لعل أي متتبع لشؤون القضاء ببلدنا ليلاحظ أن الجسم القضائي يعيش مؤخرا على إيقاع حركة " غريبة عليه " أو كما أسماها البعض " غليان " أفرزته الإستحقاقات الإنتخابية للجمعيات المهنية للقضاة ممثلة بالذات في انتخابات أجهزة نادي قضاة المغرب الوطنية وأجهزة الودادية الحسنية للقضاة الجهوية. حدثين بارزين شد الإنتباه إليهما: إنسحاب البعض من قضاة النادي احتجاجا على سير أشغال الجمع العام العادي المنعقد بتاريخ 18 أكتوبر 2014 والذي تمخض عنه انتخاب رئيس نادي قضاة المغرب ومكتبه التنفيذي وأعضاء مجلسه الوطني وطرقهم باب القضاء في محاولة لاستصدار أمر قضائي يروم تعزيز موقفهم عند الطعن في نتائج الإنتخابات المشار إليها. وعلى الضفة الأخرى, استصدار أحد أعضاء المكتب المركزي للودادية الحسنية للقضاة أمرا قضائيا بإثبات حال انتفاء النصاب القانوني للإجتماع الذي دعا إليه رئيسها والخروقات التي شابت العملية.......حدثين صاحبهما تراشق وتجاذب من البعض واستنكار من باقي القضاة الذين عبروا عن استيائهم مما حصل وأسفهم الشديد على أن يصدر ذلك من القضاة, نخبة المجتمع وأن تغذيه اعتبارات لا تخدم مصلحة القضاء والقضاة في شيء. فتوالت التغريدات والتصريحات وكتبت الجرائد وسالت الأقلام... في سابقة كانت من نوعها.
الصورة قد تبدو من الوهلة الأولى مؤسفة وغير مقبولة مهنيا ومجتمعيا ...لكن عند وضع الأشياء في سياقها وربط حاضرها بماضيها تضمحل شيئا فشيئا علامات التعجب والإستنكار تاركة المجال لمستوى آخر من التفكير , تفكير يسمح بمحاولة استغلال المستحدث في تجاوز القائم وابتكار الحلول بغية بناء واستكمال النضج.
فالتجاذبات والصراعات بين القضاة بسبب العمليات الإنتخابية المهنية لم تكن وليدة اليوم. وأهل الدار أدرى من غيرهم بالأجواء التي كانت تطبع انتخابات أعضاء المجلس الأعلى للقضاء وما كانت تخلفه من تبعات نتيجة منطق الولاءات والتحالفات والولاءات والتحالفات المضادة الذي كان ساريا إلى وقت قريب والذي أدى عنه بعض القضاة الثمن غاليا من مسارهم المهني. ونفس الأمر ينطبق على انتخابات أجهزة الودادية الحسنية للقضاة التي بحكم الهيمنة التي كانت لها لعامل قربها من وزارة العدل واستغلالها السلطة المعنوية للمسؤولين القضائيين في تصريف قراراتها ومواقفها حتى أن القضاة لم يشعروا يوما أنهم يمارسون عملا جمعويا في كنفها بقدر ما كانوا يحسون أنهم يؤدون واجبا مهنيا... وإذا ما أضفنا إلى ما ذكر الجو العام الذي كان يعيشه القضاة من ضيق كبير لهامش الحرية وسيادة أكبر لخيار الصمت, فكان لزاما أن يبقى التعبير عن عدم الإرتياح للطريقة التي كانت تدبر بها الإنتخابات المهنية للقضاة أو الإستنكار في أقصى الحالات حبيس الغرف المغلقة ولم يكن يستطيع تخطي عتبتها.
أنعم الله على القضاة بدستور 2011 واتجهت الإرادة الملكية وإرادة الشعب المغربي نحو أن تتبوأ السلطة القضائية مكانتها بين السلط وأن تتمتع بمقومات الإستقلالية كي تكون عن حق ضامنة للحقوق والحريات, ومنح للقضاة الحق في التعبير بما يتلاءم مع واجب التحفظ والأخلاقيات القضائية وكذا الحق في الإنتماء أو إنشاء جمعيات مهنية...إلا أنه للأسف الشديد جاءت هاته المقتضيات الحداثية لتجد الفضاء فارغا من أي موروث يؤسس للممارسة الحرة والمسؤولة والأخلاقية للترشح والإنتخاب وسط القضاة : فلا الجو العام ولا المجلس الأعلى للقضاء ولا الودادية الحسنية للقضاة ولا القضاة أنفسهم ساهموا بفعالية في وضع ضوابط عامة تؤطر ممارستهم الإنتخابية ويحتكمون لها عند الخلاف. فمن الطبيعي جدا أن نعيش الذي نعيشه الآن, والأولى أن نعيشه حالا على أن نعيشه في المستقبل.
إذن ونحن نتفاعل مع حاضرنا ومحيطنا الآن, يبقى الرهان على القضاء ما دام قضاة اليوم لا يجدون حرجا في استعمال حقهم في التقاضي كأي مواطن دفاعا عن حقوقهم المستمدة من انتمائهم الجمعوي المهني. والقضاء بذلك مطالب بأن يكون في مستوى التحدي أولا بإبراز حياده وتجرده, وثانيا بالـتأسيس لاجتهادات قضائية تروم ضمان ممارسة القضاة لحريتهم الجمعوية في إطار ما ينص عليه القانون.
الرهان كذلك على مؤسسة المجلس الأعلى للسلطة القضائية التي يقع على عاتقها الرفع من مستوى القضاة في التعاطي مع شؤونهم المهنية الجمعوية عبر وضع باب في مدونة السلوك والقيم مرتبط بأخلاقيات الممارسة الجمعوية السليمة والتكوين عليها ومراقبة مدى الإلتزام بها ولم لا تأديب الخارج عنها عند الإقتضاء.
والرهان كل الرهان على حياد الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية والوكيل العام به في كل ما يتصل بالممارسة الجمعوية للقضاة لا لشيء إلا لأنهما من المفروض أن يشكلا صوت الحكمة داخل هاته المؤسسة الدستورية, فهما يمثلان جلالة الملك بها ومن تم وجب أن يتحليا بعباءة الحكم المحايد المتجرد الحكيم ويكونا في مرتبة أعلى وأسمى من مراتب المتخاصمين. وما يسري عليهما يسري كذلك على باقي الأعضاء من القضاة. ووجب أن تتضمن صيغة اليمين التي يتلوها الأعضاء بين يدي جلالة الملك عند تنصيبهم ما يفيد القسم على الوفاء بالإلتزام المذكور.
لنخلص إذن إلى كون الصورة ليست بالقاتمة كما يبدو. وإنما هو المخاض الذي سيعطي يقينا قضاء آخر بصورة أكثر انسجاما مع الواقع, رهانا بعد رهان, واستحقاقا بعد استحقاق حتى تسقط من المخيلة كل تلك التمثلات الموصدة, تاركة المجال للجرأة والخلق والإبداع والتدافع ...في ظل الإختلاف إلى أن يتحقق النضج وتتقوى السلطة القضائية بكل أعضائها.