إن استقلال النيابة العامة عن السلطة التنفيذية لم يصبح شأنا قضائيا فقط بل صار شأنا مجتمعيا بامتياز أجمعت عليه كل فعاليات المنظمات الحقوقية والمجتمع المدني رغبة في إبقاء الشأن القضائي بعيدا عن منطق السياسة وتجاذباتها وإكراهاتها التي لا تعرف مستقرها.
فقضاة النيابة العامة جزء لا يتجزأ من "السلطة القضائية"المستقلة دستوريا عن السلطة التنفيذية التي يمثلها وزير العدل طبقا للفصل 107 من الدستور ،لاسيما وأن إخراج الوزير المذكور من المجلس الأعلى للسلطة القضائية يعتبر في الحقيقة إيذانا بنهاية حياته في المجال القضائي،مما يجعل المجلس هو المكلف حصريا بتقييم أداء المحاكم رآسة ونيابة عامة،ولا يمكن تبعا لذلك إحداث تمايز في الإشراف والتتبع والمراقبة لوحدة النظام القضائي ،ويتأكد بقوة هذا الطرح أنه بقراءة متمعنة لأحكام الدستور لا نجد أي إشارة للحكومة أو وزارة العدل إلا في مادة وحيدة تتعلق بالفصل 113 المتعلق بتقديم آراء حول كل مسألة تتعلق بسير القضاء مع مراعاة مبدإ فصل السلط ،لأن المجلس الأعلى للسلطة القضائية هو صاحب الاختصاص الأصيل بإصدار تقارير حول وضعية القضاء ومنظومة العدالة، ويُصدر التوصيات الملائمة بشأنها.
وهكذا نجد أن توصيات لجنة الإنصاف والمصالحة وضعت اللبنة الأولى لمعالم استقلال النيابة العامة عن رجل السياسة بإقرارها ضرورة اعتماد تأهيل العدالة وتقوية استقلاليتها، من خلال فصل وظيفة وزير العدل عن المجلس الأعلى للقضاء، وتقوية الضمانات الدستورية لاستقلال المجلس الأعلى للقضاء، وجعل نظامه الأساسي يحدد بقانون تنظيمي يتم بمقتضاه مراجعة تشكيلته ووظيفته بما يضمن تمثيلية أطراف غير قضائية داخله مع الإقرار باستقلاله الذاتي بشريا وماليا، وتمكينه من سلطات واسعة في مجال تنظيم المهنة ووضع ضوابطها وأخلاقياتها وتقييم عمل القضاة وأدائهم وتخويله إعداد تقرير سنوي عن سير العدالة، ومراجعة تنظيم واختصاصات وزارة العدل بشكل يحول دون أي تدخل أو تأثير للجهاز الإداري في مجرى العدالة وسير المحاكمات، مما يوحي صراحة بإلزامية فك الارتباط بين النيابة العامة ووزير العدل والحريات.
ولاشك أن استقلال النيابة العامة عن وزارة العدل يثير إشكالية المحاسبة السياسية على اعتبار أن الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض غير محاسب سياسيا ،فكيف يمكن محاسبته ومراقبته؟ .
لابد من التأكيد أن إشكالية المحاسبة السياسية لوزير العدل تبقى في بلادنا مسألة نظرية فقط لعدم تحققها عمليا بحيث لم نشهد على طول التجاوزات الحقوقية المرتبطة بملف حقوق الإنسان التي عرفتها مسألة الإشراف السياسي على مرفق النيابة العامة لا استقالة الوزير ولا ملتمس رقابة بحق الحكومة ،وتبقى فقط الأسئلة البرلمانية مجرد تمارين سياسية تخلو من آثار قانونية ومن تصحيح للفعل السياسي أو الفعل القضائي.
ويبدو التأثير السياسي ذو مضمون وأثر خطير لارتباطه في أحايين عديدة بمصلحة حزب أو فاعل سياسي معين يشرف على مرفق النيابة العامة،ولاسيما في القضايا الحساسة وقضايا الفساد المالي والقضايا الانتخابية والشكايات ضد الوزراء أعضاء الحكومة التي عرفت تطورا في عددها في الآونة الأخيرة،والتي بصرف النظر عن كيفية التعامل معها ،تبقى الانتقادات القيمة الموجهة لمنطقها قاسية ومؤلمة ،خاصة وأن تعليمات وزير العدل لا تكون عامة ومجردة بل في أغلب الأحايين كانت توجيهية بشأن قضايا بعينها دون غيرها ،مما تبعت على القلق باتباعها منطق ازدواجية المعايير والهيمنة والتحكم ،لاسيما وأن تاريخ القضائي المغربي شاهد على مثل هذه التصرفات والتي لم تسئ للقضاء أو لوزارة العدل وإنما للوطن بأكمله،ولم يسجل في أي يوم من الأيام توجيه تعليمات مكتوبة للوزير المعني لإعلان منطق ربط المسؤولية بالمحاسبة ،بل كل ما عايناه هو إلقاء اللوم على النيابة العامة حالة الخطأ في التعليمات ونيل التمجيد والاعتراف حالة صوابية التدخل،رغم أن الوزير مهما كان تخصصه ليس له علم بدقائق وتقنيات النيابة العامة من الناحية العملية ،فيكون الإشراف بذلك ذو مضمون سياسي يفتقد للمنطق الدستوري والقانوني.
فاستقلالية النيابة العامة عنصر لا غنى عنه لضمان لسيادة القانون واحترام حقوق وحريات الأفراد والجماعات، بل حتى نادي القضاة الذي طالما جهر وكشف مختلف مظاهر التدخل في استقلال القضاء، التي "عادة ما تأتي من وزارة العدل والحريات والسلطة التنفيذية عن طريق النيابة العامة"،قدم في إحدى دورات مجلسه الوطني، وثيقة للمطالبة باستقلال النيابة العامة عن وزارة العدل، موقعة من مئات القضاة من مختلف محاكم الوطن، اعتبرت وثيقة خالدة في تاريخ المغرب أسوة بوثيقة المطالبة بالاستقلال، وتشكل خارطة طريق حقيقية لتفعيل استقلالية حقيقية للسلطة القضائية عن باقي السلط المتعارف عليها والمنصوص عليها دستوريا.
هذه الاستقلالية لا يمكن أن تتحقق إلا بتعديل مقتضيات مشروع القانونين التنظيميين للمجلس الأعلى للسلطة القضائية والنظام الأساسي للقضاء لتنزيل محكم لقانون السلطة القضائية بجعلها سلطة مستقلة في تنظيمها واختصاصها، والارتقاء بالنيابة العامة كسلطة مستقلة بعيدا عن التجاذبات والتدخلات التي تذيب طموحه في الاستقلال.
والمأمول تحقيق سلطة قضائية قوية قائمة الذات تقوم على الاستقلال المطلق عن كل السلطات والأجهزة وكل ما يمكن أن يؤثر فيها وفي قراراتها، لأن "بناء الدولة الحديثة يفرض مثل هذه الاستقلالية" لأن القضاء والنيابة العامة واستقلالهما الكامل والشامل عن الوزارة، جزء لا يتجزأ من أسس البناء القويم والسليم للسلطة القضائية.
وهكذا إذا كان الدستور المغربي الجديد لسنة 2011 ارتقى بعمل النيابة العامة إلى إضفاء الطابع القضائي عليها وبيان خصوصيته وتحديد نطاق الالتزام بقاعدة التعليمات بحيث نصت الفقرة 2 من الفصل 110 منه على يجب على قضاة النيابة العامة تطبيق القانون. كما يتعين عليهم الالتزام بالتعليمات الكتابية القانونية الصادرة عن السلطة التي يتبعون لها.ويبقى الأمل معلقا على النصوص التنظيمية لتحديد مجال التعليمات وحدودها وحماية ممثل النيابة العامة المعترض على التعليمات غير القانونية بحماية استقلاله.
وإذا كان الدستور لم يحسم في طبيعة السلطة التي يتبعون لها فإن ذلك مرده استحضار النقاشات والأفكار الداعمة لاستقلاليتها عن السلطة التنفيذية ومنها مطالبات نادي قضاة المغرب ومختلف الهيئآت الحقوقية وهو ما تبنته هيئة الحوار الوطني لإصلاح العدالة.
ولضمان استقلالية النيابة العامة عن السلطة التنفيذية وتطوير أدائها الحقوقي يستلزم تحقيق وتفعيل المطالب الدستورية للجسم الحقوقي بالفصل بين السياسي والقضائي فصلا نهائيا مع توفير ضمانات قضائية ناجعة لدعم المسؤولية بالمحاسبة ،وفق التوجهات التي أكدتها الندوة الدولية التي نظمها النسيج المدني للدفاع عن استقلال السلطة القضائية تحت إشراف جمعية عدالة ونادي قضاة المغرب ومن أهمها:
-تخويل الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض باعتباره رئيس النيابة العامة الإشراف وتتبع أعمال النيابة العامة.
- إستقلال سلطة النيابة العامة عن السلطة التنفيذية بشكل مطلق، للطلاق البائن بين السياسي والقضائي
- صلاحية السلطة الحكومية المكلفة بالعدل في تبليغ السياسة الجنائية العامة للوكيل العام للملك بمحكمة النقض على أن تكون كتابة و غير متعلقة بحالات محددة.
- نقل الإشراف الكلي على الضابطة القضائية إلى سلطة النيابة العامة، و جعلها من أجهزة السلطة القضائية.
- إحداث مجلس الوكلاء العامين للملك تحت السلطة المباشرة للوكيل العام للملك بمحكمة النقض يخول له إقتراح موجهات السياسة الجنائية و السهر على تنفيذها.
- تخويل هذا المجلس حق مراجعة قرارات النيابة العامة المتصلة بحفظ الشكايات، و سائر التظلمات ضد القرارات المتعلقة بها.
- تخويل مجلس الوكلاء العامين للملك صلاحية مراقبة أعمال النيابة العامة.
- تعزيز إستقلالية قاض النيابة العامة، في إبداء آرائه بكل حرية و إستقلال في الجلسات العلنية.
- تنظيم قاعدة التبعية و التسلسل الرئاسي و حدوده التي يخضع لها قضاة النيابة العامة.
- تمتيع قضاة النيابة العامة بنفس الحصانة ضد النقل و العزل التي يتمتع بها قضاة الأحكام.
كما يمكن التنصيص على الحق في الطعن ضد التوصيات الصادرة في إطار السياسة الجنائية عن المجلس الأعلى للسلطة القضائية،ودراسة إمكانية عرض مختلف توصيات المجلس وآرائه بشأن سير العدالة على لجان البرلمان لمناقشتها .
وفي الختام نقول أن التراجع الحكومي عن نقطة الضوء الوحيدة في مشروع الميثاق الوطني المصادق عليها من قبل جلالة الملك فيما يتعلق باستقلالية النيابة العامة عن وزير العدل يعيدنا إلى نقطة الصفر ويظهر أن القرارات الكبرى الحكومية لا تحتاج لحوار بل تحتاج لقيادة وزارية بفكر دستوري لا تؤمن بالهيمنة والتحكم قادرة على التنازل عن السلطة لفائدة الإصلاح ،لأن السلطة متغيرة تنتقل بالخيار الديمقراطي وبصندوق الاقتراع ولا مكان فيها للثابت ،فحينما نطالب بالإصلاح لا نستهدف إخراج وزير سياسي معين من مجال معين بل لإخراج الوطن من دائرة ضيق الأفق السياسي إلى مجال رحب لقضاء النيابة العامة -برئاسة الوكيل العام للملك بمحكمة النقض - يتسم بالضمانات القضائية وباستقلال القضاء تحت إشراف المجلس الأعلى للسلطة القضائية الذي من مكوناته هيئات حقوقية وعناصر من المجتمع المدني.
وهو ما جعل وزير العدل الحالي مصطفى الرميد يقول في كلمته بمناسبة تخرج الفوج الأخير من الملحقين القضائيين 20/2/2014 "استقلال القضاء لا يتم إلا بنأيه عن تلاوين الانتماءات الحزبية و المذهبية الضيقة".
لكن ما ينقصنا هو فقط الإيمان بما نقول ومهما اختلفت المواقع وبتحقيق مطلب أجمعت عليه لجنة الحوار القضائي وصادق عليه صاحب الجلالة، والتفت عليه مجموع إرادة القضاة ،فما جدوى إذن مصادرة الأمل ؟ ."
فقضاة النيابة العامة جزء لا يتجزأ من "السلطة القضائية"المستقلة دستوريا عن السلطة التنفيذية التي يمثلها وزير العدل طبقا للفصل 107 من الدستور ،لاسيما وأن إخراج الوزير المذكور من المجلس الأعلى للسلطة القضائية يعتبر في الحقيقة إيذانا بنهاية حياته في المجال القضائي،مما يجعل المجلس هو المكلف حصريا بتقييم أداء المحاكم رآسة ونيابة عامة،ولا يمكن تبعا لذلك إحداث تمايز في الإشراف والتتبع والمراقبة لوحدة النظام القضائي ،ويتأكد بقوة هذا الطرح أنه بقراءة متمعنة لأحكام الدستور لا نجد أي إشارة للحكومة أو وزارة العدل إلا في مادة وحيدة تتعلق بالفصل 113 المتعلق بتقديم آراء حول كل مسألة تتعلق بسير القضاء مع مراعاة مبدإ فصل السلط ،لأن المجلس الأعلى للسلطة القضائية هو صاحب الاختصاص الأصيل بإصدار تقارير حول وضعية القضاء ومنظومة العدالة، ويُصدر التوصيات الملائمة بشأنها.
وهكذا نجد أن توصيات لجنة الإنصاف والمصالحة وضعت اللبنة الأولى لمعالم استقلال النيابة العامة عن رجل السياسة بإقرارها ضرورة اعتماد تأهيل العدالة وتقوية استقلاليتها، من خلال فصل وظيفة وزير العدل عن المجلس الأعلى للقضاء، وتقوية الضمانات الدستورية لاستقلال المجلس الأعلى للقضاء، وجعل نظامه الأساسي يحدد بقانون تنظيمي يتم بمقتضاه مراجعة تشكيلته ووظيفته بما يضمن تمثيلية أطراف غير قضائية داخله مع الإقرار باستقلاله الذاتي بشريا وماليا، وتمكينه من سلطات واسعة في مجال تنظيم المهنة ووضع ضوابطها وأخلاقياتها وتقييم عمل القضاة وأدائهم وتخويله إعداد تقرير سنوي عن سير العدالة، ومراجعة تنظيم واختصاصات وزارة العدل بشكل يحول دون أي تدخل أو تأثير للجهاز الإداري في مجرى العدالة وسير المحاكمات، مما يوحي صراحة بإلزامية فك الارتباط بين النيابة العامة ووزير العدل والحريات.
ولاشك أن استقلال النيابة العامة عن وزارة العدل يثير إشكالية المحاسبة السياسية على اعتبار أن الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض غير محاسب سياسيا ،فكيف يمكن محاسبته ومراقبته؟ .
لابد من التأكيد أن إشكالية المحاسبة السياسية لوزير العدل تبقى في بلادنا مسألة نظرية فقط لعدم تحققها عمليا بحيث لم نشهد على طول التجاوزات الحقوقية المرتبطة بملف حقوق الإنسان التي عرفتها مسألة الإشراف السياسي على مرفق النيابة العامة لا استقالة الوزير ولا ملتمس رقابة بحق الحكومة ،وتبقى فقط الأسئلة البرلمانية مجرد تمارين سياسية تخلو من آثار قانونية ومن تصحيح للفعل السياسي أو الفعل القضائي.
ويبدو التأثير السياسي ذو مضمون وأثر خطير لارتباطه في أحايين عديدة بمصلحة حزب أو فاعل سياسي معين يشرف على مرفق النيابة العامة،ولاسيما في القضايا الحساسة وقضايا الفساد المالي والقضايا الانتخابية والشكايات ضد الوزراء أعضاء الحكومة التي عرفت تطورا في عددها في الآونة الأخيرة،والتي بصرف النظر عن كيفية التعامل معها ،تبقى الانتقادات القيمة الموجهة لمنطقها قاسية ومؤلمة ،خاصة وأن تعليمات وزير العدل لا تكون عامة ومجردة بل في أغلب الأحايين كانت توجيهية بشأن قضايا بعينها دون غيرها ،مما تبعت على القلق باتباعها منطق ازدواجية المعايير والهيمنة والتحكم ،لاسيما وأن تاريخ القضائي المغربي شاهد على مثل هذه التصرفات والتي لم تسئ للقضاء أو لوزارة العدل وإنما للوطن بأكمله،ولم يسجل في أي يوم من الأيام توجيه تعليمات مكتوبة للوزير المعني لإعلان منطق ربط المسؤولية بالمحاسبة ،بل كل ما عايناه هو إلقاء اللوم على النيابة العامة حالة الخطأ في التعليمات ونيل التمجيد والاعتراف حالة صوابية التدخل،رغم أن الوزير مهما كان تخصصه ليس له علم بدقائق وتقنيات النيابة العامة من الناحية العملية ،فيكون الإشراف بذلك ذو مضمون سياسي يفتقد للمنطق الدستوري والقانوني.
فاستقلالية النيابة العامة عنصر لا غنى عنه لضمان لسيادة القانون واحترام حقوق وحريات الأفراد والجماعات، بل حتى نادي القضاة الذي طالما جهر وكشف مختلف مظاهر التدخل في استقلال القضاء، التي "عادة ما تأتي من وزارة العدل والحريات والسلطة التنفيذية عن طريق النيابة العامة"،قدم في إحدى دورات مجلسه الوطني، وثيقة للمطالبة باستقلال النيابة العامة عن وزارة العدل، موقعة من مئات القضاة من مختلف محاكم الوطن، اعتبرت وثيقة خالدة في تاريخ المغرب أسوة بوثيقة المطالبة بالاستقلال، وتشكل خارطة طريق حقيقية لتفعيل استقلالية حقيقية للسلطة القضائية عن باقي السلط المتعارف عليها والمنصوص عليها دستوريا.
هذه الاستقلالية لا يمكن أن تتحقق إلا بتعديل مقتضيات مشروع القانونين التنظيميين للمجلس الأعلى للسلطة القضائية والنظام الأساسي للقضاء لتنزيل محكم لقانون السلطة القضائية بجعلها سلطة مستقلة في تنظيمها واختصاصها، والارتقاء بالنيابة العامة كسلطة مستقلة بعيدا عن التجاذبات والتدخلات التي تذيب طموحه في الاستقلال.
والمأمول تحقيق سلطة قضائية قوية قائمة الذات تقوم على الاستقلال المطلق عن كل السلطات والأجهزة وكل ما يمكن أن يؤثر فيها وفي قراراتها، لأن "بناء الدولة الحديثة يفرض مثل هذه الاستقلالية" لأن القضاء والنيابة العامة واستقلالهما الكامل والشامل عن الوزارة، جزء لا يتجزأ من أسس البناء القويم والسليم للسلطة القضائية.
وهكذا إذا كان الدستور المغربي الجديد لسنة 2011 ارتقى بعمل النيابة العامة إلى إضفاء الطابع القضائي عليها وبيان خصوصيته وتحديد نطاق الالتزام بقاعدة التعليمات بحيث نصت الفقرة 2 من الفصل 110 منه على يجب على قضاة النيابة العامة تطبيق القانون. كما يتعين عليهم الالتزام بالتعليمات الكتابية القانونية الصادرة عن السلطة التي يتبعون لها.ويبقى الأمل معلقا على النصوص التنظيمية لتحديد مجال التعليمات وحدودها وحماية ممثل النيابة العامة المعترض على التعليمات غير القانونية بحماية استقلاله.
وإذا كان الدستور لم يحسم في طبيعة السلطة التي يتبعون لها فإن ذلك مرده استحضار النقاشات والأفكار الداعمة لاستقلاليتها عن السلطة التنفيذية ومنها مطالبات نادي قضاة المغرب ومختلف الهيئآت الحقوقية وهو ما تبنته هيئة الحوار الوطني لإصلاح العدالة.
ولضمان استقلالية النيابة العامة عن السلطة التنفيذية وتطوير أدائها الحقوقي يستلزم تحقيق وتفعيل المطالب الدستورية للجسم الحقوقي بالفصل بين السياسي والقضائي فصلا نهائيا مع توفير ضمانات قضائية ناجعة لدعم المسؤولية بالمحاسبة ،وفق التوجهات التي أكدتها الندوة الدولية التي نظمها النسيج المدني للدفاع عن استقلال السلطة القضائية تحت إشراف جمعية عدالة ونادي قضاة المغرب ومن أهمها:
-تخويل الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض باعتباره رئيس النيابة العامة الإشراف وتتبع أعمال النيابة العامة.
- إستقلال سلطة النيابة العامة عن السلطة التنفيذية بشكل مطلق، للطلاق البائن بين السياسي والقضائي
- صلاحية السلطة الحكومية المكلفة بالعدل في تبليغ السياسة الجنائية العامة للوكيل العام للملك بمحكمة النقض على أن تكون كتابة و غير متعلقة بحالات محددة.
- نقل الإشراف الكلي على الضابطة القضائية إلى سلطة النيابة العامة، و جعلها من أجهزة السلطة القضائية.
- إحداث مجلس الوكلاء العامين للملك تحت السلطة المباشرة للوكيل العام للملك بمحكمة النقض يخول له إقتراح موجهات السياسة الجنائية و السهر على تنفيذها.
- تخويل هذا المجلس حق مراجعة قرارات النيابة العامة المتصلة بحفظ الشكايات، و سائر التظلمات ضد القرارات المتعلقة بها.
- تخويل مجلس الوكلاء العامين للملك صلاحية مراقبة أعمال النيابة العامة.
- تعزيز إستقلالية قاض النيابة العامة، في إبداء آرائه بكل حرية و إستقلال في الجلسات العلنية.
- تنظيم قاعدة التبعية و التسلسل الرئاسي و حدوده التي يخضع لها قضاة النيابة العامة.
- تمتيع قضاة النيابة العامة بنفس الحصانة ضد النقل و العزل التي يتمتع بها قضاة الأحكام.
كما يمكن التنصيص على الحق في الطعن ضد التوصيات الصادرة في إطار السياسة الجنائية عن المجلس الأعلى للسلطة القضائية،ودراسة إمكانية عرض مختلف توصيات المجلس وآرائه بشأن سير العدالة على لجان البرلمان لمناقشتها .
وفي الختام نقول أن التراجع الحكومي عن نقطة الضوء الوحيدة في مشروع الميثاق الوطني المصادق عليها من قبل جلالة الملك فيما يتعلق باستقلالية النيابة العامة عن وزير العدل يعيدنا إلى نقطة الصفر ويظهر أن القرارات الكبرى الحكومية لا تحتاج لحوار بل تحتاج لقيادة وزارية بفكر دستوري لا تؤمن بالهيمنة والتحكم قادرة على التنازل عن السلطة لفائدة الإصلاح ،لأن السلطة متغيرة تنتقل بالخيار الديمقراطي وبصندوق الاقتراع ولا مكان فيها للثابت ،فحينما نطالب بالإصلاح لا نستهدف إخراج وزير سياسي معين من مجال معين بل لإخراج الوطن من دائرة ضيق الأفق السياسي إلى مجال رحب لقضاء النيابة العامة -برئاسة الوكيل العام للملك بمحكمة النقض - يتسم بالضمانات القضائية وباستقلال القضاء تحت إشراف المجلس الأعلى للسلطة القضائية الذي من مكوناته هيئات حقوقية وعناصر من المجتمع المدني.
وهو ما جعل وزير العدل الحالي مصطفى الرميد يقول في كلمته بمناسبة تخرج الفوج الأخير من الملحقين القضائيين 20/2/2014 "استقلال القضاء لا يتم إلا بنأيه عن تلاوين الانتماءات الحزبية و المذهبية الضيقة".
لكن ما ينقصنا هو فقط الإيمان بما نقول ومهما اختلفت المواقع وبتحقيق مطلب أجمعت عليه لجنة الحوار القضائي وصادق عليه صاحب الجلالة، والتفت عليه مجموع إرادة القضاة ،فما جدوى إذن مصادرة الأمل ؟ ."