تقوم الإدارة بمجموعة من الأعمال قصد سير مرافقها باستمرار واطراد، وقد قسم الفقه الإداري هذه الأعمال إلى أعمال قانونية وأخرى مادية، الأعمال القانونية أما أن تكون أحادية الجانب وهي القرارات الإدارية، وأما أن تكون ثنائية الجانب وهي العقود الإدارية. أما فيما يخص الأعمال المادية فقد ميزها الفقه عن الأعمال القانونية على أنها تصرف منفرد للإدارة، وهذا ما يميزها عن العقود، كما أنها لا تنتج أثرا قانونية بل تأتي مكملتا أو تنفيذا لقرار صادر من قبل أو لنصوص قانونية، على عكس القرارات التي تنشأ أثرا قانونية سواء بإحداث مركز قانوني أو تعديله أو إلغائه.
تكون الأعمال المادية مشروعة إذا كانت مطابقة للقانون، كإقامة جسور أو القبض على شخص مبحوث عنه أو هدم مبنى آيل للسقوط... وتكون غير مشروعة إذا أتت مخالفة لمبدأ المشروعية. كما يمكن أن تتحول الأعمال القانونية إلى أعمال مادية في حالة مخالفتها للمشروعية مخالفة جسيمة ما يؤدي إلى اعتبارها من الأعمال المنعدمة.
وسواء أن تحول العمل القانوني إلى عمل مادي بسبب مخالفته للمشروعية مخالفة جسيمة، أو عندما يخالف العمل المادي نفسه مبدأ المشروعية مخالفة صارخة. ومس ذلك بإحدى حريات وحقوق الأفراد أو الملكية الخاصة، نكون حينها أمام اعتداء مادي.
الإعتداء المادي إذا هو ذلك الخروج الجسيم من طرف الإدارة عن مبدأ المشروعية، وأدى إلى المس بالملكية الخاصة أو إحدى الحريات والحقوق الفردية. ففي المغرب كباقي دول العالم عرفت هذه النظرية تطورا مهما، لكن هل تعامل معها شأنه شان الدول الأخرى مثل فرنسا؟ أم أن المغرب له خصوصياته وبالتالي سيتعامل معها بشكل آخر؟ أو بمعنى آخر ما هو الإعتداء المادي في القانون المغربي؟؟ هذا هو محور هذا العرض. ومن أجل ذلك يجب أن نقف على ماهية الاعتداء المادي (الفقرة الأولى) من خلال معرفة الأصل التاريخي لهذه النظرية (أولا)، ثم التعريف الفقهي والقضائي لها (ثانيا). بعد ذلك سنتطرق إلى تطور مسألة الاختصاص في نظرية الإعتداء المادي في القضاء المغربي (الفقرة الثانية) وذلك قبل إحداث المحاكم الإدارية (أولا) وبعدها (ثانيا)، لأن إنشاء هذه المحاكم عرف القضاء الإداري المغربي تحولا وتطورا كبيرا. وأخيرا سنقف عند التطبيقات القضائية للإعتداء المادي (الفقرة الثالثة) سواء الإعتداء على الملكية الخاصة (أولا) أو الإعتداء على الحريات الفردية (ثانيا).
الفقرة الأولى: ماهية الإعتداء المادي
أولا: الأصل التاريخي لنظرية الإعتداء المادي
تعتبر نظرية الاعتداء المادي من النظريات القديمة التي ترجع في أصلها إلى الشريعة اللاتينية، وكانت تعبيرا عن أنواع مختلفة من القوة والعنف، وما لبثت أن عبرت إلى القضاء الفرنسي فصاغ منها نظرية أساسية من نظريات القانون العام. تقوم هذه النظرية على أساس أن الإدارة تتبع في سبيل اقتضاء حقوقها وسيلة تخالف الطريق الذي رسمه القانون، فالاعتداء المادي – كما تدل عليه عبارته – هو أن تعتدي الإدارة على القانون وتخالف بذالك مبدأ المشروعية، أي سيادة القانون. وقد تناولت أحكام القضاء الفرنسي القديم فكرة الإعتداء المادي في بعض صورها وإن كانت هذه الأحكام لا تكشف بوضوح عن نظرية عامة محددة، كما أنه من العسر تحديد التاريخ الذي استقرت فيه هذه النظرية، وإن كان الحكم الصادر في قضية lasserre 1837 يصح أن يعد ذلك حسب الدكتور مصطفى كيرة. ففي هذا الحكم قضت محكمة النقض بأن تصرف العمدة أو أحد أتباعه بوضع أواني مقدسة في مكان عام بدلا من إعادتها إلى مالكها الذي لم يسمح باشتراكها في مهرجان العبادة إلا تحت شرط إعادتها إليه بعد انتهاء المهرجان، يكون اعتداءا ماديا.
لم يكن الفقه أيضا يعرف نظرية الاعتداء المادي كنظرية عامة واضحة، إلا منذ عهد الفقيه لافريير، واليه يرجع الفضل في بيان معالم هذه النظرية ووضع دراسة مفصلة لها في كتابه "مطول القضاء الإداري". ويقول الفقيه لافريير في هذا الصدد :" إن القرار الإداري إذا لحقه عيب عدم المشروعية فإنه لا يفقد صفته الإدارية، بل يظل قرارا إداريا دون أن تتغير طبيعته وإن شابه عيب في صحته، وأنه لا يصح القول بأن القرار الإداري الباطل لتجاوز السلطة يعتبر من قبيل العدوان المادي، على أن هناك حالات يخرج فيها رجل الإدارة ليس فقط عن اختصاصه المخولة له بل عن اختصاصات الوظيفة الإدارية ذاتها، مثال إلغاء الصحف، القبض على الأشخاص دون وجه حق، مصادرة الأموال في غير الأحوال المصرح بها قانونا، تحريم الاتجار. مثل هذا التصرف لا يتمتع بالحصانة المقررة للأوامر الإدارية، بل يعد معدوما لا وجود له قانونا ويعتبر – غريبا في موضوعه – عن خصائص الوظيفة الإدارية، فإذا قبضت الإدارة على شخص دون وجه حق أو أغلقت مؤسسة أو محلا، فإن للشخص الذي لحقه ضرر من جراء هذا التصرف أن يرفع أمره إلى القضاء".
تطورت نظرية الاعتداء المادي في أحكام القضاء بعد ما كانت مقتصرة على الأعمال الاستبدادية التي يأتيها الموظف فيخرج بها عن واجبات وظيفته، وأضحت النظرة إلى هذه الفكرة باعتبارها متضمنة خروجا جسيما عن طبيعة عمل الإدارة وتخضع بذلك لاختصاص المحاكم القضائية – العادية –، وامتدت إلى أنواع مختلفة من الحقوق والحريات الفردية ثم إلى قوانين الاستيلاء حيث تلجأ الإدارة كثيرا إلى التنفيذ المباشر غير المشروع.
وهكذا غدت نظرية الإعتداء المادي نظرية مستقلة لها أصلها التاريخي ولها أساسها الذي تستند عليه، فلا تختلط بغيرها مما قد يشتبه بها، وهو ما يعبر عنه بمبدأ استقلال نظرية الإعتداء المادي.
أما بخصوص المغرب فيرجع أصل نظرية الإعتداء المادي إلى الاختصاصات التي كانت تبث فيها وزارة الشكايات قبل الحماية، ومنها فحص الشطط في استعمال السلطة وكذا أعمال التعدي المرتكبة من طرف الولاة والعمال، واعتبر الأستاذ لحسن سيمو أن القضاء المغربي كان يعرف نظرية الإعتداء المادي تحت اسم أعمال التعدي المشار إليه ضمن اختصاصات وزارة الشكايات. وكان للقضاء حينها كامل الولاية في إصدار أوامر للإدارة بالعمل أو بالامتناع عن القيام بعمل كالإخلاء والهدم والإزالة والترميم...
ثانيا: التعريف الفقهي والقضائي للإعتداء المادي
لقد عرف الفقه الفرنسي الإعتداء المادي بأنه كل عمل مادي تنفيذي غير مشروع، ماس بالملكية الخاصة أو بالحريات العامة أو بحقوق الأفراد والجماعات صادر عن سلطة إدارية، وبالتالي يصبح مجردا عن صفته الإدارية وتفتقد الإدارة بسببه كل الإمتيازات المعترف لها بها كسلطة عامة، فتنزل منزلة الأفراد العاديين ويخرج عملها هذا عن رقابة القضاء الإداري.
وعرفه الفقه المغربي أمثال الدكتور أمال المشرفي على انه كل عمل لا صلة له مطلقا بتطبيق نص قانوني أو تنظيمي، أو حتى بإحدى الصلاحيات المسندة للإدارة. فهو العمل الذي لا يمكن اعتباره عملا ذي طبيعة إدارية يمكن إدراجه ضمن ممارسة السلطة الإدارية. وعرفه الدكتور عبد الله حداد بأن الإدارة تعتبر مرتكبة لاعتداء مادي إذا ما ارتكبت خطأ جسيما أثناء قيامها بعمل مادي يتضمن إعتداءا على حرية مواطن أو على عقار مملوك لأحد الأفراد. وهكذا يشترط ليقام نظرية الإعتداء المادي توفر ثلاثة عناصر: أن يكون العمل الذي تقوم به الإدارة عملا ماديا "الأعمال المادية هي التي لا تستحدث بها الإدارة ولا تعدل ولا تلغى فيها أية أثر قانونية بل يقتصر دورها على إقرار أو إثبات ما سبق أن قررته القوانين أو قررته الإدارة بنفسها بقرارات سابقة"، ثم أن يرتكب أثناء القيام بالعمل المادي خطأ جسيم، وأخيرا أن يقع الاعتداء على حرية فردية أو عقار مملوك لأحد الأفراد. الاعتداء المادي إذا هو قيام الإدارة بعمل يخالف مبدأ المشروعية – لا يستند إلى نص قانوني أو تنظيمي – مخالفة جسيمة وصارخة، ومست بذالك إحدى حريات الأفراد أو الملكية الخاصة، وفي هذه الحالة تنزل الإدارة منزلة الأفراد، ويفقدها ذلك التصرف امتيازات السلطة، ويعتبر في الأخير معدوما لا أثر له.
كما عرفه الأستاذ الحسن الوزاني شاهدي على انه ارتكاب الإدارة لعدم مشروعية جسيمة، وظاهر أثناء قيامها بنشاط مادي تنفيذي يتضمن اعتداء على حق الملكية أو مساسا بالحريات العامة ويكو في حد ذاته منعدم الاتصال بتطبيق أي نص قانوني أو تنظيمي أو حتى بإحدى السلطات المخولة للإدارة.
نفس الاتجاه ذهب إليه القضاء المغربي حين عرف الاعتداء المادي بأنه عمل مادي غير مرتبط بنص تشريعي أو تنظيمي، وليست له أية صلة بالقرارات الإدارية الصادرة عن السلطة الإدارية. قرار مجلس الأعلى عدد 74 بتاريخ 12-3-1992. وأيضا في قراره الصادر بتاريخ 4-12-1958 في قضية فبليكس ضد الدولة المغربية، حين اعتبر المجلس الأعلى الإعتداء المادي محققا في الحالة التي تكون فيها الإدارة قد اتخذت تصرفا لا صلة له بأية صفة من الصفات بالسلطات التي تستعملها الإدارة والتي خولت لها بمقتضى القوانين المعمول بها. وفي أمر استعجالي لرئيس المحكمة الإدارية بالرباط في قضية شركة ميديا تروست ضد الحكومة المغربية، جاء فيه على أن الإعتداء المادي يتحقق عندما تأتي الإدارة بعمل مادي تنفيذي سواء تعلق الأمر بتنفيذ قرار إداري أم لا، متى شاب هذا العمل خطأ جسيم، أو أن يشتمل التنفيذ على عيب جسيم يخلع عن عمل الإدارة الصفة العامة ويحوله إلى تصرف مادي وفي جميع الحالات يتعين أن تكون المخالفة القانونية بالغة الجسامة.
ويتميز الإعتداء المادي عن غيره من الأعمال المادية الأخرى كالغصب والاستيلاء بالقوة والأعمال الإدارية المنعدمة، والأعمال الإدارية الباطلة "الخطأ البسيط" بكون الإعتداء المادي يتحد ويجتمع معها في انعدام المشروعية، لكنه يختلف عنها. فهو يختلف عن الغصب والاستيلاء بالقوة في كون هذين الأخيرين ينصبان على العقار فقط ويكفي في ذلك بالمخالفة البسيطة لعدم المشروعية في حين أن الاعتداء المادي يرد على العقار والمنقول أيضا كما أنه وكما سبق ذكره تكون مخالفة عدم المشروعية جسيمة وبالتالي فهو أوسع من الغصب والاستيلاء بالقوة، كما يختلف عن الأعمال الإدارية المنعدمة التي تكون منعدمة أساسا بمجرد اتخاذها دون حاجة إلى تنفيذها أي أنها في حكم البطلان المطلق من ساعة صدورها، كما يختلف عن الأعمال الباطلة لكون هذه الأخيرة مشوبة فقط بعيب الخطأ البسيط. في حين يوصف الإعتداء المادي كما أسلف الذكر بأنه عمل مادي تنفيذي صادر عن سلطة إدارية دون غيرها وينطوي على خطأ جسيم وصارخ يتمثل في الإعتداء الواضح على ملكية خاصة أو حرية شخصية.
والإعتداء المادي حسب الأستاذ الحسن سيمو لا يتحقق إلا بشرطين، الأول أن يكون هناك مساس خطير بالملكية الخاصة أو الحريات الأساسية، والثاني يستوجب أن يكون تصرف الإدارة مجردا من صفة النشاط الإداري، ويصعب ربطه بتنفيذ نص قانوني أو تنظيمي.
بعد أن تطرقنا في هذه الفقرة إلى الأصل التاريخي لنظرية الإعتداء المادي، وتعريف هذه النظرية انطلاقا من مجموعة من التعاريف الفقهية والقضائية، سنتطرق في الفقرة الثانية إلى تطور نظرية الإعتداء المادي في القضاء والفقه المغربي، خصوص أنها مرت بعدة مراحل إلا أننا سنكتفي بمرحلتين مهمتين، وهما، مرحلة ما قبل إنشاء المحاكم الإدارية، ومرحلة ما بعد إنشاء هذه المحاكم. وإن كان من المعلوم أن القضاء المغربي تأثر بالجدال الفقهي الفرنسي والمصري في هذا الشأن خصوصا فيما يتعلق بالاختصاص، وكان دائما يدرج قضايا الإعتداء المادي في المادة المدنية، فإنه بعد إنشاء المحاكم الإدارية تراجع تدريجيا عن هذا الموقف.
الفقرة الثانية: تطور مسألة الاختصاص في نظرية الإعتداء المادي في القضاء والفقه المغربي
أولا: قبل إحداث المحاكم الإدارية
من المعلوم أن المغرب في عهد الحماية طبق نظام وحدة القضاء، فكانت المحاكم العصرية الابتدائية منها والاستئنافية تمارس اختصاصا مزدوجا، فهي تبث في النزاعات الإدارية إلى جانب القضايا المدنية المعروضة عليها، وذلك استنادا إلى مقتضيات الفصل الثامن من الظهير الشريف المؤرخ في 12 غشت 1913 الذي أسند لها الاختصاص بالبت في بعض القضايا الإدارية المحدودة، مستثنيا في ذلك عدة نزاعات ودعاوى من أهمها دعاوى الإلغاء التي كانت ترفع أمام مجلس الدولة الفرنسي فيما يتعلق بالوظيفة العمومية فقط، وذلك بموجب ظهير 1.9.1928، إلى جانب الطعن بالنقض أمام هذا المجلس نفسه أو أمام محكمة النقض حسب طبيعة النزاع المعروض.
إن القضاء في هذه الفترة - فترة الحماية - كان يتميز بعدة خصائص منها: ازدواجية القانون، وحدة القضاء، عدم وجود قضاء إداري مستقل عن القضاء العادي، الإقرار التدريجي لمبدأ فصل السلطات، حيث جاء في الفصل الثامن من الظهير الشريف المتعلق بالتنظيم القضائي الصادر في 12 غشت 1913، أنه يمنع على المحاكم إصدار أوامر للإدارة أو العمل على عرقلة أي عمل أو نشاط من نشاطاتها بكيفية مباشرة أو غير مباشرة، أو إلغاء أي قرار من قراراتها.لكنه بالرغم من ذلك فقد استطاع القضاء في هذه المرحلة أن يوفق ما بين متطلبات هذا الفصل، ومتطلبات احترام المشروعية، إذ أنه اعتبر أن أعمال التعدي والغصب، أو بعبارة جامعة الاعتداءات المادية الصادرة من الإدارة على الملكية الخاصة والحقوق الأساسية للأفراد والجماعات، وحرياتهم الشخصية، لا يمكن اعتبارها أعمالا إدارية، وبالتالي لا يمكن إضفاء الحماية عليها، ومن تم فهي تخضع للقضاء العادي. وهكذا يتجلى أن القضاء المغربي كان يعرف نظرية الإعتداء المادي مند فترة الحماية، وأن الفصل الثامن من ظهير 12 غشت 1913 الصادر في عهد الحماية لم يقف حاجزا ولا مانعا في سبيل بسط الرقابة القضائية على أعمال ونشاطات الإدارة غير المشروعة، والتي تمس بإحدى الحريات الأساسية للأفراد وإرجاع الأمور إلى نصابها، متأثرا في ذلك بالاجتهادات القضائية الفرنسية العديدة في هذا المجال والصادرة عن محكمة التنازع وعن مجلس الدولة، ومحكمة النقض.
هذا في مرحلة الحماية، أما بعد الاستقلال وبعد إنشاء المجلس الأعلى بمقتضى ظهير 1.57.223 المؤرخ في ثاني ربيع الأول 1377 الموافق 27 شتنبر 1957، واستقلال القضاء المغربي عن القضاء الفرنسي، استمر مبدأ وحدة القضاء ساري المفعول. إذ كان بإمكان كل غرفة من غرف المجلس أن تنظر في النزاعات الإدارية إلى جانب الغرفة الإدارية، كما يمكن للغرف مجتمعة أن تبث في أية قضية حتى ولو كانت إدارية، زد إلى ذلك أن المحاكم الابتدائية والاستئنافية واصلتا البث في القضايا الإدارية إلى جانب القضايا المدنية دون تمييز بينها. مما كرس وحدة القضاء وازدواجية القانون.
وفي هذا الإطار ظل القضاء المغربي سواء على مستوى الغرفة الإدارية بالمجلس الأعلى، أو على مستوى المحاكم الابتدائية والاستئنافية، يبعد قضايا الاعتداءات المادية الإدارية وهو ينظر في المادة الإدارية، ويخضعها دائما للمادة المدنية في إطار القضاء العادي، بمعنى آخر أنه يستبعد تطبيق قواعد القانون العام ويطبق قواعد القانون الخاص.
ففي قرار للغرفة الإدارية بالمجلس الأعلى تحت عدد 27 بتاريخ 4-12-1958 ملف عدد 667 في قضية "كنسور فيليكس" ضد الدولة المغربية، اعتبر أن محكمة الاستئناف بالرباط قد خرقت طبيعة سلطاتها عندما فصلت في دعوى مرفوعة ضد الدولة المغربية تتعلق باستيلاء هذه الأخيرة على أرض الطاعنين بدون سند قانوني، وهي تبث في المادة الإدارية، في حين كان عليها أن تبث فيها طبقا لقواعد القانون المدني، وفي إطار سلطتها القضائية العادية، لكون الإدارة قامت بعمل مادي لا علاقة له بأي شكل من الأشكال بممارسة السلطات التي تختص بها.
بقي الوضع كما هو عليه – دعاوي الإعتداء المادي يبث فيه القاضي في إطار المادة المدنية – حتى بعد الإصلاحات القضائية لسنة 1974، لأن هذه الإصلاحات رغم أهميتها بالنسبة للتنظيم القضائي ككل ووضع نظام أساسي للقضاة ... لم تأتي بجديد فيما يتعلق بالمادة الإدارية، بل كرست الوضع القائم مند الحماية، من خلال الفصل 18 من المسطرة المدنية لسنة 1974 الذي منح اختصاصا عاما وشاملا للمحاكم الابتدائية في المادة الإدارية. حيث جاء النص عاما ولم يحدد الدعاوي بدقة كما كان عليه الأمر في المادة الثامنة من التنظيم القضائي لسنة 1913 التي حددت اختصاصات المحاكم المدنية في المادة الإدارية بدقة، وهي المتعلقة بالصفقات العمومية والأشغال العمومية والمسؤولية الإدارية فقط. كما أن الفصل 25 من المسطرة المدنية لم يكن مانعا لأن تبث المحاكم العادية في دعاوي الإعتداء المادي، بل تفسيره بطريقة سليمة وموضوعية.
وفي هذه الفترة بالذات صدرت مجموعة من الاجتهادات القضائية المهمة في موضوع الإعتداء المادي، سواء على مستوى المجلس الأعلى أو على مستوى المحاكم الاستئنافية و الابتدائية، وكانت جلها تكرس إسناد الإختصاص بدعاوى الإعتداء المادي إلى المحاكم الابتدائية والاستئنافية وهي تبث في المادة المدنية. ومما جاء في قرار للمجلس الأعلى عدد 143 صادر بتاريخ 6 يونيو 1976 أن قرار عامل إقليم ورزازات القاضي بإغلاق مقهى مؤقت لموقعه الاستراتيجي قصد مواجهة ظروف طارئة يعد عملا ماديا لا علاقة له بقرار إداري، وعليه فإن طلبات الإلغاء بسبب الشطط في استعمال السلطة لا توجه إلا ضد القرارات الإدارية وليس ضد الأعمال المادية الصرفة.
وجاء في حيثيات قرار آخر له تحت عدد 191 بتاريخ 24 أكتوبر 1975 قضية "اليكتراس مروكيس" ضد وزير الداخلية، بما أن الإدارة تعترف باحتلال المركز الاجتماعي للمدعية ومكاتبها وأن هذا الاحتلال لا صلة له بقرار إداري، فإن ما قام به أعوان الإدارة يعد اعتداء ماديا صرفا، لا يختص به المجلس الأعلى، ما دام اختصاصه منحصرا في نظر طلبات الإلغاء بسبب الشطط في استعمال السلطة المتصلة بقرار إداري، لا بعمل مادي صرف. وهذا ما سبق أن أكده في قضية "دوزبا روبير" ضد وزير الداخلية في قرار عدد 6 بتاريخ 21 نونبر 1969. ومن الملاحظ أن المجلس الأعلى في بعض الأحيان يستعمل عبارة عدم اختصاصه حين يعتبر أن رفع الإعتداء المادي أو منعه يعود إلى المحاكم العادية قرار عدد 6 بتاريخ 21 نونبر 1961 في قضية "دوزبا روبير" ضد وزير الداخلية، وكذلك قرار تحت عدد 191 بتاريخ 24 أكتوبر 1975 قضية "اليكتراس مروكيس" ضد وزير الداخلية، وفي حين يستعمل عبارة عدم قبول الطلب عندما يرى أن هناك دعوى موازية بمعنى بإمكان المدعي أن يحصل على حقه في إطار القضاء الإداري الشامل مثل قرار عدد 184 بتاريخ 8-06-1989 في قضية ورثة "نيكولا ياديس" ضد عامل إقليم افران.
أما المحاكم العادية فظلت في نفس التوجه، وجاء في أمر استعجالي صادر عن رئيس المحكمة الابتدائية بأسفي بتاريخ 17 غشت 1989 تحت عدد 263 في الملف الإستعجالي عدد 234 وحيث أن انعدام مشروعية هذا العمل الجسيم والظاهر، إذ أن السيد العامل كآمر، والسلطة المحلية كمنفذة تدخلا في عمل من أعمال السلطة القضائية التي ينص عليها الفصل 76 من الدستور على أنها مستقلة عن السلطة التنفيذية والتشريعية، الشيء الذي يجعل أمر السيد العامل وتنفيذ السلطة المحلية اعتداء ماديا صرفا عاريا عن أية مشروعية... وحيث إن السلطة الإدارية عند ارتكابها اعتداء ماديا صرفا تسقط عنها الامتيازات القانونية والإجرائية التي خولها إياها القانون، لتصبح شخصا عاديا يخضع لرقابة القاضي العادي.
يتبين إذا أن الدعاوي المتعلقة بالإعتداء المادي، كانت منذ الحماية وفي ظل غياب قضاء إداري متخصص تدرج ضمن المادة المدنية في إطار القضاء العادي، وقد شاهدنا العديد من الأحكام الصادرة عن المحاكم قبل وبعد إنشاء المجلس الأعلى، وحتى قرارات هذا الأخير كانت تتجه في نفس المنحى، أي أنه ما دامت الإدارة ارتكبت خطأ جسيم لا علاقة له بالوظيفة التي أسندت إليها، وألحق ضررا بأحد الأفراد في ملكيته أو إحدى حرياته الأساسية، فإنها وضعت نفسها منزلة الخواص العاديين، وبالتالي لا يجب أن تمنح لها تلك الهبة والمكانة التي كانت تتميز بها، والنتيجة الحتمية لذلك هي أن تطبق عليها قواعد القانون الخاص. لكن هل ستبقى الوضعية كما هي عليها حتى بعد إنشاء المحاكم الإدارية؟؟ هذا ما سنراه في النقطة الموالية:
ثانيا: بعد إحداث المحاكم الإدارية
أحدثت المحاكم الإدارية بمقتضى قانون 90-41 الصادر بتنفيذه الظهير الشريف رقم 1.91.225 بتاريخ 22 من ربيع الأول 1414 الموافق ل 10 سبتمبر 1993، وشرعت في مزاولة مهامها ابتداء من فاتح مارس 1994 على إثر الخطاب الملكي السامي التوجيهي ليوم 8 ماي 1990 بمناسبة تأسيس المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان. وبعد أن بدأت هذه المحاكم عملها بدأ الاهتمام منصبا سواء من طرف الفقه أو القضاء حول المادة 8 التي تحدد اختصاصات المحاكم الإدارية، وفيما يتعلق بالإعتداء المادي حدث تضارب كبير في الاتجاهات بين مختلف هذه المحاكم، فمنها من بتت بعدم اختصاصها في هذا المجال بدعوى أن المادة 8 لم تنص على دعاوي الإعتداء المادي، ومنها من بتت واعتبرت نفسها مختصة. بين قبول الدعوى والبث فيها والدفع بعدم الإختصاص ظل الوضع هكذا إلى أن حسمت الغرفة الإدارية بالمجلس الأعلى في هذا التضارب بواسطة قراراتها المتواترة، حيث أسندت في الأخير الإختصاص للمحاكم الإدارية بالنظر في قضايا الإعتداء المادي.
فمن بين المحاكم التي بثت بعدم الإختصاص لكون المادة الثامنة من القانون 90/41 السالف الذكر أعلاه، لم تنص على قضايا الإعتداء المادي، نجد المحكمة الإدارية بمكناس في أمر استعجالي الصادر عنها بتاريخ 14-06-1994. نفس الاتجاه ذهبت إليه المحكمة الإدارية بالرباط التي تبث بعدم اختصاصها في دعاوي الاعتداء المادي، بحيث سلكت في البداية نفس الاتجاه الذي كان القضاء الفرنسي يسير عليه بل كانت متأثرة به بشكل كبير، وصدر منها حكم بتاريخ 23-02-1995 يقضي بعدم اختصاصها بالنظر في قضية الإعتداء المادي معتبرة أن القضاء العادي هو الجهة القضائية المختصة، مستندة في ذلك إلى أن الإدارة عندما تتخلى عن صفتها كسلطة لها امتيازات قانونية، فإن القضاء العادي حامي الحقوق والحريات، هو المختص بالبث في طلب وضع حد للإعتداء المادي على الملكية الخاصة الواقع من طرف الإدارة. كما صدر منها حكم أخر بتاريخ 13-04-1995 قضت فيه بعد اختصاصها بالنظر في قضية الإعتداء المادي، وجاء في هذا الحكم "إذا خرجت الإدارة أثناء مباشرتها لوظائفها الإدارية عن الحدود المقررة لها في القانون خروجا يشكل اعتداء صارخا وجسيما على مبدأ المشروعية، فإن العمل الإداري يفقد في هذه الحالة طبيعته الإدارية وتنقطع الصلة بينه وبين القانون، ويصبح مجرد عمل مادي يشبه عمل الأفراد العاديين، ومن ثم فإن هذا العمل يخضع لقواعد القانون الخاص، وبالتالي فإن الاختصاص بالنظر في دعاوى الاعتداء المادي يعود للجهة القضائية العادية، وهو اختصاص مانع لا تزاحمها فيه المحاكم الإدارية". والملاحظ أنه نفس التفسير الذي يعطيه القضاء الفرنسي.
وهناك من الفقه من أيد هذا الاتجاه معتبرا أن الاختصاص يعود للمحاكم العادية وليس إلى المحاكم الإدارية، منهم الأستاذ الحسن سيمو الذي أكد أن المحاكم الإدارية تختص فقط بإلغاء القرارات الإدارية الصادرة عن السلطة الإدارية، مما يدل على أنها غير مختصة بالنظر في الدعاوي المتعلقة بالإعتداء المادي، إذ لو كانت نية المشرع متجهة إلى ذلك لاستعمل عبارة الأعمال الإدارية التي هي أعم وأشمل من القرارات الإدارية. مستندا إلى العبارات التي استعملها المشرع في المواد 8-20-23-24-25-44 من القانون المحدث للمحاكم الإدارية. نفس الاتجاه ذهب إليه الأستاذ محمد الصقلي حسيني الذي أيد موقف المحكمة الإدارية بمكناس – السالف ذكره – معتبرا أن الحامي الأصلي للحقوق والحريات الأساسية والملكية الخاصة هو القضاء العادي وليس القضاء الإداري، وبالتالي فهو المختص بالنظر في دعاوي الإعتداء المادي. أما الأستاذ محمد الكشبور فقد اعتبر أن المحاكم الإدارية هي استثنائية عن المحاكم العادية، ما دامت اختصاصاتها قد وردت على سبيل الحصر، ويعتبر أن القاعدة تقضي بأن الاستثناء لا يقاس عليه ولا يتوسع في تفسيره. وبالتالي ما دام قانون إحداث المحاكم الإدارية لم ينص صراحة على أن هذه الأخيرة مختصة في قضايا الإعتداء المادي، فإنها لا يجب توسيع في تفسير هذه النصوص.
غير أن هناك محاكم أخرى تعتبر نفسها هي صاحبة الإختصاص للبث في قضايا الإعتداء المادي، وكان الحكم الصادر عن المحكمة الإدارية بالدار البيضاء في قضية "كادليا راشيل" ضد الجماعة الحضرية لسيدي بليوط الصادر بتاريخ 26-04-1994 أول حكم سار في هذا الاتجاه حيث أعطى الاختصاص للمحاكم الإدارية للنظر في هذا النوع من الدعاوى.
بعد ذلك حولت المحاكم الإدارية الأخرى اتجاهها تحويلا جذريا، وأصبحت تمنح لنفسها اختصاص النظر في قضايا الإعتداء المادي. مرتكزة على الخطاب الملكي – من جهة – الذي ألقاه بتاريخ 08-05-1990 بمناسبة إحداث المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان، وهو الخطاب الذي كان اللبنة الأساسية لإحداث المحاكم الإدارية بالمغرب. حيث قال في إحدى فقراته :" .... نريد أن نكون دولة القانون ونحتفظ بالملكية الخاصة ولكن نتجاهل ذلك ونأتي ونتسلط على أراضي الناس، ونبني دون اعتماد لا على مسطرة نزع الملكية و لا اتصال بمحامي هذا وحامي ذاك..." واعتبرت أن إرادة المشرع كانت تسير في منحى إعطاء الاختصاص للمحاكم الإدارية بالنظر في قضايا الاعتداء المادي. ومتأثرة بقرارات الغرفة الإدارية بالمجلس الأعلى في هذا الصدد – من جهة أخرى – التي أيدت فيما بعد توجه هذه المحاكم في اختصاصها بالبث في دعاوي الإعتداء المادي.
تراجعت المحكمة الإدارية بالرباط عن اتجاهها السابق في حكم لها صادر بتاريخ 9-5-1996 في قضية "أكوح عمر ضد الوكالة الوطنية لمحاربة السكن غير اللائق"، مبررة في هذا التراجع المهم بما يلي :"... حيث بأن هذا الطلب، فالأمر يتعلق باعتداء مادي للإدارة على الملكية الخاصة للمدعي، وأن هذه المحكمة دأبت سابقا على اعتبار القضاء العادي هو الحامي للحريات العامة والملكيات الخاصة وبالتالي كانت تصرح بعد اختصاصها للبث في مثل هذه الطلبات مسايرة لها للقضاء الفرنسي، لكن حيث إن هذه المحكمة ارتأت التراجع عن هذا الإجتهاد لسببين: السبب الأول أن هذا الإجتهاد من جذور تاريخية خاصة ببلد أجنبي وبالتالي فإن تطبيقه على الواقع المغربي هو أمر يتعين استبعاده، والسبب الثاني يرجع إلى الغاية الحقيقية من إحداث المحاكم الإدارية ببلادنا، وهي حماية حقوق المواطنين وصيانتها من تعسف الدولة والسلطة والإدارة. وأمام هذه المعطيات وتمشيا مع مقاصد مشرع قانون 90-41 يكون القاضي الإداري هو القاضي الطبيعي للبث في طلبات رفع الإعتداء المادي..".
كما أيدت الغرفة الإدارية بالمجلس الأعلى هذا الحكم في قرار لها صادر بتاريخ 29-04-1999، وبالتالي أصبحت المحاكم الإدارية هي المختصة فعليا للبث في قضايا الاعتداء المادي، كما أن المحاكم العادية بدورها تصرح بعدم اختصاصها للبث في هذا النوع من القضايا وتعتبر أن ذلك يعود لاختصاص المحاكم الإدارية، وهذا ما جاء فعلا في أمر استعجالي لرئيس المحكمة الابتدائية بالدار البيضاء، في قضية السيدة صبر الله الزوهرة ومن معها ضد المديرية الجهوية للتجهيز والبناء ومن معها، الصادر بتاريخ 12-11-2009، اعتبر أن رفع الإعتداء المادي يعود للقضاء الإداري.
هذا التوجه الجديد والذي استقر عليه القضاء حاليا، لقي تأييدا فقهيا خصوصا من طرف الأستاذ ميشيل روسي الذي كان أول المدافعين عن موقف المحكمة الإدارية بالدار البيضاء في قضية "كادليا راشيل"، معتبرا ذلك بمثابة إنجاز قضائي متميز، مؤكدا أن القانون المحدث للمحاكم الإدارية لم يلغي أهمية نظرية الإعتداء المادي، وإنما أتى بمواصفات جديدة يجب أن تكيف على ضوء التنظيم القضائي الجديد، ووظائفه المستمدة من واقع مغربي صرف، ومن ضرورة حماية المواطن من السلطة الإدارية وأن توزيع الإختصاص بين نوعي القضاء العادي والقضاء الإداري مؤسس على اعتبارات علمية مرتبطة بفعالية اللجوء إلى القضاء الإداري، وأن استمرار تصدي القضاء العادي للقضايا المرتبطة برفع الإعتداء المادي لا مبرر له. نفس الرأي نجده عند أستاذنا الحسين سرحان الذي أيد بدوره موقف المحكمة الإدارية بالدار البيضاء، معتبرا أن إسناد الاختصاص للمحاكم الإدارية برفع الإعتداء المادي هو في حد ذاته تأويل جديد للمادة 19 من القانون المحدث للمحاكم الإدارية، حيث أضاف إلى الاختصاص المنصوص عليه بصراحة من طرف المشرع في مسطرة الاستعجال الإداري والمتعلق بنزع الملكية والمتابعات الجبائية، اختصاص آخر يتعلق بالنظر في دعوى الإعتداء المادي، وبذلك يكون الإجتهاد القضائي قد خرج بالمادة 19 من مفهومها الضيق إلى تأويل شامل أضاف عنصرا قضائيا جديدا لمسطرة الاستعجال الإداري.
الفقرة الثالثة: مظاهر الإعتداء المادي
يتحقق الإعتداء المادي إما بتنفيذ قرار معدوم، أو عندما تقوم الإدارة بالتنفيذ المباشر لأعمالها دون الالتزام بالشروط التي حددها القانون. فالإدارة تستطيع أن تصدر قرارات بإرادتها المنفردة دون اللجوء مقدما إلى القضاء، وهذه القرارات كما هو معلوم قد تنشأ أثرا قانونية أو تعدل في هذا الآثار أو تلغيه كليا، كما أن هذه القرارات تتصل مباشرة بحقوق وحريات الأفراد، وبالتالي عليها أن تخضع لمبدأ المشروعية في جميع ما تقوم به من أعمال قانونية ومادية لتنفيذ قراراتها، إلا أنه قد يحصل وأن تصدر قرارا خارجا عن هذا المبدأ ومخالف له عن طريق الخطأ أو التهاون، ويختلف هذا الخروج ما إذا كان بسيطا أو جسيما. فإذا كان بسيطا كعيب في الشكل أو في الإختصاص... في هذه الحالة يحتفظ القرار بطبيعته الإدارية، ويتحصن بفوات أجل الطعن والتي حددها المشرع في القانون المحدث للمحاكم الإدارية 90-41 في المادة 23 بأنه يجب الطعن في القرار المشوب بعيوب في أجل 60 يوما، بمعنى أنه بفوات هذا الآجال يصبح للقرار أثاره القانونية وكأنه صدر صحيحا وسليما. وقد يكون هذا الخروج جسيما وصارخا، هنا يتصف هذا القرار بالإنعدام وكأنه غير موجود، فهو كما قال عنه الدكتور جمال الدين سامي هو والعدم سواء. والقرار المعدوم لا يتحصن بفوات أجل الطعن السالف ذكره، بل يمكن للإدارة سحبه وللأفراد الطعن بإلغائه في أي وقت. ومن أمثلته اعتداء السلطة الإدارية على اختصاص السلطة القضائية، قرار مجلس الأعلى عدد 255 بتاريخ 14-01-1963 في قضية الجمعية المغربية للسباق والتباري ضد وزير الفلاحة، هذا الأخير أصدر قرار حل هذه الجمعية دون وجود نص تشريعي يخول له ذلك الإختصاص، وأن حل الجمعيات هو من اختصاص السلطة القضائية.
إن استناد الإدارة في عمل ما من أعمالها المادية على قرار معدوم، ومس هذا القرار بإحدى الحقوق والحريات الفردية والجماعية أو مس بالملكية الخاصة، فإننا نكون أمام اعتداء مادي. حيث يستند هذا الأخير على الأول، قرار لمحكمة التنازع الفرنسية في قضية schneider 04-06-1940.
كما تستطيع الإدارة تنفيذ قراراتها تنفيذا مباشرا دون استصدار حكم قضائي في ذلك الشأن، لكن قد يحصل وان تقوم بهذا التنفيذ دون الالتزام بالشروط التي حددها القانون أي التنفيذ المباشر الغير مشروع، ومن بينها التي حددها مرسوم رقم 2.58.157 بتاريخ 26 ماي 1980 المتعلق بتحديد الشروط التي تنفذ بها تلقائيا التدابير الرامية إلى استتباب الأمن وضمان سلامة المرور والصحة والمحافظة على الصحة العمومية. وهذه الشروط تتجلى أساسا في أن يرخص القانون بإمكانية التنفيذ التلقائي للقرارات الصادرة عن الإدارة تنفيذا جبريا دون اللجوء إلى القضاء، نظرا لحالة الاستعجال، أما إذا لم يكن هناك نص قانوني يجيز التنفيذ فلا يحق لها أن تلجأ إليه. أن لا تكون هناك وسيلة أخرى تمكن من تنفيذ القرار الصادر، غير وسيلة التنفيذ المباشر.حالة الضرورة القصوى، ويقصد بها وجود خطر حقيقي يستوجب تدخل الإدارة فورا ودون تأخر لتفادي الضرر المحقق المهدد للنظام العام.
إن تنفيذ الإدارة لقراراتها بشكل مباشر دون خضوع تلك القرارات للشروط المحددة في القانون، وخروجها عن مبدأ المشروعية يشكل اعتداءا ماديا، وهذا ما أكدته الغرفة الإدارية بالمجلس الأعلى في قرار لها تحت عدد 132 بتاريخ 12 فبراير 2006 حيث جاء في حيثيات هذا القرار: "لئن كان من حق الإدارة تنفيذ قرارها بإرادتها المنفردة في إطار ما تتمتع به من سلطة التنفيذ المباشر، فإنه يتعين عليها في المقابل أن تقوم بذلك في إطار المشروعية، وبدون الخروج عن الحدود التي يسمح بها القانون، وإلا اعتبر عملها اعتداء ماديا تتحمل فيه مسؤولية الضرر الناجم عنه إذا مس حق ملكية أو حرية فردية...".
تتجلى مظاهر الإعتداء المادي في مظهرين أساسيين، الأول يتجلى في الإعتداء على ملكية خاصة، والثاني يتجلى في الإعتداء على حريات الأفراد والتي حددها الباب الأول من الدستور.
أولا: الإعتداء على الملكية الخاصة
ينص الفصل 15 من الدستور المراجع لسنة 1996 على أن "حق الملكية وحرية المبادرة الخاصة مضمونان. للقانون أن يحد من مداهما وممارستهما إذا دعت إلى ذلك ضرورة النمو الاقتصادي والاجتماعي للبلاد. ولا يمكن نزع الملكية إلا في الأحوال وحسب الإجراءات المنصوص عليها في القانون." إلا أن الإدارة أحيانا تلجأ إلى احتلال عقار أو تضع يدها على منقول مملوك لأحد الأفراد دون إتباع الإجراءات القانونية والمسطرية اللازمة لذلك تحت ذريعة الاستعجال أو تعقد وطول المساطر، وذلك لتحقيق المصلحة العامة، وتخرق بذلك القانون ويجرد عملها هذا من أية صفة إدارية، وتنزل منزلة الأفراد العاديين. في أمر استعجالي لرئيس المحكمة الإدارية بوجدة بتاريخ 6 مارس 2007 اعتبر أن الإدارة بوضع يدها على عقار دون سلوك إجراءات مسطرة نزع الملكية للمنفعة العامة أو مسطرة الاقتناء بالمراضاة يضفي على تصرفها صفة الإعتداء المادي وبالتالي أمر بإيقاف الأشغال التي كانت الإدارة قد بدأتها فوق العقار.
القضاء الإداري المغربي مليء بأمثلة أخرى في هذا الصدد، نذكر منها على سبيل المثال: إقدام الدولة على إقامة مدرسة على ملك الغير الخاص دون موافقة أو إذن المالكين، حكم عدد 4 للمحكمة الإدارية بأكادير بتاريخ 6 أكتوبر 1994 في قضية نسيم ورشيل بن يعيش ضد الدولة المغربية، أو مد قنوات صرف المياه بأرض الطاعن دون رضاه ودون اللجوء إلى مسطرة نزع الملكية، حكم عدد 65 للمحكمة الإدارية بالرباط بتاريخ 23 فبراير 1995 في قضية العناية بنداوي ومن معه ضد الجماعة القروية لعين سبت، وكذا استيلاء جماعة حضارية على عقار المدعية واستعماله مستودعا للسيارات والدراجات المحجوزة، حكم عدد 70 للمحكمة الإدارية بالدار البيضاء بتاريخ 21 مارس 2001 في قضية شركة التصالح ومن معها ضد بلدية الإدريسية، وكدا حيازة المؤسسة الجهوية للتجهيز والبناء عقار مملوك للغير دون سلوك مسطرة نزع الملكية يعتد اعتداء ماديا، حكم للمحكمة الإدارية بالدار البيضاء بتاريخ 29 دجنبر 1999، كما أن هدم عقار المدعي دون وجه حق هو صورة من صور الإعتداء المادي، حكم عدد 17 للمحكمة الإدارية بوجدة بتاريخ 20 فبراير 2002 قضية ميمون القضاوي ضد عامل إقليم الناظور.
كما قد يكون اعتداء الإدارة على ملكية منقولة وليس فقط على ملكية عقارية، كأن تضع الإدارة يدها على بضائع أو أشياء أخرى منقولة دون موافقة المالك ودون صدور قرار بالاستيلاء، وكأن تقوم ببيع المنقولات المملوكة لتاجر دون إتباع الإجراءات الجوهرية للاستيلاء، ونفس الشيء يقال عن قيام المسؤول عن المستودع البلدي رفقة العمال التابعين له بإزالة الكشك الذي يستعمله المدعي ونقله إلى المستودع المذكور بطريقة غير شرعية أمر استعجالي عدد 210 للمحكمة الإدارية بالرباط بتاريخ 6 دجنبر 2000، قضية إدريس الرحالي ضد بلدية تطوان سيدي المنظري.
لكن هناك حالات يرفض فيها القضاء تكييف تصرف الإدارة على أنه يشكل إعتداء مادي، فمثلا إذا كان هناك اتفاق مبدئي بين الإدارة والمالك أو الترخيص من هذا الأخير للأولى بالاستيلاء على ملكه والتصرف فيه بشتى أنواع التصرف، حيث ينتفي عنصر المساس بحق الملكية وتنعدم ظاهرة الاعتداء المادي بالرغم من تحققها قانونيا، كذلك العمل المادي غير المشروع المرتكب في حالة الضرورة أو الظروف الاستثنائية فانه فإنه لا يرقى إلى اعتداء مادي.
يحكم القاضي برفع الإعتداء وذلك بأمره بالإفراغ، أو بالتعويض عن الضرر الحاصل أو هما معا، كحكم المحكمة الإدارية بالدار البيضاء 29 دجنبر 1999، إلا انه في حالة قيام الإدارة بإنشاء المرفق فوق العقار الذي نزعته، لا يمكن رفع هذا الإعتداء وإرجاع الحالة إلى ما كانت عليه بل تكتفي بالتعويض عن الضرر الحاصل، وهذا ما أكدته المحكمة الإدارية بالدار البيضاء حكم رقم 525 بتاريخ 26 ماي 2004 حيث جاء في إحدى حيثيات الحكم بأنه بالنظر لكون العقار موضوع الإعتداء المادي قد شيد فوقه مرفق عمومي فإن طلب الإفراغ يكون غير مبني على أي أساس لتعذر إرجاع الحال إلى ما كانت عليه قبل الإعتداء.
ثانيا: الإعتداء على إحدى الحريات الفردية
لا تقتصر نظرية الإعتداء المادي على حق الملكية فقط، بل تشمل أيضا المساس بأي حرية أساسية أخرى يضمنها الدستور، فنجد الفصل التاسع مثلا من الدستور المراجع لسنة 1996 يضمن مجموعة من الحقوق لكل المواطنين كحرية التجول والاستقرار، وحرية الرأي وحرية التعبير بجميع أشكاله وحرية الاجتماع… بالإضافة إلى نصوص أخرى في الباب الأول من هذا الدستور التي تضمن لكل المواطنين المغاربة مجموعة من الحقوق الأساسية، إلا أن الاجتهاد القضائي الإداري المغربي مازال خجولا نوعا ما في هذا المجال وإن كان هو الذي يحمي المواطنين من تعسف السلطة، وإذا كان القضاء الإداري المغربي غزير بأحكام متعلقة بالاعتداء على الملكية الخاصة، فإن العكس نجده في مجال الإعتداء على الحريات الفردية.
أهم الأحكام الصادرة في هذا المجال تتعلق أساسا بحرمة المسكن وحرية الصحافة، فبخصوص الأولى نذكر نازلة علي بوسفيرة، يتعلق الأمر هنا بأمر استعجالي صادر عن المحكمة الإدارية بالرباط بتاريخ 7 نونمبر 1999 ضد المفتشية العامة للقوات المساعدة. وتتلخص وقائع هذه النازلة في أن علي بوسفيرة تعرض مسكنه للاقتحام من طرف الإدارة حيث قامت بترحيل أمتعته دون سلوك المسطرة القضائية الواجبة الإتباع، فقدم هذا الأخير مقالا استعجاليا أمام المحكمة الإدارية بالرباط لأنه لم يتلقى أي حكم قضائي بالإفراغ، وجاء في إحدى حيثيات هذا الأمر أن هذا العمل الذي قامت به الإدارة المدعى عليها يشكل انتهاكا لحرمة المنزل المضمونة بالدستور الذي نص في فصله العاشر على أن المنزل لا تنتهك حرمته، وحيث أن الإدارة حينما تعتدي بشكل صارخ على حق الملكية أو على حق من الحقوق الفردية أو الجماعية، فإن قيامها بتنفيذ عملها المادي هذا، يدخل في إطار الإعتداء المادي، ونتيجة لذلك قضت المحكمة بإرجاع الحالة إلى ما كانت عليه قبل إقدام المدعى عليه على اقتحام المنزل. وفي نفس السياق اعتبرت المحكمة الإدارية بوجدة أن قطع الماء على السكن الوظيفي يشكل صورة الإعتداء المادي المادي، أمر استعجالي بتاريخ 2 أبريل 1998 قضية طاهر طاهري ضد المفتشية الإقليمية للوقاية المدنية رجال المطافئ.
سبق أن أشرنا إلى أن الاجتهاد القضائي الإداري المغربي في هذا المجال – الإعتداء على الحقوق والحريات الفردية والجماعية – قليلة جدا بل منعدمة، وهذا ما يجعلنا نطرح عدة أسئلة منها هل هناك عراقيل وحواجز تحول دون تحقيق الدور الحقيقي لهذه المحاكم؟؟ أم أن تطبيق نظرية الإعتداء المادي في المغرب هو مجرد تطبيق انتقائي؟؟
لائحة المراجعة
- سامي جمال الدين، "أصول القانون الإداري، نظرية العمل الإداري"، شركة مطابع الطوبجي التجارية، 1993 الإسكندرية
- د. مصطفى كيرة، "نظرية الاعتداء المادي في القانون الإداري"، دار النهضة العربية، يناير 1964
- دة.مليكة الصروخ، "القانون الإداري دراسة مقارنة"، الشركة المغربية لنشر الكتاب، الطبعة السادسة نونبر 2006
- عبد الله حداد، "القضاء الإداري المغربي على ضوء القانون المحدث للمحاكم الإدارية" منشورات عكاظ، الطبعة الثانية 1995
- د.أحمد البخاري، دة أمينة جبران، "اجتهادات المجلس الأعلى، الغرفة الإدارية"، الطبعة الأولى 1996، منشورات الجامعية المغربية
- عبد العزيز أشرق، "الشرطة الإدارية الممارسون لها والنصوص القانونية والتنظيمية المتعلقة بها"، توزيع الشركة المغربية لتوزيع الكتاب، الطبعة الأولى 2006
- محمد صقلي حسيني، "الاعتداء المادي بين القضاء الإداري والقضاء العادي"، المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية، سلسلة مواضيع الساعة، العدد 1، سنة 1995
- د. أمال المشرفي، "الاعتداء المادي للإدارة في العمل القضائي للمحاكم الإدارية بين التطور والتراجع" المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية، سلسلة مواضيع الساعة، عدد 47، سنة 2004
- محمد الكشبور، "نظام المحاكم الإدارية وقانون نزع الملكية"، المجلة المغربية للاقتصاد والقانون المقارن، خاص بندوة المحاكم الإدارية ودولة القانون، العدد 21، سنة 1994
- ح.اربيعي خ.امعيوة، "الإعتداء المادي واختصاص قاضي المستعجلات"، المجلة المغربية للمنازعات القانونية، 6/5، 2007
- ذ.مصطفى التراب، "استيلاء الإدارة على الملكية الخاصة ومدى تعارضه مع المشروعية وسيادة القانون"، المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية، عدد 75 يوليوز – غشت 2007
- مجلة المحاكم المغربية، عدد 86
- مجلة المحاكم عدد 85
- مجلة المحاكم الإدارية، عدد 1، 2000
- مجموعة قرارات المجلس الأعلى لسنوات 1957-1960
- الجريدة الرسمية عدد 3230 مكرر، 30 شتنبر 1974
- الجريدة الرسمية عدد 4420، بتاريخ 10 اكتوبر 1996
- SERHANE EL Houssaine, « les développements récents du droit de propriété dans le contentieux administratif marocain », REMALD, n° 20-21, 1997