تستحق المادة 89 من مشروع قانون النظام الأساسي للقضاة كما أقرتها لجنة العدل والتشريع بمجلس النواب ، أن تُخصص لها ندوات ومناظرات تُرصد للتعريف بالعبقرية والخصوصية المغربية في مجال التشريع ، لن أتحدث عن المقتضيات التي لا زالت نافذة اليوم وأدمجت في النص المذكور من قبيل الإضراب والتعبير عن المواقف ذات الصبغة السياسية والانتماء الحزبي والنقابي وغيرها ، لكن سأركز على التراجعات التي حبل بها النص ؛ لأن تقييم أي نص لا يكون فحسب بمستجداته ولكن كذلك بمقدار التراجعات التي يسجلها مقارنة بسابقه .
يتقاسم تحديد المخالفة التأديبية في جميع قوانين السلطة القضائية في العالم اتجاهان ، الأول يعتمد ملائمة المخالفة التأديبية أي أن الجهة المختصة بالتأديب ليست مقيدة بمخالفات محددة وإنما تملك سلطة تقديرية في تقييم ما إذا كان الفعل المنسوب إلى القاضي مكونا لعناصر المخالفة التأديبية أما لا وذلك في ضوء مخالفته للقوانين واللوائح وقواعد السلوك القضائي وهو ما عليه العمل في مصر وفرنسا والمغرب في ظل ظهير 1974 ، ويعتمد الاتجاه الثاني شرعية المخالفة التأديبية بحصر جميع أنواع المخالفات التي يعاقب عليها تأديبيا وتحديد جزاء لكل منها وهو ما تتجه إليه حاليا قوانين التأديب في ألمانيا وإيطاليا والولايات المتحدة الأمريكية ، أما المشروع المغربي ، فقد اعتمد اتجاها هجينا ؛ فبعدما أعلن عن القاعدة العامة السائدة في ظل القانون الحالي من أنه يعد خطأ جسيما إخلال القاضي بواجب الاستقلال والتجرد والنزاهة والاستقامة إختارالمشروع الانتقائية حين مثل للأخطاء الجسيمة بالسلوكات التي قضت مضجع السلطة المكلفة بالعدل طيلة الحراك القضائي إلى اليوم من خلال الرغبة في تأثيم كل ما يتعلق بالأشكال الاحتجاجية وممارسة حرية التعبير التي كفلتها المواثيق الدولية للقضاة . على أن ما شكل فضيحة حقوقية بإمتياز هي التعديلات التي أدخلت على المادة 89 إثناء مناقشتها داخل اللجنة البرلمانية المختصة بمجلس النواب ، إذ تستدعي الفقرات التالية وقفة طويلة ومتأنية فقد نصت :
ويعد خطأ جسيما بصفة خاصة
الخرق الخطير لقاعدة مسطرية تشكل ضمانة أساسية لحقوق وحريات الأطراف ؛
الخرق الخطير لقانون الموضوع ؛
الإهمال أو التأخير غير المبرر والمتكرر في بدء أو انجاز مسطرة الحكم أو في القضايا أثناء ممارسة لمهامه القضائية.
لأول مرة في قانون تنظيمي للسلطة القضائية في العالم كله ، يتم إقرار مبدأ خطير وغير مسبوق ألا وهو مبدأ مسؤولية القاضي عن عمله القضائي ، فقد أجمعت جميع الأنظمة القانونية على تحصين القاضي من المساءلة عن العمل القضائي إلا في حالات ارتكابه للغش والتدليس والغدر وما في حكمها ، وما عدا ذلك فالمتضرر لا يملك إلا سلوك طرق الطعن أو المراجعة وفي أقصى الحالات طلب التعويض عن الخطأ القضائي إن كان له موجب ، والداعي إلى تحصين العمل القضائي من المساءلة يعود إلى أن الفصل في المنازعات مهمة خطيرة ودقيقة تستدعي إحاطة من ينهض بها بضمانات من نوع خاص حتى يأمن على نفسه من المساءلة التأديبية مما يندرج ضمن مقومات استقلال القاضي سيما في مجال تبقى فيه احتمالات الخطأ كبيرة ولو عن حسن نية ، وقد صدق الصادق المصدوق المعصوم " فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار يأتي بها يوم القيامة ".
في تطرقه لخرق قواعد المسطرة والموضوع ، استخدم المشروع عبارة فضفاضة ؛ هي الخرق الخطير ، فما هو معيار الخطورة المشكلة للخطأ الجسيم ومن هي الجهة المخولة لتقديره هل هو القضاء ذاته في نطاق الطعون القضائية أم هي الجهة المختصة بالإيقاف المؤقت عن العمل أم هو المجلس التأديبي في إطار المحاكمة التأديبية ؟
يجب أن نسجل أولا بأن الخطورة مفهوم نسبي لا يخضع لضوابط ومعايير منضبطة ، فما يمكن أن نعتبره خطأ خطيرا بالنسبة للقاضي المتوفر على أقدمية معينة في الممارسة لا يمكن اعتباره كذلك بالنسبة لقاض مبتدئ ، والخطأ قد يعذر من القاضي غير المتخصص في مادته و لا يعذر من المتخصص والخرق ذاته قد يبدو أحيانا خطيرا لكن مساهمة القاضي فيه لا تذكر ، كأن يعود لخطإ مرفقي أو تدليس من أحد مساعدي القضاء ، فهل ينبغي أن نتتبع عنصر العمد والغش أو التدليس أم أن الخطورة كافية لتأثيم الفعل ، وهذه قمة المغالاة وضرب في الصميم لسلطة القضاء المبنية على التقدير التي يحضر فيها هامش الخطأ ، ثم هب أن خطأ ارتكب فمن هي الجهة المخولة لتقدير درجة خطورته ؟
لا نعتقد أن الجهة المخولة توقيف القاضي و المجلس التأديبي مؤهلين لتقييم خطورة الخرق القانوني لقوانين الشكل والموضوع ، لأن القضاء وحده هو المؤهل لتقييم خطورة الخرق القانوني ، إذ لا يعقل أن نجعل القضاء مراقبا ومنظما ومرتبا لكافة مناحي الحياة في المجتمع ، ثم ننكر على ممارسيه الخضوع لرقابة القضاء ، وهب أننا منحنا القضاء سلطة التقييم من خلال طرق الطعن والمراجعة القانونية سواء العادية منها والاسثتنائية ، فثمة صعوبات تقف أمام استكمال المسطرة التأديبية ، فهل ننتظر استنفاد المسطرة التي توبع بسببها القاضي لجميع طرق الطعن باستصدار مقرر مبرم وهوما تفقد معه المتابعة دورها في الردع العام بدخول الواقعة طي النسيان بجانب التداعيات النفسية والاجتماعية التي يخلفها طول المسطرة على المتابع ، أم يكفي أن نسجل الخرق القانوني في أية مرحلة من التقاضي ونجعل الخرق دليلا على عدم الكفاءة الموجبة للمساءلة ، وإذا اعتبرنا الأمر الأخير ألا تكون المسؤولية للجهة التي اختارت القاضي وعينته في القضاء ، ثم ما المتعين فعله في الحالة التي تصحح فيه المحكمة الأعلى درجة الوضع الذي خلقه حكم القاضي ، فهل نوقف المتابعة لزوال الضرر اللاحق بالمتقاضي أم نستمر في مجرياتها بالبناء على جسامة الخطأ المقترف ؟ وماذا عن الحالة التي تؤيد فيها المحكمة الأعلى درجة الحكم الذي اعتبرته سلطة المتابعة خرقا خطيرا للقانون ، فكيف نضع حدا للمتابعة بما يحفظ ماء وجه القاضي ؟ وما مسؤولية سلطة المتابعة فيما قد مس سمعة القاضي واعتباره الأدبي ؟
وقبل هذا وذاك ، ألا ينبغي أن نمكن القاضي من صحيح القانون بافتراض جميع الوقائع الممكن تصورها وحلولها القانونية حتى إذا حاد عنها أمكنت مساءلته بسهولة ويسر، فبغير هذا لا يكون للمادة 89 معنى في ظل نظام قضائي محكوم بتضارب العمل القضائي حتى إن المحامي والمستشار القانوني يصعب عليهما في المغرب إعطاء استشارة مضمونة لانتفاء مقومات الأمن القضائي ، والقاضي نفسه قد ينام قرير العين بحكمه ليفاجئ بحكم سريالي من المحكمة الأعلى لاعتبارات يحتار في تفسيرها فطاحل رجال القانون .
في الفرضية الأخرى ، يمكن أن تُمنح سلطتي المتابعة والتأديب مكنة تقدير خطورة الخرق القانوني ، باعتماد تقنية قانونية معروفة في القضاء الإداري تعرف بفحص شرعية المقرر؛ بموجبها يمنح المجلس التأديبي صلاحية تقدير مقررالقاضي بغض النظر عن مآله القضائي في الطعن ، وتصطدم هذه الإمكانية مع مجموعة من الصعوبات بعضها فلسفي والآخر قانوني وعملي ، فمبدئيا لا يقبل من جهة غير قضائية – حتى ولو كانت دستورية - تقييم عمل القضاء ، وسيتعقد الأمر بعد إقرار التركيبة المختلطة للمجلس الأعلى للسلطة القضائية ، وحتى على التسليم بحق المجلس التأديبي في تقدير شرعية الخرق القانوني المنسوب للقاضي ، فإن الإشكال يدق حين يتعارض تقدير المجلس التأديبي مع التقدير اللاحق للقضاء عند فحصه للخرق بمناسبة الطعن ، فهل يقبل من المجلس التأديبي الاستمرار في المتابعة وترتيب الجزاءات بصرف النظر عن مآل الخرق أمام المحاكم العليا أم يتوجب عليه انتظار انتهاء النزاع بأحكام قضائية باتة مع ما يترتب عن ذلك مما أبرزناه سابقا من محاذير في الردع العام والتداعيات النفسية والاجتماعية والمهنية المترتبة عن طول المسطرة التأديبية بالنسبة للقاضي المتابع.
غير بعيد عن هذا ، جرمت المادة 89 من مشروع قانون النظام الأساسي للقضاة أيضا الإهمال أو التأخير غير المبرر والمتكرر في بدء أو انجاز مسطرة الحكم أو في القضايا المعروضة على القاضي أثناء ممارسة لمهامه القضائية.
ونكاد نتفق جميعنا قضاة ومتقاضين على الحكمة الانجليزية القائلة بأن " العدالة البطيئة نوع من الظلم " "Justice delayed is justice denied" ، لكن يجب الإقرار من باب النزاهة الفكرية بأن السواد الأعظم من القضاة يحرصون على إنهاء الأعمال القضائية في آجال مناسبة ، لأن البطء يؤلم العدالة والذوق القضائي السليم ، على أن التأخيرات غير المبررة التي يسعى مشرعونا لتحميلها للقاضي تحوي ظلما كبيرا ، فالتبليغ الذي تدور عليه الرحى متعثر وتتحمل فيه الدولة ومساعدوالقضاء قسطا كبيرا من المسؤولية ، والأطراف ووكلائهم باتوا يتفننون في استعمال جميع وسائل المماطلة والتسويف يساعدهم في ذلك القانون ذاته وتحوطهم مبادئ حقوق الدفاع ، والتقاضي بسوء نية أصبح هو الأصل بعد كان المفروض أن يكون هو الاستثناء ، والخبراء صار ديدنهم التراخي في تقديم تقاريرهم التي ندبوا فيها ،
و لن نبالغ إذا قلنا إن 95 % من التأخيرات التي تتم اليوم في محاكمنا لاتبررها قواعد المنطق والأخلاق والقانون ، أفنطبق المثل المغربي السائر " طاحت الصومعة علقوا الحجام " ونحمل القاضي المسكين وزر لا ناقة له فيه و لاجمل ؟
إن الفقرات الثلاث التي انبرينا للتعليق عليها ، تؤكد أن ما وقع بلجنة العدل والتشريع بمجلس النواب هو تصريف بسيط لما تحمله قلوب المغاربة تجاه قضائهم ، لكن لا ينبغي أن يصل بنا الأمر إلى مجافاة أبسط القواعد التي تحكم عمل القضاء في كل الأزمنة والأمكنة فلا يوجد نظام قضائي في العالم يساءل القاضي عن الخطأ في تطبيق القانون ، وقديما كان السلف الصالح من العلماء والأتقياء والعُباد يجلدون بالسياط ويهربون إلى البوادي زهدا في تولي القضاء ومخافة الخطأ في الحكم الذي يمكن أن يجر غضب رب العباد ، أما قضاة المغرب اليوم فقدرهم أن يضيفوا إلى غضب رب العباد غضب العباد أنفسهم ، ويهون التوجس من غضب الله مادام القاضي مجرد مجتهد يرجو في حركاته وسكناته عفو ربه الذي يمحو ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب ، أما حكم البشر فهو مما لا يطاق ، إن مشكلتنا في المغرب أننا نفترض فساد الجميع ، مع أن غيرنا قدروا خطورة مهنة القضاء وكرسوا في مجال التأديب قاعدة هي من إجرائيات قانون العقوبات وهي إن تبرئة ألف مذنب خير من إدانة بريء واحد.
و حتى لا يقال إن القضاة يبحثون عن حصانة فوق عادية، نهمس من آذان القائلين بهذا بأن الحصانة هي للمهنة والوظيفة التي هي مهنة الأنبياء والمرسلين، أما القضاة فمراقبتهم يمكن أن تتم بوسائل بسيطة تفي بالمقصود دون الحاجة إلى استعارة القوانين الستالينية والمكارثية ولوائح محاكم التفتيش ، لكن قدرنا في المغرب كدأبنا دائما أننا لا نأتي البيوت من أبوابها .
في الأخير ومساهمة في نقاش جدي ومثمر حول مشروع قانون النظام الأساسي للقضاة ، نقترح تأسيس مساءلة القاضي على أخطائه العمدية إتساقا مع ما يجري به العمل في العالم كله ، وذلك بإلغاء الفقرات الثلاث التي تصدينا للتعليق عليها وتعويضها بالمقتضى التالي :
ويعد خطأ جسيما بصفة خاصة الغش والتدليش والغدر والخطأ المهني الجسيم الذي لايعذر عنه القاضي والمرتكب بمناسبة التحقيق في الدعوى والحكم فيها .
يتقاسم تحديد المخالفة التأديبية في جميع قوانين السلطة القضائية في العالم اتجاهان ، الأول يعتمد ملائمة المخالفة التأديبية أي أن الجهة المختصة بالتأديب ليست مقيدة بمخالفات محددة وإنما تملك سلطة تقديرية في تقييم ما إذا كان الفعل المنسوب إلى القاضي مكونا لعناصر المخالفة التأديبية أما لا وذلك في ضوء مخالفته للقوانين واللوائح وقواعد السلوك القضائي وهو ما عليه العمل في مصر وفرنسا والمغرب في ظل ظهير 1974 ، ويعتمد الاتجاه الثاني شرعية المخالفة التأديبية بحصر جميع أنواع المخالفات التي يعاقب عليها تأديبيا وتحديد جزاء لكل منها وهو ما تتجه إليه حاليا قوانين التأديب في ألمانيا وإيطاليا والولايات المتحدة الأمريكية ، أما المشروع المغربي ، فقد اعتمد اتجاها هجينا ؛ فبعدما أعلن عن القاعدة العامة السائدة في ظل القانون الحالي من أنه يعد خطأ جسيما إخلال القاضي بواجب الاستقلال والتجرد والنزاهة والاستقامة إختارالمشروع الانتقائية حين مثل للأخطاء الجسيمة بالسلوكات التي قضت مضجع السلطة المكلفة بالعدل طيلة الحراك القضائي إلى اليوم من خلال الرغبة في تأثيم كل ما يتعلق بالأشكال الاحتجاجية وممارسة حرية التعبير التي كفلتها المواثيق الدولية للقضاة . على أن ما شكل فضيحة حقوقية بإمتياز هي التعديلات التي أدخلت على المادة 89 إثناء مناقشتها داخل اللجنة البرلمانية المختصة بمجلس النواب ، إذ تستدعي الفقرات التالية وقفة طويلة ومتأنية فقد نصت :
ويعد خطأ جسيما بصفة خاصة
الخرق الخطير لقاعدة مسطرية تشكل ضمانة أساسية لحقوق وحريات الأطراف ؛
الخرق الخطير لقانون الموضوع ؛
الإهمال أو التأخير غير المبرر والمتكرر في بدء أو انجاز مسطرة الحكم أو في القضايا أثناء ممارسة لمهامه القضائية.
لأول مرة في قانون تنظيمي للسلطة القضائية في العالم كله ، يتم إقرار مبدأ خطير وغير مسبوق ألا وهو مبدأ مسؤولية القاضي عن عمله القضائي ، فقد أجمعت جميع الأنظمة القانونية على تحصين القاضي من المساءلة عن العمل القضائي إلا في حالات ارتكابه للغش والتدليس والغدر وما في حكمها ، وما عدا ذلك فالمتضرر لا يملك إلا سلوك طرق الطعن أو المراجعة وفي أقصى الحالات طلب التعويض عن الخطأ القضائي إن كان له موجب ، والداعي إلى تحصين العمل القضائي من المساءلة يعود إلى أن الفصل في المنازعات مهمة خطيرة ودقيقة تستدعي إحاطة من ينهض بها بضمانات من نوع خاص حتى يأمن على نفسه من المساءلة التأديبية مما يندرج ضمن مقومات استقلال القاضي سيما في مجال تبقى فيه احتمالات الخطأ كبيرة ولو عن حسن نية ، وقد صدق الصادق المصدوق المعصوم " فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار يأتي بها يوم القيامة ".
في تطرقه لخرق قواعد المسطرة والموضوع ، استخدم المشروع عبارة فضفاضة ؛ هي الخرق الخطير ، فما هو معيار الخطورة المشكلة للخطأ الجسيم ومن هي الجهة المخولة لتقديره هل هو القضاء ذاته في نطاق الطعون القضائية أم هي الجهة المختصة بالإيقاف المؤقت عن العمل أم هو المجلس التأديبي في إطار المحاكمة التأديبية ؟
يجب أن نسجل أولا بأن الخطورة مفهوم نسبي لا يخضع لضوابط ومعايير منضبطة ، فما يمكن أن نعتبره خطأ خطيرا بالنسبة للقاضي المتوفر على أقدمية معينة في الممارسة لا يمكن اعتباره كذلك بالنسبة لقاض مبتدئ ، والخطأ قد يعذر من القاضي غير المتخصص في مادته و لا يعذر من المتخصص والخرق ذاته قد يبدو أحيانا خطيرا لكن مساهمة القاضي فيه لا تذكر ، كأن يعود لخطإ مرفقي أو تدليس من أحد مساعدي القضاء ، فهل ينبغي أن نتتبع عنصر العمد والغش أو التدليس أم أن الخطورة كافية لتأثيم الفعل ، وهذه قمة المغالاة وضرب في الصميم لسلطة القضاء المبنية على التقدير التي يحضر فيها هامش الخطأ ، ثم هب أن خطأ ارتكب فمن هي الجهة المخولة لتقدير درجة خطورته ؟
لا نعتقد أن الجهة المخولة توقيف القاضي و المجلس التأديبي مؤهلين لتقييم خطورة الخرق القانوني لقوانين الشكل والموضوع ، لأن القضاء وحده هو المؤهل لتقييم خطورة الخرق القانوني ، إذ لا يعقل أن نجعل القضاء مراقبا ومنظما ومرتبا لكافة مناحي الحياة في المجتمع ، ثم ننكر على ممارسيه الخضوع لرقابة القضاء ، وهب أننا منحنا القضاء سلطة التقييم من خلال طرق الطعن والمراجعة القانونية سواء العادية منها والاسثتنائية ، فثمة صعوبات تقف أمام استكمال المسطرة التأديبية ، فهل ننتظر استنفاد المسطرة التي توبع بسببها القاضي لجميع طرق الطعن باستصدار مقرر مبرم وهوما تفقد معه المتابعة دورها في الردع العام بدخول الواقعة طي النسيان بجانب التداعيات النفسية والاجتماعية التي يخلفها طول المسطرة على المتابع ، أم يكفي أن نسجل الخرق القانوني في أية مرحلة من التقاضي ونجعل الخرق دليلا على عدم الكفاءة الموجبة للمساءلة ، وإذا اعتبرنا الأمر الأخير ألا تكون المسؤولية للجهة التي اختارت القاضي وعينته في القضاء ، ثم ما المتعين فعله في الحالة التي تصحح فيه المحكمة الأعلى درجة الوضع الذي خلقه حكم القاضي ، فهل نوقف المتابعة لزوال الضرر اللاحق بالمتقاضي أم نستمر في مجرياتها بالبناء على جسامة الخطأ المقترف ؟ وماذا عن الحالة التي تؤيد فيها المحكمة الأعلى درجة الحكم الذي اعتبرته سلطة المتابعة خرقا خطيرا للقانون ، فكيف نضع حدا للمتابعة بما يحفظ ماء وجه القاضي ؟ وما مسؤولية سلطة المتابعة فيما قد مس سمعة القاضي واعتباره الأدبي ؟
وقبل هذا وذاك ، ألا ينبغي أن نمكن القاضي من صحيح القانون بافتراض جميع الوقائع الممكن تصورها وحلولها القانونية حتى إذا حاد عنها أمكنت مساءلته بسهولة ويسر، فبغير هذا لا يكون للمادة 89 معنى في ظل نظام قضائي محكوم بتضارب العمل القضائي حتى إن المحامي والمستشار القانوني يصعب عليهما في المغرب إعطاء استشارة مضمونة لانتفاء مقومات الأمن القضائي ، والقاضي نفسه قد ينام قرير العين بحكمه ليفاجئ بحكم سريالي من المحكمة الأعلى لاعتبارات يحتار في تفسيرها فطاحل رجال القانون .
في الفرضية الأخرى ، يمكن أن تُمنح سلطتي المتابعة والتأديب مكنة تقدير خطورة الخرق القانوني ، باعتماد تقنية قانونية معروفة في القضاء الإداري تعرف بفحص شرعية المقرر؛ بموجبها يمنح المجلس التأديبي صلاحية تقدير مقررالقاضي بغض النظر عن مآله القضائي في الطعن ، وتصطدم هذه الإمكانية مع مجموعة من الصعوبات بعضها فلسفي والآخر قانوني وعملي ، فمبدئيا لا يقبل من جهة غير قضائية – حتى ولو كانت دستورية - تقييم عمل القضاء ، وسيتعقد الأمر بعد إقرار التركيبة المختلطة للمجلس الأعلى للسلطة القضائية ، وحتى على التسليم بحق المجلس التأديبي في تقدير شرعية الخرق القانوني المنسوب للقاضي ، فإن الإشكال يدق حين يتعارض تقدير المجلس التأديبي مع التقدير اللاحق للقضاء عند فحصه للخرق بمناسبة الطعن ، فهل يقبل من المجلس التأديبي الاستمرار في المتابعة وترتيب الجزاءات بصرف النظر عن مآل الخرق أمام المحاكم العليا أم يتوجب عليه انتظار انتهاء النزاع بأحكام قضائية باتة مع ما يترتب عن ذلك مما أبرزناه سابقا من محاذير في الردع العام والتداعيات النفسية والاجتماعية والمهنية المترتبة عن طول المسطرة التأديبية بالنسبة للقاضي المتابع.
غير بعيد عن هذا ، جرمت المادة 89 من مشروع قانون النظام الأساسي للقضاة أيضا الإهمال أو التأخير غير المبرر والمتكرر في بدء أو انجاز مسطرة الحكم أو في القضايا المعروضة على القاضي أثناء ممارسة لمهامه القضائية.
ونكاد نتفق جميعنا قضاة ومتقاضين على الحكمة الانجليزية القائلة بأن " العدالة البطيئة نوع من الظلم " "Justice delayed is justice denied" ، لكن يجب الإقرار من باب النزاهة الفكرية بأن السواد الأعظم من القضاة يحرصون على إنهاء الأعمال القضائية في آجال مناسبة ، لأن البطء يؤلم العدالة والذوق القضائي السليم ، على أن التأخيرات غير المبررة التي يسعى مشرعونا لتحميلها للقاضي تحوي ظلما كبيرا ، فالتبليغ الذي تدور عليه الرحى متعثر وتتحمل فيه الدولة ومساعدوالقضاء قسطا كبيرا من المسؤولية ، والأطراف ووكلائهم باتوا يتفننون في استعمال جميع وسائل المماطلة والتسويف يساعدهم في ذلك القانون ذاته وتحوطهم مبادئ حقوق الدفاع ، والتقاضي بسوء نية أصبح هو الأصل بعد كان المفروض أن يكون هو الاستثناء ، والخبراء صار ديدنهم التراخي في تقديم تقاريرهم التي ندبوا فيها ،
و لن نبالغ إذا قلنا إن 95 % من التأخيرات التي تتم اليوم في محاكمنا لاتبررها قواعد المنطق والأخلاق والقانون ، أفنطبق المثل المغربي السائر " طاحت الصومعة علقوا الحجام " ونحمل القاضي المسكين وزر لا ناقة له فيه و لاجمل ؟
إن الفقرات الثلاث التي انبرينا للتعليق عليها ، تؤكد أن ما وقع بلجنة العدل والتشريع بمجلس النواب هو تصريف بسيط لما تحمله قلوب المغاربة تجاه قضائهم ، لكن لا ينبغي أن يصل بنا الأمر إلى مجافاة أبسط القواعد التي تحكم عمل القضاء في كل الأزمنة والأمكنة فلا يوجد نظام قضائي في العالم يساءل القاضي عن الخطأ في تطبيق القانون ، وقديما كان السلف الصالح من العلماء والأتقياء والعُباد يجلدون بالسياط ويهربون إلى البوادي زهدا في تولي القضاء ومخافة الخطأ في الحكم الذي يمكن أن يجر غضب رب العباد ، أما قضاة المغرب اليوم فقدرهم أن يضيفوا إلى غضب رب العباد غضب العباد أنفسهم ، ويهون التوجس من غضب الله مادام القاضي مجرد مجتهد يرجو في حركاته وسكناته عفو ربه الذي يمحو ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب ، أما حكم البشر فهو مما لا يطاق ، إن مشكلتنا في المغرب أننا نفترض فساد الجميع ، مع أن غيرنا قدروا خطورة مهنة القضاء وكرسوا في مجال التأديب قاعدة هي من إجرائيات قانون العقوبات وهي إن تبرئة ألف مذنب خير من إدانة بريء واحد.
و حتى لا يقال إن القضاة يبحثون عن حصانة فوق عادية، نهمس من آذان القائلين بهذا بأن الحصانة هي للمهنة والوظيفة التي هي مهنة الأنبياء والمرسلين، أما القضاة فمراقبتهم يمكن أن تتم بوسائل بسيطة تفي بالمقصود دون الحاجة إلى استعارة القوانين الستالينية والمكارثية ولوائح محاكم التفتيش ، لكن قدرنا في المغرب كدأبنا دائما أننا لا نأتي البيوت من أبوابها .
في الأخير ومساهمة في نقاش جدي ومثمر حول مشروع قانون النظام الأساسي للقضاة ، نقترح تأسيس مساءلة القاضي على أخطائه العمدية إتساقا مع ما يجري به العمل في العالم كله ، وذلك بإلغاء الفقرات الثلاث التي تصدينا للتعليق عليها وتعويضها بالمقتضى التالي :
ويعد خطأ جسيما بصفة خاصة الغش والتدليش والغدر والخطأ المهني الجسيم الذي لايعذر عنه القاضي والمرتكب بمناسبة التحقيق في الدعوى والحكم فيها .