MarocDroit  -  موقع العلوم القانونية
plateforme des décideurs juridiques - Platform of Legal Decision-Makers



الأثر التطهيري للرسم العقاري في مواجهة الوقف ـ تعليق على قرار

     

د. عبد الرزاق اصبيحي

تعليق على قرار المجلس الأعلى عدد 688 بتاريخ 20/02/2008
ملف مدني عدد 2162/1/3/2006
قضية مصطفى الزراختي ضد وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية



الأثر التطهيري للرسم العقاري في مواجهة الوقف ـ تعليق على قرار
نص القرار :


باسم جلالة الملك
إن المجلس الأعلى
وبعد المداولة طبقا للقانون
في شأن الوسيلة الوحيدة بجميع فروعها:
حيث يؤخذ من وثائق الملف والقرار المطعون فيه الصادر عن محكمة الاستئناف بطنجة تحت عدد 1184 وتاريخ 10/11/2004 ملف عدد 2155/01/4، أن السيد وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية تقدم بمقال أمام المحكمة الابتدائية بنفس المدينة يعرض بمقتضاه أن المدعى عليه مصطفى الزراختي كانت له صفة رئيس اللجنة المكلفة بتسيير مسجد بني ورياغل القديم، وأنه بهذه الصفة تقدم بتاريخ 8/8/1994 بطلب لنظارة الأوقاف والشؤون الإسلامية التمس بمقتضاها ضم مسجد بني ورياغل القديم والأملاك التابعة له إلى حظيرة الأوقاف العامة وأن نظارة الأوقاف أعدت شهادة عدلية تثبت شرعية الضم، ونظرا لكون المدعى عليه لا زال مسيطرا على المسجد والأملاك التابعة له دون وجه حق فإنه يلتمس من المحكمة الحكم عليه برفع يده على المسجد والأملاك التابعة له مع إجباره على تقديم الحسابات المتعلقة باستغلالها من يوم الضم الموافق 4/10/1996 إلى يوم التنفيذ تحت طائلة غرامة تهديدية وأردفه بمقال إضافي مؤرخ في 29/12/1999 يحدد فيه أملاك المسجد.
وأجاب المدعى عليه بأن المدعي لا صفة له وأن الأمر يتعلق بأحباس خاصة، وأن شهود محضر التسليم ليسوا من مدشر بني ورياغل وأنه ينبغي إيقاف البت لأن الأمر يتعلق بموضوع نزاع توجد أراضيه في طور التحفيظ، والتمس رفض الطلب، وبعد تمام الإجراءات أصدرت المحكمة بتاريخ 26/10/2000 حكما قضى برفض الطلب، استأنفه المدعي لمجانبة الصواب ومخالفته للفصلين 74و75 من الظهير الشريف المعتبر بمثابة قانون رقم 15/84/1 بتاريخ 2/10/1984 المتعلق بالأماكن المخصصة لإقامة شعائر الدين الإسلامي، وأن وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية تتولى إدارتها وتسييرها وأن حيازة أماكن العبادة تم بمقتضى القانون بصفة خاصة، وأن محل العبادة لا مجال فيه للحيازة لأنه وقف على عامة المسلمين كما أن شهود لفيف السماع لا يشترط فيهم أن يكونوا من القبيلة أو المدشر بل يكفي أن يكونوا من جماعة المسلمين، والتمس إلغاء الحكم المستأنف والحكم من جديد وفق الطلب وأجاب المستأنف عليه بأن الأملاك التابعة للمسجد القديم بني ورياغل بطنجة هي أحباس خاصة خاضعة للفصل 74 من قانون التحفيظ العقاري المؤرخ في 2/6/1915 وأن القانون رقم 150/84/1 الصادر بتاريخ 2/10/1984 لم يلغ صراحة ولا ضمنا الظهير المتعلق بتأسيس الجمعيات الصادر في 15/11/1958 وأن واقعة ضم المسجد غير صحيحة كما جاء في الجواب المؤرخ في 22/3/2000 وبعدم ثبوت انتقال حيازة المدعى فيه إليها بأي ناقل شرعي وأن شهود اللفيف ليسوا من المدشر، وأن منهم من تراجع على شهادته ومنهم من أدين جنحيا من أجل الترامي على أرض تابعة للمسجد وأن الأراضي التابعة للمسجد موضوع مسطرة تحفيظ، وأن الحيازة المادية والقانونية ثابتة للجماعة السلالية لحي بني ورياغل وللجنة تسيير المسجد- موضوع النزاع وأملاكه- وأن الحيازة لم تخرج من يدها إطلاقا، وأن الضم والتسليم المزعومين من طرف المستأنف غير ثابتين بأي دليل وأن إثبات الحيازة من الجماعة إلى ناظر الأوقاف بطنجة لازمة لانتقال الملك لهذا الأخير وأن وجود مطالب تحفيظ في اسم نظارة الأوقاف والشؤون الإسلامية وقيام المستأنف عليه بالتعرض على المطالب باعتبار أن الأرض انصبت على أحباس خاصة ولا تدخل ضمن دائرة الأحباس العامة، وبالتالي يمنع على أطراف النزاع إقامة أية دعوى ترمي إلى الاستحقاق أو رفع اليد أو تقديم طلب المحاسبة والتمس تأييد الحكم المستأنف، وبعد التعقيب وإدلاء النيابة العامة بمستنتجاتها أصدرت المحكمة قرارا قضى بإلغاء الحكم المستأنف والحكم من جديد على المستأنف عليه برفع اليد عن مسجد بني ورياغل والأملاك التابعة له وإلزامه بتقديم الحسابات المتعلقة باستغلاله منذ ضم المسجد لحظيرة الأوقاف بتاريخ 4/10/1996 وبرفض باقي الطلبات، وهو القرار المطعون فيه بالنقض بمقال بلغت نسخة منه إلى المطلوب والذي أجاب عنها بمذكرة بواسطة محاميه ذ محمد مصطفى الريسوني بتاريخ 14/9/2006 ترمي إلى رفض الطلب.
وحيث يعيب الطالب على القرار عدم الارتكاز على أساس من القانون حينما أورد في تعليله بأن إشكالية إخضاع موضوع التسليم لضوابط الأحباس الخاصة أو العامة أمر محسوم فيه بمقتضى قانون رقم 150/84/1 بتاريخ 2/10/1984، وأن موضوع رفع اليد عبارة عن مسجد ومضافاته يعتبر مرفقا عاما ولا يمكن أن يكون محل ملكية خاصة حسب الفصل السادس من القانون أعلاه وأن طلب رفع اليد وضم تسليم المسجد لا يحتاج إلى إذن أو تكليف من اللجنة المسيرة لأملاكه وفق الفصل السابع من نفس القانون رغم أن الأملاك التابعة للمسجد القديم لحي بني ورياغل بطنجة هي أحباس خاصة ولا تدخل ضمن دائرة الأحباس العامة، وأن القانون رقم 150/84 المؤرخ في 2/10/1984 المستدل به بالتعليل لم يلغ لا صراحة ولا ضمنا الظهير المتعلق بتسيير الجمعيات الصادر بتاريخ 15/11/1958 وأن هناك عدة مساجد تديرها جمعيات ولحسابها باعتبارها غير مضمومة للأوقاف العامة، وأن واقعتي التسليم وضم المسجد- موضوع النزاع- والأملاك التابعة له للأوقاف العامة غير صحيحة وأن بعض الشهود سواء في محضر الضم المزعوم بتاريخ 19/1/1996 أو في محضر التسليم المنجز بتاريخ 16/10/1996 صدرت في حقهم أحكام جنحية بالإدانة من أجل الترامي على أرض تابعة للمسجد- موضوع النزاع– وأن الحيازة المادية والقانونية ثابتة للجماعة السلالية لحي بني ورياغل وللجنة تسيير المسجد وهي لم تخرج من يدها إطلاقا واستنادا على ما ذكر ومادام المتنازع فيه عقار في طور التحفيظ وخاضع لنظام مسطرة التحفيظ العقاري ومادام أن المسطرة لم تنته بعد، و أن كل دعوى أو منازعة أو مطالبة بحق عقاري أو ترتيب حق عيني على عقار في طور التحفيظ يجب أن يمر بمسطرة التحفيظ، ولا يمكن قبول أية دعوى ترفع باستقلال عن مسطرة التحفيظ التي هي مسطرة خاصة، وذلك حسبما استقر عليه اجتهاد المجلس الأعلى في قراره الصادر بتاريخ 10/1/2001، تحت عدد 164 ملف مدني عدد 1671/99، وأن المحكمة لم تجب عن الدفع المذكور رغم وجاهته وبذلك تكون قد خرقت مقتضيات قانون التحفيظ العقاري المؤرخ في 2/6/1915، وبنت قضاءها على غير أساس مما يعرضه للنقض.
لكن من جهة أولى، حيث أن المسجد وكل وقف عليه، هو بطبيعته وقف عام وينصرف مفهوم الوقف الخاص إلى الحبس المعقب والذي ينقلب إلى وقف عام إذا انقطع نسل المعقب عليه، والمحكمة حينما نصت بأن "موضوع رفع اليد عبارة عن مسجد ومضافاته وبالتالي فهو حسب مقتضيات الفصل السادس أعلاه وقف عام" وأن طلب رفع اليد وضم وتسليم المسجد لا يحتاج إلى إذن أو تكليف اللجنة المسيرة للمسجد وأملاكه وذلك بقوة القانون رقم 150/84" تكون قد ردت كل مزاعم الطالب فيما يخص واقعتي الضم والتسليم.
ومن جهة ثانية فإن الحبس لا يطهر بالتحفيظ، فيمكن للجهة المحبس عليها، وفي نازلة الحال وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية أن ترفع الدعوى بشأن الحبس ولو كان في طور التحفيظ بل حتى ولو حصل تحفيظه لأن ثبوت حبسيته يبطل تحفيظه. ومن جهة أخرى فإن تأثير مسطرة التحفيظ على النزاع بشأن العقار المراد تحفيظه يخص المتعرض وحده لما للتحفيظ من أثر التطهير لكل حق سابق عليه ولما قيد المشرع به إجراء التعرض في الأجل القانوني، ويبقى طالب التحفيظ في حل من كل ذلك ومن تم فإن الدفع بعرض النزاع في شكل تعرض يخص مصلحة طالب التحفيظ وحده وإثارته من الطالب رغم كونه متعرضا لا مصلحة له فيه، والمحكمة حينما صرفت النظر عن الدفع المذكور لعدم تأثيره على قضاءها حسبما أشير إليه أعلاه، تكون قد ركزت قضاءها على أساس من القانون وعللته تعليلا كافيا دون خرق لمقتضيات الظهير المتعلق بالتحفيظ العقاري المستدل به، وبذلك جاء القرار معللا تعليلا كافيا وتبقى ما بالوسيلة بجميع فروعها على غير أساس.
لهذه الأسباب
قضى المجلس الأعلى برفض الطلب وتحميل الطالب المصاريف.
وبه صدر القرار وتلي بالجلسة العلنية المنعقدة بالتاريخ المذكور أعلاه بقاعة الجلسات العادية بالمجلس الأعلى بالرباط. وكانت الهيئة الحاكمة متركبة من رئيس الغرفة السيد أحمد اليوسفي العلوي والمستشارين السادة: الحسن فايدي- مقررا- الحنفي المساعدي- محمد بن يعيش – سمية يعقوبي خبيزة- وبحضور المحامية العامة السيدة آسية ولعلو بمساعدة كاتب الضبط السيد بوعزة الدغمي.
الرئيس المستشار المقرر كاتب الضبط

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

التعليق


عرض موجز للوقائع


تتلخص وقائع هذه النازلة في أن وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية تقدمت بدعوى أمام المحكمة الابتدائية بطنجة تطلب فيها رفع يد المدعى عليه مصطفى الزراختي، رئيس اللجنة المكلفة بتسيير مسجد بني ورياغل والأملاك التابعة له، عن هذا المسجد وأملاكه. فأصدرت المحكمة حكما قضى برفض الطلب، بحجة عدم توفر وزارة الأوقاف على الصفة لرفع الدعوى باعتبار الأمر يتعلق بأحباس خاصة.
بعد ذلك قامت الوزارة باستئناف هذا الحكم، فقررت محكمة الاستئناف بنفس المدينة إلغاء الحكم المستأنف والحكم من جديد على المستأنف عليه برفع اليد عن المسجد والأماكن التابعة له، وإلزامه بتقديم الحسابات المتعلقة باستغلاله منذ ضم المسجد لحظيرة الأوقاف. وعللت قرارها هذا بكون المسجد ومضافاته يعتبر مرفقا عاما ولا يمكن أن يكون محل ملكية خاصة. وبالتالي فإن طلب رفع اليد وتسليم المسجد وضمه إلى حظيرة الأوقاف لا يحتاج إلى إذن أو تكليف من الجهة المسيرة لأملاكه حتى ولو كانت هذه الأملاك أحباسا خاصة وليست عامة.
وتجدر الإشارة إلى أن محكمة الاستئناف امتنعت عن الرد على الدفع بأن العقار موضوع النزاع هو في طور التحفيظ، وبالتالي فإن أي دعوى أو منازعة أو مطالبة في شأنه يجب أن تتم عبر مسطرة التحفيظ.
وبعد الطعن في هذا القرار أمام المجلس الأعلى من طرف السيد الزراختي، قضى المجلس برفض طلب النقض، على أساس أن المسجد وكل ما وقف عليه وقف عام، وأن الوقف الخاص هو الوقف المعقب وهو بدوره يؤول إلى وقف عام عند انقطاع نسل المعقب عليه. وبالتالي فوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية التي لها الولاية على الأوقاف العامة لا تحتاج من أجل ضم المسجد وأملاكه إلى أي إذن أو تكليف من اللجنة المسيرة له. كما أن المحكمة لم تكن في حاجة للإجابة على الدفع بضرورة أن تتم كل مطالبة بخصوص عقار حبسي في طور التحفيظ من خلال مسطرة التحفيظ، لأن الحبس لا يطهر بالتحفيظ، ومن ثم يمكن رفع الدعوى بشأن الحبس ولو كان في طور التحفيظ أو حصل تحفيظه.
الإشكالية التي يثيرها هذا القرار هي إلى أي حد يصمد الأثر التطهيري للرسم العقاري في مواجهة الحبس ؟
وجوابا على هذه الإشكالية، سنحاول بسط وجهة النظر التي تسير بعكس ما ذهب إليه المجلس الأعلى في قراره هذا، ونبين الحجج التي تستند عليها للقول بضرورة شمل الحبس بالأثر التطهيري للرسم العقاري (أولا) قبل أن نبين نسبية هذه الحج، وأنها لا تصمد أمام المستندات التي تعضد الاجتهاد القضائي الذي يمثله هذا القرار، والذي يستثني الحبس من الأثر التطهيري للرسم العقاري (ثانيا).

أولا: خضوع الحبس للأثر التطهيري للرسم العقاري


ينص الفصل الثاني من ظهير 12 غشت 1913 المتعلق بالتحفيظ العقاري على أنه "يترتب عن التحفيظ إقامة رسم للملكية مسجل بكناش عقاري وبطلان ما عداه من الرسوم وتطهير الملك من جميع الحقوق السالفة الغير المضمنة بالكناش العقاري".
وبناء على هذا الفصل فإن التحفيظ العقاري يعتبر بمثابة ميلاد جديد للعقار المحفظ من حيث كونه يكشف عن حالة هذا العقار، من حيث نوعه وموقعه ومساحته وحدوده ومشتملاته والحقوق العينية العقارية المترتبة عليه. ومن ثم فإن ما لم يرد في الرسم العقاري يعتبر كأن لم يكن، وهذا ما يسمى بالأثر التطهيري للرسم العقاري، أي إن هذا الرسم يطهر العقار من كل الحقوق التي لم تضمن فيه.
ويستند هذا الأمر إلى كون عملية التحفيظ تخضع لمسطرة طويلة ومعقدة تتيح لكل من يدعي بأي حق أن يطالب به أثناء جريان مسطرة التحفيظ، ويدافع عنه عن طريق تسجيل تعرضه إما في حالة نزاع بشأن وجود حق الملكية لطالب التحفيظ، أو مدى هذا الحق، أو بشأن حدود العقار؛ وإما في حالة الادعاء بمباشرة حق عيني قابل للتسجيل على الرسم العقاري الذي سيقع إنشاؤه.
وإذا كان هذا الأمر يبدو منطقيا، على اعتبار أن إجراءات التحفيظ تصاحبها عملية إشهار واسعة، وأن بقاء مدعي الحق -طيلة المدة التي تستغرقها عملية التحفيظ- ساكتا عن المطالبة بهذا الحق، إنما هو قرينة قوية على عدم صدق دعواه ؛ فإن السؤال المطروح هو هل هذا الأمر على إطلاقه، وبالتالي يشمل كذلك الحبس ؟
لا شك أن صيغة الفصل الثاني من ظهير 12 غشت 1913 السالف الذكر تفيد شمول الحكم الذي جاء به وعموميته، لاسيما وأنه نص صراحة على تطهير العقار من جميع الحقوق غير المدونة في الرسم العقاري، ولم يستثن من ذلك شيئا، بما في ذلك الحبس.
واستنادا إلى هذا المقتضى فإن استثناء الحبس أو أي استثناء آخر، فضلا عن كونه يعد خرقا للقانون، فإنه يضعف من حجية الرسم العقاري، وينال من قوته الإثباتية، وبالتالي يفقده قيمته القانونية والاقتصادية المستمدة مما ينتج عنه من وضوح في التصرفات العقارية وانتقال الملكية، ومن تبديد للمخاوف المرتبطة بفقدان الملك نتيجة الحيازة المادية المكسبة، وبالتالي مما يؤدي إليه من استقرار للمعاملات، سيما وأن "وضعية العقار غير المحفظ تتغير حينما يتم تحفيظه ويتم تأسيس رسم عقاري بشأنه، فيصبح له وضع مادي ثابت مبني على خريطة طبوغرافية تحدد مساحته الحقيقية وأبعاده وحدوده ومشتملاته، ويصبح له وضع قانوني يمكن من الربط بين العقار وبين مالكه أو ملاكه وكذا الحقوق المترتبة على هذا العقار إن وجدت.
كما أن وضع مالك العقار غير المحفظ يتغير حينما يقدم على تحفيظ عقاره، حيث يصبح مالكا بامتياز وبناء على رسم عقاري ذا قوة إثباتية لا يتطرق إليها الشك خلافا لوضعيته السابقة، وهي وضعية هشة نظرا للسندات والحجج القابلة لإثبات العكس، والتي يمكن الطعن فيها في كل وقت وحين" .


ثانيا: استثناء الحبس من الأثر التطهيري للرسم العقاري


بالرجوع إلى القواعد الفقهية التي تحكم موضوع الحبس نجد أنها تقرر أن الحبس متى استوفى أركانه وشروطه وحيز ماديا عن المحبس قبل موته أو تفليسه كانت له الحجة الكاملة في مواجهة أطرافه والغير معا، في حين أن الفصل الثاني من الظهير السالف الذكر لا يعترف إلا بما هو مضمن في الرسم العقاري. وهكذا، نجد أنفسنا بصدد حجيتين متعارضتين: حجية فقهية وأخرى قانونية، فأيهما أحق بالتطبيق في الموضوع الذي نحن بصدده؟؟
الواقع أنه يمكننا تجاوز هذا التعارض، والقول بضرورة استثناء الحبس من الأثر التطهيري للرسم العقاري، وفقا لما ذهب إليه المجلس الأعلى في قراره موضوع التعليق، إذا أخذنا بعين الاعتبار الأمور التالية:

1) إننا إزاء نصين: أحدهما عام وهو قانون التحفيظ، والآخر خاص وهو الفقه الإسلامي. ومتى تعارض النص العام مع النص الخاص، كانت الأولوية للنص الخاص، لاسيما إذا كانت هناك إحالة صريحة على النص الخاص كما هو الحال في هذا الموضوع، عملا بمقتضيات الفصل 75 من ظهيـر19 رجب 1333هـ (02 يونيو1915م) المطبق على العقارات المحفظة، والذي نص على أنه "تبقى الأحباس خاضعة للقوانين والضوابط الخاصة والعوائد الإسلامية التي تجري عليها". وهذا ما أكده المجلس الأعلى في قراره عدد 579 المؤرخ في 13/02/2002، ملف مدني عدد 4054/1/9/95 بين وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية و ورثة الحاج عبد الله أعمار ومن معهم ، والذي نقض قرار محكمة الاستئناف التي لم تعتد فيه بالحبس الواقع على عقار محفظ ما دام أنه لم يسجل بالرسم العقاري إلى أن توفي المحبس وانتقلت أمواله إلى الورثة.
وقد علل المجلس الأعلى نقضه لهذا القرار بأن "عقد التحبيس متى استوفى شروطه المعتبرة فقها وتوثيقا، كان صحيحا، ووجوده ثابتا، وأثر إنشائه يبقى ساريا وفقا لقصد المحبس، وتنفيذ تسجيل مضمونه بالرسم العقاري يجب أن يتم ولو عارض ورثة المحبس في ذلك بعد وفاته، لكون موروثهم طبع تصرفه بطابع ديني محض جرى فيه على مقتضيات أحكام وقواعد ذلك الطابع المحدد فقها وتوثيقا؛ حيث نص عقد التحبيس المذكور على كونه «تحبيسا مؤبدا و وقفا مخلدا ما بقيت الدنيا، وقصد بذلك وجه الله العظيم وثوابه الجسيم والدار الآخرة والله لا يضيع أجر من أحسن عملا، وتخليا عن الأمتار المذكورة لمن ذكر، وحازها منهما سيدي بوبكر القادري المذكور بتقديمهما له ذلك»، مما يتعين معه الإشارة إلى أن ذلك يعتبر حبسا عاما وحمايته من النظام العام، لاسيما بالنظر إلى ما وقع النص عليه في الفصل الخامس والسبعين من ظهير 2 يونيو 1915 المشار له.
وحيث إن عدم تسجيل عقد التحبيس -محل المنازعة- بالرسم العقاري الذي لم يدع المنازعون فيه -كما لم يثبت خارج نزاعهم- أن القانون حدد أجلا معينا لتنفيذه ولا يمكن أن يؤثر ذلك على صحة موضوعه أو يحد من أثره في نقل الحق للأحباس، خاصة وأن الحيازة المادية للملك المحبس قد تمت فعلا، وكانت بصفة علنية كافية، وثابتة باعتراف الورثة أنفسهم المدعين احتلال القطعة الأرضية من طرف السيد القادري واستغلالها كملحقة لمدرسة النهضة قبل وفاة الطرف المحبس وبعده ولمدة غير يسيرة بذكرهم.
وحيث إنه لذلك يكون رفض طلب تسجيل عقد التحبيس أيضا غير مرتكز على أساس، كما أنه لا يمكن أن يطاله أي تقادم لانعدام ما يعتمد عليه في هذا الشأن أو يبيح القول بخلاف هذا، اعتمادا على ما ثبت من المستندات والوثائق المدرجة بالملف بكيفية قانونية".

2) لا حيازة على الحبس وإن طالت، لأن الحبس يتعلق به حق الله تعالى وحق الغائب، والغائب لا يحاز عليه. وقول ابن عاصم في التحفة: (وانقطعت حجة مدعيه… الخ) مقيد بحق الآدمي، أما ما كان لله تعالى فلا .
كما أن علة قطع الطريق على الادعاء بحق لم يُدع به أثناء جريان مسطرة التحفيظ مرتبط بكون صاحب الحق سكت عن حقه مع حضوره وعلمه وعدم المانع، وهو بمثابة اعتراف لطالب التحفيظ بما يدعيه بناء على أن السكوت يدل على الرضا، "وسكوت ناظر الأحباس لا يعتد به، لأنه لو أقر للخصم بملكية ما يدعيه لم يصح إقراره لأنه إقرار على الغير، والإجماع على أنه لا يؤاخذ أحد بإقرار غيره" .
وتجدر الإشارة إلى أن القضاء المغربي يتعامل مع ناظر الوقف كالمقدم على المحجور، لا يؤخذ بإقراراته على الحبس، فقد ورد في قرار غير منشور لمحكمة الاستئناف بمكناس صدر تحت عدد 710 بتاريخ 18/3/1993 ما يلي: "إن إقرار ناظر الوقف على الحبس لا يلزم ولا يعتبر، لأن الحبس كمصلحة المحاجير، كما لا يجوز إقرار المقدم على محجوره لا يجوز إقرار ناظر الحبس على الحبس. وهذه قاعدة شرعية مقررة ومنصوص عليها في دواوين الفقه والأحباس تتعلق بحق الله تعالى، فلا يجوز اعتماد الإقرار ضدها". ونفس الحكم كانت قد قررته المحكمة الإقليمية بالرباط في قرارها الصادر بتاريخ 30/6/1969، ملف عدد 185/65، وجاء في إحدى حيثياته: "وحيث إن ناظر الأحباس هو بمنزلة المقدم على المحاجير وإقراراته كلها باطلة إلا فيما تولاه من المعاملات. غاية ما في الأمر أن الناظر إذا سلم أرض الحبس وهو عالم أنها حبس فتجري عليه القوانين الصارمة في هذا الشأن، وإن سلم وهو غير عالم أنها حبس فلا حجة في تسليمه. وأما الحبس فلا يلزمه التسليم على كل حال…وحيث إن سكوت الناظر عن المطالبة بحق الأحباس سواء مع علمه أن الأرض حبس أو مع عدم علمه كل ذلك لا يضر الأحباس في شيء، لأن الناظر هو بمنزلة مقدم المحاجير، فلا يضر سكوته ولا علمه ولا عدم علمه…".

3) إن الاستثناءات الذي تطال أي قاعدة عامة لم تعتبر في يوم ما ناقضة لهذه القاعدة، بل مؤكدة لها. وعليه، فإنه لا يمكن بأي حال من الأحوال اعتبار استثناء الأحباس من الأثر التطهيري للرسم العقاري سببا لإضعاف هذا الرسم والنيل من قيمته، بل إن من شأن هذا الاستثناء أن يحمي الأوقاف التي ترتبط بالمصلحة العامة، ويحول دون أن تكون محلا للتلاعبات، واستغلال نظام التحفيظ لإضفاء الشرعية على أوضاع غير حقيقية على حساب المصلحة العليا للمجتمع.


عن مدونة د. عبد الرزاق اصبيحي




الاربعاء 13 يوليوز 2011
MarocDroit منصة مغرب القانون "الأصلية"

تعليق جديد
Twitter