إن ما نشرته بعض الصحف من وجود خلاف داخل الحكومة حول انعتاق النيابة العامة من ربقة التبعية لوزارة العدل، بعلة الخوف من انفلات القضاة من الرقابة، وتشييد دولتهم المارقة عن الضبط المعهود، يؤكد بما لا يدع مجالا للشك عن عمق الانفصام بين حداثة الخطاب وتقليدانية الممارسة اعتبارا لكون من حمل لواء الدفاع عن استمرارية التبعية لحد الآن كثيرا ما شنف أسماعنا بخطب منبرية عصماء عن مساويء عدم استقلالية القضاء، متناسيا أن المدخل الأساسي للاستقلالية الوظيفية رهين بفك الارتباط عن وزارة العدل باعتبارها من مكونات السلطة التنفيذية التي أقر دستور 2011 باستقلالية السلطة القضائية عنها وعن السلطة التشريعية.
وعلى الرغم من الانتقادات الممكن توجيهها لميثاق إصلاح منظومة العدالة، فقد شكلت توصية جعل النيابة العامة تابعة كليا للوكيل العام للملك لدى محكمة النقض، ثورة حقيقية وخطوة تاريخية في مسار دعم استقلالية القضاء، تلك الاستقلالية التي لا يمكن تصورها إلا برفع يد وزير العدل عن القضاء.
وإذا كانت الاستقلالية عقيدة وجدانية، وثقافة مكتسبة وثيقة الصلة بالبنية الذهنية لممارس النيابة العامة إلا أنه لا يمكن بأي حال إغفال الضمانات القانونية لممارسة سليمة لا تعول على محض الجرأة الشخصية، وإنما تتقوى بتحصيناتها القانونية.
لقد ترك الدستور الباب مواربا عما سيسفر عنه النقاش الحقوقي حول الجهة التي ستتبع لها النيابة العامة، وتمكن المجلس الوطني لحقوق الانسان الذي تترأسه شخصيات حقوقية متجذرة من الوعي بأهمية استقلالية النيابة العامة، ورفع بهذا الخصوص مذكرة إلى الجناب الشريف حظيت بتنويه معلن، شجع دعاة الاستقلالية على الاستماثة في الدفاع عن مطمحهم من داخل لجنة الحوار بلغ أوجه فيما رشح من صدام بين الوزير والوكيل.على النحو الذي سيجعل من اختلاق خلاف حول توصية حسم في أمرها بقرار حقوقي مجمع عليه، نكوصا غير بريء، ومساسا بما لأعضاء لجنة الحوار الوطني من مصداقية،
وإذا كانت فرنسا التاريخ والأنوار تعرضت لصفعة قوية من المحكمة الأوروبية لحقوق الانسان حين انتقصت من استقلالية قضائها، فلأنها لازالت لم تحسم في النقاش المعتمل منذ أكثر من عقد حول استقلالية النيابة العامة عن حارس الأختام، رغم المطالب المتزايدة بالاستقلالية لمجموع الطيف الحقوقي وعلى رأسها اتحاد نقابة القضاة USM والتي تبقى مسألة وقت لا غير وإلا فإن النظام القضائي الفرنسي المنتقد سيحكم عليه بالغربة داخل الاتحاد الأوروبي. وإذن سيكسب وطننا الحبيب متى تم ترسيم الاستقلالية نقطة قوية للدفاع عن صورته في المحافل الدولية.
لنعد إلى أسس تخوفات أعداء الاستقلالية، ولنقف عن أسانيدها المعلنة، مادام أن مضمراتها في بلد كالمغرب تنتعش فيه الوساطة للافلات من حكم القانون لا تحتاج إلى تدليل.
من سيقدم الحساب أمام الشعب عن السياسة الجنائية إذا استقلت النيابة العامة عن السلطة التنفيذية؟ وهل سنعبد باسم الاستقلالية الطريق إلى تأسيس دولة للقضاة خارج أية رقابة؟
عندما طرح التساؤل الأول في ساحة النقاش الفرنسي كان ينطلق من وجود سياسة جنائية واضحة يرسم معالمها حارس الأختام وينشرها في الجريدة الرسمية، يطلع عليها الجميع، ويتتبع أجرأتها على الأرض من طرف النيابات العمومية، حتى إذا انحرفت عما جرى التعهد بشأنه علنا كانت المحاسبة صنو المسؤولية من طرف برلمان يقض، قوي، يمارس صلاحياته الدستورية بكل مسؤولية. أما في المغرب فإن التساؤل عن وجود سياسة جنائية بالمفهوم المنوه عنه يغدو مشروعا، هل نتوفر على سياسة جنائية واضحة، مكتوبة، ومنشورة؟ هل سبق لوزير ما في العدل أن تقدم أمام البرلمان لاطلاعه على السياسة التي سيحارب بها الظاهرة الإجرامية؟ والبرنامج الذي سيوجه به النيابة العامة في تدبير الدعوى العمومية؟ ثم هل سبق للبرلمان أن حاسب وزيرا للعدل عن توجه معين في معالجة الجنوح عن القانون؟
إن الذين يطرحون سؤال المحاسبة عن السياسة الجنائية، يهملون الجواب عن بعض من هذه الأسئلة، ويغفلون أن وزير العدل بصريح القانون في الوضعية الحالية ليس رئيسا للنيابة العامة، ولا سلطة له على أعضائها إلا ما تعلق بالتماس البحت في بعض الجرائم دون صلاحية الأمر بالحفظ، أو عدم المتابعة، أو ممارسة الطعون العادية وغيرها من الأعمال القضائية الصرفة التي لا يملك أساسا قانونيا لإعطاء تعليمات في شأنها، ولكن بحكم تنقيطه للوكلاء والوكلاء العامين، ولعوامل تاريخية مرتبطة بكون الوزارة هي عادة من يقترح مناصب المسؤولية على رأس النيابة العامة، ولأسباب شخصية، فقد تخلت النيابة العامة عن جزء كبير من استقلاليتها، وغدت بحكم الممارسة المسيجة ببعض المناشير، والرسائل الدورية أسيرة التوجيهات المركزية.
وإذن فمتى كانت وزارة العدل طيلة مسارها التاريخي لم تنتج سياسة جنائية مكتوبة، معلومة، منشورة بوضوح، وكانت مساءلة البرلمان لها بهذا الشأن منتفية، فإن طرح السؤال عن المحاسبة بمناسبة التوصية بجعل النيابة العامة تابعة للوكيل العام للنقض، يغدو خارج الزمن المغربي الراهن، ومحكوما بدوافع غير علمية ليس أقلها الرغبة في الاستفادة من هيمنة الوزارة عندما تضطرنا الوقائع إلى النزول لساحة المحاكم.
ومع ذلك، فإن نيابة عامة تابعة للوكيل العام لمحكمة النقض، هي القادرة على رسم سياسة جنائية إقليمية، تأخذ بعين الاعتبار خصوصية الدوائر الاستئنافية، وتقدم أجوبة قانونية عن محاصرة الظاهرة الإجرامية، انطلاقا من كون مجمع الوكلاء والوكلاء العامون الذي سيلتئم كلما دعت الضرورة تحت إشراف رئيسه هو القادر على النقل الأمين لواقع الدعوى العمومية في الأقاليم، لإكراهاتها الواقعية، وإشكالاتها القانونية.
إن استحضار وظيفة الإمامة باعتبارها العمق التاريخي لشرعية القاضي المعاصر، قد يشكل حلا مناسبا لإشكالية الاستقلالية والمحاسبة، فمادام تعيين الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض مجالا محفوظا للقاضي الأول جلالة الملك، فإن رئيس النيابة العامة لا يدين بالمحاسبة عن سياسته الجنائية إلا لمن يملك سلطة تعيينه وإقالته، وهو صاحب الجلالة، أما بالنسبة للبرلمان فليس هناك ما يلزمه على المثول أمام غرفتيه إلا ما قد يقتضيه واجب التعاون وتكامل بين السلط دون أن يؤدي ذلك إلى الاخلال بما لكل سلطة من استقلالية.
أما الحديث عن تغول للقضاة فلا يستحق النقاش لإنه بقدر ما يثير الضحك، ويبعث على السخرية بقدر يصور لنا المشهد في المغرب على غرار نظيره في الولايات المتحدة الأمريكية منشأ مصطلح دولة القضاة. متناسين أن قاضيا مغربيا خاطر بنشر خاطرة في خاطر الإصلاح فكان جزاؤه عقوبة خماسية: 1 التوقيف عن العمل،2 توقيف الأجر، 3 النقل،4 الحرمان من الترقية 5 - والحرمان من إيصال فكره المستنير بالترشح للنيابة عن زملائه في المجلس، في حين وبخ قاض آخر نشر فقط صورة اطلاعه بجدية على الجلسة بالقرب من مدخل القاعة بعدما تعذر إيجاد مكتب يأويه، وحرم من حقه في الدرجة الاستئثنائية. فعن أية دولة للقضاة نتحدث.
إن التاريخ يسجل أنه في الوقت الذي كان هناك من يدافع عن استقلالية القرار القانوني في تدبير الدعوى العمومية، بما يستكمل للسلطة القضائية مقومات استقلالها الدستوري، وينأى بالقضاء عن تجادبات الساسة، ومناوراتهم في استدراج القضاء لتصفية خصومهم، كان هناك من اعتاد الاقتيات على العلاقات النفعية في تدبير مشاكله القانونية، فراح يهول من أخطار الاستقلالية، حتى ولو استدعى الأمر اختلاق وهم المحاسبة البرلمانية أو تشييد دولة للقضاة.
وعلى الرغم من الانتقادات الممكن توجيهها لميثاق إصلاح منظومة العدالة، فقد شكلت توصية جعل النيابة العامة تابعة كليا للوكيل العام للملك لدى محكمة النقض، ثورة حقيقية وخطوة تاريخية في مسار دعم استقلالية القضاء، تلك الاستقلالية التي لا يمكن تصورها إلا برفع يد وزير العدل عن القضاء.
وإذا كانت الاستقلالية عقيدة وجدانية، وثقافة مكتسبة وثيقة الصلة بالبنية الذهنية لممارس النيابة العامة إلا أنه لا يمكن بأي حال إغفال الضمانات القانونية لممارسة سليمة لا تعول على محض الجرأة الشخصية، وإنما تتقوى بتحصيناتها القانونية.
لقد ترك الدستور الباب مواربا عما سيسفر عنه النقاش الحقوقي حول الجهة التي ستتبع لها النيابة العامة، وتمكن المجلس الوطني لحقوق الانسان الذي تترأسه شخصيات حقوقية متجذرة من الوعي بأهمية استقلالية النيابة العامة، ورفع بهذا الخصوص مذكرة إلى الجناب الشريف حظيت بتنويه معلن، شجع دعاة الاستقلالية على الاستماثة في الدفاع عن مطمحهم من داخل لجنة الحوار بلغ أوجه فيما رشح من صدام بين الوزير والوكيل.على النحو الذي سيجعل من اختلاق خلاف حول توصية حسم في أمرها بقرار حقوقي مجمع عليه، نكوصا غير بريء، ومساسا بما لأعضاء لجنة الحوار الوطني من مصداقية،
وإذا كانت فرنسا التاريخ والأنوار تعرضت لصفعة قوية من المحكمة الأوروبية لحقوق الانسان حين انتقصت من استقلالية قضائها، فلأنها لازالت لم تحسم في النقاش المعتمل منذ أكثر من عقد حول استقلالية النيابة العامة عن حارس الأختام، رغم المطالب المتزايدة بالاستقلالية لمجموع الطيف الحقوقي وعلى رأسها اتحاد نقابة القضاة USM والتي تبقى مسألة وقت لا غير وإلا فإن النظام القضائي الفرنسي المنتقد سيحكم عليه بالغربة داخل الاتحاد الأوروبي. وإذن سيكسب وطننا الحبيب متى تم ترسيم الاستقلالية نقطة قوية للدفاع عن صورته في المحافل الدولية.
لنعد إلى أسس تخوفات أعداء الاستقلالية، ولنقف عن أسانيدها المعلنة، مادام أن مضمراتها في بلد كالمغرب تنتعش فيه الوساطة للافلات من حكم القانون لا تحتاج إلى تدليل.
من سيقدم الحساب أمام الشعب عن السياسة الجنائية إذا استقلت النيابة العامة عن السلطة التنفيذية؟ وهل سنعبد باسم الاستقلالية الطريق إلى تأسيس دولة للقضاة خارج أية رقابة؟
عندما طرح التساؤل الأول في ساحة النقاش الفرنسي كان ينطلق من وجود سياسة جنائية واضحة يرسم معالمها حارس الأختام وينشرها في الجريدة الرسمية، يطلع عليها الجميع، ويتتبع أجرأتها على الأرض من طرف النيابات العمومية، حتى إذا انحرفت عما جرى التعهد بشأنه علنا كانت المحاسبة صنو المسؤولية من طرف برلمان يقض، قوي، يمارس صلاحياته الدستورية بكل مسؤولية. أما في المغرب فإن التساؤل عن وجود سياسة جنائية بالمفهوم المنوه عنه يغدو مشروعا، هل نتوفر على سياسة جنائية واضحة، مكتوبة، ومنشورة؟ هل سبق لوزير ما في العدل أن تقدم أمام البرلمان لاطلاعه على السياسة التي سيحارب بها الظاهرة الإجرامية؟ والبرنامج الذي سيوجه به النيابة العامة في تدبير الدعوى العمومية؟ ثم هل سبق للبرلمان أن حاسب وزيرا للعدل عن توجه معين في معالجة الجنوح عن القانون؟
إن الذين يطرحون سؤال المحاسبة عن السياسة الجنائية، يهملون الجواب عن بعض من هذه الأسئلة، ويغفلون أن وزير العدل بصريح القانون في الوضعية الحالية ليس رئيسا للنيابة العامة، ولا سلطة له على أعضائها إلا ما تعلق بالتماس البحت في بعض الجرائم دون صلاحية الأمر بالحفظ، أو عدم المتابعة، أو ممارسة الطعون العادية وغيرها من الأعمال القضائية الصرفة التي لا يملك أساسا قانونيا لإعطاء تعليمات في شأنها، ولكن بحكم تنقيطه للوكلاء والوكلاء العامين، ولعوامل تاريخية مرتبطة بكون الوزارة هي عادة من يقترح مناصب المسؤولية على رأس النيابة العامة، ولأسباب شخصية، فقد تخلت النيابة العامة عن جزء كبير من استقلاليتها، وغدت بحكم الممارسة المسيجة ببعض المناشير، والرسائل الدورية أسيرة التوجيهات المركزية.
وإذن فمتى كانت وزارة العدل طيلة مسارها التاريخي لم تنتج سياسة جنائية مكتوبة، معلومة، منشورة بوضوح، وكانت مساءلة البرلمان لها بهذا الشأن منتفية، فإن طرح السؤال عن المحاسبة بمناسبة التوصية بجعل النيابة العامة تابعة للوكيل العام للنقض، يغدو خارج الزمن المغربي الراهن، ومحكوما بدوافع غير علمية ليس أقلها الرغبة في الاستفادة من هيمنة الوزارة عندما تضطرنا الوقائع إلى النزول لساحة المحاكم.
ومع ذلك، فإن نيابة عامة تابعة للوكيل العام لمحكمة النقض، هي القادرة على رسم سياسة جنائية إقليمية، تأخذ بعين الاعتبار خصوصية الدوائر الاستئنافية، وتقدم أجوبة قانونية عن محاصرة الظاهرة الإجرامية، انطلاقا من كون مجمع الوكلاء والوكلاء العامون الذي سيلتئم كلما دعت الضرورة تحت إشراف رئيسه هو القادر على النقل الأمين لواقع الدعوى العمومية في الأقاليم، لإكراهاتها الواقعية، وإشكالاتها القانونية.
إن استحضار وظيفة الإمامة باعتبارها العمق التاريخي لشرعية القاضي المعاصر، قد يشكل حلا مناسبا لإشكالية الاستقلالية والمحاسبة، فمادام تعيين الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض مجالا محفوظا للقاضي الأول جلالة الملك، فإن رئيس النيابة العامة لا يدين بالمحاسبة عن سياسته الجنائية إلا لمن يملك سلطة تعيينه وإقالته، وهو صاحب الجلالة، أما بالنسبة للبرلمان فليس هناك ما يلزمه على المثول أمام غرفتيه إلا ما قد يقتضيه واجب التعاون وتكامل بين السلط دون أن يؤدي ذلك إلى الاخلال بما لكل سلطة من استقلالية.
أما الحديث عن تغول للقضاة فلا يستحق النقاش لإنه بقدر ما يثير الضحك، ويبعث على السخرية بقدر يصور لنا المشهد في المغرب على غرار نظيره في الولايات المتحدة الأمريكية منشأ مصطلح دولة القضاة. متناسين أن قاضيا مغربيا خاطر بنشر خاطرة في خاطر الإصلاح فكان جزاؤه عقوبة خماسية: 1 التوقيف عن العمل،2 توقيف الأجر، 3 النقل،4 الحرمان من الترقية 5 - والحرمان من إيصال فكره المستنير بالترشح للنيابة عن زملائه في المجلس، في حين وبخ قاض آخر نشر فقط صورة اطلاعه بجدية على الجلسة بالقرب من مدخل القاعة بعدما تعذر إيجاد مكتب يأويه، وحرم من حقه في الدرجة الاستئثنائية. فعن أية دولة للقضاة نتحدث.
إن التاريخ يسجل أنه في الوقت الذي كان هناك من يدافع عن استقلالية القرار القانوني في تدبير الدعوى العمومية، بما يستكمل للسلطة القضائية مقومات استقلالها الدستوري، وينأى بالقضاء عن تجادبات الساسة، ومناوراتهم في استدراج القضاء لتصفية خصومهم، كان هناك من اعتاد الاقتيات على العلاقات النفعية في تدبير مشاكله القانونية، فراح يهول من أخطار الاستقلالية، حتى ولو استدعى الأمر اختلاق وهم المحاسبة البرلمانية أو تشييد دولة للقضاة.