MarocDroit  -  موقع العلوم القانونية
plateforme des décideurs juridiques - Platform of Legal Decision-Makers




الحكامة الصحية بالمغرب : الإختلالات و العلاجات

     


د.محمد البكوري



الحكامة الصحية بالمغرب : الإختلالات و العلاجات

                                                                                
 
إحتل مفهوم " الحكامة الجيدة " ببلادنا مكانة خاصة في ديباجة ومتن دستور 2011، باعتباره مفهوما  مركزيا، قادرا على إحداث قفزات نوعية في شتى المجالات، كما أنه أضحى يمثل مدخلا أساسيا لتكريس الديمقراطية التشاركية ومجمعا لإشراك مختلف الفاعلين في صيرورة السياسات العمومية إعداد،تفعيلا  وتقييما، هذا دون إغفال أهمية دسترة مفهوم " الحكامة الجيدة " على مستوى المسارات التنموية من جهة  وعلى مستوى التجسيدات الملموسة لجدواه الإصلاحية من جهة ثانية، وبالتالي الإيمان العميق بضرورة تجاوز المعيقات التي يمكن أن تشكل بحق عقبة كأداء أمام العهد الجديد المتسم بالنفحة الإصلاحية، ومن تم ضرورة تبني مفهوم " الحكامة " باعتباره المفهوم القادر على علاج " السكتة القلبية "، على الأقل اجتماعيا.

هكذا إذا نظرنا إلى الوضع الاجتماعي ببلادنا نجده يؤشر بقوة لا يستهان بها على إنتكاس جلي و واضح  مس مجمل القطاعات الاجتماعية من سكن وتعليم و صحة لدرجة معها أضحت الشعارات الإنسانية من قبيل " التعليم النافع " و " السكن اللائق " و " الشغل المنتج " و " التغطية الصحية " بالنسبة لعموم فئات المجتمع مجرد مقولات " مسكنة " أو " مهدئة " palliatifs أو محافظة على الوضع القائم le statu quo ليس إلا، وهو الانتكاس الذي لم تتمكن التخفيف من حدته مختلف مشاريع التنمية البشرية، بما فيها المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، كما أنه الإنتكاس الواضح الذي يعري عن ضعف النظرة الإستشرافية لدى صناع القرار على مستوى السياسات العمومية الاجتماعية، وهي النظرة التي ما فتئت تظل سجينة البعد الكمي/العددي مع تغييب شبه كلي للبعد الكيفي/النوعي.
إن شتى الملاحظات السالفة الذكر تتضح بشكل عام على مستوى جل أبعاد الحكامة الاجتماعية ببلادنا وبشكل خاص على مستوى الحكامة الصحية.

هكذا نلاحظ أن حكامة القطاع الصحي بالمغرب تعاني من جملة من الإختلالات، جعلتها توصف ولردح من الزمان ليس باليسير بالحكامة الصحية السيئة une mauvaise gouvernance sanitaire إذ تبرز أغلب الدراسات المرتبطة بالسياسة الصحية، وكذا تقارير المؤسسات الوطنية والدولية على هذا الصعيد، أن هناك مجموعة كبيرة من النقائص التي ترتبط بالوضع الصحي لبلادنا،حيث يكشف تطور مسارات الشأن الصحي خلال العقود الخمسة الأخيرة من القرن العشرين و العقد الأول من الألفية الثالثة، أن هناك مظاهر عديدة تعاني منها المنظومة الوطنية للصحة ومنها:

أولا: طابع اللامساواة على المستوى البعد  الخدماتي الصحي، إذ يلاحظ في هذا الشأن انعدام مساواة المغاربة على مستوى الخدمات الصحية طبقيا و مجاليا و علاجيا حيث تعرض المجموعات الهشة مثل النساء و الأطفال والأشخاص المسنين و الأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة إلى الطابع اللاعادل للمعالجة الإيجابية لها، كما يرصد على هذا المستوى أن ولوج الساكنة للخدمات الصحية يظل ناقصا وغير متكافئ بين الفئات الفقيرة و الفئات الميسورة، مع بروز الإختلالات المجالية في توزيع الخدمة الصحية ، وهو ما يلاحظ على مستوى المركزية المفرطة للإدارة المكلفة بالصحة و التطور المحدود للمصالح اللاممركزة، إذ يظل القطاع الصحي  يجسد إحدى القطاعات العمومية الأكثر مركزية بالمغرب، سواء على مستوى الإدارة أو على مستوى العرض الصحي، حيث أن هذا الأخير يتمركز في الأقطاب الحضرية الكبرى و يتمحور حول المستشفيات و طب المدن ( مستشفى ابن سينا بالرباط، مستشفى ابن رشد بالدار البيضاء، المستشفيات الجامعية و المستشفيات العسكرية بالمدن الكبرى)، و يرتبط هذا التمركز المجالي أيضا بتمركز اخر هو التمركز العلاجي على مستوى بعض الأمراض (السرطان، القصور الكلوي، أمراض القلب و الشرايين...)

ثانيا: غياب سياسة حقيقية تتسم بالنجاعة و الكفاية اللازمتين على مستوى تدبير الموارد البشرية ،مما ينجم عنه كنتيجة منطقية لذلك التوزيع غير المتوازن لممتهني الصحة عبر تراب المملكة، و تمركز النسبة الأعظم من الموارد البشرية الصحية بين مدينتي الرباط و الدار البيضاء، كما أنه ورغم كل مظاهر التطور الملاحظ في مجال الموارد البشرية من حيث أعدادها و مؤهلاتها، و كذا فيما يتعلق بالإدارة الصحية وتحمل وظائف جديدة داخل المنظومة الصحية، فما تزال هذه الأخير تعاني من مفارقة بارزة تكمن في الهوة الساحقة القائمة بين بلورة المشاريع و بين تطبيقها على أرض الواقع، كما لم تتم مصاحبة الإشكاليات الكبرى المرتبطة بشكل مباشر بالحكامة الصحية، و التي تم تشخيصها بدقة مع إتخاد الإجراءات الملموسة المطلوبة لتحسين هذا النمط من الحكامة .

ثالثا: غياب معالم سياسة دوائية ناجعة، وذلك باعتراف المسؤولين أنفسهم، إذ نجد في هذا الصدد التصريح الذي أدلى به وزير الصحة خلال شهر فبراير 2012، في كون أنه ليست للوزارة إستراتيجية   ولاسياسة  دوائية وليتساءل و بمرارة هل يعقل أننا مازلنا نعتمد في تسيير قطاع الأدوية بالمغرب على النصوص التطبيقية و التنظيمية لمدونة الأدوية الصادرة سنة 1969؟ كما يتضح هذا الغياب من خلال قراءة متأنية لمجمل التقارير المنجزة على هذا الصعيد، كتقرير مجلس المنافسة والذي جاء ليعري  وبصراحة عن بعد آخرمن أبعاد اللامساواة في السياسة الصحية ببلادنا، حيث يبرز التقرير الغلاء غير المعقول و غير المبرر لثمن الدواء بالمغرب وذلك بالمقارنة مع بعض الدول وحتى المجاورة منها، وقد تم الوقوف على هذه الخلاصة وبإمعان شديد من طرف الحكومة الحالية، لتحسم في ضرورة مراجعة الأثمنة المرتفعة لبعض أنواع الدواء وهو ماتبلور من خلال قرار  لوزارة الصحة في 7 نونبر 2012 ، و ليتجسد ذلك بشكل قانوني من خلال مصادقة المجلس الحكومي ليوم الجمعة 13 دجنبر 2013 على مرسوم رقم 85_13_2 المتعلق بشروط وكيفيات تحديد سعر بيع الأدوية المصنعة محليا أو المستوردة للعموم،و الذي إعتبره مصطفى الخلفي،الناطق الرسمي باسم الحكومة بأنه نافدة حقيقة " لضمان الولوج العادل لعموم المواطنات و المواطنين للدواء وتدعيم وتقوية الصناعة الدوائية على مستوى المحلي بالشكل الذي يمكن من تلبية الحاجيات الوطنية من الدواء ".
إن هذا المرسوم المتعلق بتخفيض اسعار حوالي 800 نوع من أنواع الأدوية، بعضها خاص بالأمراض المزمنة، سرعان ما عرف مجابهة شرسة من طرف اللوبي المتحكم في قطاع الأدوية ببلادنا، إلا أنه رغم ذلك يظل إخراجه إلى حيز الوجود خطوة جبارة من حكومة بنكيران لوضع حد لبعض مظاهر الريع الصحي و ضمان العدالة و المساواة الصحيتين.

رابعا: المستوى الهزيل للإنفاق العمومي في مجال الصحة و التغطية الصحية،في ظل غياب آليات تمويلية عمومية أو خاصة، كما يظل هذا الإنفاق غير كاف و غير عادل على المستوى الاجتماعي، مما يبرهن بشكل ملموس عن مدى وحجم النقص الملاحظ سواء فيما يخص التأطير الصحي و العلاجي، أو على مستوى البنيات التحتية الإستشفائية، وبالتالي خلق بيئة سانحة لتشعب الإشكاليات العميقة و المرتبطة بما هو مالي، وما هو بنيوي، و ما هو تنظيمي.
 وعموما فإن النواقص والإختلالات المتعلقة بنظام الحكامة الصحية ببلادنا، و خاصة تلك التي لها علاقة وطيدة بالسياسات العمومية القطاعية التي تسهم في تحسين الصحة، من شأنها أن تحد من نجاعة الفعل العمومي في هذا الميدان، و مع ذلك يمكن إقتراح بعض العلاجات القادرة على إيجاد الحلول المناسبة  والمواتية لإشكاليات تحسين نظام الحكامة الصحية ببلادنا ومنها:

أولا: إعادة المصداقية للمستشفى العمومي لدى السكان، وخلق جو من الثقة فيه عبر القيام بإصلاحات هيكلية تمسه في العمق كمرفق عمومي حيوي، وذلك من خلال تبني إجراءات من قبيل التخليق و حسن الاستقبال وحسن التدبير و التجويد و الترشيد والأنسنة...و هي الإجراءات الكفيلة بجعل المستشفى العمومي إدارة  "مواطنة "،" خدومة " تتسم بشروط الكفاية و الفعالية و النجاعة باعتبارها من أبرز مبادئ الحكامة الجيدة.

ثانيا: وضع مخطط إستباقي/إستشرافي يروم بالدرجة الأولى إعادة انتشارالخدمات العلاجية العمومية والخاصة، بغية التحكم الإيجابي في التحديات و الرهانات المطروحة حاليا و مستقبليا، الشئ الذي يفرض تقوية الإنفاق الصحي و عدم ترك الأمور للاعتباطية و العبث، و بالتالي النظر إلى الاستثمار في الميدان الصحي ليس من زاوية التكاليف فقط ، ولكن أيضا من زاوية المردودية الاجتماعية .

ثالثا: وضع إستراتجية للعمل ورؤية شمولية لمنظومة الصحة، تجمع بين ما هو بنيوي ،عبر توفير البنيات التحتية اللازمة و تدعيم الموارد البشرية، وما هو تنظيمي عبر وضع حد لإحتكار التشريع في المجال الصحي من طرف السلطات العمومية ، وتوفير الشروط الموضوعية للقطاع الخاص لبلورة تصوراته فيما بتعلق بتدبير الشأن الصحي عموما و تخطيط البرامج الصحية خصوصا، وكذا عبر إيجاد نظام موحد للقطاع الصحي على المستوى القانوني.

رابعا: التأسيس لإطار وطني و جهوي موحد للتفكير الجماعي حول شؤون الصحة عبر الرفع من القدرة التدخلية لبعض الأنظمة الصحية التي تم وضعها مؤخرا لضمان شرعنة حقيقية لحكامة صحية فعالة وناجعة، ومنها التغطية الصحية الإجبارية ونظام المساعدة الطبية(راميد).

خامسا: تبني المقاربة التشاركية على مستوى صياغة مكونات المنظومة الصحية، فالمسؤولية هنا مشتركة، تتقاسمها فئات و هيأت عديدة مثل الأسر و الإدارات  المتعددة و النسيج الجمعوي ووسائل الإعلام و القطاع الخاص.

هذه المقاربة التشاركية وحتى تؤتي أكلها يجب أن تتسم بمجموعة من الخصائص و منها الإلتقائية، أي تضافر جهود جميع المتدخلين و تفادي تبعثرها، ثم التميز بالصفة المندمجة أي خلق إرتباط و تقارب بين الصحة وباقي القطاعات الاجتماعية الأخرى من تعليم و سكن... ومن شأن كل ذلك رسم معالم سياسة صحية فعالة و ناجعة.

وصفوة القول ينبغي ولتجسيد المغرب الممكن، المغرب المأمول، مغرب الحكامة على الصعيد الصحي  والإنتقال من " حكامة صحية سيئة " إلى " حكامة صحية جيدة " خلق مبادرات طموحة تسعى أساسا لوضع حد للريع الصحي و بناء اللبنة الأولى لصرح المنظومة الصحية القادرة على رسم معالم الغد الأفضل.




الاربعاء 8 يناير 2014

عناوين أخرى
< >

السبت 29 يونيو 2024 - 19:13 البرلمان والضريبة


تعليق جديد
Twitter