تقوم القواعد القانونية في القضاء الإداري بتنظيم مختلف الروابط التي تجمع بين الأفراد و النشاط الإداري فتتحدد للأفراد وللإدارة قواعد وتصرفات التي ترسم حدود كل طرف وما يترتب على مخالفة كل دلك من أثار و جزاءات ، ومن ثم فإن الإخلال بهده القواعد يتطلب تدخل السلطة العامة لإزالة هذا الخلل ويتم ذلك عن طريق الإلتجاء لتطبيق القانون الذي وقعت مخالفته أو حماية المصلحة التي ترمي القاعدة القانونية إلى حمايتها .
وغاية الحماية القضائية التي يسعى إليها الأطراف في القضاء الإداري من أجل تحقيق العدالة تستلزم أن تكون غاية القاضي الإداري قبل غاية الإطراف المتنازعة ، وبذلك يعمل القاضي الإداري على إصدار حكم في المنازعة المطروحة أمامه تطبيقا لمفهومه للعدالة التي يستمدها من قواعد خصوصية في القضاء الإداري .
ومن البديهي أن الوصول إلى هذا المفهوم يرتبط بالتساؤل حول المنهج الذي يتعين إتباعه من طرف القاضي الإداري من أجل تطبيق القانون تطبيقا سليما ، وقد أوجد الفقه القانوني و الممارسة القضائية عدة مناهج قانونية تساعد القاضي الإداري إلى طريقة وصوله إلى الحل السليم في الداعوى القضائية .
وعلى الرغم من إختلاف هده المناهج إلا أنها تتوحد عند القاضي الإداري في هدف أساسي يتجلى في كيفية رد الدعوى الإدارية إلى النص القانوني الواجب التطبيق ،وتسمى هده العملية بالمسألة القانونية أوالتكييف القانوني للوقائع ،وبمعنى أخر فالتكييف القانوني يعبر عن سلوك فكري قانوني الذي يسلكه القاضي الإداري لتفسير صيغة لمعادلات الواقعة القانونية المطروحة في الملف النزاع.
ومن ثم تحتل هده العملية أهمية قصوى عند القاضي الإداري بإعتبارها وسيلة فنية يلجأ إليها القاضي الإداري للحكم في الدعوى المطروحة امامه ،وهي الأهمية التي تستدعي الوقوف أمام بعض الجوانب التي تفسر أهمية هده تقنية عند القاضي الإداري .
ـ فأين تتمظهرعملية التكييف القانوني عند القاضي الإداري ؟
من الحقائق الثابتة و التي لا جدال فيها أن القانون بصفة عامة ما وجد إلا لكي يطبق على أرض الواقع إلا أن هذا التطبيق يبقى رهيننا بمجموعة من العمليات التقنية التي يعود إليها القاضي لحل النزاع ،وهي العمليات التي عرفت نقاشا واسعا في الفقه و القضاءعلى العموم ،والقضاء الإداري على الخصوص لكونه يبث في دعاوى أطراف غير متكافئة ،الأمر الذي يلزم القاضي الإداري بإستحضار وتحديد طبيعة العلاقة القانونية وتصنيفها ضمن إحدى الفئات القانونية الموجودة ،أو بمعنى أخر أن القاضي الإداري يقوم بمطابقة الوضع الواقعي مع الفكرة القانونية للإستنتاج علاقة الطرف المدعي بالجهة الإدارية التي تدخل في الواقعة المطروحة لتقدير أي نص قانوني يطبق عليها .
وبناء على ذلك فإن مطابقة الوضع الواقع مع مبدأ القانوني يستلزم كدلك من القاضي الإداري فهم مجموعة من العناصر التي تشمل الحالة الواقعية الناثجة عن النشاط الإداري من جهة، وتحليل المفترض القاعدي لنص القانوني الذي وضع لها في حالة وجوده أو اللجوء إلى قواعد الإجتهاد القضائي في حالة عدم وجود المفترض القانوني، والتي يصعب على القاضي الإداري في حالتها القيام بعملية المطابقة وإتخاد التوجه الصحيح لوجود تناقضات كثيرة في حقل الإجتهاد القضائي بخصوص حالة واقعية ناثجة عن الإدارة وفارغة من المفترض القانوني.
يعمل القاضي الإداري في هذا الجانب بتأكد من الوجود المادي للوقائع ثم بعد ذلك يسعى إلى البحت في التكييف القانوني المعطى لها، فيمكنه ذلك من النظر في مدى شرعية العمل الإداري المطعون فيه ويستطيع بدلك القاضي الإداري الوصول إلى تحقيق التطابق بين عناصر الوقائع ناتجة عن تصرفات الإدارة و المفترض الوارد في القاعدة القانونية.
فمن الثابت أن وقائع ناتجة عن نشاط وتصرفات الإدارة لا تخضع لمنطق الحصر، والمشرع في إطار تنظيمه لهده التصرفات يستحيل عليه إنثاج قواعد قانونية تنظم كل جزئيات و تفاصيل التي قد تنتج عن الإدارة التي تتميز بمبادئ وقواعد تتطور مع تغير الزمان والمكان .
وتمثل الوقائع التي تعرض على القضاء الإداري في شكل منازعات نقطة أساسية في تحريك فكر القاضي في تنقية و تصنيف الوقائع واللإرتقاء بها للقاعدة القانونية في حلقة فكرية يستحضر فيها النقط الثالية :
ـ إنه مقيد بوقائع النزاع دون تجاوزها.
ـ أنه يستخلص العناصر الواقعية المنتجة للدعوى انطلاقا مما عرض عليه من وقائع.
ـ أنه مقيد بقواعد الموضوع، إذ لا يمكنه أن يعتمد منها إلا ما إستقام أمامه بدليل
وترتيبا على ذلك فإن استخلاص القاضي السيئ ينتج عن فهمه أو خروجه الخاطىء من هده الحلقة مما يجعل من الدعوى المرفوعة أمامه محطة لنقاش في درجة اخرى من التقاضي، ومن تم فإن هده المرحلة التي يمر منها القاضي الإداري في إعطاء حكمه يمكن أن تعبر عن مدى جودة الحكم في القضاء الإداري في تحليل و فهم الوقائع القانونية التي تعبر عن المشكل القضائي المطروح في الدعوى الإدارية.
وفي الفقه القانوني كثيرا ما تم الحديت عن الوقائع القانونية وتم تصنيفها و الإختلاف في معايرها إلا أنه في القضاء الإداري و بصفته المتميز يمكن إستباعد تلك النقاشات والإختلافات والقول أن وقائعه القانونية يمكن تصنيفها بين وقائع طبيعية وأخرى إختيارية .
تتجلى الوقائع الطبيعية في الأحدات التي يردها القاضي الإداري إلى فعل الطبيعة وليس لفعل الإدارة،كالقوة القاهرة و الزلازل و الرياح وغيرها من الأحدات الطبيعية التي قد تكون سببا واقعيا لوجود دعوى قضائية أمام الإدارة ونجد مثل هده الوقائع تتجسد كثيرا في دعاوي المسؤولية التقصيرية للإدارة،التي في كثير من الأحيان تخلق نقاشات واسعة في دهن القاضي الإداري لفهم الواقعة القانونية و تفسيرأسبابها بين نشاط الإدارة وأسباب الوقائع الطبيعي وستحظار نظريات فقهية من أجل وضع عناصر تأسيسية لعملية تكيييفه للوقائع القانونية.
وفي هدا الاتجاه يمكن تذكير بأحكام قضائية تتعلق بالمسؤولية على أساس المساواة أمام الأعباء العامة والمسؤولية الدولة عن حراسة أماكن الألغام وتنقيتها ومسؤولية الإدارة عن الأضرار الناتجة عن استعمال الإدارة لأشياء خطيرة ، حيت أن القاضي الإداري يعمل في هده الدعاوي على استحضار قواعد خاصة تختلف عن قواعد المعروفة في القضاء العادي، كاستحضار نظرية المسؤولية بدون خطأ و مبدأ التضامن الإجتماعي الدي يتطلب تحمل مخاطر نشاط الإدارة لوضع أساس تكييفي صحيح في مثل هده الدعاوي .
أما الوقائع الاختيارية فهي التي تقع بفعل نشاط الإدارة وغلبا تكون إما أعمال مادية أو تصرفات قانونية، وتتجلى بشكل واسع في الدعاوي الناثجة عن القرارات و العقود الإدارية ،وقد ميز الفقيه Duguit في هدا الصدد بين ثلاتة من التصرفات القانونية :
ـ تصرفات قاعدية régles les actes-
وهي التي تهدف إلى إنشاء تعديل أو إلغاء تطبيق قواعد النظام القانوني
ـ تصرفات شرطية les actes condition
وهي تصرفات التي تهدف الإدارة من خلالها إلى تطبيق قاعد قانونية على شخص إداري كتعين الموظف أو ترقيته.....
ـ تصرفات داتية les actes subjectifs
وهي ثلك التصرفات التي تهدف الإدارة بها إنشاء مركز قانوني معين أو إنهائه.
وكما ذكرنا سابقا فإن القاضي الإداري لا يستطيع في هده الدعاوي استخلاص عناصر الواقعة القانونية إلا إذا تقيد بقواعد القانون الموضوعية، بحيث لا يمكن أن يعتمد من هده الوقائع إلا ما استقام عنده بدليل، فإذا فهم هدا الواقع على حقيقته اعتمادا على ماهو ثابت لديه فإنه يقوم في مرحلة ثانية بعملية التجريد للوقائع والتي تعتبر الخطوى الأساسية في تبني الحل الحكم الصحيح للدعوى المرفوعة أمامه .
تتمظهر عملية التكييف عند القاضي الإداري في إنثاج اثر على مستويات متعددة يمكن مناقشتها في سياق الاجتهادات القضائية، وعلى سبيل المثال يمكن العودة إلى الأحكام المتعلقة بقررارت أشخاص القانون الخاص القابلة للطعن بالإلغاء الصادرة عن المحاكم الإدارية نجد أن القاضي الإداري كان دائما يستحضر المعيار العضوي لتحديد القرارات الإدارية القابلة للطعن بإلغاء،لينتقل بعد ذلك إلى المعيار الموضوعي في بعض أحكامه، بهدف ترسيخ العناصر الصحيحة لعملية التكييف القانوني للمنازعات المتعلقة بالقرارات أشخاص القانون الخاص القابلة لطعن بالإلغاء أمامه، وفي مستوى أخر يمكن تجسيد هده العملية أيضا في الدعاوى التي تهم العقود الإدارية و المال العام للدولة حيت يعود القاضي الإداري إلى التشريع المتعلق بالصفقات العمومية و بالأملاك العمومية ليستحضر بعض المعايرالتي أتى بها المشرع لتميز بين العقود الإدارية و غيرها من العقود أو لتميز بين الأموال العامة و الأموال الخاصة لتحديد مدى إختصاصه في هده الدعاوي، ففي عديد من الحالات التي تخص النزاعات المتعلقة بالأملاك العمومية، نجد دعاوي ترفع أمام القضاء العادي، كدعوى عدم التعرض من جانب الإدارة في عقار تملكه بالتقادم، أو دعوى يطلب فيها المدعي بإيقاف حجز على ملك من الأملاك الدولة، أو أن يتمسك أمام المحكمة بأن العقد الوارد على العقار هوعقد عادي، أو أن إشغال المدعي للعقار كان بموجب عقد خاص باعتبار العقار جزء من المال الخاص، فتدفع الإدارة بكون العقار هو من الأملاك العامة التي لا يجوز تملكها بالتقادم و لا يجوز الحجز عليها، أو أن كون العقد من العقود الإدارية ويجوز بالتالي للإدارة فسخه في أي وقت إذا كانت المصلحة العامة تقتضي هدا الفسخ .ففي هده الأمثلة و غيرها فإذا دفع أحد طرفي النزاع أمام القضاء العادي بعدم الاختصاص بنظر تلك المسألة الأوليةّ، فيكون من حق القضاء وقف الدعوى الأصلية و الحكم بإحالة مسألة التكييف إلى جهة القضاء الإداري للفصل في مدى إختصاصه في النزاع المطروح .
وفي جميع الحالات يكون التكييف دائما مرتبط بطبيعة النزاع المطروح أمام القاضي الإداري ،فهناك بعض النزاعات التي تعرض معناها بوضوح، حتى أن مسائلة القاضي لها تكون عبارة عن إعادة لكتابتها وعرضها بصيغة جديدة ،وتكون هنا عملية التكييف ضعيفة جدا، أما النوع الثاني من الوقائع المتنازع حولها فإنه يحتاج إلى نوع من التفكير والمعاينة الدقيقة من طرف القاضي الإداري، والاستعانة بجميع الوسائل القانونية المتاحة له من طرف المشرع، وبهذا التصور تصبح المسائلة التكييف هنا نتيجة لمجهودات القاضي الإداري في وجود الحل الصحيح للنزاع المطروح أمامه.
ومن تم يحتل التكييف دورا هام في دهن القاضي الإداري
يمكنه من قيام بدوره الأساسي في عملية فك رموز الدعوى المطروحة أمامه، وهو الدور الذي يؤكده المفوض القضائي في عديد من مستنتجاته، حيت يحيل إلى أهمية التكيييف القانوني للقاضي الإداري ودلك بإشارته إلى الدورالوظيفي للقاضي الإداري في تسوية المنازعات المعروضة على المحكمة ليدكره بدور أخر في إستنباط أحكامه من القواعد القانونية والمبادئ العامة والمفاهيم و النظريات التي بلورها الإجتهاد القضائي الإداري وثمنها الفقه الإداري .
وعلى العموم فإن مستويات التي يعمل فيها القاضي الإداري في مختلف النزاعات المطروحة يمكن إستنباط من خلالها تقنية التكييف عند القاضي الإداري وتقيم مدى مرونته وقدرته في تطبيق القاعدة القانونية الصحيحة أو الإجتهاد القضائي بغض النظر عن طبيعة النزاع المطروح ،ومرجع دلك هو إعطاء الفعالية للتشريع القانوني وللإجتهاد القضائي أمام إعترضات العارض .
المراجع :
ـ ميشل روسي : المنازعات الإدارية بالمغرب, ترجمة محمد هيري،الجلالي أمزيد،مطبعة المعارف
الجديدة، الرباط 1995 .
ـ محمد سليمان الطماوي : القضاء الإداري،الكتاب الثاني: قضاء التعويض وطرق الطعن في الأحكام شركة دار الإشعاع للطباعة ملتزم الطبع والنشر دار الفكر العربي القاهرة 1986
ـ عبد القادر باينة : تطبيقات القضاء الإداري بالمغرب,دار توبقال للنشر 1998 .
ـ محمد الأعرج : القانون الإداري المغرب ,سلسلة مواضيع الساعة ط 2010 .
ـ مليكة الصروخ : القانون الإداري دراسة مقارنة. 2006.
ـ عبد الواحد القريشي القضاء الإداري ودولة الحق و القانون بالمغرب
ـ محمد الأعرج ,أشخاص القانون الخاص و إصدار القرار الإداري في أحكام القاضي الإداري المجلة المغربية للادارة المحلية و التنمية العدد 50
ـ أساس المسؤولية عن انفجار الألغام تعليق على قرار محكمة الإستئناف الإدارية بمراكش رقم 105 بتاريخ 12\3\2008 المجلة المغربية للادارة المحلية و التنمية العدد 95\94
ـ مستنتجات المفوض الملكي اادفاع عن الحق و القانون المحكمة الإدارية بالدار البيضاء ملف عدد165\13\2009 جلسة 17\1\2012 المجلة المغربية للادارة المحلية و التنمية العدد 102