عرفت مسارات الإنسانية عبر التاريخ المؤسساتي تعاقب نظريات مختلفة أثرت في الكائن البشري بصفته فردا مواطنا و في الجماعة البشرية من حيث التطور و الاستقرار
واكب هذا المسار تطور تشريعي يلامس قضايا حقوق الإنسان بصفة عامة، و الحفاظ على الحق في الحرية و السلامة الجسدية بصفة خاصة. هذا الوضع - أي الحديث عن المبادئ الأولية لحقوق الإنسان - عرفه المغرب في وقت سادت فيه الشريعة الإسلامية قبل دخول الحماية و إقرار القوانين الوضعية المتشبعة بنظريات المدرسة الطبيعية و مبادئ فلسفة العقد الاجتماعي
حينما كان الاعتقاد سائدا عند الجماعات البدائية أن الجريمة تغضب الآلهة و العقوبة هي الكفيلة بدفع الإثم عن مرتكبها و ذلك في وقت لم يكن فيه نظام الدولة قد ظهر و لم يكن الفكر القانوني البدائي قد ميز بين الجرائم و أشباهها أو أدرك ان كل اعتداء على الفرد هو اعتداء على الأمن العام للجماعة، ما جعله يقسم العقوبات إلى جرائم عامة تمس كيان الجماعة و جرائم خاصة تمس المصالح الشخصية للأفراد، و هو تقسيم لم يعد له أساس في الوقت الحاضر لان الإجرام في حق الفرد هو اجرام في حق المجتمع يستدعي الزجر والعقاب، أما الحديث عن إجرام أجهزة و مؤسسات الدولة في حق الفرد فرهين بمعرفة مدى حماية المواطن انطلاقا من عدم المس بحقوقه و حرياته ، و هذا بدوره رهين بمدى احترام أي دولة للمعاهدات و الاتفاقيات الدولية التي تنضوي تحت يافطة حقوق الإنسان و المواطن
حيث انخرط المغرب في المنظومة الدولية بكل ما تعرفه من اكراهات و تحفظات و لعب دورا ايجابيا من خلال تبني سياسة التوقيع على المعاهدات والاتفاقيات الدولية، ومن أبرز هته المعاهدات ذات الطبيعة الكونية اتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة القاسية أو أللإنسانية أو المهنية والتي عرضت للتوقيع والتصديق والانضمام بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 39/46 المؤرخ في ديسمبر 1984 تاريخ بدأ النفاذ 26 يونيو 1987 وفقا لأحكام المادة 27 من المعاهدة صادق عليها المغرب بمقتضى ظهير 93362_1 المنشور بالجريدة الرسمية 4440 بتاريخ 16 دجنبر 1996 .
فلازالت الاتفاقيات الدولية الأسلوب المفضل الذي تعتمده المنظمات الدولية لضمان حقوق الإنسان في العالم، إلا آن مدى تفوق المعاهدات في حماية حقوق الأفراد و حرياتهم يبقى مقيدا بمدى الإرادة السياسية للدولة الحاضنة في تفعيل بنود المعاهدة، و قدرة القضاء الداخلي على التغلب على الممارسات التي تتبعها السلطات السياسية قصد تعطيل العمل بالاتفاقية في غياب أي ضمانات قانونية تحول دون المساس بكرامة المواطن، مما يطرح السؤال حول ماهية التوقيع على مثل هته الاتفاقيات ؟ هل هي قناعة و إيمان راسخ بحق المواطن في العيش بكرامة و حرية أم هو بمثابة
اعتراف بهذا الحق فقط أم مجرد ادعاء بالانتماء إلى دولة الحق و القانون و تلميع صورة البلد ضمن المنظومة العالمية باعتباره بلدا ديمقراطيا ؟
حيث صادق المغرب على اتفاقية فيينا المؤرخة في 26 شتنبر 1976 والمتعلقة بقانون المعاهدات التي تنص في الفصل 27 على انه لا يجوز للأطراف الموقعة آن تستدل بمقتضيات قانونية محلية لتبرر عدم تنفيذ المعاهدة . إلا أن الجانب الغالب في الفقه هو تغليب التشريع الوطني على حساب الارتباطات الدولية في حالة التعارض، و ما هو في الحقيقة إلا هروب من تطبيق القانون، لأننا بصدد الحديث عن ضحايا الانتهاكات الجسدية التي تمس أفراد المجتمع في بعدهم الإنساني، و لسنا بصدد الحديث عن خصوصيات تمس ثوابت الأمة من قبيل الدين الإسلامي أو النظام الملكي، وذلك راجع لقابلية النص القانوني للتأويل، و هذا مشكل يطرح حول مدى استقلالية السلطة القضائية باعتبارها الهيئة المؤهلة لتأويل النص حيث يطغى على عملها الجانب السياسي أكثر من الجانب القانوني وبالتالي نكون بصدد إخضاع القانون و تسييسه لخدمة توجه سياسي معين و الحيلولة دون تطبيق مبادئ العدالة .
هنا يطرح اندماج معاهدة التعذيب في النسيج القانوني بعض المشاكل مما يحول دون تطبيق بعض فصولها واقعيا، حيث تنص المادة 4 من المعاهدة » تضمن كل دولة طرف آن تكون جميع أعمال التعذيب جرائم بموجب قانونها الجنائي و ينطبق الأمر ذاته على قيام أي شخص بأية محاولة كممارسة التعذيب وعلى قيامه بأي عمل أخر يشكل تواطؤا آو مشاركة في التعذيب «، وإذا تصفحنا مقتضيات المادة 231من القانون الجنائي والتي تهم مباشرة أعمال العنف المتوقع ارتكابها من لدن رجال السلطة و أعوانهم لم نجد اطلاقا كلمة التعذيب وكذا الفصول 226الى 230و الفصل 259 من القانون الجنائي لا يشارالى التعذيب و لا يعاقب عليه إلا كظرف مشدد في حالة إذا ما ارتكب بمناسبة جريمة.
و من جهة ثانية تنص الفقرة الأولى من المادة الرابعة للمعاهدة، تحت على معاقبة محاولة التعذيب التي لا تتوافق مع المعاهدة، فلو فرضنا مثلا آن ضابط الشرطة القضائية حاول صفع آو ضرب المشتبه فيه بالسياط أثناء إجراء التحقيق فهذا السلوك حسب مقتضيات المعاهدة يعتبر محاولة تعذيب تستوجب العقاب، إلا أن هذا التصرف حسب مقتضيات القانون الجنائي المغربي لا يستوجب أي عقاب. هذا القصور على مستوى القانون الجنائي صورة مصغرة لما تعانيه الترسانة القانونية المغربية من نقص
فعلى مستوى القضاء الذي يعبر عنه ب )الأخرس الكبير( رغم الإجماع الوطني و الدولي على ضرورة استقلاله هناك عدة انتقادات توجه إليه بدعوى أن هذا الأخير يتخلى أحيانا كثيرة عن وظيفته في الدفاع عن حقوق الإنسان تحت ضغوط السلطة التنفيذية حيث يتم عرض العديد من حالات التعذيب على المحاكم المغربية ومنها قضايا تدعمها الأدلة الطبية ومع هذا لا يتم التحقيق فيها ولم يتابع المسؤولون عنها، إذ أن أحالة مثل هته القضايا على المحكمة يتطلب من الضحية مثابرة وعناء قد يواجه إما بحفظ الملف أو ينتظر سنوات حتى تفرغ المحكمة من نظر القضية، فالتعديل الدستوري الجديد بخصوص استقلال القضاء عن هيمنة السلطة التنفيذية ما هو إلا اعتراف صريح بكون جهاز القضاء كان خاضعا للسلطة التنفيذية، ما يحيلنا مباشرة إلى الطعن في جميع الإحكام ذات الطابع السياسي التي صدرت في حق ضحايا الحقوق السياسية بشتى الأصناف وما تعرضوا له من انتهاكات جسام من ضرب وكسر واعتقال بدون سند قانوني والاستنطاق المصحوب باليات نزع الاعتراف والأساليب الحديثة للتعذيب في مخافر الشرطة وكذا التعذيب المفضي إلى الموت ...، حالات لا زالت لم تشملها إحصائيات منظمات حقوق الإنسان سواء الدولية منها أو الوطنية .
كما أن دستور 1996 في مادته العاشرة نص على انه لا يلقى القبض على أحد و لا يعتقل و لا يعاقب إلا في الأحوال و حسب الإجراءات المنصوص عليها في القانون . فهذا النص لا يتضمن بشكل صريح منع التعذيب، فجميع الانتهاكات التي شهدها المغرب نتيجة الردة الحقوقية خصوصا بعد أحداث 16 ماي 2003 و ما شملته من اعتقالات واسعة، لا يشمل أية حماية دستورية ولا قانونية وفيه طعن صريح لمبادي حقوق الإنسان و المواطن 1948 و للعهدين المدني و السياسي 1966 وخرق قانوني خطير لاتفاقية مناهضة التعذيب و كذا لمقتضيات قانون الإرهاب الذي أصبح من أولويات المرحلة إلغاء هذا القانون .
هذا القصور على المستوى الدستوري تم تجاوزه طبقا لمقتضيات الدستور الجديد 2011 فقد تمت أخيرا دسترة جريمة التعذيب في وقت لم يكن يعتبر فيه التعذيب جريمة حيث نصت المادة 22 من الدستور في فقرتها الثالثة » ممارسة التعذيب بكافة أشكاله ومن قبل أي أحد جريمة يعاقب عليها القانون « . فالي أي حد يمكن اعتبار هته الإضافة النوعية ضمانة حقيقة لتطبيق اتفاقية مناهضة التعذيب وكذا ضمان سلامة المواطن من أي انتهاك لحرمته الجسدية ؟
و كذا قرار المجلس الحكومي الذي يعتبر مكسبا حقيقيا حيث ثم التصديق يوم 26 ماي 2011 على البروتوكول الاختياري لاتفاقية مناهضة التعذيب الذي أقرته الجمعية العامة للأمم المتحدة في دجنبر2002 وبهذا سيصبح بإمكان الضحايا تقديم الشكاوى مباشرة أمام اللجنة الأممية ذات الصلة بالاتفاقية، في حالة عدم احترام حقوقهم وحرياتهم، التي تكفلها الاتفاقية، شريطة أن يكونوا قد استنفذوا قبل ذلك جميع سبل الانتصاف الوطنية .
و لكن كثير من هته الحقوق تعاني عند إحالتها على القانون، فالنص القانوني يقيد ما تمت المصادقة عليه من اتفاقيات و ما تم التنصيص عليه في الدستور بصيغة عامة ، و من جهة أخرى يطرح مشكل جهل الضحية الناتج عن عدة أسباب تحول دون مطالبته بحقه وإتباع الإجراءات القانونية، من قبيل غياب حد أدنى من التأطير الحقوقي والقانوني وكذا السياسي الذي تتقاسم مسؤوليته كل من الدولة والمجتمع المدني .
فما يشهده العالم من تحول ومن حراك احتجاجي نحو رفع الظلم وإسقاط للفساد والمفسدين ستكون من حسناته خلق منظومة حقوقية عالية المستوى تحول دون المزيد من انتهاك لحقوق الإنسان، وتكثيف جهود مناهضة التعذيب، والقطع مع زمن الإفلات من العقاب في حق من تمت إدانتهم، والضغط على السلطة القضائية باعتبارها هيئة مستقلة مسؤولة عن تطبيق القانون والاتفاقيات الدولية بخصوص حقوق الإنسان التي صادق عليها المغرب، مع التسريع من وثيرة تعديل النصوص القانونية لسد الثغرات التي يعرفها النص القانوني و ما يعانيه من قصور، وكذا إصلاح مؤسسة العدالة في بنيتها و تجهيزاتها، دون أن ننسى أن المغرب قد قطع أشواطا كبيرا في مجال انتقال العدالة بدءا بإحداث هيئة الإنصاف و المصالحة رغم قصورها على دوي الخلفية السياسة فالمفروض أن تشمل جميع الضحايا وهدا هو روح المعاهدات و المواثيق الدولية
وأخيرا يجب تطوير هدا المجال الحقوقي انطلاقا من تنظيم مناظرات وطنية بين رجال القانون و الفاعلين في الحقل الحقوقي و المشهد السياسي، من أجل تطبيب الأمراض التي يعانيها الجسم الحقوقي المغربي. في وقت لا زلنا نعاني فيه من عدم تطبيق القانون، و خير مثال على ذلك واقع اتفاقية مناهضة التعذيب
نستشرف خيرا في المستقبل القريب، فالمدخل لبناء الحضارة هو احترام حقوق وحريات المواطن و بناء مجتمع خال من آلية التعذيب و تكوين انسان سليم من العاهات النفسية التي تخلفها اثار الحرمان و القمع و سلب الحرية و الارادة ...