توطئـــــة:
إذا كانت دسترة استقلال القضاء بالمغرب ليس بالأمر الجديد في دستور 2011، إذ نص آخر دستور (دستور 1996) في الفصل الثاني والثمانون منه على أن: "القضاء مستقل عن السلطة التشريعية وعن السلطة التنفيذية" ؛ إلا أن الجديد هو جعل "القضاء سلطة" ناهيك عن تحقيق استقلال مؤسساتي برفع يد وزارة العدل عن القضاة .
وإذا كان دستور 2011 قد جاء بباب سابع معنون بـ "السلطة القضائية" ونص في مستهله (الفصل 107) على أن: "السلطة القضائية مستقلة عن السلطة التشريعية وعن السلطة التنفيذية" ، إلا أنه نص في الفصل 110 على أنه: "يجب على قضاة النيابة العامة تطبيق القانون، كما يتعين عليهم الالتزام بالتعليمات الكتابية القانونية الصادرة عن السلطة التي يتبعون لها " دون توضيح لهذه السلطة.
لقد اختلفت آراء وتوجهات مفسري السلطة المقصودة، فكانت تنبع أحيانا عن قراءات علمية محايدة وفي أحايين غالبة عبرت عن التوجهات الفكرية وحتى الفئوية والسياسية لبعض الشارحين؛ وقد خلصت الهيئة العليا لإصلاح منظومة العدالة في ميثاقها إلى استقلال النيابة العامة عن وزير العدل، وعبر ملك البلاد عن ارتياحه لذلك في خطاب العرش لسنة 2013 ؛ إلا أن المجلس الحكومي الأخير قرر تعميق النقاش ، فتناهى الى علمنا ان النقاش أثير من جديد داخله حول "استقلال النيابة العامة عن وزير العدل" ؛ لذلك ارتأيت المساهمة بقراءة تروم الركون إلى المرجعية الكونية مجسدة في المواثيق الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان والوثائق الدولية، خاصة مبادئ الأمم المتحدة بشأن استقلال القضاء ومبادئ بنغالور للسلوك القضائي والميثاق العالمي للقضاة والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية ، والميثاق الأوروبي بشأن النظام الأساسي للقضاة والمذكرة التوضيحية الملحقة به من ناحية، والقوانين الأساسية للبلدان العريقة في الديمقراطية والتي لها سلطة قضائية مستقلة وقوية .
إذن؛ ما هي الأسس الكونية والحقوقية لاستقلال النيابة العامة عن وزير العدل ؟
وضع دستور 2011 حدودا دنيا للحقوق؛ ولعل تنزيل الدستور وفق منطق تشاركي يحيلنا وبالضرورة على ما التزمت به المملكة المغربية من خلال ديباجة دستورها من تعهد والتزام بما تقتضيه مواثيقها، من مبادئ وحقوق وواجبات، وتؤكد تشبتها بحقوق الإنسان، كما هي متعارف عليها عالميا .
كما يتعين علينا النبش في تاريخ وقوانين الأمم العريقة في الديمقراطية، والتي لها سلطة قضائية مستقلة وقوية .
1 ــ قراءة في المواثيق الكونية والتجارب المقارنة:
لابد من الإشارة إلى أن الاختلاف بين العائلات القانونية، خصوصاً بين "العائلة الجرمانية اللاتينية" أو ما يسمى بعائلة "القانون المدني" و"عائلة القانون العام" "Common Law" ، ظهرت نتائجه على مستوى ودرجة استقلال السلطة القضائية في الأنظمة المعاصرة؛ ذلك أن تقاليد "القانون المدني" كما كان عليه الحال في التاريخ القانوني والقضائي الفرنسي، جعلت القضاء في خدمة كبار الملاك والمتنفذين في هرم السلطة ، أما بانجلترا فقد حظي القضاء وعموم الدول الآخذة بنظام "القانون العام" بقدر كبير من الاستقلالية الوظيفية والعضوية.
وعلى الرغم من تكريس مبادئ حقوق الانسان دوليا والاعتراف للسلطة القضائية بكونها حامية لهذه الحقوق، إلا أن تلك المسببات التاريخية تركت آثاراً على صعيد مبادئ استقلال القضاء .
وبالفعل ففي فرنسا نجد النيابة العامة لا زالت تابعة لوزارة العدل، وعلى الرغم من أن النظام القضائي الفرنسي نظام قوي يجعل القضاء، وخاصة النيابة العامة، بعيدا عن أي تأثير، فإنه وبوجود قضاء أوربي مجسدا في المحكمة الاوربية ، فإن هذه الأخيرة أدانت الجمهوريةِ الفرنسية بمقتضى القرارين الصادرين عنها على التوالي: بتاريخ 29-03-2010 و20-11-2011 ؛ وذلك بسبب عدم استقلالية نيابتها العامة عن السلطة التنفيذية.
واعتبرت اللجنة الأممية لحقوق الإنسان في ملاحظاتها الختامية بشأن رومانيا في الفقرة 10 ما يلي :
" أن الصلاحيات التي تمارسها وزارة العدل فيما يتعلق بالأمور القضائية، بما في ذلك عملية استئناف المقررات القضائية، وسلطاتها المرتبطة بتفتيش المحاكم، يشكل تهديدا لاستقلال السلطة القضائية" ؛ لذلك حثت هذه الدولة على وضع تمييز واضح بين اختصاص الأجهزة التنفيذية والقضائية.
ونحت اللجنة الأمريكية الدولية لحقوق الإنسان نفس المنحى بإدانتها دولةِ المكسيك لكون النيابة العامة بها تابعة للسلطة التنفيذية ؛ مؤكدة على :" ضرورة تمتع مكتب المدعي العام بالاستقلالية اللازمة عن السلطة التنفيذية، وأن يتمتع بضمانات عدم جواز نقله، وغير ذلك من الضمانات الدستورية الممنوحة لأعضاء السلطة القضائية" (الوثيقة 7).
وقد أرست "المبادئ الأساسية بشأن استقلال السلطة القضائية" هذه القاعدة ودعمتها بالبند الرابع منها؛ إذ نصت على أنه: "لا يجوز أن تحدث أيه تدخلات غير لائقة أو لا مبرر لها في الإجراءات القضائية .
وتعد النيابة العامة بألمانيا وبلجيكا والنمسا جزءا من السلطة القضائية المستقلة .
وهكذا فقد نصت المادة 97 من القانون الأساسي لجمهورية ألمانيا الاتحادية على أن: "القضاة مستقلون ويخضعون فقط للقانون" ، وقد نظمت المادة الموالية لها (م98)، الوضع القانوني للقضاة في الاتحاد والولايات، مانحةً صلاحية ذلك للقانون والمحكمة الدستورية الاتحادية.
واعتمد الدستور الإيطالي لعام 1948م الأسلوب نفسه حين نص على أن: "جميع القرارات الخاصة بالقضاة وأعضاء النيابة العامة منذ التعيين وحتى التقاعد، يجب أن تكون فقط في نظام اختصاص مجلس يتكون في غالبيته من القضائيين (أي القضاة وأعضاء النيابة العامة)، يقوم زملاؤهم بانتخابهم "
وفي نفس السياق، سعت بعض دول أمريكا اللاتينية إلى تعزيز الاستقلال المؤسساتي للقضاء، عبر وضع إجراءات جديدة خاصة بتشكيل المجالس العليا المكلفة بالإشراف الإداري على الحياة المهنية للقضاة؛ ففي السلفادور مثلا ــ وفي أعقاب الإصلاحات الدستورية التي أفضت إليها مفاوضات السلام لعام 1991م ــ حصل المجلس القضائي، الذي كانت تسيطر عليه المحكمة العليا، على قدر أكبر من الاستقلالية مع توسيع صلاحياته ، ومن الملاحظ أن قانون 1999، لم يسمح بتمثيل السلطتين التنفيذية والتشريعية في عضوية المجلس، إذ يحفل بممثلي المجتمع المدني، وهم على وجه التحديد ممن ينتسبون إلى العالم الأكاديمي "كليات الحقوق" والعاملين في قطاع الدفاع والمحاماة.
2 ـــ مدى دستورية تبعية النيابة لوزير العدل على ضوء المواثيق الدولية المعترف بها من طرف الدستور المغربي :
نصت ديباجة الدستور المغربي على أنه:
" وإدراكا منها لضرورة إدراج عملها في إطار المنظمات الدولية، فإن المملكة المغربية، العضو النشيط في هذه المنظمات ، تتعهد بالتزام ما تقتضيه مواثيقها، من مبادئ وحقوق وواجبات، وتؤكد تشبتها بحقوق الإنسان، كما هي متعارف عليها عالميا".
ولما كان النقاش قد استفاض بخصوص مدى الزامية الالتزامات المضمنة بالديباجة فلم يفت واضعي الدستور ختمها بعبارة : "يشكل هذا التصدير جزءا لا يتجزأ من الدستور ".
وتظهر أهمية المكتسبات في مجال الحريات والحقوق الأساسية المنصوص عليها دستوريا حين ارتقت إلى درجة المحظورات الثلاث التي لا يمكن أن تكون موضوع مراجعة دستورية بمقتضى الفصل 175 من الدستور، في تسوية لها بالأحكام المتعلقة بالدين الإسلامي وبالنظام الملكي للدولة؛ ومعلوم أن حق الإنسان في سلطة قضائية مستقلة يعد أسمى الحقوق ، ناهيك عن كون القاضي أنيطت به مهمة حماية حقوق الأشخاص والجماعات وحرياتهم وأمنهم القضائي طبقا للفصل 117 من الدستور.
إذن ومن خلال ديباجة الدستور المغربي نستشف ثلاث مبادئ دستورية وهي:
ـــ تعهد والتزام المغرب بما تقتضيه مواثيق المنظمات الدولية، من مبادئ وحقوق وواجبات، وتشبته بحقوق الإنسان، كما هي متعارف عليها عالميا؛
ـــ الرقي بالديباجة أو التصدير جزءا لا يتجزأ من الدستور؛
ــــ السمو بالمكتسبات في مجال الحريات والحقوق الأساسية المنصوص عليها دستوريا إلى درجة المحظورات الثلاث التي لا يمكن أن تكون موضوع مراجعة دستورية ؛
فنخلص بالتالي إلى أنه وبالنظر لما هو مقرر دوليا من وجوب الإستقلال العضوي والوظيفي للنيابة العامة، وللإدانات المتكررة للمنظمات والمؤسسات الدولية والإقليمية للعديد من البلدان ( والتي لا نتمنى أن يكون المغرب من بينها مستقبلا وهو الذي أراد شعبه ، بمصادقته على الدستور أن يقطع أشواطا كبيرة في بناء المؤسسات بجعل "القضاء سلطة ومستقلة")؛ أقول نخلص إلى أن أي نص سيصدر متضمنا تبعية عضوية أو وظيفية للنيابة العامة لأي جهة ما غير السلطة القضائية سيكون غير دستوري .
خاتمــة:
وفي الختام لا بد أن أذكر بأن استقلال السلطة القضائية (لا فرق بين قضاة الأحكام و قضاة النيابة العامة؛ باعتبارهما وجهان لعملة واحدة) هو مقياس لمدى اعتبار الدولة دولة مؤسسات، ومدى استشراء الفساد في هذه الأخيرة ؛ إذ ثبت أن الدول التي يسود مؤسساتها التحكم تكون أكثر نفورا من استقلال القضاء؛ مبررة ذلك بمبررات عديدة من قبيل مصلحة الدولة أو الخصوصية الوطنية (la notion d’Etat ) .
وأمام ما تقدم يبقى إصلاح العدالة أولى أولويات الإصلاح ولا بد له من تضحيات ولو بالكرسي؛ إذ المغرب الآن أصبح في حاجة إلى سياسي يحب وطنه وينضبط إلى قناعاته مدركا أن الضمير هو أفضل وسادة للراحة، بل وفي حاجة إلى سياسي مواطن قادر على التضحية بالسلطة في سبيل الإصلاح .
تم بحمد الله ولكل شئ إذا ما تم نقصان