروط مثلا: "رابعا: فيما يخص التعدد، فقد راعينا في شأنه الالتزام بمقاصد الإسلام السمحة في الحرص على العدل، الذي جعل الحق سبحانه يقيد إمكان التعدد بتوفيره، في قوله تعالى: (فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة...)، وحيث إنه تعالى نفى هذا العدل بقوله: (ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم)[28].
الفرع الثاني: المقاصد الشرعية: أهميتها في العملية الاجتهادية القضائية
كان الرسول ﷺ هو الذي يفتي ويفصل فيما استجد من حوادث ووقائع، سواء فيما ورد فيه نص أو لم يرد، أو من اجتهاده الخاص.
لكن بموت رسول الله ﷺ، لم يجد الناس أمامهم إلا نصوصا شرعية أحيانا يجدون فيها ما يقضي غرضهم، وأحيانا لا يجدون ما يشفي غليلهم.
وبما أن النصوص الشرعية هي محدودة في استيعابها لسائر الأحداث والنوازل المستجدة، والوقائع لا حد لها ولا حصر، احتاجت الأمة إلى فتح باب الاجتهاد على مصراعيه وتفعيل وسائل استنباط الأحكام الشرعية وأدواتها، لتنزيل النصوص على وقائعها تنزيلا صحيحا، أو استنباط حكم شرعي بناء على عموم تلك النصوص. قال الإمام الشاطبي رحمه الله في الموافقات: "الوقائع في الوجود لا تنحصر فلا يصح دخولها تحت الأدلة المنحصرة، ولذلك احتيج إلى فتح باب الاجتهاد من القياس وغيره من حدوث وقائع لا تكون منصوصا على حكمها، ولا يوجد للأولين فيها اجتهاد".[29]
ومن بين الأدوات المساعدة على الاجتهاد الصحيح، هو إعمال المقاصد أثناء العملية الاجتهادية والنظر في النازلة. فكان للمقاصد الشرعية أهمية كبرى في الاجتهاد، وبالأحرى في الاجتهاد القضائي، الذي يتطلب نوعا من الدقة والوضوح للنطق بالحكم الذي يحقق العدل بين المتخاصمين، وخاصة في القضايا الأسرية التي تعتبر من ضمن القضايا الحساسة ذات الصعوبة في إصدار حكم يلائم الأسرة ككل وليس الزوجين، تجنبا لنشوب العداوات بين الزوجين، أو بين أحد الزوجين والأبناء.
ويمكننا أن نسجل بعض فوائد إعمال المقاصد الشرعية في الاجتهاد:
- تفادي تصادم بين الفروع المستنبطة والأصول الكلية والأهداف العامة للشريعة؛[30]
- منح الاستنباط والاجتهاد قوة ورجحانا أكبر بانضمام الأدلة الكلية إلى الجزئية؛[31]
- التخفيف على المكلفين الكثير من الأعباء، لأنها قائمة على التيسير ورفع الحرج والمشقة وعدم تحمله ما لا يطيق؛[32]
- فتح الباب أمام المجتهدين ليقل الخلاف بينهم ويستمر الاجتهاد دونما توقف، خاصة أمام كل المستجدات والمستحدثات من النوازل التي لم تكن فيما سبق؛[33]
- في مسائل التعارض والترجيح؛
- في مسائل الفهم الصحيح للنصوص الشرعية؛
- في القياس بإلحاق الفروع ببعضها لتشابهها في العلل؛
- فيما لم يرد به دليل، أو نص صريح؛
- في المصالح والمفاسد، وسد الذرائع؛
- في التيسير على المكلفين وجلب المنافع ودرء المفاسد عنهم، ومراعاة مصالهم؛
المبحث الثاني: الأحكام والقرارات القضائية: مفهومهما، علاقتهما بالمقاصد الشرعية
إن الأحكام والقرارات القضائية هي المجال الذي سيطبق فيه القاضي هذه المقاصد، وهو الميدان الذي يبرز فيه القاضي براعته في صناعته للحكم القضائي.
وعليه، سنبين في هذا المبحث مفهوم الأحكام والقرارات القضائية ومكوناتها (المطلب الأول)، كما سنعرج على بيان الفرق بينهما، وعلاقتهما بالمقاصد (المطلب الثاني).
المطلب الأول: الأحكام القضائية والقرارات القضائية: مفهومهما وعناصرهما الأساسية
لدراسة موضوع إعمال مقاصد الشريعة في الأحكام والقرارات القضائية، لا بد من التعرف على مفهوم الأحكام والقرارات القضائية (فرع أول)، وعلى تحديد عناصرهما ومكوناتهما (فرع ثان).
الفرع الأول: الأحكام والقرارات القضائية: مفهومهما
سنبين مفهوم الأحكام القضائية ومميزاتها وأنواعها في (الفقرة الأولى)، ثم مفهوم القرارات القضائية والجهة الصادرة عنها في (الفقرة الثانية).
الفقرة الأولى: مفهوم الأحكام القضائية ومميزاتها وأنواعها
أولا: مفهومها
يعرف الحكم القضائي بأنه "كل ما يصدر عن المحكمة للبت نهائيا في النزاع، أو للأمر باتخاذ إجراء يرمي إلى تهيئة البت النهائي".[34]
والحكم بمعناه الخاص في مذهب الفقه المقارن هو: "القرار الصادر من محكمة مشكلة تشكيلا صحيحا، ومختصة (أو صارت مختصة بعدم الاعتراض على اختصاصها في الوقت المناسب)، في خصومة رفعت إليها وفق قواعد المرافعات، سواء أكان صادرا في موضوع الخصومة أو في شق منه أو في مسألة متفرعة عنه".[35]
ثانيا: مميزاتها
يتميز الحكم القضائي على ما يشبهه بما يلي:
- أنه يصدر من محكمة تتبع جهة قضائية؛
- أنه يصدر بما للمحكمة من سلطة قضائية، أي يصدر في خصومة؛
- وفضلا عن الركنين السابقين، يتعين أن يكون الحكم مكتوبا في الشكل المقرر، شأنه شأن أية ورقة من أوراق المرافعات، وهي جميعها تتصف بالشكلية: solennité ، وبالرسمية: authenticité.[36]
تتنوع الأحكام بحسب الزاوية التي ننظر إليها منها[37]:
- "فمن حيث صدور الأحكام: بحضور أو غياب الأطراف، تتنوع إلى: أحكام حضورية وأحكام غيابية؛
- ومن حيث قابليتها للطعن: إلى أحكام ابتدائية وانتهائية، وأحكام حائزة لقوة الشيء المقضي به، وأحكام نهائية؛
- ومن حيث إمكانية الرجوع في المسائل التي فصلت فيها: إلى أحكام قطعية وغير قطعية؛
وفائدة هذا التنوع في الأحكام، على القاضي أن يراعي مصالح العباد من خلالها، فالأحكام الباتة أو النهائية التي لا يجوز الطعن فيها كالحكم بالتطليق للشقاق مثلا في شقه المتعلق بإنهاء العلاقة الزوجية، ينبغي أن يتحرى كثيرا قبل إصدار الحكم خاصة إذا كانت الطلقة ثالثة، لأنه لا مجال للطعن فيها فيما بعد، عكس الأحكام الانتهائية التي تقبل الطعن بعدها، فهنا يمكن للقاضي أن يتوسع إن ارتأى ذلك.
الفقرة الثانية: مفهوم القرارات القضائية
يسمى قرارا قضائيا ما صدر عن محاكم الدرجة الثانية أو من محكمة النقض[38].
ويقصد بمحاكم الدرجة الثانية: محاكم الاستئناف حسب التنظيم القضائي المغربي.
تتوفر القرارات القضائية على نفس مكونات وعناصر الأحكام القضائية (الوقائع – التعليل – منطوق الحكم).
إلا أن ما يمكن أن نميز به بين القرار القضائي الفاصل في النزاع بين محاكم الاستئناف ومحكمة النقض، أن القرار الصادر عن محاكم الاستئناف يفصل في ذات النزاع لأنها محكمة موضوع، والقرار الصادر عن محكمة النقض يقضي بمدى إصابة أو عدم إصابة المحاكم الدنيا في اجتهادها، ومدى مراعاتها لتطبيق القانون وخاصة القانون الأسري، ومدى مراعاته لمقاصد الإسلام السمحة المتمثلة في قيم العدل، وتطبيق القانون أحسن تطبيق.
الفرع الثاني: الأحكام والقرارات القضائية: مكوناتهما وعناصرهما
إن الأحكام والقرارات القضائية باعتبارها المجال الذي يعمل فيه القاضي، أو هي مجال عمل القاضي، وتطبيق كل أدوات الاجتهاد بما فيها المقاصد الشرعية في استنباط الأحكام وتنزيلها على القضايا والنوازل، يجب أن تتحد فيها عناصر ومكونات؛ استخلاص الوقائع ورقابة محكمة النقض (فقرة أولى)، التعليل ومنطوق الحكم (فقرة ثانية).
الفقرة الأولى: استخلاص الوقائع ورقابة محكمة النقض
سنتحدث عن استخلاص الوقائع كمكون من مكونات الحكم القضائي (أولا)، وعن رقابة محكمة النقض على استخلاص الوقائع (ثانيا).
أولا: استخلاص الوقائع
يقصد بالوقائع: "المسائل التي لا معقب على رأي قاضي الدعوى فيها بوقائع الدعوى وموضوعها".[39]
وقيل هو "السرد التاريخي للنزاع المعروض على المحكمة مع ذكر الأدلة الواقعية والحجج القانونية، وما حصل فيها من إجراءات في جلسة المناقشات والمرافعات، وتكون هذه الوقائع متمشية مع أسباب الحكم ومنطوقه وتؤثر على نتيجة الدعوى".[40]
وتكمن أهمية الوقائع في أنها تبين المراحل التي مرت بها المنازعة، وتعطي فكرة عن مدى التزام القاضي في حكمه بحدود طلبات الأطراف وبالحياد في توجيه الإجراءات وباحترام قواعد الإثبات.[41]
وفي هذا ينص الفصل 50 من قانون المسطرة المدنية:" "تتضمن أيضا الاستماع إلى الأطراف الحاضرين أو إلى وكلائهم وكذا مستنتجات النيابة العامة عند الاقتضاء؛
يشار فيها إلى مستنتجات الأطراف مع تحليل موجز لوسائل دفاعهم والتنصيص على المستندات المدلى بها والمقتضيات القانونية المطبقة...".
وكما هو معلوم أن على القاضي أن يلتزم فقط بالوقائع المفيدة في القضية، ولا يلزم أن يذكر ما لا فائدة فيه في حل ذلك النزاع.
ثانيا: رقابة محكمة النقض على استخلاص الوقائع
من المعلوم أن مسألة استخلاص الوقائع التي سيرتب عليها القاضي اجتهاده -حكما قضائيا- تخضع لسلطته التقديرية، وهذه السلطة تخضع بدورها لرقابة محكمة النقض إن لم يحسن تقدير الوقائع والأحداث.
لأن تلك الوقائع قد تكون تتضمن في حد ذاتها قواعد للإثبات، أو يكون أحد أحداثها هو الفاصل في موضوع الدعوى. كارتكاب بعض الأفعال المخالفة للأخلاق الحميدة بالنسبة للحاضن.
الفقرة الثانية: التعليل ومنطوق الحكم
من بين العناصر الأساسية التي يجب أن تكون في الحكم أو القرار القضائي مسألة التعليل (أولا)، وأخيرا النطق بالحكم (ثانيا).
أولا: التعليل
إن المشرع المغربي لم يتعرض لتعريف التعليل، وإنما عرفه بعض فقه المسطرة المدنية، فجاء فيه عدة تعريفات:
- عرفه الدكتور الطيب برادة: "يراد بتعليل الأحكام تضمينها الأسباب الضرورية التي أفضت إلى وجوده، والأسباب هي الجزء الثاني من ورقة الحكم، وهي التي يجب فيها على المحاكم أن تسبب الأحكام الصادرة عنها، سواء كانت صاحبة الاختصاص العام، أو الهيئات القضائية صاحبة الاختصاص الاستثنائي، وهو يتناول كل حكم قضائي واء تعلق بالواقع أو بالقانون، وسواء كان نهائيا أو مشمولا بالنفاذ المعجل".[42]
- الدكتور عبد الكريم الطالب: "يمكن تعريف التعليل بأنه مرحلة تمهيدية تتضمن الأسس والمقومات التي يبني عليها القاضي حكمه، وبفضلها يتم التوافق بين أجزاء الحكم، إذ يكون منطوقه مسايرا للأسباب والدلائل التي مهدت له".[43]
- أن التعليل له دلالة على أن القاضي قد اطلع فعلا على القضية مشافهة وما أدلى به الخصوم من دلائل وإثباتات، أو لربما ادعاءات؛
- أن التعليل دليل على أن القاضي حكم بناء على ما قدمه الخصوم، أو على نحو ما سمع منهما فقط، دون تدخل منه؛
- أن التعليل دليل على أن القاضي ما أصدر حكما إلا بناء على تفكيك أجزاء القضية، فهي دليل على الفهم واستيعابه لها وكيفها تكييفا صحيحا أولا، وأنه قد أعمل اجتهاده واستعمل سلطته التقديرية بناء على مجموعة معطيات توافرت لديه، وبالتالي استعمال مقاصد الشريعة التي تدعو إلى جلب المصالح، ودرء المفاسد، والتيسير والتخفيف على المكلفين، -دونما مخالفة النصوص القطعية الآمرة- في تعليل هذا الحكم، ولعل هذا هو المقصود من إلزامية تعليل الأحكام.
ثانيا: منطوق الحكم
يعد منطوق الحكم آخر جزء وأهم عنصر من عناصر الحكم أو القرار القضائي، الذي يهدف في الأخير إلى حل النزاع المطروح أمام القاضي.
وقد عرفه بعضهم[45] بأنه:
- "النتيجة التي خلصت إليها المحكمة من أسباب الحكم وهو الخلاصة الموجزة التي تلبي عبارة بناء عليه الواردة في ختام كل حكم".
- وقيل هو: "القرار الذي تتخذه المحكمة وتفصل فيه بناء على ادعاءات الأطراف إما كليا وإما جزئيا، وذلك بعد عبارة فلهذه الأسباب أو من أجله وهي التي تكون مناط التنفيذ، وهي الهدف والمقصود من كلمة الحكم ومن إجراءاته، وقد اصطلح على تسميته في القضاء المغربي، بالمنطوق أو منطوق الحكم، كأن تقول المحكمة: في نهاية حكمها: لهذه الأسباب حكمت المحكمة بإلزام المدعى عليه... بتأديته للمدعي مبلغا قدره... مع تحميله الصائر، أو حكمت المحكمة بإلغاء طلب المدعي ... مع تحميله مصاريف الدعوى".
المطلب الثاني: الأحكام والقرارات القضائية: الفرق بينهما، علاقتهما بالمقاصد
الفرع الأول: الأحكام والقرارات القضائية: الفرق بينهما، فائدة التقسيم
إن الأحكام والقرارات القضائية كلا منهما صادر عن القضاء وعن المحاكم، إلا أن بينهما فرقا من عدة نواح (فقرة أولى)، ويطرح إشكال لم هذا التعدد في هرمية المحاكم في التنظيم القضائي من درجة أولى وثانية وثالثة (فقرة ثانية).
الفقرة الأولى: الفرق بين الأحكام والقرارات القضائية
يتم التمييز بينهما من عدة حيثيات نوردها كالآتي:
- من حيث جهة الإصدار:
- الحكم: يصدر فقط عن المحاكم الابتدائية؛
- القرار: عن محاكم الاستئناف ومحكمة النقض؛
- من حيث طبيعة النظر في قضايا الأسرة:
- محاكم الموضوع: المحاكم الابتدائية (أقسام قضاء الأسرة) ومحاكم الاستئناف.
- محاكم القانون: محكمة النقض.
- من حيث الرقابة والتراتبية:
- المحاكم الابتدائية؛
- ثم محاكم الاستيناف؛
- ثم محكمة النقض؛
وفائدة هذا التقسيم، أن الاقتصار على جهة واحدة قد يضر بمصالح المتقاضين، قد يكون القاضي قد ظهر له من القضية ما ظهر من الصواب وهو في الواقع لم يصب الصواب، فينتقل الأمر إلى المحكمة ثاني درجة، فتنظر في تلك القضية المطعون فيها إما بالتأييد أو بالرفض، وقد تكون هي الأخرى غير صائبة في قرارها، فينتقل الأمر إلى محكمة النقض التي تعتبر محكمة قانون، فتنظر في مدى توفيق قضاة الموضوع في النظر في تلك النازلة ومدى تحكيم النصوص والمقاصد في تنزيلها على القضية أم لا.
وهكذا تصان الأحكام القضائية وتوفر لها ما أمكن لتحقيق العدل بين المتقاضين وما يحقق مصالحهم ويذهب العنت والمشقة عنهم بإقامة العدل، وهذا هو المقصد الأساسي من وجود القضاء.
الفرع الثاني: الأحكام والقرارات القضائية: علاقتهما بالاجتهاد القضائي المقاصدي
إن الأحكام والقرارات القضائية هي عبارة عن مجموعة من وقائع وأحداث تعرض أمام القاضي، فيكون ملزما بالاجتهاد في تلك النازلة اجتهادا مقاصديا (فقرة أولى)، بمحاولته إيجاد الوصف والعلة المناسبة لها مع ما يتوافق مع النصوص الشرعية والتشريعية (فقرة ثانية).
الفقرة الأولى: مفهوم الاجتهاد القضائي المقاصدي
لتعريف الاجتهاد القضائي المقاصدي، لا بد من تجزيء التعريف إلى ثلاثة أشطر: مفهوم الاجتهاد (أولا)، ومفهوم القضاء (ثانيا)، ثم إعطاء تعريف جامع للمعنى الإضافي (ثالثا)، ليتضح مفهوم هذا المصطلح.
أولا: مفهوم الاجتهاد لغة واصطلاحا
- لغة:
و"الجَهد بالفتح": المشقة؛ يقال "جَهد دابته وأَجْهدها"، إذا حمل عليها في السير فوق طاقتها.
و"جَهد الرجل في كذا": أي جد فيه وبالغ.
و"التجاهد": بذل الوسع. اه
بمعنى أن الاجتهاد لا بد فيه من مجهود.
- اصطلاحا:
فقد عرفه الإمام الرازي رحمه الله في المحصول، بقوله: "وأما في عرف الفقهاء فهو استفراغ الوسع في النظر فيما لا يلحقه فيه لوم مع استفراغ الوسع فيه".[48]
وقيل هو في الاصطلاح "بذل الوسع في نيل حكم شرعي عملي بطريق الاستنباط". فقولنا بذل الوسع: يخرج ما يحصل مع التقصير، فإن معنى بذل الوسع أن يحس من نفسه العجز عن مزيد طلب.[49]
ولهذا فإن من لا يستفرغ وسعه يكون مقصرا ولا يعد مجتهدا بالمعنى الشرعي.[50]
وقد بينت هذه التعريفات حقيقة الاجتهاد من حيث إنها استفراغ الوسع وبذل المجهود في استنباط الحكم الشرعي وحتى القضائي. وبما أن القاضي مجتهد فهو ملزم باستفراغ قصارى جهده في الاجتهاد في النظر في القضية لاستنباط الحكم المناسب لها.
ثانيا: مفهوم القضاء
- لغة:
جاء في مختار الصحاح: "القضاء": الحكم، والجمع "الأقضية"، و"القضايا"، و "قضى قضاء": أي حكم، ومنه قوله تعالى: "وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه".[51]
- اصطلاحا
كما جاء في تعريفه: "النظر بين المترافعين له للإلزام وفصل الخصومات"[53]
ومؤدى هذه التعريفات واحد من حيث إن القضاء يتضمن النظر بين المترافعين؛ وهو الاجتهاد في الوصول إلى الحكم، حتى إذا تولد لديه غلبة ظن بحكم أخبر به الخصوم، ولهذا عرفه بعضهم بأنه: "إخبار عن حكم شرعي، أو تبيين للحكم، وهذا الإخبار ملزم، وهو كذلك حكم بين الناس بالحق، وهو كذلك فصل للخصومة".[54]
فبالقضاء تفصل الخصومة وينتهي النزاع، ويصل كل ذي حق إلى حقه، وهذا هو المقصد الأكبر من القضاء.
ثالثا: مفهوم الاجتهاد القضائي المقاصدي
بعد تعريف "الاجتهاد" و "القضاء" وسبق تعريف "المقاصد" في المبحث الأول، آن لنا أن نعرف الاجتهاد القضائي المقاصدي بالمعنى الإضافي.
جاء في تعريف الاجتهاد القضائي ما يلي: "استفراغ القاضي وسعه وطاقته لتحصيل ظن بحكم شرعي فاصل في الخصومة في واقعة متنازع عليها وملزم لأطرافها".[55]
إذن فالاجتهاد القضائي المقاصدي هو: استفراغ القاضي وسعه وطاقته لتحصيل ظن بحكم شرعي، فاصل في الخصومة، في واقعة متنازع عليها، وملزم لأطرافها، وفق المقاصد التي يرمي إليها الشارع والمشرع.
الفقرة الثانية: الأحكام والقرارات القضائية: تعليلها وعلاقتها بالمقاصد
رأينا سابقا أن من بين العناصر الأساسية التي يجب أن يتوفر عليها الحكم أو القرار القضائي هو عنصر التعليل، ويمكننا أن نقول عنه التعليل المقاصدي في الأحكام القضائية، لذلك سنعمل على بيان مفهومه من جهة المقاصد والقانون (أولا)، وعلاقته بمقاصد الشريعة (ثانيا).
أولا: مفهوم التعليل لغة واصطلاحا
- لغة
بمعنى أن العلة تشغل المجتهد شغلا كبيرا وتثقل باله كما يثقل المرض جسد الإنسان، فكذلك المجتهد عندما يعلل حكما في نازلة معينة، فهو أولا يعمل باله وينشغل انشغالا تاما في تلك النازلة، ثم إنه يحس من نفسه الجهد الذهني والفكري قد أثقل باله بإعمال عقله في تلك النازلة. وأرى أنه منه أخذ مصطلح العلة أو التعليل.
- اصطلاحا:
- هو ما يترتب على الفعل من نفع أو ضرر؛ مثل ما يترتب على الزنا من اختلاط الأنساب وما يترتب على القتل من ضياع النفوس وإهدارها، وما يترتب على البيع الذي هو مبادلة مال بمال من نفع كل من المتبادلين، ودفع المشقة عنهما لو لم يتبادلا.
- ما يترتب على تشريع الحكم من مصلحة أو دفع مفسدة؛ كالذي يترتب على إباحة البيع من تحصيل النفع، وما يترتب على تحريم الزنا والقتل وشرع الحد والقصاص من حفظ الأنساب والنفوس.
- هو الوصف الظاهر المنضبط الذي يترتب على تشريع الحكم عنده مصلحة للعباد؛ كنفس الزنا والقتل.
ومرادنا به هنا بيان العلل، وكيفية استخراجها، وهذا قد يكون لأجل القياس، وهو رد فرع إلى أصل لمساواته في علة حكمه، وقد يكون لغير ذلك، بأن يبحث المجتهد في الحادثة المستجدة عن معنى يصلح مناطا لحكم شرعي يحكم به بناء على ذلك المعنى؛ وهو المسمى عندهم بالاستصلاح أو المصالح المرسلة، أو بأن يبحث عن علة الحكم المنصوص لا لتعديته؛ وهو ما سموه بالعلة القاصرة أو بيان الحكمة.[59]
ثانيا: علاقة تعليل الأحكام بالمقاصد
من المعلوم أن القاضي لما تعرض عليه قضية النزاع، فإنه ملزم بالقيام بتفكيك عناصر النزاع وتجزيء عناصره، بتحييث الحكم تحييثا مفصلا، للوصول إلى عمق النزاع الذي عرض عليه.
حيث ينص الفصل 50 من قانون المسطرة المدنية على ما يلي:
"تتضمن أيضا الاستماع إلى الأطراف الحاضرين أو إلى وكلائهم وكذا مستنتجات النيابة العامة عند الاقتضاء؛
يشار فيها إلى مستنتجات الأطراف مع تحليل موجز لوسائل دفاعهم والتنصيص على المستندات المدلى بها والمقتضيات القانونية المطبقة؛
يجب أن تكون الأحكام دائما معللة".[60]
وهذه العملية -تعليل الأحكام- هي روح المقاصد، لأن جميع الأحكام معللة بعلة، وإلا كانت محط اتهام بالعبث واللغط، وحينئذ تكون معرضة للنقض من طرف محكمة النقض.
كما ينص على ذلك الفصل 359 من ق م م: "يجب أن تكون طلبات نقض الأحكام المعروضة على محكمة النقض مبنية على أحد الأسباب التالية: 5-عدم ارتكاز الحكم على أساس قانوني أو انعدام التعليل".
جاء في قرار للمجلس الأعلى (محكمة النقض حاليا) "... حيث ينعى الطالب القرار في السبب بخرق القانون وحقوق الدفاع وبفساد التعليل، ذلك أن محكمة الدرجة الأولى وقفت على حقيقة أساسية وهي أن المطلوبة مقيمة بدولة إسبانبا أي خارج بيت الزوجية الكائن بالمغرب فقضت عن صواب برفض طلبها، غير أن القرار المطعون فيه بالرغم من ذلك استجاب لطلب النفقة رغم نشوز المطعون ضدها مما يجعله على غير أساس وخارقا للقانون مستوجبا النقض".[61]
لذلك كان التعليل -الذي هو روح المقاصد- هو أحد العناصر الأساسية التي يجب أن يتوفر عليه الحكم القضائي، تحت طائلة البطلان والنقض.
الفصل الثاني: مقاصد الشريعة والقاضي الأسري، وسبل تفعيلها في الأحكام والقرارات القضائية
المبحث الأول: مقاصد الشريعة والقاضي الأسري: شروط القاضي الأسري، وحاجته إلى مقاصد الشريعة
إن الأحكام القضائية بدون مقاصد كالجسد بدون روح -كما قال الإمام الشاطبي رحمه الله، فالقاضي الأسري في حاجة ماسة دائما إلى المقاصد كحاجة الجسد لتغذيته بالطعام والشراب، ولأجل هذه الغاية يجب أن تتوفر فيه مجموعة من الشروط ليكون مؤهلا ليكون قاضيا مقاصديا بامتياز، سنعمل على بيانها في (المطلب الأول)، كما سنبين مدى حاجته إلى المقاصد لتذييلها في الأحكام القضائية، وفي عمليته الاجتهادية في (المطلب الثاني).
المطلب الأول: شروط القاضي الأسري العامة والخاصة
قد نص فقهاء الشريعة الإسلامية على الشروط التي يجب توفرها فيمن يتولى القضاء، لما لهذا المنصب من مكانة عظيمة وهو الفصل في المنازعات وإصلاح ذات البين بين الناس مما يجب معه الحزم في الشروط وصرامتها.
يمكن أن نصنف هذه الشروط إلى شروط عامة (فرع أول)، وشروط خاصة بالقضاء الأسري (فرع ثان).
الفرع الأول: شروط القاضي الأسري العامة
وإن الشروط العامة التي اشترطها الفقهاء يكادون يتفقون عليها في الجملة، ويسميها البعض ب "صفات القاضي" لأنها قائمة به.
.................................. ֎֎ وشرطه التكليف والعدالـــــــــة وأن يكون ذكرا حرا سلــــــــــــــــــــــــــــــــم ֎֎ من فقد رؤية وسمع وكلـــــــــــــــم |
وقال بعضهم: "شرائط القضاء عشرة: الإسلام والحرية والذكورة والتكليف والعدالة والبصر والسمع والنطق والكتابة والعلم بالأحكام الشرعية"[62].
فهذه الشروط يمكن تقسيمها إلى قسيمن: شروط صحة (فقرة أولى) وشروط كمال (فقرة ثانية).
الفقرة الأولى: شروط الصحة
وهي الشروط التي لا يصح القضاء إلا بها:
أولا: التكليف
فاشترط فيه التكليف المشتمل على شرطي العقل والبلوغ، لأن غير العاقل وغير البالغ لا يجري عليهما قلم، ولا يتوجه إليهما خطاب، فلا يتعلق بقول واحد منهما حكم على نفسه فأولى على غيره، ولا يكتفي في شرط العقل بالعقل الذي يتعلم به التكليف من علمه بالمدركات الضروريات، بل حتى يكون صحيح التمييز جيد الفطنة بعيدا من السهو والغفلة، حتى يتوصل بذلك إلى وضوح ما أشكل وفصل ما أعضل[63].
فالانسان المكلف يتميز برجاحة العقل وحصافة الرأي، وبعد النظر في الحال والمآل.
ثانيا: العدالة
وهي معتبرة في كل ولاية، والعدالة أن يكون صادق اللهجة، ظاهر الأمانة عفيفا عن المحارم، متوقيا للمآثم، بعيدا عن الريب، مأمونا في الرضى والغضب، مستعملا لمروءة مثله في دينه ودنياه، فإذا تكاملت فيه هذه الخصال، فهي العدالة التي تجوز بها شهادته وتصح معها ولايته، وإن انخرم منها وصف منع من الشهادة والولاية، فلم يسمع له قول ولم ينفذ له حكم"[64]
وقد عرف بن عاصم رحمه الله العدل:
والعدل من يجتنب الكبائر֎֎ ويتقي في الغالب الصغائر |
ولما لهذا الشرط من أهمية كبيرة في مجال القضاء لم يغفل المشرع المغربي هو الآخر التنصيص عليه في النظام الأساسي للقضاة.
فقد جاء في المادة 7 منه في الفقرتين الثانية والثالثة: "يشترط في المترشح لولوج السلك القضائي:
- أن يكون متمتعا بحقوقه المدنية وذا مروءة وسلوك حسن؛
- ألا يكون مدانا قضائيا أو تأديبيا بسبب ارتكابه أفعالا منافية للشرف والمروءة أو حسن السلوك ولو رد اعتباره؛"[65]
ثالثا: الذكورة
واشترطت فيه الذكورة لأن القضاء فرع عن الإمامة العظمى، وولاية المرأة ممتنع لقوله ﷺ: "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة" فكذلك النائب عنه لا يكون امرأة، وبالجملة فمنصب الولاية غير مستحق للنساء[66].
فاشتراطهم الذكورة في القضاء كان معللا بكون القضاء فرعا من عن الإمامة العظمى التي يشترط فيها أن يكون الإمام ذكرا طبقا للحديث النبوي الشريف.
ولعل تأكيد الفقهاء على هذا الشرط كان من باب الحفاظ على هيبة القضاء التي أعطاها الله تعالى للرجل من سمات الحزم والجدية والمنطقية، على خلاف المرأة التي تفتقد فطريا وجينيا لهاته السمات.
لكن أصبح هذا الشرط متجاوزا في عصرنا الحاضر بل أصبح متاحا للمرأة ممارسة القضاء إسوة بالرجل.
رابعا: الحرية
لم يعد الرق موجودا في عصرنا الحاضر.
خامسا: السمع والبصر والكلام
فلا تنفذ أحكام الأعمى والأصم والأبكم[67] وإنما اشترطت السلامة في الأعضاء الثلاثة لعدم تأتي المقصود من الفهم والإبهام لفاقد بعضها فضلا عن كلها.[68]
الفقرة الثانية: شروط الكمال
وهي الشروط التي تصح ولايته بدونها، لكن الأولى وجودها[69].
واستحسنت في حقه الجزالـــــة، ֎֎ .................................. .................................. ֎֎.................................. ويستحب العلم فيه، والورع، ֎֎ مع كونه الحديث للفقه جمع |
وهذه الشروط يمكن إجمالها فيما يلي:
أولا: الجزالة
من جزل فهو جزيل، أي عاقل أصيل الرأي وكأنه أراد لازمها الذي هو جودة الفطنة[70]. والفطنة هي المهارة التي يجب أن تكون متوفرة في القاضي بالإضافة إلى المعارف الشرعية والقانونية، فبها يدرك الظالم من المظلوم، وبها يتوصل إلى حقائق لم يظهرها المدعي ولا المدعى عليه.
ثانيا: العلم
على حذف مضاف أي يستحب غزارة العلم فيه أي زيادته بأن يكون أفضل مقلد وأفضل مجتهد، أو على حذف الصفة كقوله تعالى: (الآن جئت بالحق)[71] أي البين، أي يستحب فيه العلم الموصل للاجتهاد، وأن العلم المستحب علم خاص وهو ما يتوصل به للاجتهاد.[72]
والمطلوب في القاضي الأسري أن يكون عالما بأحكام الأسرة بجميع تفاصيلها كلها فقها وقانونا، لأن رتبة إعمال المقاصد الشرعية تأتي بعد العلم بالأحكام الشرعية وحتى القانونية.
ثالثا: الورع
وهو ترك الشبهات أو التوقف في الأمور والتثبت فيها.[73] ويمكننا أن نزيد عنصر الزهد وعدم قبول الهدايا والرشاوي، حماية لنزاهة القضاء وثقة الناس فيه، وإلا لما انعدمت الثقة في القضاء، وشرع الناس في تفعيل شرع اليد دون اللجوء إليه.
رابعا: جمعه الفقه والحديث
الفرع الثاني: شروط القاضي الأسري الخاصة
فبالإضافة إلى الشروط العامة للقاضي، سنتطرق إلى الحديث عن شروط القاضي الأسري، حتى تكون الأحكام الصادرة عنه تطبق فيها المقاصد أحسن تطبيق ويُرى فيها أثر غايات الشارع والمشرع من التشريع الأسري.
يمكن إجمال هذه الشروط في العلم بمقاصد الأسرة المعتبرة شرعا وقانونا (فقرة أولى)، ودرايته بواقع الناس وخصائصهم، وأهل البلد الذي يسمى بفقه الواقع (فقرة ثانية)، وهي كالآتي:
الفقرة الأولى: العلم بمقاصد الأسرة:
يجب على القاضي الأسري أن يكون عالما بمقاصد الأسرة الكلية والجزئية، الضرورية والحاجية والتحسينية، التي جاءت الشريعة الإسلامية من أجلها الشريعة الإسلامية، ويتوخاها كذلك القانون الوضعي (مدونة الأسرة حاليا). في كل باب من الأبواب الفقهية المتعلقة بالأسرة، وفي كل نص من النصوص الشرعية والقانونية.
قال الإمام الشاطبي رحمه الله في الموافقات: "إنما تحصل درجة الاجتهاد لمن اتصف بوصفين: أحدهما: فهم مقاصد الشريعة على كمالها...".[74]
لكن هذا الشرط رغم أهميته ليس شرطا لبلوغ رتبة الاجتهاد بل هو شرط لصحة الاجتهاد واستقامته.[75]
إذن على القاضي الأسري أن يكون عالما بمقاصد الأسرة العامة والخاصة، بل في كل باب أو كتاب من كتب مدونة الأسرة، ويدرك غايات الشرع في ذلك، ويدرك كذلك غايات المشرع الأسري المغربي من تلك الأحكام، ويدرك مواضع مخالفة المدونة للمذهب المالكي، وغايات ذلك في المخالفة.
وهذا فالعلم بمقاصد الأسرة بالنسبة للقاضي ضروري، حتى يكون موفقا أكثر في أحكامه التي يصدرها، وتكسب القوة القضائية، لأنها مبنية على أساس مقاصدي ومعللة بتعليل مقاصدي، الذي لا يهدف إلا لتحقيق مصالح المتقاضين بالعدل.
الفقرة الثانية: العلم بخصائص المجتمع وعاداتهم وتقاليدهم (فقه الواقع)
وهذا شرط لم يذكره الأصوليون كشرط من شروط الاجتهاد، وهو معرفة المجتهد بالناس والحياة، وذلك أنه لا يجتهد في فراغ، بل في وقائع تنزل بالأفراد والمجتمعات من حوله، وهؤلاء تؤثر في أفكارهم وسلوكهم تيارات وعوامل مختلفة: نفسية وثقافية واجتماعية واقتصادية، وسياسية... فلا بد للمجتهد أن يكون على حظ من المعرفة بأحوال عصره وظروف مجتمعه.[76]
فالواقع إذن هو كل ما ينظم حياة الناس في جميع المجالات، بكل مظاهرها وظواهرها وأعراضها وطوارئها، فهو الفهم العميق لما تدور عليه حياة الناس وما يعترضها وما يوجهها، والفهم العميق للأسس التي تقوم عليها حياتهم وما يعترضها وما يواجهها.[77]
ولقد نقل ابن القيم رحمه الله عن الإمام أحمد أنه قال: "لا ينبغي للرجل أن ينصب نفسه للفتيا حتى يكون فيه خمس خصال: ... والخامسة: معرفة الناس".[78]
وبناء على ذلك، فإنه لا بد للقاضي الأسري أن يكون على دراية بواقع الناس ومراعاة ذلك في الأحكام القضائية، حتى تكون تلك الأحكام معللة تعليلا مقاصديا تتميز بالواقعية لا بالافتراضية تراعي، مصالح العباد، ويكون ذلك الاجتهاد القضائي اجتهادا يقضي بتنزيل الأحكام الشرعية والقانونية تنزيلا حقا يليق بحلول مشاكل المكلفين حلا حقيقيا وواقعيا، ويكون اجتهاد آفاق لا اجتهاد أوراق.
ولا يتأتى ذلك إلا ب:
- فهم الواقع الاجتماعي بتركيباته المعقدة وسماته المتداخلة: وذلك عن طريق الإحاطة بالأعراف الشائعة والعادات المحكمة لفهم البنية الفكرية لأفراد المجتمع، ولهذا اشترط بعض الفقهاء فيمن يتصدى للقضاء أن يكون محيطا بعادات الناس وأعراف البلد، حتى يتسنى له الحكم على أساس البينة والبرهان لا رجما بالغيب، ومن ثم اشترط فقهاء المالكية أن يكون القاضي بلديا (أي ابن البلد)، عارفا بأحوال أهلها وعاداتهم وأعرافهم ومقتضيات ألفاظهم فيما يذهبون إليه ليفهم وجه التنازع، ويحكم بما يتلاءم مع مقتضى الحال.[79]
- الإلمام بالعلوم الإنسانية المعاصرة: بوصفها مفاتيح لتحقيق المناط الخاص في المسائل المستجدة، وأدوات لسبر فقه الواقع على نحو يتيح الفهم العميق للحقائق الواقعة، والتفسير المعقول للظواهر الاجتماعية والاقتصادية والعملية، دون تكلف أو تزيد، فيلزم على هذا استيعاب كل جديد وافد وكل أمر حادث، وتأصيله على المستوى الشرعي تأصيلا سديدا تتوثق من خلاله الصلة بين فقه النص وفقه الواقع فلا تقع القطيعة بينهما.[80]
المطلب الثاني: حاجة القاضي الأسري إلى المقاصد في الاجتهاد القضائي
تواجه القاضي في كل وقت وحين مجموعة من النوازل القضائية، فهو ملزم بالاجتهاد فيها اجتهادا يحقق العدل والمصالح، وهذا لا يتأتى إلا بإعمال المقاصد، وبالتالي تزداد حاجته إلى المقاصد كلما صادف نازلة ليس فيها نص أو وجود نص مع عدم وضوحه وضوحا كافيا لتطبيقه على النازلة.
لذلك سنبين في هذا المطلب حاجة القاضي الأسري إلى المقاصد كآلية من آليات الاجتهاد (فرع أول)، كما سنبين حاجته إلى المقاصد تلبية للمادة 400 من المدونة (فرع ثان).
الفرع الأول: حاجة القاضي الأسري للمقاصد كآلية من آليات الاجتهاد
إن الحاجة إلى المقاصد حاجة دائمة ومستمرة، لأن الوقائع غير محدودة ولا متناهية، والنصوص محدودة متناهية، لأن المجتهد ومنه القاضي، وهو ينظر في النصوص ليطبقها على النازلة المعروضة أمامه، يحتاج إلى تعليل الأحكام تعليلا دقيقا ليجد الوصف المناسب لها ليحسن تنزيله عليها، وحينئذ لا مفر له من إعمال المقاصد إعمالا دقيقا وفق ما يلبي مقاصد المكلفين، وفي نفس الوقت غير مخالف لمقاصد الشارع والمشرع التي من أجلها شرعت، وأراد تحقيقها.
يقول الإمام الشاطبي رحمه الله: "الوقائع في الوجود لا تنحصر فلا يصح دخولها تحت الأدلة المنحصرة، ولذلك احتيج إلى فتح باب الاجتهاد من القياس وغيره من حدوث وقائع لا تكون منصوصا على حكمها، ولا يوجد للأولين فيها اجتهاد".[82]
فنبه الشاطبي على مسألة أن ليس كل الوقائع منصوصا على حكمها، بل إن هناك وقائع مستجدة لا يمكن استنباط حكمها إلا بالاجتهاد فيها باستعمال المقاصد.
لأن المقاصد هي روح الأعمال، والفقه بدون مقاصد فقه بلا روح، والفقيه بلا مقاصد فقيه بلا روح، إن لم نقل إنه ليس بفقيه، كما قال الإمام الشاطبي رحمه الله.[83]
الفرع الثاني: حاجة القاضي الأسري إلى المقاصد طبقا للمادة 400 من المدونة
أمام كثرة النزاعات والنوازل الأسرية، لم يستطع المشرع المغربي الإحاطة بكل جزئيات وتفاصيل النزاعات، بل هو الآخر وضع قواعد عامة منظمة لقضايا الأسرة، فلم يجد بدا من فتح باب الاجتهاد وإعمال المقاصد الذي يحقق قيم العدل والمساواة.
لذلك يجب على القاضي الأسري الالتجاء إلى المقاصد الشرعية، والالتفات إليها عند الحكم، وذلك تطبيقا لفحوى المادة 400 التي توجب ذلك، حيث نصت على أنه: "كل ما لم يرد به نص في هذه المدونة، يرجع فيه إلى المذهب المالكي، والاجتهاد الذي يراعى فيه تحقيق قيم الإسلام في العدل والمساواة والمعاشرة بالمعروف".
حيث إن قيم الإسلام المتمثلة في العدل والمساواة والمعاشرة بالمعروف من أهم المقاصد المرعية في الشريعة الإسلامية في شتى المجالات، سيما المجال الأسري المبني على توازنات محكمة.[84]
وقد يطرح التساؤل حول توجيه المشرع القضاة إلى الفقه المالكي فيما لم يرد به في المدونة؟ فيجاب على هذا أن المذهب المالكي هو مذهب المملكة المغربية الرسمي أولا، ثم إن هذا المذهب من خصائصه: أنه مذهب يتميز بالبعد المقاصدي بامتياز على باقي المذاهب الأخرى.
حيث يعتبر الفقه المالكي من أعمق المذاهب الفقهية فهما لروح الشريعة الإسلامية ومقاصدها، وأبعدها نظرا واعتبارا لمآلاتها، وأكثرها التزاما بمراعاة حكمها وأسرارها عند استنباط الأحكام من نصوصها، وتفريع الفروع عليها، وخاصة ما يتعلق بالضروريات الخمس: الدين، النفس، المال، والعرض، والعقل، فإنه تفوق على كثير من المذاهب الفقهية، في العناية بها والمحافظة عليها، ومنع المساس بها من قريب أو بعيد، وبأي وجه من الوجوه.[85]
المبحث الثاني: المقاصد الشرعية والأحكام والقرارات القضائية: تعبيراتها وصيغها، ومدى تفعيلها
المطلب الأول: المقاصد الشرعية والأحكام والقرارات القضائية: تعبيراتها وصيغها في الأحكام والقرارات القضائية
إن الأحكام والقرارات القضائية لا تكمن جماليتها إلا إذا كانت معللة تعليلا مقاصديا، فالقضاة لما يعللون أحكامهم بهاته المقاصد أحيانا يصرحون بها، وأحيانا يعملونها دون تصريح.
وتتجلى هذه المقاصد في مراعاة المصالح وأحيانا الاستحسان بشروطه (فرع أول)، وأحيانا يعملون على دفع ما يفتح باب الفساد وما يؤدي إليه وهو ما يسمى بسد الذرائع، وأحيانا يعللون أحكامهم بإحدى القواعد الفقهية المقاصدية التي يعبر عنها بالقواعد الكبرى (فرع ثان).
الفرع الأول: المصلحة والاستحسان
سنتحدث في هذا الفرع حول تعبيرين من تعبيرات المقاصد الشرعية التي يمكن أن تراعىى في صياغة الأحكام القضائية، المصلحة في (الفقرة الأولى)، والاستحسان في (الفقرة الثانية).
الفقرة الأولى: المصلحة
أولا: تعريفها
- لغة:
عرفها ابن منظور في لسان العرب على أنها: "المصلحة واحدة المصالح، فكل ما كان فيه نفع سواء بالجلب والتحصيل كالاستحسان والفوائد واللذائذ، أو بالدافع والاتقاء فهو جدير بأن يسمى مصلحة".[87]
ومما يمكن ملاحظته على هذا التعريف أنه الأقرب إلى مجال المقاصد وأصول الفقه منه إلى اللغة، فهو استخدم مفردات اصطلاحية أصولية في التعبير عن مفهوم المصالح لغة.
- اصطلاحا:
- عرفها الإمام الغزالي بأنها: "أما المصلحة فهي عبارة في الأصل عن جلب منفعة أو دفع مضرة، ولسنا نعني به ذلك، فإن جلب المنفعة، ودفع المضرة مقاصد الخلق، وصلاح الخلق في تحصيل مقاصدهم، لكنا نعني بالمصلحة: المحافظة على مقصود الشارع، ومقصود الشارع من الخلق خمسة: وهو أن يحفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم، فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة ودفعه مصلحة".[88]
- وقد عرفها العز بن عبد السلام في معرض حديثه عن المصلحة أن: "المصالح أربعة أنواع: اللذات وأسبابها، والأفراح وأسبابها، والمفاسد أربعة أنواع: الآلام وأسبابها، والغموم وأسبابها".[89]
- وعرفها الإمام الشاطبي، حيث قال: "المراد بالمصلحة عندنا ما فهم رعايته في حق الخلق من جلب المصالح ودرء المفاسد على وجه لا يستقل العقل بدركه على حال".[91]
- وعرفها الطاهر بن عاشور بأنها: "وصف للفعل يحصل به الصلاح، أي النفع منه دائما أو غالبا".[92]
وجدير بالذكر أن المصلحة هي الأكثر تعبيرا عن المقاصد في الأحكام والقرارات القضائية، خاصة في باب الحضانة. حيث تنص المادة 186 من المدونة "تراعي المحكمة مصلحة المحضون في تطبيق مواد هذا الباب".
ثانيا: أنواعها
تتنوع المصالح إلى أنواع عدة من حيث الزاوية التي ينظر منها إليها، وهي كما صنفها العلماء كالتالي:
- من حيث اعتبار الشارع والمشرع لها:
- القسم الأول: أما ما شهد الشرع لاعتبارها فهي حجة، ويرجع صاحبها إلى القياس، وهو اقتباس الحكم من معقول النص والإجماع... ومثاله حكمنا أن كل من أسكر من مشروب أو مأكول فيحرم قياسا على الخمر، لأنها حرمت لحفظ العقل الذي هو مناط التكليف، فتحريم الشرع الخمر دليل على ملاحظته للمصلحة.
- القسم الثاني: ما شهد الشرع لبطلانها [بنص معين]، ومثاله: قول بعض العلماء لبعض الملوك، لما جامع في نهار رمضان: إن عليك صوم شهرين متتابعين، فلما أنكر عليه حيث لم يأمره بإعتاق رقبة مع اتساع ماله، قال لو أمرته بذلك لسهل عليه واستحقر إعتاق رقبة في جنب قضاء شهوته، فكانت المصلحة إيجاب الصوم لينزجر به، فهذا قول باطل ومخالفة لنص الكتاب بالمصلحة وفتح هذا الباب يؤدي إلى تغيير جميع حدود الشرائع ونصوصها بسبب تغير الأحوال.
ومما يمكن التمثيل لهذا النوع المصاح الفاسدة، الحكم القضائي الصادر عن محكمة طنجة[96]
الفريد من نوعه، والذي يقضي بأن المحكمة الابتدائية قضت بحق الطفلة المولودة خارج إطار الزواج في انتسابها لأبويها البيولوجيين، حيث اعتمدت في تعليلها على الخبرة الطبية التي تفيد صلة المولود بالمدعى عليه، وعلى الاتفاقيات الدولية المتعلقة بحقوق الطفل التي صادق عليها المغرب، من بينها الاتفاقية الصادرة ب 21/06/1993، والاتفاقية الأوروبية بشأن حقوق الطفل الموقعة باستراسبورغ ب 25/01/1996 والتي صادق عليها المغرب في 27/03/2014. وكذا الفصل 36 من الدستور. واستنادا كذلك على الحكم الجنحي رقم: 2012/16/278، الذي يثبت جريمة الفساد المنسوبة إليه، والتي تسببت في ولادة طفلة، وبالتالي قيام المسؤولية المدنية المتمثلة في المسؤولية التقصيرية بالتعويض.
فكان الحكم بما يلي:
الاعتراف بالبنوة دون النسب؛
التعويض للأم بدلا عن النفقة؛
فتم الطعن فيه بالاستيناف وتم تأييد الطعن من طرف استينافية طنجة بتاريخ 09/10/2017 وعللت قرارها بما يلي: "أن الحكم الابتدائي المطعون فيه وإن قضى بثبوت بنوة البنت للمشتكى به طبيعيا، فإن عدم حملها لاسمه العائلي والشخصي، في رسم الولادة، ودون أن تحظى برعايته ماديا ومعنويا كتلك التي يقرها القانون للأبناء الشرعيين يجعل الحكم الابتدائي كالمعدوم... وأن الحكم بالتعويض للأم لا يتوفر على عناصر التعويض لأن الفعل غير مشروع وأن والدة الطفل طرف في هذا العمل... قال ابن حزم في المحلى: ابن الزنا لا يلحق مطلقا بأبيه، فلا يترتب عن البنوة غير الشرعية أي أثر من آثار علاقة القرابة".[97]
فالمحكمة الابتدائية ولو أنها أرادت تحقيق مصلة وهي إلحاق النسب، إلا أن هذه المصلحة فاسدة لكونها تخالف نصوصا شرعية فاصلة في هذا الباب "الولد للفراش وللعاهر الحجر"، ونص المادة 148 من المدونة "لا يترتب على البنوة غير الشرعية أي أثر من آثار البنوة الشرعية"، ولكون القاعدة الفقهية التي تقضي بأن المعدوم شرعا كالمعدوم حسا، ولكونها تفتح الباب على مصراعيه للزنا والفساد، لأن النسب مضمون، والتعويض المالي كذلك مضمون هو الآخر، فوجب سد هذه الذريعة التي تؤدي إلى الفساد، ولما فيه من حفظ الأنساب وصونها من التلاعب فيها التي تعتبر من الضروريات الخمس.
- القسم الثالث: مالم يشهد له من الشرع بالبطلان ولا بالاعتبار نص معين وهذا في محل النظر.
- من حيث قوتها في ذاتها:
- من حيث العموم والخصوص:
- من حيث الثبات والتغير
أولهما: المصلحة المتغيرة بتغير الزمان والبيئات والأشخاص؛
وثانيهما: المصلحة الثابتة على مدى الأيام؛
وقد رتب على هذا التقسيم نتيجة في غاية من الأهمية، فقرر أن المصلحة المتغيرة تقدم على النص والإجماع في أبواب المعاملات والعادات.[100]
وفائدة هذا التقسيم أن المصلحة في نظره هو أنه يسمح للقول بتغير الأحكام بتغير المصالح.[101]
الفقرة الثانية: الاستحسان
أولا: مفهومه
- لغة:
- اصطلاحا:
- "الاستحسان هو العدول عن حكم الدليل إلى العادة والمصلحة؛
- الاستحسان هو دليل ينقدح في نفس المجتهد ويعسر عليه التعبير عنه؛
- الاستحسان هو العدول عن قياس إلى قياس أقوى؛
- الاستحسان هو تخصيص قياس بأقوى منه؛
- الحكم الذي ينقدح في نفس المجتهد ويعسر عليه التعبير عن دليله: لأن الظاهر أن المقصود منه أن المجتهد لم يقتنع بعد بذلك الدليل الذي انقدح في نفسه وما يزال يشك فيه، وهذا غير مقبول أبدا، لأن الأحكام لا تثبت بمجرد الاحتمال.
- اتباع العادة التي جرى عليها الناس بعد عصر النبوة والصحابة مع مخالفتها للدليل الشرعي: وهذا غير مقبولة أيضا، لأن الأحكام الشرعية لا تثبت عن طريق جريان الناس على عادة ما، ما لم تكن موافقة للقرآن والسنة أو للإجماع أو للقياس"[104].
سبق أن رأينا تعبيرين من تعبيرات المقاصد في الأحكام والقرارات القضائية: المصلحة والاستحسان، سنرى في هذا الفرع أيضا تعبيرين آخريين من صيغ المقاصد الشرعية هما سد الذرائع في (الفقرة الأولى)، والقواعد الفقهية المقاصدية الكبرى المشهورة بالقواعد الخمس في (الفقرة الثانية).
الفقرة الأولى: سد الذرائع
أولا: تعريفها
- لغة:
و"الذَّرِيعَة": حلقة يتعلم عليها الرامي، وما يستتر به الصائد، والوسيلة إلى الشيء، ج: "ذَرَائِعُ".[105]
وورد في المختار الصحاح: "والذريعة": وقد تذرع فلان بذريعة، أي توسل بوسيلة، والجمع: "الذرائع".[106]
من خلال المعنى اللغوي للذريعة، من معانيها: التوصل إلى الشيء، وهي الوسيلة التي توصلك إلى شيء معين..
وهو المعنى الذي قصده الأصوليون أثناء تعريفهم لسد الذرائع كدليل من الأدلة الشرعية، كما سيأتي في الاصطلاح.
- اصطلاحا
ثانيا: الفرق بين الذريعة والمقدمة والحيلة
- الفرق بين الذريعة والمقدمة
- الفرق بين الذريعة والحيلة
والعلاقة بين الذرائع التي يجب سدها وبين الحيل المحرمة، علاقة تلازم في معظم الحالات، حيث عندما تحدث الأئمة الكرام عن الحيل أو الذرائع، ربطوا بينهما ربطا محكما؛ أمثال ابن تيمية وابن القيم والشاطبي، ويمكن أن نفهم من كلامهم أن العلاقة هي علاقة العموم والخصوص من وجه، أي أنهما يلتقيان عندما تكون الذريعة مفضية إلى محرم بقصد. وتتحقق الذريعة دون الحيلة عندما لا يكون هناك قصد.[110]
بمعنى أن الحيلة تتحقق حينما يكون هناك قصد مقصود، والذريعة تتحقق حينما لا يكون هناك قصد مباشر. وكلا منعهما الشرع إذا كانا يؤديان إلى الحرام.
ثالثا: أنواع الذرائع
قسم الشاطبي رحمه الله[111] الذرائع إلى أربعة أقسام:
- ما يكون أداؤه إلى المفسدة قطعا: كحفر البئر خلف باب الدار في الظلام، حيث يقع الداخل فيه حتما، وهذا ممنوع وتعد يوجب الضمان.
- ما يكون أداؤه إلى المفسدة نادرا: كحفر البئر بموضع لا يؤدي غالبا إلى وقوع أحد فيه، وبيع الأغذية التي غالبها ولا تضر أحدا، وهذا مأذون فيه، لأن الشارع أناط الأحكام بغلبة المصلحة، لا بحسب ندرتها ولا توجد في العادة مصلحة خالية في الجملة من المفسدة.
- ما يكون أداؤه إلى المفسدة كثيرا لا نادرا: ويغلب على الظن إفضاؤه إلى الفساد كبيع السلاح إلى أهل الحروب وبيع العنب إلى الخمار ونحوهما، وهذا ممنوع لأن الظن الغالب لا يلحق بالقطعي لرجحانه، ولما فيه من التعاون على الإثم والعدوان.
- أن يكون أداؤه إلى المفسدة كثيرا لا غالبا ولا نادرا: كبيوع الآجال وهي البيوع الصحيحة في الظاهر المتخذة جسرا إلى الربا في الحقيقة والباطن، وهي ممنوعة حرام رأي المالكية والحنابلة، لأنها تؤدي إلى الربا كثيرا لا غالبا ولا نادرا.
- أن يكون إفضاء الذريعة إلى المفسدة باليقين أو الظن الغالب، وأن يكون ذلك كثيرا، فلا عبرة بالشكوك، ولا بالندرة، بل يجب للقول بالحرمة أن تكون مفسدتها راجحة وكثيرة، لأن الأصل في الأشياء الإباحة.
- أن تكون المفسدة التي تفضي إليها الذريعة أرجح من مصلحتها وليست مجرد مفسدة مرجوحة أو موهومة.
- أن يتم الأمران السابقان من خلال دراسات علمية وبيانات وليس عن طريق التخمين والتقرير.
- أن يكون الحكم الشرعي وفق المفسدة، فإن كانت يقينية وقوية فيمكن أن يذكرها التحريم، وإلا فلا.
جاء في إعلام الموقعين عن رب العالمين لابن القيم الجوزية: "ولذا فإن سد الذرائع يمثل الدور الدفاعي والوقائي بالنسبة لمقاصد الشريعة، ولاسيما أن المصلحة ينبغي أن ينظر إليها من جانبين: الوجود والعدم. ولذا فإن جماع المقاصد وقوامها: جلب المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، وهذا يلتقي مع ضرورة النظر في مآلات الأفعال، ويقودنا إلى القول بأن الأخذ بسد الذرائع يمثل سدا لأبواب التحيل على الشرع. ويقودنا هذا إلى القول بأن الأخذ بسد الذرائع يمثل سدا لأبواب التحيل على الشرع، وحسما لمادة الشر والفساد، لعلم الشارع بما جلبت عليه النفوس...، فسد الذرائع يمثل تقويما لمسار المكلفين ومقاصدهم، ويحملهم على أن يوافقوا قصد الشارع في تكاليفه وأحكامه".[113]
الفقرة الثانية: القواعد الفقهية المقاصدية
أولا: تعريف القواعد الفقهية المقاصدية
- لغة:
- اصطلاحا
- عرفها المقري المالكي بقوله: "ونعني بالقواعد كل كلي هو أخص من الأصول وسائر المعاني العقلية العامة، وأعم من العقود وجملة الضوابط الفقهية الخاصة".[114]
- وعرفها الحموي بقوله: "إن القاعدة هي عند الفقهاء غيرها عند النحاة والأصوليين، إذ هي عند الفقهاء حكم أكثري لا كلي ينطبق على أكثر جزئياته لتعرف أحكامها منه".[115]
- وصفها الأستاذ مصطفى الزرقاء بأنها: "أصول فقهية كلية في نصوص موجزة دستورية، تتضمن أحكاما تشريعية عامة في الحوادث التي تدخل تحت موضوعها".[116]
- كما عرفها الأستاذ علي أحمد الندوي بقوله: "وبناء على على هذه الوجوه، لعل من المناسب أن نعرف القاعدة الفقهية على النحو التالي: هي أصل فقهي كلي يتضمن أحكاما تشريعية عامة من أبواب متعددة في القضايا التي تدخل تحت موضوعه".[117]
ثانيا: أهميتها في الاجتهاد القضائي
إن الإحاطة بالقواعد الفقهية يسهل على القاضي جمع شتات الأحكام التي تندرج تحتها، لأنها تجمع أبواب الفقه المتعددة، وتلك الفروع الكثيرة بمناط واحد يقيس بعضها على بعض، ويقربه من معرفة الحكم بشكل أسرع وأدق.
يقول الامام المقري في قواعده: "ولولا هذه القواعد، لبقيت الأحكام الفقهية فروعا مشتتة قد تتعارض ظواهرها دون أصول تمسك بها في الأفكار وتبرز فيها العلل الجامعة وتعين اتجاهاتها التشريعية، وتمهد بينها طريق المقايسة والمجانسة".[118]
وفي الأخير يقول الإمام القرافي رحمه الله في الفروق: "وهذه القواعد مهمة في الفقه، عظيمة النفع، وبقدر الإحاطة بها يعظم قدر الفقيه، وتتضح له مناهج الفتوى، ومن أخذ بالفروع الجزئية، دون القواعد الكلية تناقضت عليه تلك الفروع، واضطربت واحتاج إلى حفظ جزئيات لا تتناهى.
ومن ضبط الفقه بقواعده، استغنى عن حفظ أكثر الجزئيات لاندراجها في الكليات، واتحد عنده ما تناقض عند غيره وتناسب، وأجاب الشاسع البعيد وتقارب، وحصل طلبته في أقرب الأزمان، وانشرح صدره لما أشرق فيه من البيان، فبين المقامين شـأو بعيد، وبين المنزلتين تفاوت شديد".[119]
ثالثا: أمثلة القواعد الفقهية المقاصدية
تبرز المقاصد بشكل أكبر في هذه القواعد الخمس، وهي المعبر عنها بالقواعد الفقهية الكبرى، أو بالقواعد الأمهات، التي يكاد لا يخلو من حاكميتها باب من أبواب الفقه، نظمها أحمد بن أبي كف الولاتي رحمه الله:
وهذه خمس قواعد ذكر ֎֎ أن فروع الفقه فيها تنحصر وهي اليقين حكمه لا يرفع ֎֎ بالشك بل حكم اليقين يتبع وضرر يــــــزال والتيسير مع ֎֎ مشقة يدور حيثما تقع وكل ما العادة فيه تدخل ֎֎ من الأمور فهي فيه تعمل وللمقاصد الأمور تتبع ֎֎ وقيل ذي إلى اليقين ترجع وقيل للعرف وذي القواعد ֎֎ خمستها لا خلف فيها وارد |
فهذه القواعد هي: الأمور بمقاصدها – اليقين لا يزول بالشك – المشقة تجلب التيسير – الضرر يزال - العادة محكمة.
سنعمل على بيان شرح كل قاعدة وسوق مثال لها من الأحكام والقرارات القضائية:
- الأمور بمقاصدها
- معناها
فالعمل إذا تعلق به القصد تعلقت به الأحكام التكليفية، وإذا عري عن القصد لم يتعلق به شيء منها، كفعل النائم والغافل والمجنون.[124]
- ألفاظها[125]
- الأعمال بالنيات؛
- العبرة بالقصد والمعنى لا باللفظ والمبنى؛
- لا ثواب إلا بنية؛
- كل ما كان له أصل فلا ينتقل عن أصله بمجرد النية؛
- مقاصد النية على نية اللافظ؛
- إدارة الأمور في الأحكام على قصدها؛
- المقاصد والاعتقادات معتبرة في التصرفات والعادات؛
- أصلها
- اليقين لا يزول بالشك
- معناها
ومعنى القاعدة: أن الأمر المتيقن منه لا يرتفع بمجرد الشك فيه، إلا إذا تيقن منه باليقين التام، فيكون معنى القاعدة إذن: أن اليقين لا يزول بالشك، وإنما يزول باليقين.
- أصلها
وقال الإمام النووي رحمه الله في شرح هذا الحديث: وهذا الحديث أصل من أصول الإسلام، وقاعدة عظيمة من قواعد الفقه، وهي أن الأشياء يحكم ببقائها على أصولها حتى يتيقن خلاف ذلك، ولا يضر الشك الطارئ عليها.[129]
- مثالها
فالنسب ثابت بالتفاف القرائن على ثبوته، لا يمكن نفيه بمجرد الشكوك فيه إلا بيقين كذلك. وهذا ما نصت عليه المدونة في المادة 151 "يثبت النسب بالظن ولا ينتفي إلا بحكم قضائي"
- الضرر يزال (لا ضرر ولا ضرار)
- معناها
فالضرر هو: إلحاق مفسدة بالغير، والضرار: مقابلة الضرر بالضرر، فلا يجوز لأحد أن يلحق ضررا ولا ضرارا بآخر، وأسلوب نفي الجنس أبلغ في النهي والزجر.[131]
وقيل إنهما لفظتان بمعنى واحد تكلم بهما جميعا على وجه التأكيد.[132]
وهذه القاعدة من أركان الشريعة، وتشهد لها نصوص كثيرة من الكتاب والسنة، وهي أساس لمنع الفعل الضار، وترتيب نتائجه في التعويض المالي والعقوبة، كما أنها سند لمبدأ الاستصلاح في جلب المنافع ودرء المفاسد، وهي عدة الفقهاء وعمدتهم وميزانهم في طريقة تقرير الأحكام الشرعية للحوادث.[133]
- أصلها
- مثالها
- المشقة تجلب التيسير
- معناها
أي كلما وقعت المشقة حسا، جاء التيسير شرعا[136] (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ في الدِّيِن مِنْ حَرَجٍ)[137].
بمعنى أن الله تعالى شاء لعباده رفع الحرج والمشقة عنهم، تخفيفا عنهم، حتى لا يلحقهم المشقة والعنت فيعجزوا عن أداء ما أمروا به.
قال صاحب المجموع المذهب: "يتخرج على هذه القاعدة جميع رخص الشرع وتخفيفاته".[138]
- أصلها
- العادة محكمة
- معناها
والعادة أيضا: الاستمرار على شيء مقبول الطبع السليم، والمعاودة إليه مرة بعد أخرى، وهي المرادة بالعرف العملي. والمراد بها حينئذ مالا يكون مغايرا لما عليه أهل الدين والعقل المستقيم ولا منكرا في نظرهم.[144]
والمراد من كونها عامة: أن تكون مطردة أو غالبة في جميع البلدان، ومن كونها خاصة: أن تكون كذلك في بعضها، فالاطراد والغلبة شرط لاعتبارها سواء كانت عامة أو خاصة.[145]
وهو ما جاء في القاعدة "إنما تعتبر العادة اطردت أو غلبت"، وقاعدة " العبرة للغالب الشائع لا النادر".[146]
- أصلها
قوله تعالى: (وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَاكُلْ بِالْمَعْرُوفِ).[147]
وقال ﷺ: لهند، (خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بالمعروف).[148]
وورد عن ابن مسعود رضي الله عنه موقوفا (ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن، وما رآه المسلمون قبيحا فهو عند الله قبيح).[149]
- أمثلتها
المطلب الثاني: المقاصد الشرعية والأحكام والقرارات القضائية: مدى استعمال القضاء الأسري لمقاصد الشريعة في الأحكام والقرارات القضائية
إن القضايا الأسرية ومجال الأسرة هو المجال الخصب لتنزيل المقاصد الشرعية، نسوق في هذا المطلب بعض نماذج من الأحكام والقرارات القضائية سواء لدى محاكم الموضوع (فرع أول)، أو لدى محكمة القانون (فرع ثان)، نرى من خلالها مدى استعمال القاضي المقاصد الشرعية في تعليل الحكم أو القرار القضائي، ومدى توفيقه في ذلك.
الفرع الأول: مدى استعمال محاكم الموضوع للمقاصد الشرعية
رأينا سابقا أن محاكم الموضوع هي محاكم الدرجة الأولى هي المحاكم الابتدائية (أقسام قضاء الأسرة)، ومحاكم الدرجة الثانية هي محاكم الاستيناف (غرفة الأحوال الشخصية)، حسب التنظيم القضائي المغربي.
وسنتحدث عن مدى تطبيق أقسام قضاء الأسرة للمقاصد الشرعية في تعليل أحكامها (فقرة أولى)، ثم عن غرف الأحوال الشخصية بمحاكم الاستيناف (فقرة ثانية).
الفقرة الأولى: لدى أقسام قضاء الأسرة
أولا: الحكم
الوقــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــائع:
بناء على المقال الافتتاحي للدعوى المودع بكتابة ضبط هذه المحكمة بتاريخ 15/09/2022 والمعفى من أداء الرسوم القضائية .... والذي تعرض من خلاله المدعية على أن المدعى عليه -زوجها- ولها منه الابن .....، وأنه توقف عن الإنفاق عليها وعلى ابنها مدة خمس سنوات رغم جميع الطرق الحبية المستعملة معه، ملتمسة الحكم على المدعى عليه بأدائه نفقتها ونفقة ابنها من تاريخ الإمساك، حسب تقدير المحكمة وكسوتهما وواجب الأعياد والمناسبات مع النفاذ المعجل والإجبار في الأقصى.
المرفقات:......
وبناء على المقال الإضافي:....
وبناء على المذكرة الجوابية المدلى بها من طرف المدعي بواسطة نائبه بجلسة 08/11/2022 والتي جاء فيها على أن مقال المدعية مخالف لمقتضيات المادة 1 و 32 من ق م م، بسبب عدم إرفاق مقاله الافتتاحي بنسخة من عقد الزواج، في حين كان عليها الإدلاء بأصله .... بالإضافة إلى أن مقال المدعية جاء خاليا من إثبات ما تدعيه، وأنه كان ينفق عليها طيلة هذه المدة، والثابت فقها وقضاء أن الزوج الحاضر الحائز لزوجته طيلة الفترة التي تطالب فيها بالنفقة يصدق بادعائه الانفاق بعد أن يؤدي اليمين على ذلك.... متلتمسا عدم قبول طلبها في الشكل والموضوع للأسباب أعلاه.
وبناء على ملتمس النيابة العامة الرامي إلى تطبيق القانون.
وبناء على إدراج القضية بعدة جلسات آخرها: .....
وبعد التأمل طبقا للقانون
في الشكل:
في الطلبين الأصلي والإضافي:
حيث التمست المدعية الحكم لها بمصاريف الولادة والتطبيب ومصاريف العقيقة وفق التفصيل الوارد أعلاه.
وحيث إن مقال المدعية جاء مجردا من كل ما يفيد تحملها لأية مصاريف تتعلق بالولادة والتطبيب مما يكون معه طلبها بهذا الخصوص غير مبني على أساس ويتعين عدم قبوله.
وحيث إنه وإن كانت العقيقة من المسائل التي تقتضيها التقاليد والأعراف المغربية والمستقاة من قواعد الشريعة الإسلامية فإن مطالبة المدعية بها دون أن تدلي بما يفيد إنفاقها لأية مصاريف بخصوصها يجعل طلبها هذا غير مؤسس ويتعين عدم قبوله.
وحيث إن باقي الطلب قدم على الصفة والشكل المتطلبين قانونا مما يتعين معه التصريح بقبوله من هذا الجانب.
في الموضوع
في الطلبين الأصلي والإضافي:
حيث تهدف المدعية من طلبها الحكم على المدعى عليه بأدئه لها نفقتها ونفقة ابنها منه من تاريخ الإمساك، الذي هو خمس سنوات مرت من تاريخه حسب تقدير المحكمة وكسوتهما، وواجب الأعياد، والمناسبات، مع النفاذ المعجل والإجبار في الأقصى.
وحيث إن العلاقة الزوجية ثابتة بين الطرفين...
وحيث إن العلاقة الزوجية والقرابة من الأسباب الموجبة للنفقة.
وحيث إن نفقة كل إنسان في ماله إلا الزوجة فنفقتها في مال زوجها، ويقضى بها من تاريخ الإمساك ولا تسقط بمضي المدة.
وحيث أفادت المدعية أن المدعى عليه أمسك عن الإنفاق عليها منذ خمس سنوات ...
وحيث إن المدعى عليه وفي معرض جوابه أوضح على أنه يتردد على بيت الزوجية وحاضر وحائز لزوجته وينفق عليها وعلى ابنها.
وحيث إن المقرر فقها وقضاء أن الأصل هو تواجد الزوجة مع زوجها ببيت الزوجية وإنفاق هذا الأخير عليها وأنه في وفي غياب إثبات المدعية خلاف هذا الأصل بقي ادعاؤها مجردا من أي دليل يجعل القول قول الزوج بيمينه، تطبيقا للقواعد الفقهية في الذهب المالكي: "يبقى القول قول الزوج بيمينه باعتباره حاضرا بالبلد، وإن واقعة الحوز ببيت الزوجية التي تعتبر هب الأصل وتقوم شاهدا عرفيا لصالحه يعضدده بيمينه عملا بقاعدة الاستصحاب والاستمرار إلى أن يثبت ما يخالفه ولقول الشيخ خليل "إن الزوج الحاضر بالبلد يكون القول قوله من غير تفصيل" ولقول البرزلي "القول قول الحائز مما يتعين معه والحالة هذه إلزام الزوج بأداء اليمين على واقعة الانفاق عن المدة من ..... إلى تاريخ صدور هذا الحكم. مع تطبيق قاعدة النكول، وهذا ما دأب عليه اجتهاد محكمة النقض في عدة قرارات؛ منها القرار عدد 514 الصادر ب 27/09/2011 في الملف الشرعي عدد 267/2/1/2010 والذي جاء فيه "من المقرر فقها في باب التنازع في النفقة أن القول قول الزوج الحاضر بيمينه في ادعاء الإنفاق، إذ بمقتضى عقد الزوجية يعتبر الزوج حائزا لزوجته والقول قول الحائز.
الزوج مصدق في ادعائه الانفاق على زوجته حتى تاريخ مغادرتها لبيت الزوجية ما دام القول قوله ما لم يثبت العكس".
وحيث إنه بخصوص نفقة الإبن، فإن الثابت من وثائق الملف أنه لم يسبق للمدعى عليه أن كان موضوع كطالبة بنفقة الإبن وإن لم يثبت للمحكمة تاريخ التوقف عن الإنفاق عليه، ومن ثم فإنها لا تستحق نفقة ابنها إلا من تاريخ تقديم هذه الدعوى....... إلى غاية تاريخ صدور هذا الحكم، بيمين المدعى عليه، ما دام أنه ادعى الحوز والإنفاق، ويبقى طلبها لنفقة الإبن عن الفترة السابقة غير مؤسس لا قانونا ولا شرعا، طالما أن سكوتها عن المطالبة بها يجعلها تسقط بمضي المدة، وهكذا جاء في قرار للمجبس الأعلى عدد 853 بتاريخ 22/09/1987 في الملف عدد 5037/85 "إن نفقة الأولاد إن كانت تسقط بمضي زمنها، لأنها شرعت لسد الخلة كما نص على ذلك الشيخ ليل رحمه الله بقوله في باب النفقة <وسقطت بمضي زمنها> قال شارحها العلامة الدردير لأنها لسد الخلة أي الحاجة وقد سدت بمضي زمنها.
وحيث إنه وما دام إن الثابت من وقائع النازلة ومن تصريح المدعى عليه على انه والمدعية يقيمان ببيت الزوجية وانه لازال ينفق عليها فإن الدعوى تبقى غير محققة والطلب بدون أساس مما يتعين معه إلغاؤه على حالته ابتداء من تاريخ صدور هذا الحكم.
وحيث إن الحكم الصادر بتقدير النفقة يبقى ساري المفعول إلى أن يصدر حكم آخر يحل محله أو يسقط حق المحكوم له بها.
وحيث إن النفقة تشمل الغذاء والكسوة والعلاج وما يعتبر من الضروريات والتعليم للأولاد مع مراعاة أحكام المادة 168 من المدونة
وكل ما يرجع لافتراض ֎֎ موكول لاجتهاد القاضي بحسب الأقوات والأعيان ֎֎ والسعر والمكان والزمان |
وحيث إن المحكمة بما لها من سلطة تقديرية في هذا الشأن مع مراعاتها للتوسط والاعتدال وحال الطرفين وأخذها بيعن الاعتبار الوضعية المادية للمدعى عليه ارتأت تحديدها وفق الوارد بمنطوق هذا الحكم.
وحيث إن الحكم بتقدير النفقة ساري المفعول إلى أن يصدر حكم آخر يحل محله أو يسقط حق المحكوم له في النفقة (المادة 191 من المدونة).
وحيث إن واجب توسعة الأعياد يتطلب مصاريف زائدة عن المألوف ولطبيعتها الاجتماعية، جرى العمل القضائي على الحكم بها للأبناء دون الزوجات بعد انفصام العلاقة الزوجية، مما يبقى معه طلب المدعية بهذا الخصوص غير مؤسس ويتعين رفضه.
وحيث إن مصاريف الكسوة تعتبر من مشتملات النفقة المنصوص عليها في المادة 189 من المدونة.
وحيث إنه وبخصوص طلب تحديد مدة الإكراه البدني فإنه بالرجوع إلى مقتضيات المادة 636 من ق م ج يتبين أن المبلغ المالي المطلوب الإكراه عليه دين بين الزوج وزوجته وبالتالي لا يجوز الحكم بالإكراه أو تطبيقه مما يتعين معه رفضه.
وحيث يتعين شمول النفقة بالنفاذ المعجل ... الفصل 179 مكرر ق م م.
وحيث إن خاسر الدعوى يتحمل الصائر.....
لهذه الأسباب:
حكمت المحكمة بجلستها العلنية ابتدائيا وحضوريا في حق الطرفين:
في الشكل: بعدم قبول الطلب في الشق المتعلق بمصاريف الولادة والعقيقة والتطبيب وقبوله في الباقي.
في الموضوع: بأداء المدعى عيه ... اليمين الشرعية على أنه كان ينفق على زوجته .... ببيت الزوجية خلال هذه المدة .... وعلى ابنه منها ... كلاهما. فإن حلف برئت ذمته، وإن نكل حلفت المدعية على واقعة عدم الإنفاق، وعليه بأدائه لها نفقتها بحساب 400 درهم شهريا ونفقة ابنها بحساب 300 درهم شهريا، وإن نكلت اعتبر نكولها تصديقا للناكل الأول مع شمول الحكم بالنفاذ المعجل وتحميل المدعى عليه الصائر وبرفض باقي الطلبات.[151]
ثانيا: التعليق
جاء في وقائع هذا الحكم، أن الزوجة المدعية تدعي أن زوجها المدعى عليه توقف عن الإنفاق عليها وعلى ابنها مدة خمس سنوات رغم جميع الطرق السلمية، وأنها تحملت مصاريف العقيقة والتطبيب...، تطلب من خلاله الحكم على المدعى عليه بأداء النفقة لها ولابنها من تاريخ الإمساك (5 سنوات)، حسب تقدير المحكمة وكسوتهما وتوسعة الأعياد والمناسبات مع النفاذ المعجل والإجبار في الأقصى.
إلا أن الزوج تشبت بالإنفاق عليها وعلى ابنها، وأن ما ادعته عاريا عن الصحة والدليل، وأنها في حوزته هي وابنها، ويتردد على بيت الزوجية باستمرار، القرينة الكافية لتفنيد ما ادعته الزوجة.
وجاء في حيثيات هذا الحكم أن المدعية لم تثبت كما ادعته، وأن الأصل في حضور الزوج ببيت الزوجية وحوز زوجته وابنه إليه دليل إنفاق هذا الأخير على بيته وتحمل كافة مصاريفه، إذ يفترض فيه هذا، إلا إذا قام الدليل على خلاف ذلك، وهو الشيء الذي لم تمتلكه الزوجة المدعية، فتعين حينئذ تفنيد ما ادعاه الزوجة، لأنه خلاف الأصل، واستدلت المحكمة بقاصد أصولية مقاصدية وهي قاعدة "الاستصحاب" التي هي أصل قاعدة "اليقين لا يزول بالشك" او "اليقين لا يزول إلا بيقين مثله..." مع اليمين.
بالإضافة إلى أن المحكمة راعت تقدير النفقة في حالة النكول عن اليمين، وبنت تقديرها على "التوسط والاعتدال ودخل الملزم بالنفقة وحال مستحقها ومستوى الأسعار والأعراف والعادات السائدة في الوسط الذي تفرض فيه النفقة".
والمحكمة كانت موفقة في هذا اجتهادها في هذا الحكم -حيث انعدام النص الشرعي والقانوني- وفي تأسيس حكمها على المشهور من المذهب المالكي على قاعدة "الاستصحاب" التي هي أصل من أصول الإمام مالك الستة عشر. فالزوج الحاضر وأمام انعدام ما يثبت عدم إنفاقه وفي مدة لا يستهان بها (5 سنوات)، وأنه لم يسبق أن كان مطلبوبا بالنفقة خلال هذه المدة...، قرائن قوية على افتراض إنفاق الزوج على زوجته وعلى عياله، بالإضافة إلى تعزيز هذه القرائن باليمين، فكانت هذه الحجة قوية كاليقين لما تعززت أكثر باليمين، واليقين لا يزول إلا بالشك والادعاء المجرد، بل يرتفع بيقين مثله.
بالإضافة إلى أنها بنت تحديد النفقة على أساس مستوى الأسعار والأعراف والعادات السائدة، حيث إن مستوى الأسعار تختلف من مكان إلى مكان بل وفي نفس المدينة نجد هذا الاختلاف، وعلى الأعراف والعادات السائدة، والتي بدورها تختلف من مكان إلى آخر، حيث تم تحكيم العرف والعادة كنص بل كدليل، لما فيه من تحقيق مقاصد جليلة لا يضر الزوج ولا المنفق عليهم.
الفقرة الثاني: لدى محاكم الاستيناف
أولا: القرار
"حيث إن المحكمة وبعد اطلاعها على وثائق الملف ودراستها لعلل الحكم المستأنفن وما أثير بشأنه من أسباب تبيم لها صحة ما نعاه الطاعن، ذلك أن هذا الأخير كان قد أدلى على المرحلة الابتدائية بالقرار الاستئنافي عدد 308 الصادر بتاريخ 2010/04/28 في القضية عدد 09/216 والذي قضى بإسقاط حضانة الابن عن والدته المستأنف عليها وبتسلميه لوالده وبإسناد من حضانته له وأن هذا القرار قد تم تنفيذه بحيث أصبح الإبن يعيش تحت كنف والده.
وحيث إن القرار الاستئنافي المذكور وإن كانت ليست قوة الشيء المقضي به فإنه يتوفر على حجية الأمر المقضي به أصبح له أثر قائم بين الطرفين ما لم يلغ أو يعدل وإلى حين ذلك فإن أثره ساري المفعول وقابل للتنفيذ لا يوقفه الطعن بالنقض من حيث ما قضى به وعلى الطرف المستفيد منه أن يواجه الطرف المحكوم عليه بمقتضاه علما بأن إسقاط الحضانة وما يترتب عليه من آثار قانونية وإن كانت تدخل في إطار قضايا الأحوال الشخصية بالمفهوم العام، فإن المقصود بها بمفهوم المادة 361 من ق م م وكذا الفصل 9 من نفس القانون أي هي القضايا التي يوجد فيها نزاع جوهري في الحالات الشخصية مثل إنكار الزوجية وإنكار النسب (قرار المجلس الأعلى عدد 20 بتاريخ 1977/03/16 ملف 55661 والقرار عدد 61 بتاريخ 77/05/24 ملف عدد 57913 مشار إليه بمرجع في اجتهاد المجلس الأعلى ذ إبراهيم زعيم ص: 425)، وعليه فإن ما علل به الحكم المستأنف قضاءه يكون مخالفا للمقتضيات القانونية كذلك.
وحيث إنه من القواعد الفقهية والقضائية أن السبب الواحد لا يمكن أن يعوض عليه مرتين وما دام أن الإبن أصبح يعيش تحت حضانة ونفقة والده الطاعن منذ صدور القرار الاستئنافي المشار إليه أعلاه، وبإقرار المستأنف عليها نفسها أمام الضابطة القضائية ، وحسب محضر الامتنع المؤرخ في 2010/05/06 والذي يثبت منه أن المستأنف عليها امتنعت عن تنفيذ القرار الاستئنافي المشار إليه، الشيء الذي يتوجب معه ترتيب الأثر القانوني للقرار الاستئنافي المذكور ومحضر الامتناع وإقرار المستأنف عليها المضمن بمحضر الضابطة القضائية، وذلك بإسقاط نفقة اللإبن المحددة في مبلغ 600 درهم شهريا، وأجرة سكناه المحددة في مبلغ 466.66 درهم شهريا واجرة حضانته المحددة في مبيلغ 166.66 درهم شهريا عن المستأنف الكل ابتداء من تاريخ 2010/05/18 وهو تاريخ تواجد الابن مع والده حسب إقرار المستأنف عليها المضمن بمحضر الضابطة القضائية تنفيذا للقرار الاستئنافي المشار إلى مراجعه هذا الإقرار الذي يعتبر حجة عليها المضمن بمحضر الضابطة القضائية تنفيذا للقرار الاستئنافي المشار إلى مراجعه. هذا الإقرار يراب أثره القانوني بخصوص تاريخ بداية إسقاط وأجرة الحضانة وواجب السكن عن المستأنف.
وحيث إن ما تمست به المستأنف عليها من كون أجرة السكن وأجرة الحضانة حددت جزافيا للأبناء الثلاثة وليس هناك أي نص قانوني يجيز إنقاص أو خصم جزء من المبالغ المحددة قبلهما فإنه يرد بكون أن المحكمة لما قضت بمبالغ أجرة السكن وأجرة الحضان ةقد راعت عدد الأطفال المطلوب عنهم هذه الواجبات وبالتالي فإن إنقاص أحد ألأطفال من خضوعه لحضانة الأم يستلزم قانونا خصم المبلغ الذي يقابله ونفس الشيء لباقي المستحقات.
وحيث إنه واعتبارا لعلل أعلاه، فإن الحكم المستأنف لما قضى خلاف ما ذكر يكون قد جانب الصواب وتوجب إلغاؤه وفق منطوق القرار.
لهذه الأسباب:
إن محكمة الاستئناف وهي تقضي علنيا حضوريا انتهائيا:
في الشكل: قبول الاستئناف
في الموضوع: بإلغاء الحكم المستأنف وتصديا الحكم من جديد بإسقاط نفقة الإبن المحددة في مبلغ 600 درهم شهريا وأجرة سكناه المحدةة في 466.66 شهريا وأجرة حضانته المحددة في مبلغ 166.66 شهريا الكل ابتداء من 2010/05/18 وبتحميل المستأنف عليها الصائر وإعفائها منه طبقا للقانون.[152]
ثانيا: التعليق
جاء في وقائع هذا القرار أن الحاضنة تم الحكم عليها بإسقاط حضانة الإبن عنها وتم تنفيذ هذا الحكم. وأن الإبن الذي اسقطت حضانته عنها يعيش معه.
المدعي يلتمس من المحكمة إسقاط سريان مفعول نفقة الابن وأجرة الحضانة والسكن، التي تتلقاها الأم الحاضنة، بعد الإسقاط.
محكمة الاستئناف تلغي الحكم الابتدائي المستأنف. وتؤيد ما طلبه الزوج.
محكمة الاستيناف كانت موفقة في قرارها هذا، حيث إن استمرار سريان نفقة الابن لفائدة الأم التي أسقطت حضانتها والتي لا زالت تستفيد من نفقة هذا الإبن، يسبب مشقة للأب، وإعمالا للقاعدة "المشقة تجلب التيسير" أسقطت ما يقابل هذا الطفل من النفقة، وأجرة الحضانة والسكنى، ما دام الطفل تحت كنف أبيه.
الفرع الثاني: لدى محكمة النقض
أولا: القرار
تطليق للشقاق – طلب الزوجة – عدم استحقاق المتعة – تعويض – مسؤولية أحد الزوجين
إن مقتضيات المادة 84 من مدونة الأسرة تتعلق بالطلاق الذي يوقعه الزوج على زوجته، ويراعى فيه أساسه ومدى تعسفه، ومن المقرر فقها كذلك أنه لا متعة في كل فراق تختاره المرأة والمحكمة لما قضت للزوجة بالمتعة رغم أنها هي التي طلبت التطليق للشقاق تكون قد خرقت القانون والفقه المالكي.
وطبقا للمادة 97 من مدونة الأسرة، فإن التعويض يحكم به في الفراق الذي يطلبه أحد الزوجين بسبب مسؤولية الزوج الآخر، والمحكمة لما ردت طلب التعويض من جهة اعتبار الزوج في إطار سلطتها مسؤولا بدوره عن إنهاء العلاقة الزوجية بسببب ما صدر عنه من كلام جارح في حق الزوجة وقد أقر به، ومن جهة أن العذرية لم تشترط في العقد وبالتالي فلا كلام للزوج، بشأنها ولو صدق كما هو مقرر فقها تكون قد طبقت القانون والفقه.
نقض جزئي وإحالة
بسم جلالة الملك وطبقا للقانون
حيث يستفاد من وثائق الملف والقرار المطعون فيه رقم 370/2012 الصادر بتاريخ 10/04/2012 في الملف عدد 963/11 عن محكمة الاستيناف بفاس ادعاء المطلوبة في النقض ... بمقال سجل بتاريخ 07/03/2011 بالمحكمة الابتدائية بنفس المدينة على الطالب ... أنه زوجها وفق الكتاب والسنة، وأن علاقتهما الزوجية لم تعد في وئام بسبب تفاقم الخلافات بينهما، ملتمسة الحكم بتطليقها منه للشقاق، وأجاب الطالب بمذكرة مع مقال مضاد مؤدى عنه بتاريخ 11/04/2011 بأنه ليلة الدخول بالمطلوبة فوجئ بكونها ثيبا ومع ذلك تستر عليها رغبة في استمرار العلاقة الزوجية ملتمسا الحكم له بتعويض مبلغة ستون ألف درهم، وعقبت المطلوبة بمقال إضافي عرضت فيه أنها وقت العقد عليها من الطالب كانت بكرا عذراء، وقد أخبرته بأنها مصابة برحمها وأن غشاء من نوع الغشاء المطاطي الذي لا ينزف عند الدخول، ملتمسة الحكم لها بمستحقات الفراق وبنفقتها ابتداء من تاريخ عقد الزواج بحسب 1000 درهم في الشهر وبأن يرد لها حوائجها، وتمسك الطالب بالإنفاق وباستمرار العلاقة الزوجية وتعذر الصلح ثم قضت المحكمة بتاريخ 02/05/2011 في الملف 768/1607/2011 بتطليق المطلوبة من عصمة زوجها الطالب طلقة واحدة بائنة للشقاق وبأدائه مستحقاتها محددة في مبلغ 8000 درهم من قبل المتعة وفي مبلغ 4500 درهم لقاء كراء عدتها، وبيمينه على أنه كان قائم الإنفاق عليها خلال المدة 25/12/2012 إلى 06/01/2011 فإن حلف برء وإن نكل حلفت واستحقت عن تلك المدة.....
في شأن الوسيلة الأولى: خرق المواد 84 و 85و 97 و400 من مدونة الأسرة، ذلك أن المحكمة قضت بالمتعة رغم أن المطلوبة في النقض هي التي طلبت الفراق مما يعد خرقا للقانون والفقه المالكي ويعرض القرار المعطون فيه للنقض.
حيث صح ما عابته الوسيلة على القرار ذلك إن مقتضات المادة 84 من مدونة الأسرة إنما تتعلق بالطلاق الذي يوقعه الزوج على زوجته ويراعي فيه أسبابه ومدى تعسفه، ومن المقرر فقها كذلك أنه لا متعة في كل فراق تختاره المرأة، كما لابن جزي في كتابه القوانين الفقهية في الفصل 5 من الباب 7 المخصص للعدة والاستبراء وما يتصل بهما، فتكون المحكمة لما قضت للمطلوبة بالمتعة رغم أنها هي التي طلبت التطليق للشقاق قد خرقت المادة المذكورة والفقه المالكي المحرر مما يعرض قرارها للنقض في هذا الخصوص.
الوسيلة الثانية: مستمدة من خرق المادة 97 من مدونة الأسرة ونقصان التعليل الموازي لانعدامه بدعوى أن للمحكمة رفضت الطلب المضاد الرامي إلى نيل التعويض بعلة أن الطالب ساهم بدوره في إنهاء العلاقة الزوجية حينما أنهاها واصدر في حقها كلاما جارحا دون أ، تحدد ما نوع الكلام الجارح، علما أنه صدر عنه كرد فعل ضمني لما علم ليلة الدخول بأن المطلوبة ثيب وتذرعت بأنها مصابة على مستوى رحمها، وأن بكارتها من الغشاء المطاطي الذي لا ينزف من الدم دون أن تثبت ذلك ملتمسا نقض القرار المطعون فيه.
لكن حيث إنه طبقا للمادة 97 من مدونة الأسرة فإن التعويض يحكم به في الفراق الذي يطلبه أحد الزوجين بسبب اعتبار الطالب في إطار سلطتها مسؤولا بدوره عن إنهاء العلاقة الزوجية بسبب ما صدر عنه من كلام جارح في حق المطلوبة وقد أقر به، ومن جهة أن العذرية لم تشترط في العقد، وبالتالي فلا كلام للزوج بشأنها ولو صدق كما هو مقرر فقها فكان ما بالوسيلة غير مؤسس ومردود في هذا الخصوص.
لهذه الأسباب
قضت محكمة النقض بنقض القرار المطعون فيه جزئيا فيما قضى به من متعة.[153]
ثانيا: التعليق
جاء في وقائع هذا القرار أن الزوجة طلبت التطليق للشقاق بسبب تفاقم الخلافات مع زوجها.
لكن الزوج تمسك بكون الزوجة ليلة الدخلة فوج بكونها ثيبا، ومع ذلك تستر على ذلك رغبة في استمرار العلاقة الزوجية، ملتمسا طلب التعويض.
وأضافت الزوجة أنه وقت انعقاد العقد كانت بكرا، وقد أخبرته بأنها مصابة برحمها، وأن غشاء بكارتها من النوع المطاطي، ملتمسة الحكم لها التطليق للشقا، وبمستحقات الفراق.
فحكمت المحكمة الابتدائية بتطليق الزوجة للشقاق -بعد فشل الصلح- والحكم لها بمستحقاتها منها المتعة.
تم الطعن فيه الاستيناف في شأن المتعة لا تستحقها الزوجة لكونها هي من طلبت الفراق، فتم تأييد الحكم الابتدائي، فتم الطعن فيه بالنقض.
محكمة النقض، أيدت الطعن بخصوص المتعة، لكون وجود فراغ تشريعي في المتعة في التطليق للشقاق إن هي طلبت الفراق. فيتعين الرجوع إلى الفقه المالكي.
محكمة النقض كانت موفقة في نقضها هذا الحكم، حيث ارتكزت في نقضها هذا الحكم والقرار معا، أولا على المادة 97 من المدونة "في حالة تعذر الإصلاح واستمرار الشقاق، تثبت ذلك المحكمة في محضر، وتحكم بالتطليق وبالمستحقات طبقا للمواد 83 و 84 و 85 أعلاه، مراعية مسؤولية كل من الزوجين عن سبب الفراق في تقدير ما يمكن أن تحكم به على المسؤول لفائدة الزوج الآخر". وأن المادة 84 من المدونة هي خاصة بالزوج إن كان هو طالب الفراق، فتجب عليه المتعة، فالمادة 84 صريحة في كون المتعة إلزامية حالة طلب الزوج الفراق، وغير إلزامية إن لم يطلب.
فاستغلت هذه الفجوة -في تقدير ما يمكن أن تحكم به على المسؤول لفائدة الزوج الآخر- لتحقيق بعض المقاصد التالية باجتهادها هذا:
- أنه لو فتح باب منح المتعة للزوجة طالبة الفراق، لفتح الباب للزوجات لطلب الشقاق طمعا في أموال المتعة، التي غالبا تكون ضخمة عند مراعاة فترة الزواج طبقا للمادة 84 من المدونة، وبالتالي حرمان طالبات الشقاق من المتعة إعمالا لقاعدة "سد ذرائع الفساد" التي تعتبر من أصول مذهب الإمام مالك، حفاظا على مصلحة الأسرة من التفكك والشتات "جلب المصالح أولى من درء المفاسد". ولما فيه من شبهة سوء النية إعمالا لقاعدة "الأمور بمقاصدها"، وقاعدة "نقيض القصد"، لكون التطليق للشقاق يكفي فقط الالتجاء إلى المحكمة، والادعاء باستحكام الشقاق، لأنه ليس فيه إلزامية إثبات الضرر كأنواع التطليق الأخرى.
وفيه رحمة بالزوج سيجمع عليه ألم الفراق، وألم تحمله دفع المبالغ الباهضة لفائدة الزوجة المتسببة في الفراق.
- أن المحكمة الابتدائية وكذا الاستيناف، ربما استعملت القياس، -قياس إلزامية المتعة حال طلب الزوج الفراق على طلب الزوجة استحسانا، وهذا القياس والاستحسان فاسدان، لكون "لا قياس مع وجود الفارق" ولكونه يؤدي إلى فساد ومنكر عريض. وضرر بالزوج، و"يرتكب الضرر الأخف" الذي هو الشقاق، في "دفع الضرر الأكبر". الذي هو الشقاق والمتعة.
[1] - سورة النحل، الآية: 09
[2]- لسان العرب، لابن منظور محمد علي أبو الفضل جمال الدين، دار المعارف 1119، كورنيش القاهرة، مادة [قصد]، ص: 3642و3643
[3] - مقاييس اللغة، لأبي الحسن أحمد بن فارس بن زكرياء (000-395)، تحقيق عبد السلام محمد هارون، الجزء الخامس، دار الفكر، 1399ه/1979، مادة [قصد]، ص: 95
[4] - طرق الكشف عن المقاصد، نعمان جغيم، الطبعة الأولى (1422ه-2006م)، دار النفائس للنشر والتوزيع، الأردن، ص: 25
[5] - مقاصد الشريعة تأصيلا وتفعيلا، الدكتور محمد بكر إسماعيل حبيب، سلسلة دعوة الحق، عدد 213 سنة 1427ه، رابطة العالم الإسلامي، ص: 16
[6] - مقاصد الشريعة الإسلامية، الطاهر بن عاشور، دار الكتاب المصري (2011)، القاهرة – مصر، ص: 82
[7] - نفس المصدر السابق، ص: 254
[8] - مقاصد الشريعة ومكارمها، علال الفاسي، الطبعة الخامسة (1993م)، دار الغرب الإسلامي، بيروت، لبنان، ص: 07
[9] - نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي، للدكتور أحمد الريسوني، الطبعة الرابعة (1415ه/1995م)، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، فيرجينيا الولايات المتحدة الأمريكية، ص: 19
[10] - نفس المصدر السابق، ص: 19
[11] - نفس المصدر السابق، ص: 20
[12] - نفس المصدر السابق، ص: 21
[13] - مدخل إلى مقاصد الشريعة، الدكتور أحمد الريسوني، دار الكلمة، الطبعة الأولى 1434ه/ 2013م، مصر القاهرة، ص: 10 [بتصرف].
[14] - الجامع الصحيح، للإمام البخاري، كتاب الصلاة، باب صلاة الطالب والمطلوب، رقم: 899
[15] - التحرير والتنوير، للطاهر بن عاشور، الجزء الرابع، الدار التونسية للنشر سنة 1984، ص: 224
[16] - مدخل إلى مقاصد الشريعة، الدكتور أحمد الريسوني، مرجع سابق، ص: 11 وما بعدها بتصرف
[17] - سورة النساء، الآية: 03
[18] - التحرير والتنوير، للطاهر بن عاشور، الجزء الرابع، مرجع سابق، ص: 226
[19] - المصباح المنير، للعلامة أحمد بن محمد بن علي الفيومي المقرئ (ت 770ه)، مكتبة لبنان 1987م، باب النون مع الواو وما يثلثهما [نويته]، ص: 241
[20] - مقاصد المكلفين فيما يتعبد به لرب العالمين، للدكتور عمر سليمان الأشقر، الطبعة الأولى، مكتبة الفلاح 1401ه/1981م، ص: 23
[21] - الموافقات في أصول الشريعة، لأبي إسحاق الشاطبي إبراهيم بن موسى اللخمي الغرناطي المالكي (790ه)، تحقيق عبد الله دراز، الطبعة الثانية (2009م)، دار الكتب العلمية، بيروت لبنان، ص: 220
[22] - سورة الحج، الآية: 78
[23] - سورة المائدة، الآية: 06
[24] - سورة الزلزلة، الآية: 07
[25] - سورة البقرة، الآية: 233
[26] - سورة البقرة، الآية: 286
[27] - سورة فصلت، الآية: 34
[28] - سورة النساء، الآية: 129
[29] - الموافقات في أصول الشريعة، للإمام الشاطبي، مرجع سابق، ص: 783
[30] - إعمال المقاصد في الاجتهاد: مجالاته وضوابطه، عبد الحميد عشاق، مقال منشور بموقع الرابطة المحمدية بتاريخ: 30-09-2013، رابط: https://www.arrabita.ma/blog/%D8%A5%D8%B9%D9%85%D8%A7%D9%84-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%82%D8%A7%D8%B5%D8%AF-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%AC%D8%AA%D9%87%D8%A7%D8%AF-%D9%85%D8%AC%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%AA%D9%87-%D9%88%D8%B6%D9%88/#_edn26
[31] - نفس المرجع السابق.
[32] - أهمية المقاصد في الشريعة الإسلامية، وأثرها في فهم النص واستنباط الحكم، سميح عبد الوهاب الجندي، الطبعة الأولى (1429ه/2008)، مؤسسة الرسالة، بيروت، ص: 97
[33] - نفس المرجع السابق، ص: 97
[34] - المختصر في المسطرة المدنية، موسى عبود ومحمد السماحي، ص: 167، أورده عبد الكريم الطالب، في الشرح العملي لقانون المسطرة المدنية، ص 213
[35] - نظرية الأحكام في قانون المرافعات، للدكتور أحمد أبو الوفا، الجزء الأول، الطبعة الرابعة، دون سنة الطبع، المعارف بالأسكندرية، ص: 32
[36] - نفس المرجع السابق، ص: 32
[37] - الشرح العملي لقانون المسطرة المدنية، الدكتور عبد الكريم الطالب، الطبعة التاسعة (1440ه/2019)، مكتبة العرفان مراكش، ص: 213 بتصرف.
[38] - التعليق على الأحكام والقرارات القضائية (مقياس الاجتهاد القضائي)، دة سامية شرفة، سلسة محاضرات ماستر الأحوال الشخصية (2020-2021)، كلية الحقوق والعلوم السياسية، جامعة محمد بوضياف -المسيلة- الجزائر، ص: 01
[39] - المرافعات المدنية والتجارية، محمد فهمي وحامد فهمي، مكتبة عبد الله وهبة (1940)، ص: 127
[40] - الوسيط في قانون القضاء المدني، فتحي والي، الطبعة الثالثة (1981)، ص: 542
[41] - الشرح العملي لقانون المسطرة المدنية، الدكتور عبد الكريم الطالب، مرجع سابق، ص: 228
[42] - إصدار الحكم المدني وصياغته الفنية في ضوء الفقه والقضاء، الطيب برادة، منشورات جمعية تنمية البحوث والدراسات القضائية (1996م)، الرباط، ص: 487
[43] - الشرح العملي لقانون المسطرة المدنية، الدكتور عبد الكريم الطالب، مرجع سابق، ص: 231
[44] قرار صادر عن المجلس الأعلى بتاريخ 28/12/2005 رقم: 626، في الملف عدد 306/2/1/2004، منشور بكتاب المنازعات الأسرية أمام قضاء الموضوع ومحكمة النقض، الدكتور ادريس الفاخوري، طبعة 2015، دار نشر المعرفة، الرباط ص: 131
[45] - الشرح العملي لقانون المسطرة المدنية، الدكتور عبد الكريم الطالب، مرجع سابق، ص: 237 بتصرف
[46] - مختار الصحاح، للشيخ الإمام محمد بن أبي بكر بن عبد القادر الرازي، مكتبة لبنان، 1986م، بيروت، مادة [ج ه د]، ص: 48
[47] - سورة التوبة، الآية: 79
[48] - المحصول في أصول الفقه، للإمام فخر الدين محمد بن عمر بن الحسين الرازي، تحقيق د طه جابر فياض العلواني، الجزء السادس، الطبعة الثانية (1416ه/1996م)، مؤسسة الرسالة، بيروت، ص: 06
[49] - إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول، للإمام محمد بن علي الشوكاني، تحقيق أبي حفص سامي بن عبد العزيز الأثري، الجزء الثاني، الطبعة الأولى (1421ه/2000م)، دار الفضيلة، الرياض، ص: 1025
[50] - قواعد تفسير النصوص وتطبيقاتها في الاجتهاد القضائي الأردني -دراسة أصولية مقارنة- عبد المهدي أحمد العجلوني محمد سعيد، أطروحة في القضاء الشرعي، كلية الدراسات العليا الجامعة الأردنية (كانون الثاني 2005)، الأردن، ص: 12
[51] - مختار الصحاح، للشيخ الإمام محمد بن أبي بكر بن عبد القادر الرازي، [ق ض ى]، ص: 226
[52] - تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الحكام، للإمام برهان الدين أبي الوفاء إبراهيم بن شمس الدين أبي عبد الله محمد بن فرحون المالكي، الجزء الأول، طبعة خاصة (1423ه/2003)، دار عالم الكتب، الرياض، ص: 09
[53] - المبدع شرح المقنع، لأبي إسحاق برهان الدين إبراهيم بن محمد بن مفلح الحنبلي (884ه)، تحقيق محمد إسماعيل الشافعي، الجزء الثامن، الطبعة الأولى (1418ه/1997م)، دار الكتب العلمية، بيروت، ص: 139
[54] - قواعد تفسير النصوص وتطبيقاتها في الاجتهاد القضائي الأردني، عبد المهدي أحمد العجلوني محمد سعيد، مرجع سابق، ص: 14
[55] - نفس المرجع السابق، ص: 16
[56] - مختار الصحاح، للشيخ الإمام محمد بن أبي بكر بن عبد القادر الرازي، مادة [ع ل ل]، ص: 189
[57] - تعليل الأحكام، مصطفى شبلي، الطبعة الثانية (1401ه/1981م)، دار النهضة العربية، بيروت، ص: 13 بتصرف
[58] - تعليل الأحكام، مصطفى شبلي، مرجع سابق، ص: 11
[59] - تعليل الأحكام، مصطفى شبلي، مرجع سابق، ص: 12
[60] - ظهير شريف بمثابة قانون رقم: 1.74.447 بتاريخ 11 رمضان، 1394 (28 سبتمبر 1974)، المتعلق بقانون المسطرة المدنية.
[61] قرار صادر عن المجلس الأعلى بتاريخ 14/12/2004، رقم: 594 في الملف عدد: 163/2/1/2004، منشور بكتاب المنازعات الأسرية أمام قضاء الموضوع ومحكمة النقض، الدكتور ادريس الفاخوري، طبعة 2015، دار نشر المعرفة، الرباط ص: 128
[62] - كتاب أدب القضاء وهو الدرر المنظومات في الأقضية والحكومات، للقاضي شهاب الدين أبي إسحاق إبراهيم بن عبد الله، تحقيق محمد مصطفى الزحيلي، الطبعة الثانية 1403ه/1982م، دار الفكر المعاصر بيروت لبنان، ص: 70
[63] - الإتقان والإحكام لأبي عبد الله محمد بن أحمد بن محمد الفاسي، شرح تحفة الحكام في نكت العقود والأحكام، تحقيق محمد عبد السلام محمد سالم، الجزء الأول، سنة الطبع: 1432ه/2011م، دار الحديث القاهرة، ص: 46
[64] - الأحكام السلطانية: الولايات والدينية، لأبي الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي، تحقيق د أحمد مبارك البغدادي، الطبعة الأولى 1409ه/1989م، مكتبة دار بن قتيبة، الكويت، ص: 89
[65] - ظهير شريف رقم: 1.16.41 صادر في 14 من جمادى الآخرة، 1437ه (24 مارس 2016)، بتنفيذ القانون التنظيمي رقم: 106.13 المتعلق بالنظام الأساسي للقضاة.
[66] - الإتقان والإحكام لأبي عبد الله محمد بن أحمد بن محمد الفاسي، شرح تحفة الحكام في نكت العقود والأحكام مرجع سابق، ص: 47
[67] - إحكام الأحكام على تحفة الحكام، للعلامة محمد بن يوسف الكافي، الطبعة سنة: 1434ه/ 2013م، دار الرشاد، الدار البيضاء المغرب، ص: 09
[68] - الإتقان والإحكام لأبي عبد الله محمد بن أحمد بن محمد الفاسي، شرح تحفة الحكام في نكت العقود والأحكام مرجع سابق، ص: 48
[69] - نفس المرجع السابق، ص: 47
[70] - البهجة في شرح التحفة على الأرجوزة المسماة بتحفة الحكام، لأبي الحسن علي بن عبد السلام التسولي، الجزء الأول، دون ذكر سنة الطبع، دار الفكر، ص: 38
[71] - سورة البقرة، الآية: 71
[72] - نفس المرجع السابق، ص: 41
[73] - حلى المعاصم لفكر ابن عاصم، للإمام أبي عبد الله محمد التاودي، هامش البهجة في شرح التحفة، لأبي الحسن علي بن عبد السلام التسولي، نفس المرجع السابق، ص: 42
[74] - الموافقات في أصول الشريعة، للشاطبي، مرجع سابق، ص: 784
[75] - الاجتهاد في الشريعة الإسلامية، الدكتور يوسف القرضاوي، الطبعة الأولى (1417ه/1996م)، دار القلم الكويت، ص: 45
[76] - الاجتهاد في الشريعة الإسلامية، الدكتور يوسف القرضاوي، مرجع سابق، ص: 47
[77] - فقه الواقع أصول وضوابط، أحمد بوعود، الطبعة الأولى (2006)، دار السلام، القاهرة، ص: 14 وما بعدها بتصرف
[78] - الاجتهاد في الشريعة الإسلامية، الدكتور يوسف القرضاوي، مرجع سابق، ص: 48
[79] - الدليل الفقهي والقضائي للقاضي والمحامي في المنازعات الأسرية، الدكتور عادل حاميدي، الطبعة الأولى (1437ه/2016)، مطبعة المعارف الجديدة، الرباط، ص: 86
[80] - الاجتهاد القضائي في الفقه الإسلامي وتطبيقاته في قانون الأسرة الجزائري، بحث مقدم لنيل شهادة الدكتوراه في العلوم الإسلامية، محفوظ بن صغير، كلية العلوم الاجتماعية والعلوم الإسلامية، جامعة الحاج الخضر، باتنة الجزائر، ص: 265
[81] - مقاصد الشريعة الإسلامية، للطاهر بن عاشور، مرجع سابق، ص: 198
[82] - الموافقات في أصول الشريعة، للإمام الشاطبي، مرجع سابق، ص: 783
[83] - مدخل إلى مقاصد الشريعة، أحمد الريسوني، مرجع سابق، ص: 16
[84] - الدليل الفقهي والقضائي للقاضي والمحامي في المنازعات الأسرية، الدكتور عادل حاميدي، مرجع سابق، ص: 74 بتصرف
[85] - خصائص المذهب المالكي، الدكتور محمد التاويل، مقال منشور بموقع وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، بتاريخ: 03 فبراير 2012، المغرب. https://www.habous.gov.ma/2012-01-26-16-12-45/1225-%D8%AE%D8%B5%D8%A7%D8%A6%D8%B5-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B0%D9%87%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%A7%D9%84%D9%83%D9%8A.html
[86] - مقاييس اللغة، لأبي الحسن أحمد بن فارس، مرجع سابق، مادة [ص ل ح]، ص: 303
[87] - لسان العرب، ابن منظور، مرجع سابق، مادة [ص ل ح]، ص: 2479
[88] - المستصفى في علم الأصول، لأبي حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي (450-505ه)، الجزء الأول، دون سنة الطبع، المكتبة العصرية، بيروت، ص: 313
[89] - قواعد الأحكام في مصالح الأنام، للإمام المحدث أبي محمد عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام الملقب بسلطان العلماء (ت 660ه)، الجزء الأول، دار المعرفة دون سنة الطبع ص: 10
[90] - المرجع نفسه، ص: 04
[91] - الاعتصام، للإمام الشاطبي، ص: 113
[92] - مقاصد الشريعة الإسلامية، للطاهر بن عاشور، ص: 109
[93] - المستصفى في علم الأصول، لأبي حامد الغزالي، الجزء الثاني، مرجع سابق، ص: 312 و313
[94] - نظرية المصلحة في الفقه الإسلامي، حسين حامد حسن، الطبعة الأولى، مكتبة المتنبي القاهرة، ص: 16
[95] - سورة النساء، الآية: 11
[96] - حكم صادر عن قسم قضاء الأسرة بطنجة، بتاريخ 30/01/2017، عدد 320 ملف عدد 2016/1620/1391 منشور بموقع مغرب القانون.
[97] - موقف الفقه والقضاء من البنوة غير الشرعية، سناء المتدين، مقال منشور بموقع مغرب القانون بتاريخ 24 سبتنمر 2022 https://www.maroclaw.com/%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AA%D8%AF%D9%8A%D9%86-%D8%B3%D9%86%D8%A7%D8%A1-%D9%85%D9%88%D9%82%D9%81-%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%82%D9%87-%D9%88%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%B6%D8%A7%D8%A1-%D9%85%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%A8/#_ftn25
[98] - المستصفى في علم الأصول، لأبي حامد الغزالي، الجزء الثاني، مرجع سابق، ص: 313
[99] - نظرية المصلحة في الفقه الإسلامي، حسين حامد حسن، مرجع سابق، ص: 36
[100] - نفس المرجع السابق، 37
[101] - نفس المرجع السابق، 37
[102] - المختار الصحاح، للشيخ الإمام محمد بن أبي بكر بن عبد القادر الرازي، الجزء الأول، مرجع سابق، ص: 58
[103] - محاضرات في أصول الفقه، الدكتور محمد بن معجوز، الطبعة الأولى (1416ه-1996)، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، ص: 137
[104] - نفس المرجع السابق، ص: 138 وما بعدها [بتصرف].
[105] - المعجم الوسيط، إشراف شوقي ضيف، الجزء الثاني، الطبعة الرابعة (1425ه/2004)، مكتبة الشروق الدولية، مصر، ص: 311
[106] - المختار الصحاح، للشيخ الإمام محمد بن أبي بكر بن عبد القادر الرازي، مكتبة لبنان، 1986م، بيروت ص: 93
[107] - الوجيز في أصول الفقه، الدكتور وهبة الزحيلي، الطبعة الثانية 1995، دار الفكر المعاصر، دمشق، ص: 108
[108] - نفس المرجع السابق، ص: 108
[109] - إعلام الموقعين عن رب العالمبن، لأبي عبد الله أبي بكر بن أيوب، المعروف بابن القيم الجوزية، المجلد الأول، الطبعة الأولى 1423ه)، دار ابن الجوزي، السعودية، ص: 56 [بتصرف]
[110] - قاعدة سد الذرائع وتطبيقات العمل بها في المعاملات المالية والمصرفية المعاصرة، دراسة فقهية تأصيلية، علي محيي الدين القرة داغي، مؤتمر شورى الفقهي السادس (4-5 صفر 1437ه/16-17 نوفمبر 2015)، الكويت، ص: 25
[111] - الموافقات في أصول الشريعة، للإمام الشاطبي، مرجع سابق، ص: 428
[112] - قاعدة سد الذرائع وتطبيقات العمل بها في المعاملات المالية والمصرفية المعاصرة، دراسة فقهية تأصيلية، علي محيي الدين القرة داغي، مرجع سابق، ص: 24
[113] - إعلام الموقعين عن رب العالمبن، لأبي عبد الله أبي بكر بن أيوب، المعروف بابن القيم الجوزية، مرجع سابق، ص: 58
[114] - قواعد الفقه، لأبي عبد الله بن أحمد المقري (ت 759ه)، تحقيق محمد الدردابي، مطبعة الأمنية، الرباط، ص: 77
[115] - غمز العيون شرح كتاب الأشباه والنظائر لابن نجيم المصري، لأحمد بن محمد الحنفي الحموي، الجزء الأول، الطبعة الأولى (1405ه/1985م)، دار الكتب العلمية، بيروت، ص: 51
[116] - المدخل الفقهي العام، مصطفى الزرقاء، الجزء الثاني، الطبعة الثانية (1425ه/2004)، دار القلم، دمشق، ص: 965
[117] - القواعد الفقهية: مفهومها، نشأتها تطورها، دراسة مؤلفاتها، أدلتها، مهمتها، تطبيقاتها، الدكتور علي أحمد الندوي، الطبعة الثالثة، دار القلم (1414ه/1994م)، بيروت، ص: 45
[118] - قواعد الفقه، لأبي عبد الله بن أحمد المقري، مرجع سابق، ص: 967
[119] - كتاب الفروق أنوار البروق في أنواء الفروق، للإمام العلامة شهاب الدين أبي العباس أحمد بن إدريس بن عبد الرحمن الصنهاجي المشهور بالقرافي (ت 684)، الجزء الأول، الطبعة الأولى (1421ه/2001)، دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، ص: 71
[120] - سورة آل عمران، الآية: 154
[121] - سورة هود، الآية: 123
[122] - سورة هود، الآية: 97
[123] - القواعد الفقهية وتطبيقاتها في المذاهب الأربعة، الدكتور محمد مصطفى الزحيلي، الجزء الأول، الطبعة الثالثة (1430ه/2009م)، دار الفكر، دمشق، ص: 63
[124] - الموافقات في أصول الشريعة، للإمام الشاطبي، مرجع سابق، [2/323-324].
[125] - القواعد الفقهية وتطبيقاتها في المذاهب الأربعة، الدكتور محمد مصطفى الزحيلي، مرجع سابق، ص: 63
[126] - الجامع الصحيح، للإمام البخاري، كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله ﷺ، رقم: 01
[127] - القواعد الفقهية وتطبيقاتها في المذاهب الأربعة، الدكتور محمد مصطفى الزحيلي، مرجع سابق، ص: 96 وما بعدها
[128] - صحيح مسلم، للإمام مسلم، كتاب الحيض، باب الدليل على أن من تيقن الطهارة ثم شك في الحدث فله أن يصلي بطهارته تلك، رقم: 361
[129] - صحيح مسلم بشرح الإمام النووي، الجزء الرابع، الطبعة الثانية (1414ه/1994م)، مؤسسة قرطبة، ص: 26
[130] - قرار صادر عن محكمة الاستيناف بأكادير، بتاريخ 04/12/2007، في الملف عدد: 766/06، منشور بمجموعة قرارات استئنافية.
[131] - القواعد الفقهية وتطبيقاتها في المذاهب الأربعة، الدكتور محمد مصطفى الزحيلي، مرجع سابق، ص: 199
[132] - التمهيد لابن عبد البر (20/ 158-159)
[133] - المدخل الفقهي العام، مصطفى الزرقاء، الجزء الثاني، مرجع سابق، ص: 977 و 978
[134] - موطأ الإمام مالك، كتاب الأقضية، باب القضاء في المرفق، رقم: 2171
[135] - القواعد الفقهية وتطبيقاتها في المذاهب الأربعة، الدكتور محمد مصطفى الزحيلي، مرجع سابق، ص: 257
[136] - إيصال السالك في أصول الإمام مالك، محمد يحيى الولاتي، الطبعة الثانية (2010)، دار الرشاد الحديثة، الدار البيضاء -المغرب-، ص: 68
[137] - سورة الحج، الآية: 76
[138] - المجموع المذهب في قواعد المذهب، للحافظ صلاح الدين خليل كيكلدي العلائي الشافعي، تحقيق مجيد علي العبيدي وأحمد خضير عباس، الجزء الأول، المكتبة المكية (1425ه/2004م)، باب العمرة مكة المكرمة، ص: 99
[139] - سورة الحج، الآية: 78
[140] - سورة الأنفال، الآية 66
[141] - سورة البقرة، الآية: 286
[142] - سورة المائدة، الآية: 64
[143] - القواعد الفقهية وتطبيقاتها في المذاهب الأربعة، الدكتور محمد مصطفى الزحيلي، مرجع سابق، ص: 299
[144] - القواعد الفقهية وتطبيقاتها في المذاهب الأربعة، الدكتور محمد مصطفى الزحيلي، مرجع سابق، ص: 299
[145] - القواعد الفقهية وتطبيقاتها في المذاهب الأربعة، الدكتور محمد مصطفى الزحيلي، مرجع سابق، ص: 300
[146] - القواعد الفقهية وتطبيقاتها في المذاهب الأربعة، الدكتور محمد مصطفى الزحيلي، مرجع سابق، ص: 300
[147] - سورة النساء، الآية: 06
[148] - الجامع الصحيح، للإمام البخاري، كتاب النفقات، باب إذا لم ينفق الرجل فللمرأة أن تأخذ بغير علمه ما يكفيها وولدها بالمعروف، رقم: 5364
[149] - مسند الإمام أحمد،
[150] - حكم صادر بالمحكمة الابتدائية بالحسيمة، بتاريخ 15/03/2012، رقم: 165، في الملف عدد: 768/7/10، منشور بكتاب المنازعات الأسرية أمام قضاء الموضوع ومحكمة النقض، الدكتور ادريس الفاخوري، طبعة 2015، دار نشر المعرفة، الرباط ص: 108
[151] - حكم صادر قسم قضاء الأسرة بفاس، بتاريخ 13/12/2022، رقم : 3613، في الملف عدد 3062/1606/2022 (غير منشور).
[152] - قرار صادر عن محكمة الاستيناف بوجدة، بتاريخ 04/01/2012 رقم 06 ملف عدد 336/1606/2011 منشور بموقع مغرب القانون
[153] - قرار صادر عن محكمة النقض، بتايريخ 25 /03/2014، عدد 239، ملف عدد: 42/2/1/2013، منشور بمجلة قضاء محكمة النقض عدد 77 المنصة الرقمية لقرارات محكمة النقض https://juriscassation.cspj.ma/Decisions/RechercheDecisions