MarocDroit  -  موقع العلوم القانونية
plateforme des décideurs juridiques - Platform of Legal Decision-Makers




التخليق وإصلاح منظومة العدالة مقاربة في الأهداف والآليات

     

ذ/ محمد إكــيج
باحث في سلك الدكتوراه



التخليق وإصلاح منظومة العدالة مقاربة في الأهداف والآليات
لاشك أن التخليق ومحاربة الفساد في مرافق العدالة ورش كبير ومهم لا يقل أهمية عن ورش إصلاح المنظومة التشريعية وتبسيط الإجراءات المسطرية، ذلك أن الأخلاق "هي أساس من أسس الدولة تقوم بقيامها، وتنهار بانهيارها"، كما جاء في الرسالة الملكية الموجهة إلى المشاركين في الندوة الوطنية "حول دعم الأخلاقيات بالمرفق العام" في 29 و 30 أكتوبر 1999، ولن تتحقق العدالة وترسو دولة الحق والقانون وتثبت مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان، ولو كانت "الخرسانة" التشريعية صلبة ودقيقة في كل جزئياتها، ما لم تكن مصحوبة بالتزام أخلاقي رصين وضمير مهني حي ممن يعملون في الجهاز القضائي على اختلاف درجاتهم وتخصصاتهم.  

ومساهمة منا في بسط النقاش حول هذا الموضوع، فإننا سنحاول في هذه المقالة مقاربة بعض الأهداف المرتجاة من التخليق في جهاز العدالة و كذا الآليات العملية والأدبية الكفيلة بتحقيق ذلك.

أولا/ أهداف التخليق بالجهاز القضائي

لم يعد في وسع أحد أن ينكر أن ثمة أنماط سلوكية مشينة، وتجليات أفعال منحرفة في عدد من المرافق القضائية التي تسيء إلى سمعة الجهاز القضائي برمته وتتطلب ضرورة المعالجة الفورية بل والتصدي الصارم، ويمكن تصنيفها إلى ثلاث مستويات من الاختلالات:
أولا/ اختلالات على مستوى المهام، حيث تطفو سلوكيات التماطل والتقاعس واللامبالاة والتوظيف السلبي للسلطة التقديرية وافتعال أسباب غير معقولة للتغيب وغيرها..
ثانيا/ اختلالات على مستوى التدبير الإداري، حيث تنتشر سلوكيات الاختلاس واستغلال النفوذ وتحصيل المنافع غير المشروعة والتبذير في الممتلكات العامة وغيرها..
ثالثا/ اختلالات تجاه الوافدين على مرافق العدالة، سواء كانوا أشخاصا ذاتيين أو معنويين، حيث تبرز سلوكيات الارتشاء والمحسوبية والشطط في استعمال السلطة والنصب والاحتيال والمعاملة التفضيلية وضحالة الخدمات الإدارية والقضائية وغيرها..
إن مواجهة الاختلالات بمستوياتها الثلاث المشار إليها أعلاه، تتطلب جرأة وصرامة من طرف من لديه سلطة القرار بوزارة العدل والحريات؛ لأن من شأن ذلك أن يحقق جملة من الأهداف الإجرائية والآنية لمنظومة العدالة وعلى  جميع المستويات الداخلية والخارجية، نوجزها فيما يلي:
  • خلق صورة إيجابية لدى الوافدين على مؤسسات العدالة وجعلهم يطمئنون إلى العاملين بها، خاصة وأن غالبية المواطنين، من المتقاضين أو غيرهم، انطبعت في أذهانهم صورة نمطية سلبية وقاتمة عن هذه المؤسسات، مؤداها أن فضاءات العدالة أماكن للابتزاز وممارسة الظلم والتعسف المادي والمعنوي بما يجعلها بعيدة كل البعد عن مجرد التحلي بشعار "القضاء قي خدمة المواطن" بلْه تحقيقه وتنزيله على أرض الواقع.. 
  • الرفع من جودة الخدمات القضائية والإدارية المقدمة للوافدين على الجهاز القضائي، وهذا يتطلب من جميع العاملين بهذا الجهاز التحلي بمبدأين اثنين:
أما أولاهما فهو  الفعالية (L’Efficacité) في التعامل مع طلبات المتقاضين، ويمكن إبرازها من خلال الشرح الجيد لما يطلبه المتقاضي، و تبسيط الإجراءات والاكتفاء بما يحدده القانون و بالقدر الذي يحقق مصلحة المتقاضي.
وأما المبدأ الثاني فهو المرونة، أي أن تكون القرارات والإجراءات التي يتخذها الموظف مناسبة للهدف المتوخى من الخدمة الإدارية بشكل عام، وهو المحافظة على التوازن بين المصلحة الفردية والمصلحة العامة، دون المساس بجوهر القانون المنظم للعمل.  
  • تطهير الجسد المهني من استفحال بعض السلوكيات والتصرفات المشينة التي تضر بصورة الجهاز القضائي، إذ من شأن انتشار القيم الإيجابية في المرفق محاصرة  العناصر الفاسدة والتحجيم من تأثير سلوكياتها الشاذة، وفي المقابل إعادة المصداقية والاعتبار للعناصر الصالحة والمصلحة.  
  • تخفيف عبء العمل والتحبيب في المهام الممارسة من خلال خلق جو مهني واجتماعي سليم بين كافة العاملين بالجهاز القضائي، بعيدا عن أجواء التوتر والاحتقان الناتجة عن البيروقراطية المفرطة و هيمنة "الخشبية" في التواصل الداخلي و "عمودية" القرار القائمة على أساس "افعل" و"لا تفعل"...    
  • التقليل من الصراعات الشخصية والحد من النزعات الأنانية والتحديات والتحالفات الخفية والمقالب والرغبة في الإيقاع بالآخرين في محيط العمل،
  • المساعدة في التنزيل السليم لقواعد العدالة،  بحكم أن القواعد الأخلاقية تقوم بدور المكمل للقاعدة القانونية وتساعد على انتشار تطبيقها واحترامها..  
ثانيا/ آليات ترسيخ التخليق بالجهاز القضائي

إن بلوغ الأهداف المسطرة أعلاه، يتطلب وضع آليات إجرائية مصاحبة قادرة على جعل التخليق أمرا واقعيا وليس مجرد حلم يراود أذهان المخلصين أو شعارا يوظف للاستهلاك وتأثيث منظومة الإصلاح المنشود.. ويمكن التمييز في هذا الإطار بين نوعين من الآليات:

أ – آليات التحسيس والتوعية

انخراطا في منظومة الإصلاح الشامل للمرفق القضائي التي أعلنها صاحب الجلالة في خطاب 20 غشت 2009، والتي جعلت التخليق عنصرا أساسيا في إصلاح منظومة القضاء، قامت الجمعيات الفاعلة في قطاع العدل بخطوة مهمة تمثلت في مبادرتها بإصدار مدونات خاصة بالقيم المهنية وقواعد السلوك؛ وهكذا أصدرت الودادية الحسنية للقضاة سنة  2009 "ّمدونة القيم القضائية"، ضمنتها، كما جاء في كلمة رئيس الودادية الحسنية: "مجموعة من القيم والتقاليد و الأعراف التي تحكم سلوك القاضي وتروم طمأنينة المجتمع إليه واحترامه، باعتبارها تدعم استقلاله وحصانته وكفاءته ونزاهته، فمدونة القيم القضائية – من هذه المنطلقات – إطار يتعرف القاضي والمجتمع من خلالها على الصفات والمزايا الواجب التحلي بها من طرف القضاة".
ومن جهتها أصدرت ودادية موظفي العدل سنة 2010 "ميثاق قيم وسلوك كتابة الضبط"، ليكون بمثابة مرجع أخلاقي ودليل قيمي يرشد كتاب الضبط في حياتهم المهنية، ويساعدهم في ضبط علاقاتهم مع كافة العاملين بمحيطهم وكذا مع الوافدين على مرافق العدالة..
وقد جاء ذلك، وكما ورد في ديباجة الميثاق، إيمانا من كتاب الضبط بأن "الالتزام بالقيم الأخلاقية والممارسات الفضلى من طرف العاملين بالمرافق القضائية بصفة عامة ومن طرف أطر كتابة الضبط بصفة خاصة، يشكل شرطا ضروريا لتحقيق العدالة وإرساء دولة الحق والقانون وتثبيت الديمقراطية التي هي أساس التنمية الاجتماعية والاقتصادية والثقافية".
وقد أدرج المعهد العالي للقضاء مادة هاتين الوثيقتين السلوكيتين في إطار برامج التكوين الأساسي والمستمر المخصصة للملحقين القضائيين وكتاب الضبط، وكذا لبعض الفئات المهنية القضائية كالمفوضين القضائيين والعدول.

ب – آليات التنفيذ والمتابعة

إن مجرد إصدار مدونات للقيم والسلوك المهني للعاملين في المرافق القضائية، لا يمكن أن يؤتي ثماره المرجوة على مستوى التخليق ما لم يكن مصحوبا بعدد من آليات التنفيذ والمتابعة الكفيلة بجعل التخليق همّا يوميا لا مجرد شعار مناسباتي، وفي هذا السياق نقترح ما يلي:
  • تعميم مدونات السلوك المهني (مدونة القيم القضائية وميثاق قيم وسلوك كتابة الضبط) على كافة العاملين بالجهاز القضائي (قضاة، كتاب ضبط، محامون، عدول خبراء، موثقين، تراجمة..)
  • إحياء الأيام الوطنية الخاصة بالتخليق في المحاكم (اليوم الوطني لمحاربة الرشوة، اليوم الوطني لسياسة الجودة..) عبر ندوات دراسية وتوزيع ملصقات وغيرها...
  • تسهيل الولوج للمعلومة القضائية والإدارية بالمحاكم (مكاتب استقبال عصرية ومجهزة: موظفون أكفاء + مطويات إجرائية + معلوميات...)
  • التكثيف من الحلقات التكوينية الخاصة بمادة القيم والسلوك مركزيا وجهويا ومحليا مع ضرورة تعميمها على كافة الموظفين والقضاة ومساعدي القضاء،
  • التكثيف من الدورات التكوينية الخاصة بتقنيات التواصل مع الوافدين على المحاكم،  
  • تفعيل سياسة الأبواب المفتوحة بالمحاكم وإشراك جميع الفاعلين في الجهاز القضائي في الإعداد والتأطير،  
  • إحداث أوسمة تقديرية للعنصر المثالي العامل بالمحاكم سواء أكان قاضيا أو كاتب ضبط أو عون خدمة... (وسام النزاهة، وسام الانضباط، وسام احترام الوقت، وسام الالتزام بالواجبات المهنية...)،
  • إحداث شهادات تشجيعية للموظف المبدع والمبتكر في المجال العملي،
  • عقد ندوات وأيام دراسية حول "ترسيخ ثقافة خدمة المرفق العام"،
  • إقامة دورات تدريبية لمدارسة الاختلالات السلوكية، يؤطرها مختصون فنيون في السوسيولوجيا والبسيكولوجيا،  
  • تفعيل نظام المحاسبة من خلال النصوص القانونية الزاجرة للسلوكيات المشينة  مثل {الارتشاء (الفصل 248 و 249 من ق . ج) ، اختلاس الأموال ( الفصول 241 و 242 من ق . ج )، استغلال النفوذ (الفصل 250 من ق . ج )، الغدر (الفصول 243 و 244 من ق . ج)، تحصيل منافع غير قانونية (الفصول  245 و 246)، المحسوبية (الفصل 254 من ق.ج)، الشطط في استعمال السلطة وخيانة الأمانة (الفصلين 547 و 555 من ق.ج)، التزوير (الفصلين 334و 367 من ق. ج)}،
  • التأكيد على عنصر القدوة الحسنة في المجال العملي أفقيا وعموديا؛ وذلك لأن الكثير من القيم الأخلاقية والقواعد السلوكية المهنية، لا تحتاج في العمل بها إلى مواثيق أو مدونات سلوكيات، بقدر ما يمكن اكتسابها عن طريق القدوة الحسنة التي يقدمها الرئيس للمرؤوس أو الموظف الأعلى للموظف الأدنى، أو الموظف النشيط للمتقاعس.. باعتبارها تنزيلا عمليا وممارسة واقعية يومية مشاهدة لا تحتاج إلى كثير من التعابير والشرح.
ويمكن أن تظهر هذه القدوة الحسنة في العمل الإداري في جوانب كثيرة، كالتقيد بالقوانين وأنظمة العمل، وفي الالتزام بأوقات العمل في الحضور والانصراف، وفي تنظيم العمل وجودة الخدمة المقدمة للمرتفقين، وفي حسن التواصل مع المحيط الداخلي والخارجي، وفي الهندام والمظهر الخارجي... وفي غيرها من الجوانب التي تحتاج إلى الأعمال أكثر من الأقوال. 
  • إصدار مذكرات توجيهية بخصوص بعض المظاهر السلوكية غير اللائقة في الجهاز القضائي،
  • تفعيل المساءلة التأديبية بكامل الشفافية والنزاهة عند وجود اختلالات أخلاقية أو مهنية،
  • إشهار العقوبات التأديبية للعاملين في الجهاز القضائي بكافة المحاكم أو عبر البوابة الإلكترونية لمديرية الموارد البشرية لوزارة العدل أو ودادية موظفي العدل أو الودادية الحسنية للقضاة أو نادي القضاة أو جمعية المحامين بالمغرب أو الهيئة الوطنية للعدول أو هيئة المفوضين القضائيين، لأن من شأن ذلك أن يفضح العناصر الفاسدة في الجهاز القضائي ويحد من توسع دائرة المظاهر السلبية في مرافق العدالة..  
وأخيرا، نقول إن نجاح التخليق في مرافق العدالة كفيل بأن يعيد الثقة في القضاء المغربي، وأن يجعل كل من يفد عليه غير يائس من عدل قوانينه ولا خائفا من شطط أهله. 
 
 
 



الخميس 20 ديسمبر 2012
MarocDroit منصة مغرب القانون "الأصلية"

تعليق جديد
Twitter