مقدمة:
لا تزال القضية الفلسطينية – الإسرائيلية من أهم القضايا الشائكة المطروحة لحد الساعة على بساط الطرح والمناقشة، والاجتهاد في ظل حظيرة المجتمع الدولي، وهذا لكونها أنها تعتبر من بين المنازعات الدولية التي تحتل مكانا بارزا، وتتسم بالكثير من التعقيد والصعوبات، وتنطوي على صدامات مسلحة في إطار تجسيد مبدأ القوة والبقاء للأقوى.
وقد باتت تهدد بحق انتهاك الشرعية الدولية التي تعد أحد المطالب والركائز الأساسية، والتي ما فتئت تنادي بها هيئة الأمم المتحدة منذ ميلادها إلى يومنا هذا من أجل الحفاظ على السلم والأمن الدوليين (أحد الأهداف الأساسية لهيئة الأمم المتحدة).
إن ميثاق الأمم المتحدة تضمن في أحد مبادئه الأساسية التحريم المطلق لاستعمال القوة (مبدأ حظر استخدام القوة في العلاقات الدولية)، والمنصوص عليه في المادة الثانية / الفقرة الرابعة بقولها:" يمتنع أعضاء الهيئة جميعا في علاقاتهم الدولية عن التهديد باستعمال القوة أو استخدامها ضد سلامة الأراضي، أو الاستقلال السياسي للدولة، وعلى أي وجه أخر لا يتفق ومقاصد الأمم المتحدة".
وفي إطار الواجبات الدولية الملقاة على عاتق كل دولة تنتمي إلى حظيرة المجتمع الدولي ، والمنصوص عليها في ميثاق الأمم المتحدة ، فإنه يمنع منعا باتا على أي دولة استعمال القوة ضد دولة أخرى، إلا في الإطار القانوني المسموح به ( حالة الدفاع الشرعي طبقا لنص المادة 51 من الميثاق ).
يشكل الحصار أحد أهم الأوجه لاستخدام القوة ، وهذا باعتباره يتنافى مع متطلبات الدولة في حقها لتقرير المصير، ومن ثمة الإخلال بأحد أهم المهام المركزية للعلاقات الدولية المعاصرة لتفعيل فكرة التعايش السلمي في إطار المهام الرئيسية لمنظمة الأمم المتحدة.
ويعتبر العدوان الإسرائيلي على فلسطين من أهم النماذج الدولية الحية لانتهاك الشرعية الدولية في أوضح صورها، وهذا لما يعكسه الوضع من تواطؤ دولي في ذروة القمة، لاسيما وأن الدول الكبرى التي تقوم بضغوط كبيرة على الدول الأعضاء في المنظمة لإملاء سياسات بغض النظر عما إذا كانت ملائمة أو غير ملائمة، وأغلب الجهود الرامية تميل لمصلحة دولة إسرائيل، وتتماشى مع خدمة مصالح الدول الكبرى، وعلى حساب دولة فلسطين .
كما يمكن القول أن منظمة الأمم المتحدة هي بمثابة أداة ووسيلة بيد مجموعات الضغط الدولية، وهذا من أجل هز الكيان الفلسطيني، وأن أغلب القرارات الصادرة عنها هي من صنيع الدول العظمى.
وفي هذا السياق وكنموذج حي نجد أن الولايات المتحدة الأمريكية هي صاحبة اليد الطولى في استخدام وانتهاج هذه السياسة، وهذا من خلال استعمال أساليب الضغط باتفاق مع دولة إسرائيل، مادام أن هذه الأخيرة كثيرا ما تضرب بعرض الحائط لقرارات هيئة الأمم المتحدة ، فتلجأ لحل مشاكلها مع دول الشرق الأوسط خارج نطاق الهيئة رغم أهميتها للسلم والأمن الدوليين .
ومن أهم مظاهر العدوان الإسرائيلي – على فلسطين نجد "مسألة الحصار المفروض على غزة"، الذي يتمثل في عدم فتح المعابر خاصة معبر رفح، ومنع المساعدات الدولية الإنسانية التي ترسل إلى الفلسطينيين، منافية بذلك من جهة للشرعية الدولية، وكذا لقواعد ومبادئ القانون الدولي الإنساني سواء من حيث أبعادها أو أثارها.
وتتمحور إشكالية هذه المقالة فيما يلي :
ما هو التكييف القانوني الذي ينطبق على الحصار المفروض على غزة في إطار أحكام القانون الدولي المعاصر؟
هذا ويتفرع عن هذه الإشكالية الرئيسية التساؤلات الجزئية التالية:
المحور الأول: مفهوم الحصار وتحديد ضوابطه في إطار أحكام القانون الدولي
أولا: المفهوم القانوني للحصار من منظور قواعد القانون الدولي
يمكن حصر المفهوم القانوني للحصار من خلال حالة الحصار المشروعة في إطار أحكام القانون الدولي وهي حالة الحصار المطبقة من طرف مجلس الأمن الدولي بمقتضى العقوبات الاقتصادية التي لا تتضمن استخدام القوة المسلحة (المادة 41 من ميثاق الأمم المتحدة)، وحالة الحصار العسكري الذي يتضمن استخدام القوة(1) حسب ما جاءت به المادة 42 من نفس الميثاق(2).
ومن المعلوم أن أحكام وقواعد القانون الدولي بشكل عام، وقواعد القانون الدولي الإنساني بشكل خاص وإن كانت تقر بشكل أو بآخر بعض أشكال الحصار الاقتصادي، إلا أن ذلك لا يبرر بأي حال من الأحوال أن تنقلب تلك العقوبات إلى نوع من أنواع العقوبات الجماعية للشعوب، وخلال السنوات الماضية وتحديدا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية, فإنه لم تصدر عن مجلس الأمن الدولي قرارات بشأن العقوبات الاقتصادية (3) إلا في حالات محدودة، منها حالة روديسيا (1966) وجنوب إفريقيا (1977)، ومنذ انتهاء الحرب الباردة لجأ مجلس الأمن بصورة متزايدة إلى فرض العقوبات الاقتصادية الجماعية، فقد فرضت عقوبات على العراق وعلى يوغوسلافيا السابقة وعلى هايتي والصومال وليبيا وليبيريا وأنغولا ورواندا والسودان، و نلاحظ من هذه الأمثلة أن عقوبات الأمم المتحدة يمكن أن تفرض في زمن السلم كما يمكن أن تفرض في أوقات النزاع المسلح.
هذا وقد أصبحت العقوبات وخاصة الاقتصادية منها تثير قلق المنظمات الإنسانية بسبب ما يترتب عليها من آثار إنسانية، حيث تمكنت بعض المنظمات أثناء عملياتها الميدانية من ملاحظة الآثار الإنسانية القاسية لبعض أنظمة العقوبات سالفة الذكر، ذلك أن العقوبات قد لا تؤثر سلبيا على الأوضاع الإنسانية لسكان الدولة المستهدفة فحسب, وإنما قد تؤثر أيضا على تقديم المساعدة الإنسانية.
ونظرا لتزايد لجوء المجتمع الدولي لفرض عقوبات اقتصادية، وإلى ما يترتب على هذه العقوبات من آثار إنسانية أصبح من الضروري إيجاد الإطار القانوني الذي يمكن أن تفرض بموجبه مثل هذه العقوبات والحدود القانونية لفرضها والأسباب السياسية التي تدعو إلى وضع حدود لممارسة مجلس الأمن لسلطته في فرض العقوبات، ويمكن لمجلس الأمن أن يدعو إلى فرض عقوبات اقتصادية جماعية بمقتضى المادة 41 من ميثاق الأمم المتحدة إذا كان قد تقرر بموجب المادة 39 من نفس الميثاق أن هناك تهديدا أو خرقا للسلام أو عملا من أعمال العدوان, وإذا كان الهدف من فرض العقوبات هو الحفاظ على السلم والأمن الدوليين(4) .
على أنه قبل استعراض الاعتبارات القانونية والسياسية التي تحدد سلطة مجلس الأمن في فرض عقوبات اقتصادية, يصبح من المهم وضع سلطة المجلس في فرض العقوبات في إطارها القانوني والسياسي، فالأهداف التي من أجلها أنشئت الأمم المتحدة واردة في المادة الأولى من الميثاق ومنها الحفاظ على السلم والأمن الدوليين, والذي تنص عليه الفقرة الأولى من المادة الأولى وتعمل على تحقيقه من خلال التدابير الواردة في الباب السادس من أجل التسوية السلمية للمنازعات أو الإجراءات القسرية المنصوص عليها في الباب السابع.
وإذا ما قرر مجلس الأمن وجود تهديد للسلام أو انتهاك له أو عمل من أعمال العدوان, فله أن يصدر توصيات أو يقرر اتخاذ التدابير للحفاظ على السلم والأمن الدوليين أو إعادتهم، وقد تكون هذه التدابير منصوص عليها في المادة 41 "التي لا تتضمن استخدام القوة المسلحة" مثل العقوبات الاقتصادية, أو التدابير الواردة في المادة 42 والتي تتضمن "الأعمال العسكرية التي تمليها الضرورة للحفاظ على السلم والأمن الدوليين أو إعادتهما".
ثانيا: الضوابط التي تحكم تنظيم الحصار في إطار القانون الدولي (القيود الواردة على فرض الحصار)
هناك من يقول بأن مجلس الأمن ليس ملزما بتنفيذ القانون الدولي لحقوق الإنسان أو القانون الدولي الإنساني عندما يفرض عقوبات اقتصادية بمقتضى المادة 41 من ميثاق الأمم المتحدة، والسند في ذلك نص المادة 41 من نفس الميثاق التي تعطي مجلس الأمن سلطة غير مقيدة فيما يتعلق بفرض عقوبات اقتصادية جماعية (بشرط توفر ظرف تهديد السلم أو خرقه أو حدوث عمل من أعمال العدوان وبشرط أن يكون الهدف من فرض العقوبات هو الحفاظ على السلم والأمن الدوليين أو إعادتهما), وكذلك نصوص المواد 1 فقرة 1 و 25 و 103 من الميثاق، والتي نستخلص منها أن التدابير القسرية الجماعية التي يتخذها مجلس الأمن يمكن أن تحدد الالتزامات التعاقدية للدول الأعضاء المنصوص عليها في قانوني حقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني, و يستخلص منها أيضا أن مجلس الأمن ليس مقيدا بمبادئ العدالة والقانون الدولي في تطبيقه للعقوبات الاقتصادية الجماعية بمقتضى المادة 41من الميثاق.
وهناك من يقول أن مجلس الأمن ملزم بمراعاة مبادئ قانون حقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني عند وضع نظم العقوبات ورصدها ومراجعتها، ولابد من النظر إلى سلطة فرض العقوبات في سياق ميثاق الأمم المتحدة ككل، كما أنه يتعين ممارسة هذه السلطة بما يتفق وأهداف الميثاق ومبادئه التي تتضمن تعزيز حقوق الإنسان والقواعد السائدة للقانون الدولي.
عند وضع الحدود القانونية (5) لفرض عقوبات اقتصادية في أوقات النزاع المسلح, لابد من النظر إلى أحكام القانون الدولي الإنساني وأحكام القانون لحقوق الإنسان معا، وعند وضع الحدود القانونية لفرض عقوبات اقتصادية في زمن السلم لابد من النظر إلى قانون حقوق الإنسان.
واستنادا إلى قانون حقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني وإلى الحاجات الإنسانية, نجد أن نظام العقوبات ينبغي ألا ينزل بمستوى معيشة شريحة كبيرة من السكان إلى ما دون مستوى الكفاف، و لا يجوز للعقوبات أن تحرم الناس من الحقوق الإنسانية الأساسية في الحياة والبقاء، ويتوجب وجود حدود لمدى المعاناة التي يجوز للعقوبات أن تسببها.
01- الحدود التي يفرضها القانون الدولي في أوقات النزاع المسلح عند فرض الحصار.
لم يتطرق القانون الدولي الإنساني إلى العقوبات الاقتصادية بالتحديد, ولم يتناول آثارها على السكان المدنيين على أنه عندما تفرض العقوبات في سياق نزاع مسلح دولي كان أو داخلي تطبق القواعد العامة المتعلقة بحماية المدنيين من آثار العمليات العسكرية، وهكذا فإن أي قرار بفرض مثل هذه التدابير ينبغي أن يأخذ بعين الاعتبار القانون الدولي الإنساني, وخاصة القواعد المتصلة بالإمدادات الطبية والغذائية إلى مختلف شرائح الأشخاص موضع الحماية.
وبالتالي فإن أي نظام للعقوبات أو الحصار يمكن أن يؤثر على السكان المدنيين ينبغي أن يتضمن ما يسمى "بالاستثناءات إنسانية"، وهذا الأمر ضروري سواء فرضت العقوبات بواسطة دولة أو بواسطة مجلس الأمن، فالدول ملزمة شأنها شأن مجلس الأمن بأن تأخذ بعين الاعتبار القواعد ذات الصلة بحماية السكان المدنيين, والجماعات المعرضة للخطر بين صفوف السكان المدنيين من آثار النزاع المسلح.
ومن أهم القواعد(6) نجد:
ج-1 أن على الدول أن تسمح بحرية المرور للمواد الغذائية الضرورية للأطفال والنساء الحوامل وحالات الأمومة, وكذلك الإمدادات الطبية والأشياء اللازمة للعبادة للسكـان المدنيين عمومـا.
ج-2 تجري أعمال الإغاثة الإنسانية بشرط موافقة الأطراف المعنية.
وتجدر الإشارة إلى المثال الواضح للعيان حاليا ما قامت وما تقوم به إسرائيل من حصار بحري لقطاع غزة، ومن الاعتداءات الكثيرة والمتكررة التي تمت على السفن، والتي نقلت مساعدات إنسانية لسكان القطاع.
وقد تطرقت اتفاقيات جنيف والبروتوكولين الإضافيين الملحقين بها إلى ضرورة توفير المواد الغذائية الضرورية وغيرها من المواد للسكان المدنيين في أوقات النزاع المسلح، مع ملاحظة بعض الاختلافات بين هذه الأحكام نجد أن المواد 59 من اتفاقية جنيف الرابعة, والمادة 70 من البروتوكول الإضافي الأول, والمادة 18(2) من البروتوكول الإضافي الثاني تسمح بالقيام بأعمال الإغاثة في ظروف معينة, بينما تسمح المادة 23 من اتفاقية جنيف الرابعة بتقديم سلع معينة و يحتاج تقديم شحنات الإغاثة بمقتضى المادة 70 من البروتوكول الإضافي الأول والمادة 18 (2) من البروتوكول الإضافي الثاني إلى موافقة الأطراف المعنية, بينما لا يشترط ذلك في تقديم السلع المنصوص عليها في المادة 23 أو إمدادات الإغاثة للسكان المدنيين في الأراضي المحتلة بمقتضى المادة 59 من اتفاقية جنيف الرابعة.
02- الحدود التي يفرضها القانون الدولي في زمن السلم عند فرض الحصار.
عند النظر إلى القواعد القابلة للتطبيق على نظم العقوبات في زمن السلم نجد أنها مستمدة من قانون حقوق الإنسان، ومن الضروري الإشارة إلى أن استخدام الحصار البحري أو الجوي لفرض نظام للعقوبات في زمن السلم لن يؤدي بالضرورة إلى تحويل الوضع من وضع سلمي إلى حالة نزاع مسلح، ذلك أن المرحلة التي ينبغي أن ينظر فيها إلى مثل هذا الحصار على أنه يخلق نزاعا مسلحا ليست واضحة سواء من حيث الممارسة أو من حيث المبدأ، فهذه مسألة تتعلق بالوقائع وبالقانون ويلزم النظر في كل حالة بحسب ظروفها، لكن أحد العناصر الحاسمة هي التي توضح ما إذا كان هناك قتال من أجل فرض أو تأمين الحصار.
وبهذا الصدد تعترف صكوك حقوق الإنسان(8) بالحق في الحياة والصحة والمستوى اللائق من المعيشة, بما فيه الغذاء والملبس والمسكن والرعاية الطبية والتحرر من الجوع .
وتفرض هذه الصكوك على الدول التزام بالعمل من أجل الوفاء بتلك الحقوق، وعلى مجلس الأمن أن يأخذ هذه الحقوق بعين الاعتبار عند وضع نظام للعقوبات, وأن عليه ألا يضع نظما للعقوبات تحرم الناس من هذه الحقوق.
ومن وجهة النظر الإنسانية, فإن الحاجة إلى أخذ هذه الحقوق بعين الاعتبار تبدو واضحة كل الوضوح, أما من وجهة النظر القانونية فإن المسألة أكثر تعقيدا إلى حد ما.
وعليه فإن أي نظام للعقوبات ينبغي ألا يحرم السكان من الحصول على الحد الأدنى من السلع والخدمات الأساسية اللازمة للإبقاء على حياتهم.
وفي هذا السياق تنص المادة 11 من العهد الدولي بشأن الحقوق الاقتصادية والثقافية على ما يلي:
01- تعترف الدول الأطراف في هذا العهد بحق كل إنسان في مستوى معيشي مقبول له ولأسرته, بما في ذلك الغذاء الكافي والملبس والمسكن, وكذلك حقه في التحسين المستمر لظروف معيشته، وسوف تتخذ الدول الأطراف الخطوات المناسبة لضمان إقرار هذا الحق, وهي تعترف في هذا الصدد بالأهمية الضرورية للتعاون الدولي المرتكز على الموافقة الحرة.
02- إن الدول الأطراف في هذا العهد تعترف بالحق الأساسي لكل إنسان في أن يكون متحررا من الجوع التي سوف تتخذ فرديا ومن خلال التعاون الدولي, كل ما يلزم من تدابير لغايات تحسين طرق إنتاج الغذاء وحفظه وتوزيعه عن طريق الاستفادة الكاملة من المعرفة التقنية والعلمية, ونشر المعرفة بمبادئ التغذية, وعن طريق تطوير النظم الزراعية أو إصلاحها بطريقة تجعل من الممكن تحقيق التنمية الفعالة للموارد الطبيعية واستخدامها، ومن أجل ضمان توزيع منصف لإمدادات الغذاء طبقا للحاجة إليها.
ويمكن القول بأن الحق في الغذاء والحق في التحرر من الجوع يفرضان التزاما على الدول بتقديم المواد الغذائية للمحتاجين، وأن وجود هذه الحقوق يعني أنه من المحظور أن يتم التصرف عمدا بطريقة تؤدي إلى حرمان الأفراد من الغذاء وتسبب الجوع.
وبالتوازي مع حق الفرد في الحياة والغذاء, نجد أن اتفاقية إبـادة الجنـس تحمي ما يمكن وصفه بأنه "الحق الجماعي في الحياة"، والذي يعنى التجويع عمدا لأي جماعة قومية أو عرقية أو عنصرية أو دينية إذا ما ارتكب بقصد تدمير هذه الجماعة, وهو ما يرد في تعريف إبادة الجنس وينطبق حظر إبادة الجنس في وقت السلم وفي زمن الحرب على السواء.
هذا ويظهر أن ممارسة مجلس الأمن تتجه إلى إدراج استثناءات إنسانية في نظم العقوبات الشاملة سواء فرضت هذه العقوبات أثناء نزاع مسلح أو في زمن السلم، وبعبارة أخرى فإن المخاوف الإنسانية سوف تؤخذ بعين الاعتبار سواء فرضت العقوبات أثناء النزاع المسلح أو في وقت السلم، ففي أوضاع النزاع المسلح يعبر عن هذه المخاوف الإنسانية بواسطة القانون الدولي الإنساني وفي وقت السلم يعبر عنها من خلال قانون حقوق الإنسان.
المحور الثاني: مدى تماشي الحصار المفروض في الأقاليم المحتلة مع الشرعية الدولية
أولا: التكييف القانوني للحصار على قطاع غزة
بموجب القانون الدولي العرفي يشكل الحصار عملا من أعمال الحرب، إذ تسمح الأعراف الدولية(9) للدولة المحتلة بالاستيلاء على الأراضي المحتلة، والقيام بكل ما تتضمنه القواعد العرفية المطبقة في مجال الحروب.
أما من وجهة نظر القانون الدولي ، فالحصار لا يكون مشروعا إلا في الحدود التي يفرضها القانون الدولي، وهي حالتي الحصار الاقتصادي المنصوص عليه في المادة 41 من ميثاق الأمم المتحدة، وحالة الحصار العسكري المنصوص عليه في المادة 42 من نفس الميثاق في إطار العقوبات المطبقة من طرف مجلس الأمن، لكن شريطة أن يكون هناك إخلال بالأمن والسلم الدوليين.
وعليه فإن الحصار المفروض على قطاع غزة لا يدخل ضمن الحالات المشروعة للحصار، وهذا ما أكدته محكمة العدل الدولية في مناسبات كثيرة على الحقوق الفلسطينية الثابتة، وتضمنت أحكام أعلى هيئة قضائية في العالم حيثيات سببت بموجبها عدم شرعية ممارسات الدولة العبرية ضد الفلسطينيين، كما أن فرض الحصار من قبل إسرائيل على فلسطين لا يجوز من الناحية الدولية، إذ أن ذلك يتنافى والواجبات الدولية، وكذا مبدأ حظر استخدام القوة في العلاقات الدولية المنصوص عليه في المادة الثانية / الفقرة الرابعة بقولها:" يمتنع أعضاء الهيئة جميعا في علاقاتهم الدولية عن التهديد باستعمال القوة أو استخدامها ضد سلامة الأراضي، أو الاستقلال السياسي للدولة، وعلى أي وجه أخر لا يتفق ومقاصد الأمم المتحدة"، وفي إطار القيام بالواجبات الدولية الملقاة على عاتق كل دولة تنتمي إلى حظيرة المجتمع الدولي، والمنصوص عليها في ميثاق الأمم المتحدة ، فإنه يمنع منعا باتا على أي دولة استعمال القوة ضد دولة أخرى، إلا في الإطار القانوني المسموح به ( حالة الدفاع الشرعي طبقا لنص المادة 51 من الميثاق).
غير أن إسرائيل باعتبارها سلطة قائمة بالاحتلال(10) في قطاع غزة، فإنها تعتمد في تأكيد شرعية الحصار الإسرائيلي على مدى إمكانية السلطة القائمة بالاحتلال أن تعلن الحرب على الأراضي التي تحتلها، ومن ثمة ومن باب أولى فرض عمليات الحصار(11)، كما هو الشأن بالنسبة لسيطرتها على خمس معابر حدودية مع قطاع غزة أهمها معبر رفح.
إن التكييف الذي قدمته إسرائيل حول حقيقة شرعية الحصار يندرج ضمن المفهوم الحديث للدفاع الشرعي، والذي اعتمدته الولايات المتحدة الأمريكية تحت مسمى (الدفاع الشرعي الوقائي )، وهو تحوير لمفهوم الدفاع الشرعي المنصوص عليه في المادة 51 من الميثاق.
ثانيا: خرق الحصار للمعاهدات والمواثيق الدولية
جاءت ديباجة ميثاق الأمم المتحدة بمثابة إعلان لنهاية عصر الاستعمار والاستبداد، والتحول من مرحلة الحكم الذاتي إلى الاستقلال التام، فذكر الميثاق:" نحن شعوب الأمم المتحدة ، وقد ألينا على أنفسنا أن ننقذ الأجيال المقبلة من ويلات الحرب التي في خلال جيل واحد جلبت على الإنسانية مرتين أحزانا يعجز عنها الوصف، وأن نؤكد من جديد إيماننا بالحقوق الأساسية للإنسان وبكرامة الفرد وقدره وبما للرجال والنساء والأمم كبيرها وصغيرها من حقوق متساوية، وأن نبين الأحوال التي يمكن في ظلها تحقيق العدالة واحترام الالتزامات الناشئة عن المعاهدات وغيرها من مصادر القانون الدولي، وأن ندفع بالرقي الاجتماعي قدما، وأن نرفع مستوى الحياة في جو من الحرية أفسح، وفي سبيل هذه الغايات اعتزمنا: أن نأخذ أنفسنا بالتسامح، وأن نعيش معا في سلام وحسن جوار، وأن نضم قوانا كي نحتفظ بالسلم والأمن الدولي، وأن نكفل بقبولنا مبادئ معينة ورسم الخطط اللازمة لها ألا تستخدم القوة المسلحة في غير المصلحة المشتركة، وأن نستخدم الأداة الدولية في ترقية الشؤون الاقتصادية والاجتماعية للشعوب جميعها، قد قررنا أن نوحد جهودنا لتحقيق هذه الأغراض".
وجاءت المادة الثالثة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لتفرض مبدأ هام مؤداه أن:" لكل فرد حق في الحياة والحرية وفي الأمان على شخصه"، و تناغمت المادة الخامسة و التاسعة مع المبادئ الدولية في حق الشعوب في تقرير مصيرها بالقول:" لا يجوز إخضاع أحد للتعذيب ولا للمعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو الإحاطة بالكرامة"، وكذلك " لا يجوز اعتقال أي إنسان أو حجزه أو نفيه تعسفا"، و جدير بالذكر أن الاتفاقية الدولية لحقوق الطفل نصت على:" للطفل حق في تلقي التعليم الذي يجب أن يكون مجانيا وإلزاميا في مراحله الابتدائية على الأقل، وأن يستهدف رفع ثقافة الطفل العامة وتمكينه على أساس تكافؤ الفرص من تنمية ملكاته وفصاحته وشعوره بالمسؤولية الأدبية والاجتماعية، ومن أن يصبح عضوا مفيدا في المجتمع، ويجب أن تكون مصلحة الطفل العليا هي المبدأ الذي يسترشد به المسئولون عن تعليمه وتوجيهه، وتقع هذه المسؤولية بالدرجة الأولى على أبويه".
ويجب أن تتاح للطفل فرصة كاملة للعب واللهو اللذين يجب أن يوجها نحو أهداف التعليم ذاتها، وعلى المجتمع والسلطات العامة السعي لتيسير التمتع بهذا الحق.
وبتطبيق المواد القانونية المذكورة، نجد أن الدولة العبرية (12) قد هدمت هذه النصوص وغالت في عدم الانصياع لها نصاً و روحاً. . . مما يشكل خرقاً وضاحاً لمبادئ القانون الدولي، والمعاهدات و المواثيق الدولية وبالتالي الإخلال بالشرعية الدولية (13).
الخاتمة:
وفي الأخير وعلى ضوء دراسة هذا الموضوع ، فإنه يمكن القول بأن ما يجري بحق الشعب الفلسطيني والحصار المفروض عليه من قبل إسرائيل يمثل بحق النموذج الدولي في قمة الذروة لانتهاك الشرعية الدولية، وأقصى حالات التهديد للسلم والأمن الدوليين، والذي طالما نادت به هيئة الأمم المتحدة كأحد أبرز الأهداف والمطالب الرئيسية لها .
إن تعامل الأمم المتحدة مع الحصار المفروض على غزة هو بمثابة دراسة حالة فريدة وحديثة جدا، وفي هذه الحالة بالذات إما أن نكون أمام أبرز جهاز رئيسي للهيئة، وهو جهاز مجلس الأمن الدولي الذي سمح بدون قصد لدولة واحدة بتغيير القانون الدولي الإنساني، وتحدي نظام القانون القائم والتمرد على قواعد القانون الدولي من دون أدنى عقوبة (توجيه توبيخ مثلا)، وإما أمام حالة ثانية هي بمثابة تعدي على صلاحيات مجلس الأمن الدولي من خلال تقويض شرعيته، وشرعية القانون الدولي من خلال فشله في الحفاظ على سيادة القانون ومقاومة هذا التحدي باسم الحفاظ على السلم والأمن الدوليين.
الهوامش والمراجع:
(1)- أنظر: جمال عبد الناصر مانع، التنظيم الدولي، دار العلوم للنشر والتوزيع عنابة، 2006، ص:207.
(2)- تنص المادة 42 من ميثاق الأمم المتحدة على:" إذا رأى مجلس الأمن أن التدابير المنصوص عليها في المادة 41 لا تفي بالغرض أو ثبت أنها لم تف به، جاز له أن يتخذ بطريق القوات الجوية والبحرية والبرية من الأعمال ما يلزم لحفظ السلم والأمن الدولي أو لإعادته إلى نصابه، ويجوز أن تتناول هذه الأعمال المظاهرات والحصر والعمليات الأخرى بطريق القوات الجوية أو البحرية أو البرية التابعة لأعضاء الأمم المتحدة".
(3)- أنظر: كمال حداد, النزاع المسلح والقانون الدولي العام, بيروت, المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع, 1997, ص:79.
(4)- أنظر: محمد شريف, التوجه إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة لمحاسبة إسرائيل على أعمالها في غزة, سويس إنفو, 18 فبراير 2009.
http://www.swissinfo.org/ara/front.h...62226000&ty=st
(5)- أنظر: مصطفي أحمد فؤاد وآخرون, القانون الدولي الإنساني.. آفاق وتحديات, الجزء الثاني, بيروت, منشورات الحلبي الحقوقية, 2005, ص:134
(6)- أنظر: عبد الله الأشعل وآخرون, القانون الدولي الإنساني، آفاق وتحديات, الجزء الثالث, بيروت, منشورات الحلبي الحقوقية, 2005, ص:911
(7)- أنظر: عبد الله الأشعل وآخرون ، المرجع نفسه ، ص ،ص: 913، 914.
(8)- أنظر: سوسن تمرخان بكة, الجرائم ضد الإنسانية في ضوء أحكام النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية, بيروت, منشورات الحلبي الحقوقية, 2006, ص:54.
(9)- أنظر: بن صغير عبد المومن، المقاربة الثنائية لحماية وتشجيع الاستثمار الأجنبي ، مذكرة لنيل شهادة الماجستير في الحقوق ، تخصص القانون الدولي والعلاقات الدولية ، كلية الحقوق والعلوم السياسية بجامعة الدكتور مولاي الطاهر بسعيدة، 2010 ص:44.
(10)- أنظر: جرائم الحرب في غزة.. التبعات والنتائج, الشرق الأوسط, الشركة السعودية للأبحاث والتسويق, العدد 11013, 22 يناير 2009.
http://www.asharqalawsat.com/leader....article=503940
(11)-Voir: ‘Des Crimes De Guerre ' Commis Gaza, Selon L'ONU, France
Télévision, 2009, http://info.france.2fr/proche-orient/50769380-fr.php.
(12)- أنظر: ساسي جاد عبد الرحمن واصل, إرهاب الدولة في إطار القانون الدولي العام, الإسكندرية, منشأة المعارف, 2003, ص:12.
(13)- أنظر: عبد الرحمن لحرش, المجتمع الدولي.. التطور والأشخاص, الجزائر, عنابة, دار العلوم, 2007, ص:28.
لا تزال القضية الفلسطينية – الإسرائيلية من أهم القضايا الشائكة المطروحة لحد الساعة على بساط الطرح والمناقشة، والاجتهاد في ظل حظيرة المجتمع الدولي، وهذا لكونها أنها تعتبر من بين المنازعات الدولية التي تحتل مكانا بارزا، وتتسم بالكثير من التعقيد والصعوبات، وتنطوي على صدامات مسلحة في إطار تجسيد مبدأ القوة والبقاء للأقوى.
وقد باتت تهدد بحق انتهاك الشرعية الدولية التي تعد أحد المطالب والركائز الأساسية، والتي ما فتئت تنادي بها هيئة الأمم المتحدة منذ ميلادها إلى يومنا هذا من أجل الحفاظ على السلم والأمن الدوليين (أحد الأهداف الأساسية لهيئة الأمم المتحدة).
إن ميثاق الأمم المتحدة تضمن في أحد مبادئه الأساسية التحريم المطلق لاستعمال القوة (مبدأ حظر استخدام القوة في العلاقات الدولية)، والمنصوص عليه في المادة الثانية / الفقرة الرابعة بقولها:" يمتنع أعضاء الهيئة جميعا في علاقاتهم الدولية عن التهديد باستعمال القوة أو استخدامها ضد سلامة الأراضي، أو الاستقلال السياسي للدولة، وعلى أي وجه أخر لا يتفق ومقاصد الأمم المتحدة".
وفي إطار الواجبات الدولية الملقاة على عاتق كل دولة تنتمي إلى حظيرة المجتمع الدولي ، والمنصوص عليها في ميثاق الأمم المتحدة ، فإنه يمنع منعا باتا على أي دولة استعمال القوة ضد دولة أخرى، إلا في الإطار القانوني المسموح به ( حالة الدفاع الشرعي طبقا لنص المادة 51 من الميثاق ).
يشكل الحصار أحد أهم الأوجه لاستخدام القوة ، وهذا باعتباره يتنافى مع متطلبات الدولة في حقها لتقرير المصير، ومن ثمة الإخلال بأحد أهم المهام المركزية للعلاقات الدولية المعاصرة لتفعيل فكرة التعايش السلمي في إطار المهام الرئيسية لمنظمة الأمم المتحدة.
ويعتبر العدوان الإسرائيلي على فلسطين من أهم النماذج الدولية الحية لانتهاك الشرعية الدولية في أوضح صورها، وهذا لما يعكسه الوضع من تواطؤ دولي في ذروة القمة، لاسيما وأن الدول الكبرى التي تقوم بضغوط كبيرة على الدول الأعضاء في المنظمة لإملاء سياسات بغض النظر عما إذا كانت ملائمة أو غير ملائمة، وأغلب الجهود الرامية تميل لمصلحة دولة إسرائيل، وتتماشى مع خدمة مصالح الدول الكبرى، وعلى حساب دولة فلسطين .
كما يمكن القول أن منظمة الأمم المتحدة هي بمثابة أداة ووسيلة بيد مجموعات الضغط الدولية، وهذا من أجل هز الكيان الفلسطيني، وأن أغلب القرارات الصادرة عنها هي من صنيع الدول العظمى.
وفي هذا السياق وكنموذج حي نجد أن الولايات المتحدة الأمريكية هي صاحبة اليد الطولى في استخدام وانتهاج هذه السياسة، وهذا من خلال استعمال أساليب الضغط باتفاق مع دولة إسرائيل، مادام أن هذه الأخيرة كثيرا ما تضرب بعرض الحائط لقرارات هيئة الأمم المتحدة ، فتلجأ لحل مشاكلها مع دول الشرق الأوسط خارج نطاق الهيئة رغم أهميتها للسلم والأمن الدوليين .
ومن أهم مظاهر العدوان الإسرائيلي – على فلسطين نجد "مسألة الحصار المفروض على غزة"، الذي يتمثل في عدم فتح المعابر خاصة معبر رفح، ومنع المساعدات الدولية الإنسانية التي ترسل إلى الفلسطينيين، منافية بذلك من جهة للشرعية الدولية، وكذا لقواعد ومبادئ القانون الدولي الإنساني سواء من حيث أبعادها أو أثارها.
وتتمحور إشكالية هذه المقالة فيما يلي :
ما هو التكييف القانوني الذي ينطبق على الحصار المفروض على غزة في إطار أحكام القانون الدولي المعاصر؟
هذا ويتفرع عن هذه الإشكالية الرئيسية التساؤلات الجزئية التالية:
- ما مفهوم الحصار وما هي الضوابط التي تحكمه في إطار القانون الدولي؟
- ما مدى تماشي الحصار المفروض في الأقاليم المحتلة مع الشرعية الدولية؟
أولا: المفهوم القانوني للحصار من منظور قواعد القانون الدولي
يمكن حصر المفهوم القانوني للحصار من خلال حالة الحصار المشروعة في إطار أحكام القانون الدولي وهي حالة الحصار المطبقة من طرف مجلس الأمن الدولي بمقتضى العقوبات الاقتصادية التي لا تتضمن استخدام القوة المسلحة (المادة 41 من ميثاق الأمم المتحدة)، وحالة الحصار العسكري الذي يتضمن استخدام القوة(1) حسب ما جاءت به المادة 42 من نفس الميثاق(2).
ومن المعلوم أن أحكام وقواعد القانون الدولي بشكل عام، وقواعد القانون الدولي الإنساني بشكل خاص وإن كانت تقر بشكل أو بآخر بعض أشكال الحصار الاقتصادي، إلا أن ذلك لا يبرر بأي حال من الأحوال أن تنقلب تلك العقوبات إلى نوع من أنواع العقوبات الجماعية للشعوب، وخلال السنوات الماضية وتحديدا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية, فإنه لم تصدر عن مجلس الأمن الدولي قرارات بشأن العقوبات الاقتصادية (3) إلا في حالات محدودة، منها حالة روديسيا (1966) وجنوب إفريقيا (1977)، ومنذ انتهاء الحرب الباردة لجأ مجلس الأمن بصورة متزايدة إلى فرض العقوبات الاقتصادية الجماعية، فقد فرضت عقوبات على العراق وعلى يوغوسلافيا السابقة وعلى هايتي والصومال وليبيا وليبيريا وأنغولا ورواندا والسودان، و نلاحظ من هذه الأمثلة أن عقوبات الأمم المتحدة يمكن أن تفرض في زمن السلم كما يمكن أن تفرض في أوقات النزاع المسلح.
هذا وقد أصبحت العقوبات وخاصة الاقتصادية منها تثير قلق المنظمات الإنسانية بسبب ما يترتب عليها من آثار إنسانية، حيث تمكنت بعض المنظمات أثناء عملياتها الميدانية من ملاحظة الآثار الإنسانية القاسية لبعض أنظمة العقوبات سالفة الذكر، ذلك أن العقوبات قد لا تؤثر سلبيا على الأوضاع الإنسانية لسكان الدولة المستهدفة فحسب, وإنما قد تؤثر أيضا على تقديم المساعدة الإنسانية.
ونظرا لتزايد لجوء المجتمع الدولي لفرض عقوبات اقتصادية، وإلى ما يترتب على هذه العقوبات من آثار إنسانية أصبح من الضروري إيجاد الإطار القانوني الذي يمكن أن تفرض بموجبه مثل هذه العقوبات والحدود القانونية لفرضها والأسباب السياسية التي تدعو إلى وضع حدود لممارسة مجلس الأمن لسلطته في فرض العقوبات، ويمكن لمجلس الأمن أن يدعو إلى فرض عقوبات اقتصادية جماعية بمقتضى المادة 41 من ميثاق الأمم المتحدة إذا كان قد تقرر بموجب المادة 39 من نفس الميثاق أن هناك تهديدا أو خرقا للسلام أو عملا من أعمال العدوان, وإذا كان الهدف من فرض العقوبات هو الحفاظ على السلم والأمن الدوليين(4) .
على أنه قبل استعراض الاعتبارات القانونية والسياسية التي تحدد سلطة مجلس الأمن في فرض عقوبات اقتصادية, يصبح من المهم وضع سلطة المجلس في فرض العقوبات في إطارها القانوني والسياسي، فالأهداف التي من أجلها أنشئت الأمم المتحدة واردة في المادة الأولى من الميثاق ومنها الحفاظ على السلم والأمن الدوليين, والذي تنص عليه الفقرة الأولى من المادة الأولى وتعمل على تحقيقه من خلال التدابير الواردة في الباب السادس من أجل التسوية السلمية للمنازعات أو الإجراءات القسرية المنصوص عليها في الباب السابع.
وإذا ما قرر مجلس الأمن وجود تهديد للسلام أو انتهاك له أو عمل من أعمال العدوان, فله أن يصدر توصيات أو يقرر اتخاذ التدابير للحفاظ على السلم والأمن الدوليين أو إعادتهم، وقد تكون هذه التدابير منصوص عليها في المادة 41 "التي لا تتضمن استخدام القوة المسلحة" مثل العقوبات الاقتصادية, أو التدابير الواردة في المادة 42 والتي تتضمن "الأعمال العسكرية التي تمليها الضرورة للحفاظ على السلم والأمن الدوليين أو إعادتهما".
ثانيا: الضوابط التي تحكم تنظيم الحصار في إطار القانون الدولي (القيود الواردة على فرض الحصار)
هناك من يقول بأن مجلس الأمن ليس ملزما بتنفيذ القانون الدولي لحقوق الإنسان أو القانون الدولي الإنساني عندما يفرض عقوبات اقتصادية بمقتضى المادة 41 من ميثاق الأمم المتحدة، والسند في ذلك نص المادة 41 من نفس الميثاق التي تعطي مجلس الأمن سلطة غير مقيدة فيما يتعلق بفرض عقوبات اقتصادية جماعية (بشرط توفر ظرف تهديد السلم أو خرقه أو حدوث عمل من أعمال العدوان وبشرط أن يكون الهدف من فرض العقوبات هو الحفاظ على السلم والأمن الدوليين أو إعادتهما), وكذلك نصوص المواد 1 فقرة 1 و 25 و 103 من الميثاق، والتي نستخلص منها أن التدابير القسرية الجماعية التي يتخذها مجلس الأمن يمكن أن تحدد الالتزامات التعاقدية للدول الأعضاء المنصوص عليها في قانوني حقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني, و يستخلص منها أيضا أن مجلس الأمن ليس مقيدا بمبادئ العدالة والقانون الدولي في تطبيقه للعقوبات الاقتصادية الجماعية بمقتضى المادة 41من الميثاق.
وهناك من يقول أن مجلس الأمن ملزم بمراعاة مبادئ قانون حقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني عند وضع نظم العقوبات ورصدها ومراجعتها، ولابد من النظر إلى سلطة فرض العقوبات في سياق ميثاق الأمم المتحدة ككل، كما أنه يتعين ممارسة هذه السلطة بما يتفق وأهداف الميثاق ومبادئه التي تتضمن تعزيز حقوق الإنسان والقواعد السائدة للقانون الدولي.
عند وضع الحدود القانونية (5) لفرض عقوبات اقتصادية في أوقات النزاع المسلح, لابد من النظر إلى أحكام القانون الدولي الإنساني وأحكام القانون لحقوق الإنسان معا، وعند وضع الحدود القانونية لفرض عقوبات اقتصادية في زمن السلم لابد من النظر إلى قانون حقوق الإنسان.
واستنادا إلى قانون حقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني وإلى الحاجات الإنسانية, نجد أن نظام العقوبات ينبغي ألا ينزل بمستوى معيشة شريحة كبيرة من السكان إلى ما دون مستوى الكفاف، و لا يجوز للعقوبات أن تحرم الناس من الحقوق الإنسانية الأساسية في الحياة والبقاء، ويتوجب وجود حدود لمدى المعاناة التي يجوز للعقوبات أن تسببها.
01- الحدود التي يفرضها القانون الدولي في أوقات النزاع المسلح عند فرض الحصار.
لم يتطرق القانون الدولي الإنساني إلى العقوبات الاقتصادية بالتحديد, ولم يتناول آثارها على السكان المدنيين على أنه عندما تفرض العقوبات في سياق نزاع مسلح دولي كان أو داخلي تطبق القواعد العامة المتعلقة بحماية المدنيين من آثار العمليات العسكرية، وهكذا فإن أي قرار بفرض مثل هذه التدابير ينبغي أن يأخذ بعين الاعتبار القانون الدولي الإنساني, وخاصة القواعد المتصلة بالإمدادات الطبية والغذائية إلى مختلف شرائح الأشخاص موضع الحماية.
وبالتالي فإن أي نظام للعقوبات أو الحصار يمكن أن يؤثر على السكان المدنيين ينبغي أن يتضمن ما يسمى "بالاستثناءات إنسانية"، وهذا الأمر ضروري سواء فرضت العقوبات بواسطة دولة أو بواسطة مجلس الأمن، فالدول ملزمة شأنها شأن مجلس الأمن بأن تأخذ بعين الاعتبار القواعد ذات الصلة بحماية السكان المدنيين, والجماعات المعرضة للخطر بين صفوف السكان المدنيين من آثار النزاع المسلح.
ومن أهم القواعد(6) نجد:
- أ- حظر تجويع السكان المدنيين: لا يجوز حرمان المدنيين من الحصول على الإمدادات الضرورية لحياتهم, فتجويع المدنيين كأسلوب للحرب يعتبر أمرا محظورا، وهكذا يحظر فرض التطويق أو الحصار أو أي نظام للعقوبات الاقتصادية بغرض تجويع السكان المدنيين.
- ب- الحق في المساعدة الإنسانية: للمدنيين الحق في تلقي المساعدة الإنسانية من خلال السماح للدول بمرور مواد الإغاثة بشروط معينة، والسماح للوكالات الإنسانية بتقديم المساعدة بشرط موافقة الأطراف، وتختلف الأحكام طبقا لما إذا كان النزاع المسلح دوليا أو غير دولي.
-
ب-1 بالنسبة للنزاعات المسلحة الدولية، فإنه تطبق القواعد التالية: - ب-1-1 تسمح الدول بحرية المرور لما يلي:
-
* البضائع الطبية وتلك الخاصة بالمستشفيات, والأشياء اللازمة للعبادة الموجهة إلى السكان المدنيين وحدهم.
* المواد الغذائية والملابس والمقويات الضرورية الموجهة إلى الأطفال دون الخامسة عشرة والنساء الحوامل وحالات الأمومة. -
ب-1-2 وسعت القاعدة المنصوص عليها في الفقرة (1) أعلاه بمقتضى البروتوكول الإضافي الأول لسنة 1977 لكي تشمل القيام بأعمال الإغاثة الإنسانية, لكن بشرط موافقة الأطراف المعنية إذا كان السكان المدنيون لا يتوفر لديهم ما يكفي من الملابس ووسائل النوم والإيواء, وغيرها من الإمدادات الضرورية لحياتهم والأشياء اللازمة للعبادة، وعلى أطراف النزاع وكل الدول أن تمسح وتسهل مرور شحنـات الإغاثة ومعداتها وأفرادها، كما يتعين على أطراف النزاع أن توفر الحماية لشحنات الإغاثة وأن تسهـل توزيعهـا بسرعة. -
ب-2 يجوز للجنة الدولية للصليب الأحمر وغيرها من المنظمات الإنسانية(7), وبشرط موافقة أطراف النزاع أن تقوم بأنشطة إنسانية لحماية الأشخاص المتمتعين بالحماية وإغاثتهم إما في النزاعات المسلحة غير الدولية, وتطبق القواعد التالية:
- تقدم مساعدات الإغاثة الإنسانية بشرط موافقة الدولة المعنية, وهذا إذا كان السكان المدنيون يعانون من مصاعب جمة بسبب نقص الإمدادات اللازمة لحياتهم, مثل المواد الغذائية والإمدادات الطبية.
- يجوز للجنة الدولية للصليب الأحمر وغيرها من المنظمات الإنسانية أن تقدم خدماتها لأطراف النزاع .
ج-1 أن على الدول أن تسمح بحرية المرور للمواد الغذائية الضرورية للأطفال والنساء الحوامل وحالات الأمومة, وكذلك الإمدادات الطبية والأشياء اللازمة للعبادة للسكـان المدنيين عمومـا.
ج-2 تجري أعمال الإغاثة الإنسانية بشرط موافقة الأطراف المعنية.
وتجدر الإشارة إلى المثال الواضح للعيان حاليا ما قامت وما تقوم به إسرائيل من حصار بحري لقطاع غزة، ومن الاعتداءات الكثيرة والمتكررة التي تمت على السفن، والتي نقلت مساعدات إنسانية لسكان القطاع.
- د- إمدادات الإغاثة للأراضي المحتلة :
وقد تطرقت اتفاقيات جنيف والبروتوكولين الإضافيين الملحقين بها إلى ضرورة توفير المواد الغذائية الضرورية وغيرها من المواد للسكان المدنيين في أوقات النزاع المسلح، مع ملاحظة بعض الاختلافات بين هذه الأحكام نجد أن المواد 59 من اتفاقية جنيف الرابعة, والمادة 70 من البروتوكول الإضافي الأول, والمادة 18(2) من البروتوكول الإضافي الثاني تسمح بالقيام بأعمال الإغاثة في ظروف معينة, بينما تسمح المادة 23 من اتفاقية جنيف الرابعة بتقديم سلع معينة و يحتاج تقديم شحنات الإغاثة بمقتضى المادة 70 من البروتوكول الإضافي الأول والمادة 18 (2) من البروتوكول الإضافي الثاني إلى موافقة الأطراف المعنية, بينما لا يشترط ذلك في تقديم السلع المنصوص عليها في المادة 23 أو إمدادات الإغاثة للسكان المدنيين في الأراضي المحتلة بمقتضى المادة 59 من اتفاقية جنيف الرابعة.
02- الحدود التي يفرضها القانون الدولي في زمن السلم عند فرض الحصار.
عند النظر إلى القواعد القابلة للتطبيق على نظم العقوبات في زمن السلم نجد أنها مستمدة من قانون حقوق الإنسان، ومن الضروري الإشارة إلى أن استخدام الحصار البحري أو الجوي لفرض نظام للعقوبات في زمن السلم لن يؤدي بالضرورة إلى تحويل الوضع من وضع سلمي إلى حالة نزاع مسلح، ذلك أن المرحلة التي ينبغي أن ينظر فيها إلى مثل هذا الحصار على أنه يخلق نزاعا مسلحا ليست واضحة سواء من حيث الممارسة أو من حيث المبدأ، فهذه مسألة تتعلق بالوقائع وبالقانون ويلزم النظر في كل حالة بحسب ظروفها، لكن أحد العناصر الحاسمة هي التي توضح ما إذا كان هناك قتال من أجل فرض أو تأمين الحصار.
وبهذا الصدد تعترف صكوك حقوق الإنسان(8) بالحق في الحياة والصحة والمستوى اللائق من المعيشة, بما فيه الغذاء والملبس والمسكن والرعاية الطبية والتحرر من الجوع .
وتفرض هذه الصكوك على الدول التزام بالعمل من أجل الوفاء بتلك الحقوق، وعلى مجلس الأمن أن يأخذ هذه الحقوق بعين الاعتبار عند وضع نظام للعقوبات, وأن عليه ألا يضع نظما للعقوبات تحرم الناس من هذه الحقوق.
ومن وجهة النظر الإنسانية, فإن الحاجة إلى أخذ هذه الحقوق بعين الاعتبار تبدو واضحة كل الوضوح, أما من وجهة النظر القانونية فإن المسألة أكثر تعقيدا إلى حد ما.
وعليه فإن أي نظام للعقوبات ينبغي ألا يحرم السكان من الحصول على الحد الأدنى من السلع والخدمات الأساسية اللازمة للإبقاء على حياتهم.
وفي هذا السياق تنص المادة 11 من العهد الدولي بشأن الحقوق الاقتصادية والثقافية على ما يلي:
01- تعترف الدول الأطراف في هذا العهد بحق كل إنسان في مستوى معيشي مقبول له ولأسرته, بما في ذلك الغذاء الكافي والملبس والمسكن, وكذلك حقه في التحسين المستمر لظروف معيشته، وسوف تتخذ الدول الأطراف الخطوات المناسبة لضمان إقرار هذا الحق, وهي تعترف في هذا الصدد بالأهمية الضرورية للتعاون الدولي المرتكز على الموافقة الحرة.
02- إن الدول الأطراف في هذا العهد تعترف بالحق الأساسي لكل إنسان في أن يكون متحررا من الجوع التي سوف تتخذ فرديا ومن خلال التعاون الدولي, كل ما يلزم من تدابير لغايات تحسين طرق إنتاج الغذاء وحفظه وتوزيعه عن طريق الاستفادة الكاملة من المعرفة التقنية والعلمية, ونشر المعرفة بمبادئ التغذية, وعن طريق تطوير النظم الزراعية أو إصلاحها بطريقة تجعل من الممكن تحقيق التنمية الفعالة للموارد الطبيعية واستخدامها، ومن أجل ضمان توزيع منصف لإمدادات الغذاء طبقا للحاجة إليها.
ويمكن القول بأن الحق في الغذاء والحق في التحرر من الجوع يفرضان التزاما على الدول بتقديم المواد الغذائية للمحتاجين، وأن وجود هذه الحقوق يعني أنه من المحظور أن يتم التصرف عمدا بطريقة تؤدي إلى حرمان الأفراد من الغذاء وتسبب الجوع.
وبالتوازي مع حق الفرد في الحياة والغذاء, نجد أن اتفاقية إبـادة الجنـس تحمي ما يمكن وصفه بأنه "الحق الجماعي في الحياة"، والذي يعنى التجويع عمدا لأي جماعة قومية أو عرقية أو عنصرية أو دينية إذا ما ارتكب بقصد تدمير هذه الجماعة, وهو ما يرد في تعريف إبادة الجنس وينطبق حظر إبادة الجنس في وقت السلم وفي زمن الحرب على السواء.
هذا ويظهر أن ممارسة مجلس الأمن تتجه إلى إدراج استثناءات إنسانية في نظم العقوبات الشاملة سواء فرضت هذه العقوبات أثناء نزاع مسلح أو في زمن السلم، وبعبارة أخرى فإن المخاوف الإنسانية سوف تؤخذ بعين الاعتبار سواء فرضت العقوبات أثناء النزاع المسلح أو في وقت السلم، ففي أوضاع النزاع المسلح يعبر عن هذه المخاوف الإنسانية بواسطة القانون الدولي الإنساني وفي وقت السلم يعبر عنها من خلال قانون حقوق الإنسان.
المحور الثاني: مدى تماشي الحصار المفروض في الأقاليم المحتلة مع الشرعية الدولية
أولا: التكييف القانوني للحصار على قطاع غزة
بموجب القانون الدولي العرفي يشكل الحصار عملا من أعمال الحرب، إذ تسمح الأعراف الدولية(9) للدولة المحتلة بالاستيلاء على الأراضي المحتلة، والقيام بكل ما تتضمنه القواعد العرفية المطبقة في مجال الحروب.
أما من وجهة نظر القانون الدولي ، فالحصار لا يكون مشروعا إلا في الحدود التي يفرضها القانون الدولي، وهي حالتي الحصار الاقتصادي المنصوص عليه في المادة 41 من ميثاق الأمم المتحدة، وحالة الحصار العسكري المنصوص عليه في المادة 42 من نفس الميثاق في إطار العقوبات المطبقة من طرف مجلس الأمن، لكن شريطة أن يكون هناك إخلال بالأمن والسلم الدوليين.
وعليه فإن الحصار المفروض على قطاع غزة لا يدخل ضمن الحالات المشروعة للحصار، وهذا ما أكدته محكمة العدل الدولية في مناسبات كثيرة على الحقوق الفلسطينية الثابتة، وتضمنت أحكام أعلى هيئة قضائية في العالم حيثيات سببت بموجبها عدم شرعية ممارسات الدولة العبرية ضد الفلسطينيين، كما أن فرض الحصار من قبل إسرائيل على فلسطين لا يجوز من الناحية الدولية، إذ أن ذلك يتنافى والواجبات الدولية، وكذا مبدأ حظر استخدام القوة في العلاقات الدولية المنصوص عليه في المادة الثانية / الفقرة الرابعة بقولها:" يمتنع أعضاء الهيئة جميعا في علاقاتهم الدولية عن التهديد باستعمال القوة أو استخدامها ضد سلامة الأراضي، أو الاستقلال السياسي للدولة، وعلى أي وجه أخر لا يتفق ومقاصد الأمم المتحدة"، وفي إطار القيام بالواجبات الدولية الملقاة على عاتق كل دولة تنتمي إلى حظيرة المجتمع الدولي، والمنصوص عليها في ميثاق الأمم المتحدة ، فإنه يمنع منعا باتا على أي دولة استعمال القوة ضد دولة أخرى، إلا في الإطار القانوني المسموح به ( حالة الدفاع الشرعي طبقا لنص المادة 51 من الميثاق).
غير أن إسرائيل باعتبارها سلطة قائمة بالاحتلال(10) في قطاع غزة، فإنها تعتمد في تأكيد شرعية الحصار الإسرائيلي على مدى إمكانية السلطة القائمة بالاحتلال أن تعلن الحرب على الأراضي التي تحتلها، ومن ثمة ومن باب أولى فرض عمليات الحصار(11)، كما هو الشأن بالنسبة لسيطرتها على خمس معابر حدودية مع قطاع غزة أهمها معبر رفح.
إن التكييف الذي قدمته إسرائيل حول حقيقة شرعية الحصار يندرج ضمن المفهوم الحديث للدفاع الشرعي، والذي اعتمدته الولايات المتحدة الأمريكية تحت مسمى (الدفاع الشرعي الوقائي )، وهو تحوير لمفهوم الدفاع الشرعي المنصوص عليه في المادة 51 من الميثاق.
ثانيا: خرق الحصار للمعاهدات والمواثيق الدولية
جاءت ديباجة ميثاق الأمم المتحدة بمثابة إعلان لنهاية عصر الاستعمار والاستبداد، والتحول من مرحلة الحكم الذاتي إلى الاستقلال التام، فذكر الميثاق:" نحن شعوب الأمم المتحدة ، وقد ألينا على أنفسنا أن ننقذ الأجيال المقبلة من ويلات الحرب التي في خلال جيل واحد جلبت على الإنسانية مرتين أحزانا يعجز عنها الوصف، وأن نؤكد من جديد إيماننا بالحقوق الأساسية للإنسان وبكرامة الفرد وقدره وبما للرجال والنساء والأمم كبيرها وصغيرها من حقوق متساوية، وأن نبين الأحوال التي يمكن في ظلها تحقيق العدالة واحترام الالتزامات الناشئة عن المعاهدات وغيرها من مصادر القانون الدولي، وأن ندفع بالرقي الاجتماعي قدما، وأن نرفع مستوى الحياة في جو من الحرية أفسح، وفي سبيل هذه الغايات اعتزمنا: أن نأخذ أنفسنا بالتسامح، وأن نعيش معا في سلام وحسن جوار، وأن نضم قوانا كي نحتفظ بالسلم والأمن الدولي، وأن نكفل بقبولنا مبادئ معينة ورسم الخطط اللازمة لها ألا تستخدم القوة المسلحة في غير المصلحة المشتركة، وأن نستخدم الأداة الدولية في ترقية الشؤون الاقتصادية والاجتماعية للشعوب جميعها، قد قررنا أن نوحد جهودنا لتحقيق هذه الأغراض".
وجاءت المادة الثالثة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لتفرض مبدأ هام مؤداه أن:" لكل فرد حق في الحياة والحرية وفي الأمان على شخصه"، و تناغمت المادة الخامسة و التاسعة مع المبادئ الدولية في حق الشعوب في تقرير مصيرها بالقول:" لا يجوز إخضاع أحد للتعذيب ولا للمعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو الإحاطة بالكرامة"، وكذلك " لا يجوز اعتقال أي إنسان أو حجزه أو نفيه تعسفا"، و جدير بالذكر أن الاتفاقية الدولية لحقوق الطفل نصت على:" للطفل حق في تلقي التعليم الذي يجب أن يكون مجانيا وإلزاميا في مراحله الابتدائية على الأقل، وأن يستهدف رفع ثقافة الطفل العامة وتمكينه على أساس تكافؤ الفرص من تنمية ملكاته وفصاحته وشعوره بالمسؤولية الأدبية والاجتماعية، ومن أن يصبح عضوا مفيدا في المجتمع، ويجب أن تكون مصلحة الطفل العليا هي المبدأ الذي يسترشد به المسئولون عن تعليمه وتوجيهه، وتقع هذه المسؤولية بالدرجة الأولى على أبويه".
ويجب أن تتاح للطفل فرصة كاملة للعب واللهو اللذين يجب أن يوجها نحو أهداف التعليم ذاتها، وعلى المجتمع والسلطات العامة السعي لتيسير التمتع بهذا الحق.
وبتطبيق المواد القانونية المذكورة، نجد أن الدولة العبرية (12) قد هدمت هذه النصوص وغالت في عدم الانصياع لها نصاً و روحاً. . . مما يشكل خرقاً وضاحاً لمبادئ القانون الدولي، والمعاهدات و المواثيق الدولية وبالتالي الإخلال بالشرعية الدولية (13).
الخاتمة:
وفي الأخير وعلى ضوء دراسة هذا الموضوع ، فإنه يمكن القول بأن ما يجري بحق الشعب الفلسطيني والحصار المفروض عليه من قبل إسرائيل يمثل بحق النموذج الدولي في قمة الذروة لانتهاك الشرعية الدولية، وأقصى حالات التهديد للسلم والأمن الدوليين، والذي طالما نادت به هيئة الأمم المتحدة كأحد أبرز الأهداف والمطالب الرئيسية لها .
إن تعامل الأمم المتحدة مع الحصار المفروض على غزة هو بمثابة دراسة حالة فريدة وحديثة جدا، وفي هذه الحالة بالذات إما أن نكون أمام أبرز جهاز رئيسي للهيئة، وهو جهاز مجلس الأمن الدولي الذي سمح بدون قصد لدولة واحدة بتغيير القانون الدولي الإنساني، وتحدي نظام القانون القائم والتمرد على قواعد القانون الدولي من دون أدنى عقوبة (توجيه توبيخ مثلا)، وإما أمام حالة ثانية هي بمثابة تعدي على صلاحيات مجلس الأمن الدولي من خلال تقويض شرعيته، وشرعية القانون الدولي من خلال فشله في الحفاظ على سيادة القانون ومقاومة هذا التحدي باسم الحفاظ على السلم والأمن الدوليين.
الهوامش والمراجع:
(1)- أنظر: جمال عبد الناصر مانع، التنظيم الدولي، دار العلوم للنشر والتوزيع عنابة، 2006، ص:207.
(2)- تنص المادة 42 من ميثاق الأمم المتحدة على:" إذا رأى مجلس الأمن أن التدابير المنصوص عليها في المادة 41 لا تفي بالغرض أو ثبت أنها لم تف به، جاز له أن يتخذ بطريق القوات الجوية والبحرية والبرية من الأعمال ما يلزم لحفظ السلم والأمن الدولي أو لإعادته إلى نصابه، ويجوز أن تتناول هذه الأعمال المظاهرات والحصر والعمليات الأخرى بطريق القوات الجوية أو البحرية أو البرية التابعة لأعضاء الأمم المتحدة".
(3)- أنظر: كمال حداد, النزاع المسلح والقانون الدولي العام, بيروت, المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع, 1997, ص:79.
(4)- أنظر: محمد شريف, التوجه إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة لمحاسبة إسرائيل على أعمالها في غزة, سويس إنفو, 18 فبراير 2009.
http://www.swissinfo.org/ara/front.h...62226000&ty=st
(5)- أنظر: مصطفي أحمد فؤاد وآخرون, القانون الدولي الإنساني.. آفاق وتحديات, الجزء الثاني, بيروت, منشورات الحلبي الحقوقية, 2005, ص:134
(6)- أنظر: عبد الله الأشعل وآخرون, القانون الدولي الإنساني، آفاق وتحديات, الجزء الثالث, بيروت, منشورات الحلبي الحقوقية, 2005, ص:911
(7)- أنظر: عبد الله الأشعل وآخرون ، المرجع نفسه ، ص ،ص: 913، 914.
(8)- أنظر: سوسن تمرخان بكة, الجرائم ضد الإنسانية في ضوء أحكام النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية, بيروت, منشورات الحلبي الحقوقية, 2006, ص:54.
(9)- أنظر: بن صغير عبد المومن، المقاربة الثنائية لحماية وتشجيع الاستثمار الأجنبي ، مذكرة لنيل شهادة الماجستير في الحقوق ، تخصص القانون الدولي والعلاقات الدولية ، كلية الحقوق والعلوم السياسية بجامعة الدكتور مولاي الطاهر بسعيدة، 2010 ص:44.
(10)- أنظر: جرائم الحرب في غزة.. التبعات والنتائج, الشرق الأوسط, الشركة السعودية للأبحاث والتسويق, العدد 11013, 22 يناير 2009.
http://www.asharqalawsat.com/leader....article=503940
(11)-Voir: ‘Des Crimes De Guerre ' Commis Gaza, Selon L'ONU, France
Télévision, 2009, http://info.france.2fr/proche-orient/50769380-fr.php.
(12)- أنظر: ساسي جاد عبد الرحمن واصل, إرهاب الدولة في إطار القانون الدولي العام, الإسكندرية, منشأة المعارف, 2003, ص:12.
(13)- أنظر: عبد الرحمن لحرش, المجتمع الدولي.. التطور والأشخاص, الجزائر, عنابة, دار العلوم, 2007, ص:28.