يرتبط هذا المقال ويرتكز على القانون القانون رقم 124.12 الموافق بموجبه على البرتوكول الاختياري الملحق باتفاقية مناهضة التعذيب الذي دخل حيز النفاذ سنة 2006، المنشور في الجريدة الرسمية بتاريخ 17/06/2013، ، والذي يدعو الدول الى انشاء آلية وطنية للوقاية من التعذيب وفق مادته 17.
إن كان المغرب لا زال لم يضع صك الانضمام لهذا البرتوكول لدى الأمين العام للأمم المتحدة، حتى يصبح التزاما دوليا، وتبدأ اللجنة الفرعية المعنية بالوقاية من التعذيب عملها، حسب الفقرة الرابعة من المادة 27 من الاتفاقية، فإنه لا بأس من الاشارة الى بعض النقط:
أولا: أن الحركة الحقوقية المغربية كانت سباقة الى فتح النقاش العمومي حول هذه الآلية، سواء من خلال الترافع لدفع المغرب للانضمام الى هذا البروتوكول، أو من خلال توحيد وجهات النظر حول شكل ومضمون هذه الالية.
مما حدا بالحركة الحقوقية الى تشكيل المجموعة الوطنية للترافع من أجل المصادقة على البروتوكول الاختياري الملحق باتفاقية مناهضة التعذيب، والتي اختارت الذكرى 62 للإعلان العالمي لحقوق الانسان سنة 2010، وقدمت فيها ما أسمته آنذاك "الوثيقة المرجعية للآلية الوطنية للوقاية من التعذيب"، وقد ركزت هذه الوثيقة على ضرورة العمل لتكريس استقلال هذه الالية عن جميع مؤسسات الدولة بما فيها المجلس الاستشاري لحقوق الانسان.
ثانيا: أن النقاش بين مكونات الحركة الحقوقية حول شكل ومضمون هذه الآلية، هو تمرين لبناء جبهة موحدة، في أفق إعمال مقتضيات البروتوكول، أما إنشاء الالية فإنه يقتضي مهلة أقصاها سنة بعد انضمام الدولة ووضع وثائقها لدى الأمانة العامة للأمم المتحدة، من أجل تكفل الدول بوضع ضمانات الاستقلال الوظيفي والمالي والعاملين فيها تطبيقا لأحكام المادة 18 من البروتوكول السالف الذكر.
ثالثا: منذ إصدار الوثيقة المرجعية سنة 2010 الى الآن، وقعت عدة تحولات على المنظومة الوطنية لحقوق الانسان، ومنها أساسا إنشاء المجلس الوطني لحقوق الانسان بهيكلته الجديدة وتوسيع صلاحياته، وإنشاء المندوبية الوزارية المكلفة بحقوق الانسان، وضع دستور جديد سنة 2011. وهي معطيات جديدة تفرض طرح السؤال من جديد حول "طبيعة الآلية الوطنية للوقاية من التعذيب القادرة على استيعاب المستجدات الجديدة، ومن جهة أخرى قادرة على ضمان والفعالية والنجاعة في عملها؟
".للجواب على هذا السؤال، يمكن تناوله من زاويتين، الاولى معيارية، والثانية واقعية.
أولا: المستوى المعياري
المقصود بالمستوى المعياري، المرجعية الدولية المؤطرة للاليات الوطنية لحقوق الانسان، والممارسات الفضلى دوليا في هذا المجال.
بخصوص المرجعية الدولية، فإن البروتوكول يدعو في مادته 18 الدول أن تراعي أثناء إنشاء الالية الوطنية للوقاية من التعذيب، مجموعة من الشروط ولكنه لا يضع سيناريو واحدا، فالشروط مرتبط بالاستقلال الوظيفي وتوفير الموارد البشرية والموارد اللازمة ومراعاة إعلان مبادئ "باريس".
أما من حيث الصيغة فإن البروتوكول أعطى لكل دولة، اختيار الصيغة التي تناسب منظومتها الحقوقية، فالمادة 17 منه استعملت صيغ "تستبقـي" أو "تعين" أو "تنشئ" الدول، والحالة هنا أننا أمام أمران إما الية جديدة تخضع لاحكام البروتوكول أو ضمن الية متواجدة على أساس أن نشاطها متفقا مع ما ينص عليه البروتوكول نفسه.
فإن كان البرتوكول لا يضع تصورا واحدا وموحدا لشكل هذه الآلية، هل هي مستقلة أم ضمن مؤسسة تهتم بحماية حقوق الانسان والنهوض بها، فإن يمكن الاستناد على التجارب الفضلى للدول بخصوص الموضوع.
المستوى الثاني والمرتبط بالتجارب الفضلى، تحيلنا على الندوة الفكرية التي نظمتها، مؤسسة ادريس بنزكري للديمقراطية وحقوق الانسان بتاريخ 24 يونيو من هذه السنة، بدعوة مجموعة من الجمعيات العاملة في المجال، بالاضافة الى الاطراف الحكومية المعنية والمجلس الوطني لحقوق الانسان.
وخلال هذه الندوة، تقدمت مؤسسة بنزكري بمسح شامل لمجموع التجارب الدولية التي أنشأت الالية الوقائية من التعذيب، واستعرضت النتائج التالية: التجارب التي اعتمدت على دمج الالية الوقائية من التعذيب ضمن مؤسسة حقوقية خاضعة لمبادئ باريس عددها دوليا 33، والتجارب التي اعتمدت ألية مستقلة عددها دوليا 9، والتجارب التي اعتمدت ألية مشتركة بين المؤسسة الوطنية لحقوق الانسان والمجتمع المدني عددها دوليا 4، كما استعرضت باقي التجارب الدولية التي اعتمدت إما أسلوب دمج الآلية الوقائية ضمن مؤسسات متعددة الاختصاصات أو اعتماد آلية تابعة لجهاز حكومة.
وأثناء التفاعل فإن الاطراف الحكومية وممثلة في كل من وزارة العدل والمندوبية الوزارية المكلفة بحقوق الانسان، فإنها أقرت بعدم وجود أي تصور لها لحدود الان عن شكل ومضمون هذه الالية.
أما المجتمع المدني، طرح تصورات عامة ما بين ألية مستقلة أو ألية ضمن المجلس الوطني لحقوق الانسان، أو الية مشتركة بين المجلس الوطني لحقوق الانسان والمجتمع المدني، ولكن ما يلاحظ على هذه التصورات، هو عموميتها، وعدم قدرتها بالخروج بتدقيق مطالبها، سواء من خلال مفهوم الاستقلالية المالية والبشرية، أو مسألة اختيار/تعيين/انتخاب الاعضاء، وكيفية تدبير مجالات الخبرات...
ويبقى المجلس الوطني لحقوق الانسان، خلال هذه الندوة، الذي انطلق من تقديم العرض الذي تقدم به رئيسه أمام البرلمان في شهر يونيو من هذه السنة، والذي استعمل فيه مصطلح "الترافع" من أجل اعتبار الالية الوقائية ضمن اختصاصات المجلس أثناء إعداد وصياغة القانون الجديد المنظم له.
كما أن ممثل المجلس الوطني قدم تصورا دقيقا فيما يتعلق بالاستقلال المالي، باعتبار أن رئيس الالية هو الامر بالصرف، والحصانة المشمول بها أعضاء الالية مؤسسة على الدستور نفسه من خلال الفصل 161 منه، وموقع المجلس الوطني ضمن خانة "أ" المعتمد من قبل لجنة التنسيق الدولية للمؤسسات الوطنية ICC. كما اعتبر أن مضمون الفقرة الاخيرة من المادة 17 من البروتكول والخاصة بالوحدات اللامركزية متوفرة من خلال اللجن الجهوية التابعة للمجلس.
فمن خلال ما سبق، فإن المعايير الدولية تميل في اتجاه جعل الالية الوقائية للتعذيب ضمن اختصاصات المؤسسات الوطنية لحقوق الانسان، ومع ذلك هل المميزات (الخصوصية) المغربية تسير في هذا الاتجاه؟
ثانيا : المستوى الواقعي
في هذا الصدد، المقصود بالواقعية الحقوقية، قراءة المقترحات أو التصورات ضمن المشهد العام للدولة،سياسيا واجتماعيا.
من الناحية السياسية، فإن الفعل المدني والحركات الاجتماعية من مختلف مجالاتها، تحتاج دائما إلى "حامل سياسي" يتولى ترجمة المطالب والمعارك الى أجندة مؤسساتية، ويتولى مهمة التفاوض مع كافة الاطراف من أجل إنتزاع أكبر المكاسب.
المغرب منذ إجهاض حلم "الانتقال الديمقراطي" سنة 2002، فقد فقد النسيج المدني والحقوقي والحركات الاجتماعية هذا الحامل/الاداة، ورغم الاهتمام المضطرد الذي رافق تأسيس فاعل سياسي جديد سنة 2005، باعتباره تجميع لقوى اليسار والديمقراطية، إلا أن هذا الاخير لم يستطع الانتقال من مضمون "النادي السياسي" الى "حزب سياسي" ومن بنية "حركة احتجاجية" الى بنية "حركة سياسية" لها امتدادات على المستوى الحقوقي والنقابي أو على الاقل تأسيس طوق محيط بها من النسيج الجمعوي الشبابي والنسائي والمدني.
كما أن الحراك الشبابي الذي عرفها المغرب سنة 2011، عرى عورة "القوى" التقدمية والديمقراطية، وكشف بالملموس أن القلعة التي كان يتحصن بها، قد تم اختراقها ولم يعد فاعلا فها وحده وفي حالات أخرى أقصي نهائيا منها، سواء في الانتخابات أو الشارع أو الجامعات...
في مقابل استطاعت مجموعة من النخب اليسارية والديمقراطية فرض أجندتها، بشكل ذاتي وشخصي، ضمن مؤسسة قائمة الذات، وهي المجلس الوطني لحقوق الانسان، ويتضح ذلك بشكل جلي في الاولوية التي سطرها المجلس لنفسه، حيث ليس عبثيا أن تكون أول مذكرة يتقدم بها تتعلق بالمناصفة ومكافحة جميع أشكال التمييز بين المرأة والرجل، وما تلاها من تقارير موضوعاتيةكان أهمها التقرير المتعلق بأزمة السجون بالمغرب.
ونشير أيضا للامتداد بالمواطنات والمواطنين، فنتائج انتخابات 2007، والتي أكدت العزوف الخطير الذي عرفته المشاركة الانتخابية، فإن جل الباحثين توصلوا أن المشكل يكمن في الاحزاب السياسية التي لم يعد عرضها يقنع ويلبي مطالب المواطنات والمواطنين.
في مقابل ذلك، فإن التقرير الذي قدمه المجلس الوطني لحقوق الانسان أمام البرلمان، خلص، في محور الحق في الحقوق، أن الشكايات التي توصل فيها خلال فترة التقرير الممتدة على نحو أقل من سنتين بلغ 41704، وأن اللجن الجهوية توصلت بما مجموعه 12206 شكاية وأن الزيارات المباشرة للمواطنات والمواطنين وصل الى 25845 زيارة مباشرة. مسجلا أن هذا الحجم يترجم حرفيا أن المجلس أصبح الية انتصاف وطنية سهلة الولوج.
كما أن هذه الأرقام تجعل من المجلس الوطني لحقوق الانسان، يتمتع بمشروعية لدى المواطنات والمواطنين، ناهيك عن المشروعية الدولية المستمدة سواء من خلال لجنة التنسيق الدولية كما سلف الذكر، أو من قرارات مجلس الامن الدولي لاسيما القرارين 2044، و2099 لسنتي 2012 و2013.
وإذ نسجل كون المجلس الوطني لحقوق الانسان، لا يمكن أن يحل محل الاحزاب السياسية، نظرا لطبيعته التشاورية، فإن الاحزاب السياسية مدعوة الى تقوية ذواتها، ولكن الحركة الحقوقية مدعوة للتفكير في السند من داخل المؤسسات والتي تستطيع أن تجعلها جزءا من آليات ترافعها.
فالجزر المؤسساتي للطيف الديمقراطي، يفرض على الجمعيات الحقوقية أن تتراص أمام حكومة ذات توجهات محافظة، وبرلمان ذي أغلبية محافظة وإدارية، أما "وهم" الشارع فقد حسمت فيه مرحليا الحركات الاسلامية هيمنتها تنظيميا وعدديا ونوعيا عليه.
مما يطرح التساؤول أخيرا:
هل نحن في حاجة الى تقوية الجبهة والصف الحقوقي المغربي، من خلال تقوية المجلس الوطني لحقوق الانسان بتمتيعه بمزيد من الصلاحيات؟ أم إنشاء اليات أخرى جديدة تضاف الى هذا الزخم الحقوقي؟
وفي هذا الصدد نحن أمام سيناريوهين:
سيناريو تأسيس الية وطنية للوقاية من التعذيب، مشتركة بين المجلس الوطني لحقوق الانسان والمجتمع المدني، وهو سيناريو مقبول نظريا، ويبقى معلقا واقعيا، وذلك بالجواب على التساؤول التالي: هل يتوفر المغرب على حركة حقوقية منسجمة ومتكاملة، أم ائتلاف حركات حقوقية ذات مشارب متنافرة (اسلامية، يسارية، حزبية..)؟ الجواب على هذا التساؤول وحل اشكالياته، يجعل من هذا السيناريو أقرب للإعماله.
السيناريو الثاني، جعل اختصاص الألية الوقائية من التعذيب، بالاضافة الى الاليات الاخرى للطفولة والتمييز والاعاقة ضمن اختصاصات المجلس الوطني لحقوق الانسان، وهو سيناريو مقبول نظريا، ويبقى معلقا واقعيا أيضا، حيث التساؤول: هل استنفذ المجلس الوطني لحقوق الانسان كافة اختصاصاته للتفكير في اختصاصات جديدة؟ وألن تثقل هذه الاختصاصات الجديدة كاهل المجلس الوطني؟ ألن يشكل إضافة مثل هذه الاختصاصات للمجلس الوطني على حساب اختصاصات أصيلة أيضا مثل "النهوض"؟ وهل يتوفر المجلس الوطني على الامكانيات البشرية والخبرات للقيام بهذه الادوار؟ إن الجواب على هذه التساؤولات، تجعل هذا السيناريو أقرب للواقع وللتربة المغربية، ولكن شريطة توسيع مجال تمثيلية المجتمع المدني والخبرات داخل المجلس الوطني لحقوق الانسان ومن بين ذوي "صفة" الوقاية من التعذيب.
ختاما، مباشرة بعد تأسيس المجلس الوطني لحقوق الانسان، نظمت مؤسسة MSI ندوة حول حقوق الانسان بالمغرب، بحضور الامين العام للمجلس الوطني، فكان سؤالي مباشر إليه، هل نحن أمام مؤسسة جديدة، أم أمام نسخة ثالثة من المجلس الاستشاري لحقوق الانسان (النسخة الاولى سنة1990، النسخة الثانية سنة 2001، النسخة الثالثة سنة 2011)؟
فكان جوابه "نحن نراكم ولا نقوم بالقطائع، نعم، نحن أمام نسخة ثالثة، ولماذا لا نفكر منذ الان في النسخة الرابعة.