أهمية الثقافة السياسية
مع مطلع الستينات من القرن الماضي و مع بروز ما أطلق عليه بالثورة السلوكية ، عرف مجال علم السياسة بروز مفهوم الثقافة السياسية كمؤشر قوي لتحول جوهري من دراسة المؤسسات الرسمية إلى دراسة السلوك غير الرسمي الذي يضفي الحيوية على هذه المؤسسات ، ذلك أن هذا المفهوم بشر بإمكانية توحيد هذا العلم عن طريق ربط سلوك الأفراد بالنظام الذي يعيشون فيه و يشكلون جزءا منه .و بذلك أصبح مفهوم الثقافة السياسة له ارتباط وثيق بالانتقال الديمقراطي و الاستقرار السياسي لمجموعة من الدول ، كما أنه لعب دورا مهما في توجيه مسار التجارب السياسة عبر انتشار الأفكار و القيم و المفاهيم التي تحكمه (المطلب الأول ) ، ورغم إسهاماته في الإنماء الديمقراطي و الاستقرار السياسي لمجموعة من المجتمعات التي تحققت فيها الديمقراطية، فقد تعرض لانتقادات عديدة أدى إلى تراجعه من الوسط الأكاديمي حيث اعتبر مفهوما محافظا ، يتجاهل علاقات القوة ، ويعجز عن تفسير التغير الاجتماعي (المطلب الثاني) .
المطلب الأول:أهمية الثقافة السياسية و قيمها:
. يعتقد غابريل ألموند أن أي ثقافة من الثقافات تضم ثلاثة جوانب، جانب معرفي يتعلق بمعارف المرء عن النظام السياسي، وجانب شعوري يخص التعلق الشخصي بالقادة والمؤسسات، وجانب تقييمي يشمل الأحكام والآراء التقييمية عن الظواهر السياسية. و بذلك فالثقافة السياسية عند هذا المنظر هي مجموع ما يملكه الفرد من معارف عن النظام السياسي، ومشاعر إيجابية أو سلبية نحو القادة والمؤسسات ، وأحكام تقييمية بشأن الظواهر والعمليات السياسية.
لذلك تعتبر الثقافة السياسية من بين أهم الآليات لتحقيق الانتقال الديمقراطي (الفرع الأول) حيث تشتمل على مجموعة من القيم تعتبر حاضنة و مدعمة لهذا الانتقال(الفرع الثاني).
الفرع الأول : أهمية الثقافة السياسية :
للثقافة السياسية دور مهم في تشكيل الأنظمة السياسية حيث أنها " تلعب دورا مهما في توجيه مسار التجارب السياسية. و عليه ، لايمكن الحديث عن الديمقراطية بمعزل عن طبيعة الأفكار و القيم و المفاهيم التي تحكمها . و بما أن الديمقراطية مرتبطة بالمحيط الذي تمارس فيه ، فان الانتقال الديمقراطي يتوقف على الثقافة السائدة ، أهي حاضنة له أم طاردة و معارضة لقيمه، المتمثلة في الحرية و التسامح و المساواة و التكافؤ و العدالة و الإيمان بالمؤسسات و تقديس المبادرة الحرة ، إذ أن الديمقراطية لم تتبلور عموما إلا بعد فترات زمنية من ترسيخ هذه القيم و انتشارها ."[[1]]url:#_ftn1
فالثقافة السياسية تعكس منظومة تفاعل الأفراد بصفتهم وكلاء اجتماعيين يتبادلون التأثر والتأثير فيما بينهم في إطار أوضاع اجتماعية، أو كما يسميها بورديو «الميدان»، أي ميدان التأثير والتفاعل ،وهذا التفاعل وإن كان في وسط اجتماعي واحد فهو ينبعث من أنماط حياة مختلفة. وبغض النظر عن المستوى التعليمي أو مستوى التقدم التقني أو حتى نوع النظام السياسي، فإن هذه الأنماط تأخذ صوراً مختلفة من الثقافات السياسية المتنافسة، وتتضح في الواقع في أنماط من التوجه نحو القضايا السياسية والعمل السياسي بما يشكل مجموع السلوكيات والتوجهات نحو السلطة، أي ما تفعله أو ما يتوجب أن تفعله.[[2]]url:#_ftn2
لقد أثبتت التجارب التاريخية التي حققت الديمقراطية الكلاسيكية و الممارسات الحديثة للانتقال الديمقراطي الدور الكبير الذي لعبته قيم الثقافة السياسية في إرساء الديمقراطية و احتضان مؤسساتها و قيمها ، و استمراريتها .
فإذا كان الانتقال الديمقراطي يحتاج إلى مجموعة من الضمانات القانونية و الدستورية و السياسية القائمة على مجموعة من المقومات كالمساواة و الحرية و العقلانية، فان ترسيخ هذه المقومات تحتاج إلى قيم تكون حاضنة و مدعمة لها.
الفرع الثاني: قيم الثقافة السياسية:
تشمل الثقافة السياسية المؤسسة للانتقال الديمقراطي مجموعة من القيم نذكر منها:
- أولا : قيمة الحرية و العقلانية:
تؤكد الثقافة السياسية على قيمة الحرية حيث إن طاعة الفرد للسلطة الحاكمة تكون على أساس الاقتناع وليس الخوف، ويكون بذلك لدى الفرد إحساس بالقدرة على التأثير في مجريات الحياة السياسية والمشاركة الإيجابية و تحقيق التناغم مع السلطة الحاكمة،في حين أن غياب الحرية يجعل الفرد ينصاع للسلطة بدافع الخوف ، ومن هنا يفتقد الإحساس بالقدرة على التأثير السياسي.
على أن هذه الحرية تعتمد على العقلانية و تبني الأسلوب العلمي في اتخاذ القرارات ، فالحرية مع استحضار العقل لتفسير الظواهر السياسية تعد أساسية لأي انتقال ديمقراطي "إن تفعيل الانتقال الديمقراطي يرتهن بجعل الانتقال الديمقراطي الرشيد جزءا من السلوك الإنساني ، و بترسيخه بشكل تدريجي ، و بتراجع ما هو تقليدي ، من أوهام رومانسية و غموض في المنطلقات و الأهداف و محاباة و زبونية ، و عدم المسؤولية و اللاعقلانية في اتخاذ القرارات ، و بتحول العقل السياسي من التجريدية إلى التجريبية."[[3]]url:#_ftn3
- ثالثا: قيمة المشاركة:
لقد أثبتت الدراسة التي قام بها كل من غابرييل الموند و سيدني فيربا بان الدول الديمقراطية يتميزا فرادها بثقافة سياسية مشاركة مهتمة بتشكيل النظام السياسي و انشغالاته و قراراته ، و مشاركتهم في مختلف الحملات و الشؤون الحزبية و النقابية ، علاوة على الاهتمام السياسي و الإعلامي و تكون الرأي العام .
إن الثقافة السياسية المشاركة تعتبر من أهم القيم التي تساهم في الإنماء الديمقراطي، و دعامة أساسية في الانتقال الديمقراطي و الاستقرار السياسي، فهي "ترتبط بالثقة بالنفس، و بالإحساس بالجدارة عند المواطنين، المترجم بإيمانهم بان نشاطهم السياسي قد يحدث بالفعل تغييرا في سياسة الحكم "[[5]]url:#_ftn5 .
و رغم ما نشاهده اليوم في الكثير من الأنظمة الديمقراطية من انخفاض مستوى المشاركة السياسية و العزوف المقصود لمجموعة من النخب في المشاركة الانتخابية ، إلا أن الحياة السياسية لهذه المجتمعات تبقى مفتوحة للتنافسية و المشاركة السياسية بواسطة آليات أخرى كالرأي العام و الصحافة و هيئات المجتمع المدني و مؤسسة القضاء...
المطلب الثاني : الثقافة السياسية : الإسهامات و الانتقادات :
"يرتبط التحول الديمقراطي قي صيرورته و تفاعلاته ، بتحولات و تغيرات متعددة في النسق السياسي، الذي لا ينفصل بدوره عن الأنساق الاجتماعية الأخرى ، تحولات تنصب في إطار تراجع البنيات و الأساليب التقليدية لإدارة السلطة ن و ترسيخ مؤسسات و قواعد و آليات حديثة تتضمن مشاركة فعلية للمواطنين في تشكيل المؤسسات و صناعة السياسات العامة "[[6]]url:#_ftn6
لقد ساهم مفهوم الثقافة السياسية في إرساء مقومات و مرتكزات الديمقراطية ، حتى أصبحت هذه الدول تعيش استقرارا و تأهيلا سياسيا كان نتيجة لانتشار قيم الاعتدال و التسامح و الفعالية و المشاركة (الفرع الأول ) غير انه لا زال يطرح عدة إشكالات بالنسبة للباحثين في علم السياسة مما جعله يتعرض لانتقادات عديدة (الفرع الثاني) .
الفرع الأول : إسهامات الثقافة السياسية :
في إطار ما ساهمت به الثقافة السياسية يمكن الحديث عن :
- أولا: الثقافة السياسية و الاستقرار السياسي:
"لا يمكن لأي نسق سياسي أن يستمر في الوجود إلا إذا كانت مرتكزا ته متوائمة مع الثقافة السياسية السائدة في المجتمع "[[7]]url:#_ftn7 .
لقد ساهمت الثقافة السياسية الداعمة في استقرار الأنظمة السياسية ، حيث أن النظام القائم علي الحرية و المساواة و العدالة و العقلانية في اختيار البرامج السياسية لا يمكن له إلا أن يدوم لفترة طويلة ، عكس النظام القائم على الخوف و القوة فانه يشهد اضطرابات سياسية دائمة و انقلابات عسكرية تكاد تكون دورية للاستيلاء على السلطة .
لقد استطاع غابرييل الموند و سيدني فيربا في كتابهما "الثقافة المدنية "الصادرعام 1963 والمستند على عمليات مسح أجريت في كل من الولايات المتحدة ، وبريطانيا، وألمانيا الغربية، وايطاليا والمكسيك. وقد تصدت الدراسة لسؤال مهم هو: لماذا عاشت الديمقراطية في فترة ما بين الحربين في الولايات المتحدة و بريطانيا، بينما كانت تنهار في القارة الأوروبية، و كانت الإجابة حول مقولة أن النظام الديمقراطي المستقر يتطلب ثقافة سياسية متوازنة تجمع بين كل التوجهات.
إن الفكرة الجوهرية في كتاب الموند وفيربا هي أن الديمقراطية أثبتت بأنها أكثر استقراراً في المجتمعات التي تزوّد فيها الثقافات المحدودة والخاضعة بثقل مضاد من حيث الجوهر للثقافة المشاركة. وهذا الخليط يطلق عليه (الثقافة المدنية ـ civic culture).
في هذا التركيب المثالي، يكون المواطنون فاعلين بدرجة كافية في السياسية للتعبير عن خياراتهم المفضّلة لحكامهم ولكنهم ليسوا ضالعين في رفض قبول القرارات التي لا يتفقون معها.
لقد طوّر بوتنام (Putnam) عام 1993 مقاربة ألموند وفيربا، مستعملاً إيطاليا كمثال له. وقد أوضح كيف أن الثقافة السياسية الداعمة تعزز بصورة مباشرة أداء وأيضاً استقرار أي نظام سياسي .
- ثانيا :الثقافة السياسية و التأهيل السياسي :
يعرّف التأهيل السياسي على أنه عملية نتعلم من خلالها السياسة، وهي تتعلق باكتساب العواطف والهويات والمهارات وأيضا المعلومات ، فالأبعاد الرئيسية في عملية التأهيل هي ماذا يتعلم الناس (المحتوى)، ومتى يتعلموا (التوقيت والتسلسل)، ومن أين يتعلموا (الأدوات أو الوسائط). إن أكثر الدراسات المتعلقة بالتأهيل السياسي مشتقة من النموذج الأولي القائم على فرضية أن ما نتعلمه في حال الشباب يزوّدنا بمنظار نفسّر عبره التجربة اللاحقة.
إن التأهيل السياسي هو وسيلة يتم من خلالها نقل الثقافة السياسية عبر الأجيال
حيث يتموضع عبر مؤسسات مختلفة، العائلة، الجماعة المتماثلة، ومكان العمل إلى جانب التعليم الرسمي. إنه يتأثر إلى حد كبير بسياق التواصل ، فعلى سبيل المثال، إن سلوك الأطفال إزاء السياسة سيكون منفعلاً إلى حد كبير بواسطة تجربتهم في السلطة داخل البيت والمدرسة وهكذا بواسطة ما يقوله لهم الآباء والمدرسون حيث تتطور العواطف السياسية و الهويات إلى جانب اكتساب المعلومات.
إن النظرة الأولية للتأهيل السياسي هي أن الو لاءات السياسية الأساسية تتشكل في مرحلة الشباب
حيث إن التعليم في مرحلة الطفولة هو (تعليم عميق) لأنه يشكّل إطاراً لتفسير المعلومات المكتسبة في مرحلة البلوغ. إن الهويات السياسية الأصلية تتطور في الطفولة المبكرة، حيث تكون العائلة هي مصدر التأثير الحاسم في الطفل. أما في الطفولة المتأخرة، فإن هذه الملحقات مضافة عن طريق الزيادة الملحوظة في المعلومات.
فأولى الأعمال التي ربطت بين الثقافة السياسية و التنشئة السياسية ترجع إلى سنة 1959 حيث أكد "Herbert .H. Hyuman"بان الأفراد يتعلمون المواقف السياسية في وقت جد مبكر من حياتهم ، حيث يكون تعلمهم لها بشكل كامل ، و بعد ذلك تأخذ هذه المواقف في الانبثاق و التجلي ، معنى ذلك ، إن مواقف الكبار السياسية هي نفسها تلك التي تلقوها وهم صغار عبر التنشئة السياسية "[[8]]url:#_ftn8
إن المؤثر الرئيسي في المراهقين هي في إعادة تصفية الإدراك المفهومي للطفل، بناءً على المعلومات التي حصل عليها. ففي المراحل الثلاث من التأهيل: الطفولة المبكرة، الطفولة المتأخرة، والمراهقة، تؤهّل الطفل للمشاركة السياسية في حياة البالغين السياسية .
الفرع الثاني: نقد الثقافة السياسية:
لقد تعرض مفهوم الثقافة السياسية إلى انتقادات عديدة من طرف الباحثين ، ولعل أشدها كانت تلك التي وجهها له برنار بادي حيث يرى أن الثقافة المدنية المستوعبة كمجموع من السلوكيات الفردية اتجاه الديمقراطية كما تم رصدها عبر تقنية "سبر الرأي العام" ، لا تترك مكانا لا للمؤسسات و لا لتأثير التفاعلات الاجتماعية حيث يتم اعتبارها كانعكاس محض للسلوكيات الفردية .
"فالموند و فيربا و تأسيسهما للثقافة المدنية كنسق للسلوكيات الامبريقية التي تم ملاحظتها في المجتمعات الأكثر استقرار و ديمقراطية ، يدعيان تجاوز البناءات المعيارية "constructions normatives" اللصيقة بالنظرية الكلاسيكية للديمقراطية ، و ذلك قصد بلورة نظرية امبريقية أكثر موضوعية ، غير أن المشروع يظل عرضة لكثير من مظاهر الإخفاق ، فالباحثان لم يستطيعا تفسير العلاقة الموجودة بين السلوكيات الفردية و خلق و استقرارية المؤسسات الديمقراطية ، إضافة إلى أن النموذج الذي يصوغانه للديمقراطية في اكبر خطوطه يعيد إنتاج النظرية الكلاسيكية للديمقراطية الليبرالية التمثيلية التي تزدهر في سياق ثقافة تجمع بين الاختلاف و المشاركة" [[9]]url:#_ftn9 .
كما أن نموذج التنشئة السياسية الذي أنشاه دافيد استون اعتبر من طرف عدة باحثين نموذجا معبرا عن المجتمع الأمريكي فقط ، و لا يمكن إخضاع المجتمعات الأخرى له ، و لقد أثبتت أبحاث "Annick percheron" و "Charles roig" أن النموذج الاستوني غير قابل للتعميم عبر تأكيدهما أن مرحلة" التشخيص" هي ضعيفة نسبيا لدى الطفل الفرنسي ، هذا" التشخيص" الذي يتقوى كلما نقدم الطفل في السن، وهي خلاصة تناقض الخلاصات التي توصل إليها D.Easton.[[10]]url:#_ftn10
كما يؤكد B.Badie أن الربط بين" الثقافة" و "التنشئة" معناه جعل الثقافة أداة للحفاظ على الوضع القائم من جهة ، و من جهة أخرى إفراغ الثقافة من طابعها السياسي بشحنها بحمولة تقنية.
إن التمييز بين الثقافات يفيد في آخر المطاف أن تطور الثقافات لا يمكن أن يتم بشكل داخلي ، و هذا يفيد انه ليس هناك إمكانية لتطور الثقافات إلا من "الخارج "، و هنا يجد الاستعمار الثقافي تبريرا جديدا لتواجده ، و لكن هاته المرة باسم "التنمية السياسية"
إن الانتقادات الكثيرة التي تعرض لها مفهوم الثقافة السياسية من قبل الباحثين جعله يتراجع من الوسط الأكاديمي ، و لا يتم الحديث عنه في الكتابات التي تتناول التنمية و الحداثة السياسية .
مع مطلع الستينات من القرن الماضي و مع بروز ما أطلق عليه بالثورة السلوكية ، عرف مجال علم السياسة بروز مفهوم الثقافة السياسية كمؤشر قوي لتحول جوهري من دراسة المؤسسات الرسمية إلى دراسة السلوك غير الرسمي الذي يضفي الحيوية على هذه المؤسسات ، ذلك أن هذا المفهوم بشر بإمكانية توحيد هذا العلم عن طريق ربط سلوك الأفراد بالنظام الذي يعيشون فيه و يشكلون جزءا منه .و بذلك أصبح مفهوم الثقافة السياسة له ارتباط وثيق بالانتقال الديمقراطي و الاستقرار السياسي لمجموعة من الدول ، كما أنه لعب دورا مهما في توجيه مسار التجارب السياسة عبر انتشار الأفكار و القيم و المفاهيم التي تحكمه (المطلب الأول ) ، ورغم إسهاماته في الإنماء الديمقراطي و الاستقرار السياسي لمجموعة من المجتمعات التي تحققت فيها الديمقراطية، فقد تعرض لانتقادات عديدة أدى إلى تراجعه من الوسط الأكاديمي حيث اعتبر مفهوما محافظا ، يتجاهل علاقات القوة ، ويعجز عن تفسير التغير الاجتماعي (المطلب الثاني) .
المطلب الأول:أهمية الثقافة السياسية و قيمها:
. يعتقد غابريل ألموند أن أي ثقافة من الثقافات تضم ثلاثة جوانب، جانب معرفي يتعلق بمعارف المرء عن النظام السياسي، وجانب شعوري يخص التعلق الشخصي بالقادة والمؤسسات، وجانب تقييمي يشمل الأحكام والآراء التقييمية عن الظواهر السياسية. و بذلك فالثقافة السياسية عند هذا المنظر هي مجموع ما يملكه الفرد من معارف عن النظام السياسي، ومشاعر إيجابية أو سلبية نحو القادة والمؤسسات ، وأحكام تقييمية بشأن الظواهر والعمليات السياسية.
لذلك تعتبر الثقافة السياسية من بين أهم الآليات لتحقيق الانتقال الديمقراطي (الفرع الأول) حيث تشتمل على مجموعة من القيم تعتبر حاضنة و مدعمة لهذا الانتقال(الفرع الثاني).
الفرع الأول : أهمية الثقافة السياسية :
للثقافة السياسية دور مهم في تشكيل الأنظمة السياسية حيث أنها " تلعب دورا مهما في توجيه مسار التجارب السياسية. و عليه ، لايمكن الحديث عن الديمقراطية بمعزل عن طبيعة الأفكار و القيم و المفاهيم التي تحكمها . و بما أن الديمقراطية مرتبطة بالمحيط الذي تمارس فيه ، فان الانتقال الديمقراطي يتوقف على الثقافة السائدة ، أهي حاضنة له أم طاردة و معارضة لقيمه، المتمثلة في الحرية و التسامح و المساواة و التكافؤ و العدالة و الإيمان بالمؤسسات و تقديس المبادرة الحرة ، إذ أن الديمقراطية لم تتبلور عموما إلا بعد فترات زمنية من ترسيخ هذه القيم و انتشارها ."[[1]]url:#_ftn1
فالثقافة السياسية تعكس منظومة تفاعل الأفراد بصفتهم وكلاء اجتماعيين يتبادلون التأثر والتأثير فيما بينهم في إطار أوضاع اجتماعية، أو كما يسميها بورديو «الميدان»، أي ميدان التأثير والتفاعل ،وهذا التفاعل وإن كان في وسط اجتماعي واحد فهو ينبعث من أنماط حياة مختلفة. وبغض النظر عن المستوى التعليمي أو مستوى التقدم التقني أو حتى نوع النظام السياسي، فإن هذه الأنماط تأخذ صوراً مختلفة من الثقافات السياسية المتنافسة، وتتضح في الواقع في أنماط من التوجه نحو القضايا السياسية والعمل السياسي بما يشكل مجموع السلوكيات والتوجهات نحو السلطة، أي ما تفعله أو ما يتوجب أن تفعله.[[2]]url:#_ftn2
لقد أثبتت التجارب التاريخية التي حققت الديمقراطية الكلاسيكية و الممارسات الحديثة للانتقال الديمقراطي الدور الكبير الذي لعبته قيم الثقافة السياسية في إرساء الديمقراطية و احتضان مؤسساتها و قيمها ، و استمراريتها .
فإذا كان الانتقال الديمقراطي يحتاج إلى مجموعة من الضمانات القانونية و الدستورية و السياسية القائمة على مجموعة من المقومات كالمساواة و الحرية و العقلانية، فان ترسيخ هذه المقومات تحتاج إلى قيم تكون حاضنة و مدعمة لها.
الفرع الثاني: قيم الثقافة السياسية:
تشمل الثقافة السياسية المؤسسة للانتقال الديمقراطي مجموعة من القيم نذكر منها:
- أولا : قيمة الحرية و العقلانية:
تؤكد الثقافة السياسية على قيمة الحرية حيث إن طاعة الفرد للسلطة الحاكمة تكون على أساس الاقتناع وليس الخوف، ويكون بذلك لدى الفرد إحساس بالقدرة على التأثير في مجريات الحياة السياسية والمشاركة الإيجابية و تحقيق التناغم مع السلطة الحاكمة،في حين أن غياب الحرية يجعل الفرد ينصاع للسلطة بدافع الخوف ، ومن هنا يفتقد الإحساس بالقدرة على التأثير السياسي.
على أن هذه الحرية تعتمد على العقلانية و تبني الأسلوب العلمي في اتخاذ القرارات ، فالحرية مع استحضار العقل لتفسير الظواهر السياسية تعد أساسية لأي انتقال ديمقراطي "إن تفعيل الانتقال الديمقراطي يرتهن بجعل الانتقال الديمقراطي الرشيد جزءا من السلوك الإنساني ، و بترسيخه بشكل تدريجي ، و بتراجع ما هو تقليدي ، من أوهام رومانسية و غموض في المنطلقات و الأهداف و محاباة و زبونية ، و عدم المسؤولية و اللاعقلانية في اتخاذ القرارات ، و بتحول العقل السياسي من التجريدية إلى التجريبية."[[3]]url:#_ftn3
- ثانيا: قيمة المساواة:
- ثالثا: قيمة المشاركة:
لقد أثبتت الدراسة التي قام بها كل من غابرييل الموند و سيدني فيربا بان الدول الديمقراطية يتميزا فرادها بثقافة سياسية مشاركة مهتمة بتشكيل النظام السياسي و انشغالاته و قراراته ، و مشاركتهم في مختلف الحملات و الشؤون الحزبية و النقابية ، علاوة على الاهتمام السياسي و الإعلامي و تكون الرأي العام .
إن الثقافة السياسية المشاركة تعتبر من أهم القيم التي تساهم في الإنماء الديمقراطي، و دعامة أساسية في الانتقال الديمقراطي و الاستقرار السياسي، فهي "ترتبط بالثقة بالنفس، و بالإحساس بالجدارة عند المواطنين، المترجم بإيمانهم بان نشاطهم السياسي قد يحدث بالفعل تغييرا في سياسة الحكم "[[5]]url:#_ftn5 .
و رغم ما نشاهده اليوم في الكثير من الأنظمة الديمقراطية من انخفاض مستوى المشاركة السياسية و العزوف المقصود لمجموعة من النخب في المشاركة الانتخابية ، إلا أن الحياة السياسية لهذه المجتمعات تبقى مفتوحة للتنافسية و المشاركة السياسية بواسطة آليات أخرى كالرأي العام و الصحافة و هيئات المجتمع المدني و مؤسسة القضاء...
المطلب الثاني : الثقافة السياسية : الإسهامات و الانتقادات :
"يرتبط التحول الديمقراطي قي صيرورته و تفاعلاته ، بتحولات و تغيرات متعددة في النسق السياسي، الذي لا ينفصل بدوره عن الأنساق الاجتماعية الأخرى ، تحولات تنصب في إطار تراجع البنيات و الأساليب التقليدية لإدارة السلطة ن و ترسيخ مؤسسات و قواعد و آليات حديثة تتضمن مشاركة فعلية للمواطنين في تشكيل المؤسسات و صناعة السياسات العامة "[[6]]url:#_ftn6
لقد ساهم مفهوم الثقافة السياسية في إرساء مقومات و مرتكزات الديمقراطية ، حتى أصبحت هذه الدول تعيش استقرارا و تأهيلا سياسيا كان نتيجة لانتشار قيم الاعتدال و التسامح و الفعالية و المشاركة (الفرع الأول ) غير انه لا زال يطرح عدة إشكالات بالنسبة للباحثين في علم السياسة مما جعله يتعرض لانتقادات عديدة (الفرع الثاني) .
الفرع الأول : إسهامات الثقافة السياسية :
في إطار ما ساهمت به الثقافة السياسية يمكن الحديث عن :
- أولا: الثقافة السياسية و الاستقرار السياسي:
"لا يمكن لأي نسق سياسي أن يستمر في الوجود إلا إذا كانت مرتكزا ته متوائمة مع الثقافة السياسية السائدة في المجتمع "[[7]]url:#_ftn7 .
لقد ساهمت الثقافة السياسية الداعمة في استقرار الأنظمة السياسية ، حيث أن النظام القائم علي الحرية و المساواة و العدالة و العقلانية في اختيار البرامج السياسية لا يمكن له إلا أن يدوم لفترة طويلة ، عكس النظام القائم على الخوف و القوة فانه يشهد اضطرابات سياسية دائمة و انقلابات عسكرية تكاد تكون دورية للاستيلاء على السلطة .
لقد استطاع غابرييل الموند و سيدني فيربا في كتابهما "الثقافة المدنية "الصادرعام 1963 والمستند على عمليات مسح أجريت في كل من الولايات المتحدة ، وبريطانيا، وألمانيا الغربية، وايطاليا والمكسيك. وقد تصدت الدراسة لسؤال مهم هو: لماذا عاشت الديمقراطية في فترة ما بين الحربين في الولايات المتحدة و بريطانيا، بينما كانت تنهار في القارة الأوروبية، و كانت الإجابة حول مقولة أن النظام الديمقراطي المستقر يتطلب ثقافة سياسية متوازنة تجمع بين كل التوجهات.
إن الفكرة الجوهرية في كتاب الموند وفيربا هي أن الديمقراطية أثبتت بأنها أكثر استقراراً في المجتمعات التي تزوّد فيها الثقافات المحدودة والخاضعة بثقل مضاد من حيث الجوهر للثقافة المشاركة. وهذا الخليط يطلق عليه (الثقافة المدنية ـ civic culture).
في هذا التركيب المثالي، يكون المواطنون فاعلين بدرجة كافية في السياسية للتعبير عن خياراتهم المفضّلة لحكامهم ولكنهم ليسوا ضالعين في رفض قبول القرارات التي لا يتفقون معها.
لقد طوّر بوتنام (Putnam) عام 1993 مقاربة ألموند وفيربا، مستعملاً إيطاليا كمثال له. وقد أوضح كيف أن الثقافة السياسية الداعمة تعزز بصورة مباشرة أداء وأيضاً استقرار أي نظام سياسي .
- ثانيا :الثقافة السياسية و التأهيل السياسي :
يعرّف التأهيل السياسي على أنه عملية نتعلم من خلالها السياسة، وهي تتعلق باكتساب العواطف والهويات والمهارات وأيضا المعلومات ، فالأبعاد الرئيسية في عملية التأهيل هي ماذا يتعلم الناس (المحتوى)، ومتى يتعلموا (التوقيت والتسلسل)، ومن أين يتعلموا (الأدوات أو الوسائط). إن أكثر الدراسات المتعلقة بالتأهيل السياسي مشتقة من النموذج الأولي القائم على فرضية أن ما نتعلمه في حال الشباب يزوّدنا بمنظار نفسّر عبره التجربة اللاحقة.
إن التأهيل السياسي هو وسيلة يتم من خلالها نقل الثقافة السياسية عبر الأجيال
حيث يتموضع عبر مؤسسات مختلفة، العائلة، الجماعة المتماثلة، ومكان العمل إلى جانب التعليم الرسمي. إنه يتأثر إلى حد كبير بسياق التواصل ، فعلى سبيل المثال، إن سلوك الأطفال إزاء السياسة سيكون منفعلاً إلى حد كبير بواسطة تجربتهم في السلطة داخل البيت والمدرسة وهكذا بواسطة ما يقوله لهم الآباء والمدرسون حيث تتطور العواطف السياسية و الهويات إلى جانب اكتساب المعلومات.
إن النظرة الأولية للتأهيل السياسي هي أن الو لاءات السياسية الأساسية تتشكل في مرحلة الشباب
حيث إن التعليم في مرحلة الطفولة هو (تعليم عميق) لأنه يشكّل إطاراً لتفسير المعلومات المكتسبة في مرحلة البلوغ. إن الهويات السياسية الأصلية تتطور في الطفولة المبكرة، حيث تكون العائلة هي مصدر التأثير الحاسم في الطفل. أما في الطفولة المتأخرة، فإن هذه الملحقات مضافة عن طريق الزيادة الملحوظة في المعلومات.
فأولى الأعمال التي ربطت بين الثقافة السياسية و التنشئة السياسية ترجع إلى سنة 1959 حيث أكد "Herbert .H. Hyuman"بان الأفراد يتعلمون المواقف السياسية في وقت جد مبكر من حياتهم ، حيث يكون تعلمهم لها بشكل كامل ، و بعد ذلك تأخذ هذه المواقف في الانبثاق و التجلي ، معنى ذلك ، إن مواقف الكبار السياسية هي نفسها تلك التي تلقوها وهم صغار عبر التنشئة السياسية "[[8]]url:#_ftn8
إن المؤثر الرئيسي في المراهقين هي في إعادة تصفية الإدراك المفهومي للطفل، بناءً على المعلومات التي حصل عليها. ففي المراحل الثلاث من التأهيل: الطفولة المبكرة، الطفولة المتأخرة، والمراهقة، تؤهّل الطفل للمشاركة السياسية في حياة البالغين السياسية .
الفرع الثاني: نقد الثقافة السياسية:
لقد تعرض مفهوم الثقافة السياسية إلى انتقادات عديدة من طرف الباحثين ، ولعل أشدها كانت تلك التي وجهها له برنار بادي حيث يرى أن الثقافة المدنية المستوعبة كمجموع من السلوكيات الفردية اتجاه الديمقراطية كما تم رصدها عبر تقنية "سبر الرأي العام" ، لا تترك مكانا لا للمؤسسات و لا لتأثير التفاعلات الاجتماعية حيث يتم اعتبارها كانعكاس محض للسلوكيات الفردية .
"فالموند و فيربا و تأسيسهما للثقافة المدنية كنسق للسلوكيات الامبريقية التي تم ملاحظتها في المجتمعات الأكثر استقرار و ديمقراطية ، يدعيان تجاوز البناءات المعيارية "constructions normatives" اللصيقة بالنظرية الكلاسيكية للديمقراطية ، و ذلك قصد بلورة نظرية امبريقية أكثر موضوعية ، غير أن المشروع يظل عرضة لكثير من مظاهر الإخفاق ، فالباحثان لم يستطيعا تفسير العلاقة الموجودة بين السلوكيات الفردية و خلق و استقرارية المؤسسات الديمقراطية ، إضافة إلى أن النموذج الذي يصوغانه للديمقراطية في اكبر خطوطه يعيد إنتاج النظرية الكلاسيكية للديمقراطية الليبرالية التمثيلية التي تزدهر في سياق ثقافة تجمع بين الاختلاف و المشاركة" [[9]]url:#_ftn9 .
كما أن نموذج التنشئة السياسية الذي أنشاه دافيد استون اعتبر من طرف عدة باحثين نموذجا معبرا عن المجتمع الأمريكي فقط ، و لا يمكن إخضاع المجتمعات الأخرى له ، و لقد أثبتت أبحاث "Annick percheron" و "Charles roig" أن النموذج الاستوني غير قابل للتعميم عبر تأكيدهما أن مرحلة" التشخيص" هي ضعيفة نسبيا لدى الطفل الفرنسي ، هذا" التشخيص" الذي يتقوى كلما نقدم الطفل في السن، وهي خلاصة تناقض الخلاصات التي توصل إليها D.Easton.[[10]]url:#_ftn10
كما يؤكد B.Badie أن الربط بين" الثقافة" و "التنشئة" معناه جعل الثقافة أداة للحفاظ على الوضع القائم من جهة ، و من جهة أخرى إفراغ الثقافة من طابعها السياسي بشحنها بحمولة تقنية.
إن التمييز بين الثقافات يفيد في آخر المطاف أن تطور الثقافات لا يمكن أن يتم بشكل داخلي ، و هذا يفيد انه ليس هناك إمكانية لتطور الثقافات إلا من "الخارج "، و هنا يجد الاستعمار الثقافي تبريرا جديدا لتواجده ، و لكن هاته المرة باسم "التنمية السياسية"
إن الانتقادات الكثيرة التي تعرض لها مفهوم الثقافة السياسية من قبل الباحثين جعله يتراجع من الوسط الأكاديمي ، و لا يتم الحديث عنه في الكتابات التي تتناول التنمية و الحداثة السياسية .
[[1]]url:#_ftnref1 - محمد الرضواني ، الحداثة السياسية في المغرب إشكالية و تجربة، مطبعة المعارف الجديدة- الرباط ،
الطبعة الأولى 2009 ص، 99.
الطبعة الأولى 2009 ص، 99.
[[2]]url:#_ftnref2 - مايكل تومسون، وآخرون، نظرية الثقافة، ترجمة،علي سيد الصاوي، سلسلة عالم المعرفة، رقم223، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 1997 .
[[3]]url:#_ftnref3 - عبد الغفار رشاد القصبي، التطور السياسي و التحول الديمقراطي، التنمية السياسية و بناء الأمة،مكتبة
الآداب، جامعة القاهرة، الطبعة الثانية، 2006، ص. 193.
الآداب، جامعة القاهرة، الطبعة الثانية، 2006، ص. 193.
[[4]]url:#_ftnref4 - محمد الرضواني ، نقس المرجع ، ص . 100 .
[[5]]url:#_ftnref5 - نفس المرجع ، ص ، 101 .
[[6]]url:#_ftnref6 - محمد الرضواني ، مرجع سابق ، ص ، 99 .
[[7]]url:#_ftnref7 - محمد ضريف ، النسق السياسي المغربي المعاصر ، مقاربة سوسيو – سياسية ، إفريقيا الشرق ، 1991 ،
ص ، 45 .
ص ، 45 .
[[8]]url:#_ftnref8 - M. Duverger, sociologie de la politique, P.U.F. 1973
[[9]]url:#_ftnref9 - محمد ضريف ، مرجع سابق ، ص ، 50- 51 .
[[10]]url:#_ftnref10 - نفس المرجع ، ص ، 53 .