مقدمة:
الدولة الاجتماعية تقع في قلب الديمقراطية التشاركية، وهي تضمن بأن الحقوق الأساسية لا تمنح فقط في القوانين الأساسية والرسمية بل تعاش على المستوى الواقعي والعملي[1]. وقد عرف مفهوم الدولة وبعدها الهوياتي الحديث خاصة بعد الثورة الفرنسية لسنة 1987 عندما برزت مفاهيم إلى السطح كالديمقراطية وحقوق الإنسان والطبقة الاجتماعية فعوضت معها مفاهيم أخرى كانت أساس الهوية القومية للدولة المركزية الملكية، كما ساهمت بشكل كبير في هذا التحول النظريات التحليلية الماركسية للنموذج البورجوازي وشكل ومضمون الدولة الحديثة.
وبسبب الصراعات التي نشأت إثر الهوة الكبيرة بين الطبقة البورجوازية والطبقة العاملة على المستوى الاقتصادي والاجتماعي في الدولة وما استتبعها من ثورات اشتراكية لتغيير الأنظمة الرأسمالية مع بداية القرن العشرين[2].
وعملت لجنة حقوق الإنسان في دورتها السابعة التي عقدت في عام 1951، وبمساعدة ممثلي منظمة العمل الدولية ومنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) ومنظمة الصحة العالمية على إعداد مشروعها الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، الذي تم تقديمه إلى المجلس الاقتصادي والاجتماعي، والذي ناقش مشاريع المواد وتدابير تنفيذها، وبعد المناقشات التي دارت في الجلسة العامة اعتمدت الجمعية العامة بالإجماع توصية اللجنة الثالثة (لجنة الشؤون الاجتماعية والانسانية والثقافية) الواردة في القرار 220 ألف (د-21). المؤرخ في 16 ديسمبر 1966، وفي تصويت منفصل بأغلبية 105 أصوات مقابل صفر ومعه بدأ نفاذ العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في 3 يناير 1976[3].
وبالرجوع إلى دستور 2011 نجده يتضمن وينص على مجموعة الحقوق السياسية والاجتماعية، حيث نجد أنه خص بابا كاملا للحقوق والحريات، كالفصل 19 الذي ينص على المساواة بين الرجل والمرأة في مختلف الحقوق[4]. والفصل 20 من الدستور الذي ينص على الحق في الحياة والعلاج والعناية الصحية والحماية الاجتماعية والتغطية الصحية[5]. والحصول على تعليم عصري ميسر الولوج وذي جودة كما هو منصوص عليه في الفصل 31 من الدستور[6]، ووجوب التدخل الإيجابي من طرف السلطات العمومية لتفعيل هذه الحقوق كما هو منصوص عليه في الفصلين 33 و34 من الدستور[7]. مما تبرز معه أهمية الحماية القانونية والقضائية للحقوق الاجتماعية.
ويستمد موضوع الحماية القانونية والقضائية للحقوق الاجتماعية أهميته من حيث الواقع والتشريع، بحيث تعتبر هي محور البناء الديمقراطي وتحقيق العدالة الاجتماعية وهي العمود الفقري لأي تنمية لارتباطها بأسمى شيء في الوجود وهو الإنسان وكرامته والإشكالية التي تطرح نفسها والتي سنحاول تفكيكها من خلال هذا البحث هي موقف القانون والقضاء المغربي من الحقوق الاجتماعية وأوجه الحماية التي استطاع المشرع والقضاء توفيرها للحقوق الاجتماعية من خلال النصوص والقرارات والأحكام الاجتماعية التي أصدرها؟
وتتفرع عن هذه الإشكالية مجموعة من الأسئلة نذكر منها، كيف قارب المشرع والقضاء موضوع حماية الحقوق الاجتماعية؟
وهل ساهم دستور 2011 في تحصين هذه الحقوق وتكريسها؟ وهل واكبت النصوص القانونية تطورات وتحولات المجتمع؟ وهي الإشكالية والأسئلة المتفرعة عنها التي سنحاول معالجتها من خلال التقسيم التالي:
المطلب الأول: الحماية الدستورية للحقوق الاجتماعية
الفقرة الأولى: أهمية إدراج الحقوق الاجتماعية في الدساتير
الفقرة الثانية: الحقوق الاجتماعية في دساتير مقارنة
الفقرة الثالثة: الحقوق الاجتماعية في دستور 2011
المطلب الثاني: الحماية القضائية للحقوق الاجتماعية
الفقرة الأولى: الاجتهادات القضائية المغربية
الفقرة الثانية: الاجتهادات القضائية المقارنة
المطلب الأول: الحماية الدستورية للحقوق الاجتماعية
كانت الحماية للحقوق الاجتماعية تجد أساسها في العادات والتقاليد، وكذلك المنظومة الإسلامية التي تحت على التعاون والتآزر والرحمة بالناس وواجب المساعدة الاجتماعية على المسلم كالزكاة لميسوري الحال[8]. قبل أن ينظمها القانون الوضعي كالإعلان العالمي لحقوق الإنسان لسنة 1948[9]. والعهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية من خلال المواد 9 و12 منه[10]. والاتفاقية 118 المتعلقة بالمساواة في المعاملة بين الوطنين والغير وطنين في ميدان الضمان الاجتماعي[11]. والاتفاقية 143 التي أكدت على حق الأجير في الحماية الاجتماعية[12].
وبالرجوع إلى المنظومة التشريعية المغربية نجد أن سلطات الحماية حاولت فرض بعض القوانين التي تضمنت حقوق اجتماعية لتشجيع المعمرين على الاستقرار في المغرب ومن بين هاته القوانين نجد الظهرين الصادرين سنة 1930 المتعلقين بنظام المعاشات المدنية، وبإحداث الصندوق المغربي للتقاعد[13]. وظهير الصادر سنة 1943 المتعلق بالتعويض على الأمراض المهنية[14].
وهو ما سنتطرق له في هذا المطلب من خلال أهمية إدراج الحقوق الاجتماعية في الدساتير (الفقرة الأولى)، وتكريسها وحمايتها في إطار دستور 2011 (الفقرة الثانية) والدساتير المقارنة (الفقرة الثالثة).
الفقرة الأولى: أهمية إدراج الحقوق الاجتماعية في الدساتير
تعتبر أكثر الطرق فعالية الاعتراف بالحقوق الاجتماعية للأفراد والجماعات من طرف الدولة وإلزامها بها لتطبيقها على أرض الواقع وهي إدراجها في الدستور باعتباره العقد الاجتماعي بين الأمة والشعب واسمى وثيقة قانونية في الدولة التي تنظم العلاقة بين الدولة والأفراد وبين المؤسسات فيما بينها والاحتكام إليه كلما كان هناك تعسف في استعمال السلطة من إحدى المؤسسات أو التماطل في تنفيذ إحدى الالتزامات المنصوص عليها دستوريا. وتعتبر الحماية الاجتماعية مجموعة من السياسات والبرامج التي تهدف إلى تقليص الفقر والهشاشة، كما أنه يمكن اعتبارها مجموعة من الآليات التي تروم مساعدة الأفراد على مواجهة آثار المخاطر الاجتماعية كالبطالة والشيخوخة والمرض وهي تقوم على مجموعة من المبادئ التي تسمح ببناء مجتمع ديمقراطي يتمتع بالعمل والمساواة والتضامن وتحقيق الرخاء الاجتماعي لكل أفراده من خلال التكافل الاجتماعي ومنظومة الحماية الاجتماعية تعتبر من أهم حقوق الإنسان الأساسية المنصوص عليها في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لسنة 1948 في المادة 22 منه[15]. وبحكم أن المغرب صادق عليه فكان لابد من سن قوانين تتلاءم مع الاتفاقيات الدولية لسموها على القوانين الوطنية عند المصادقة عليها وهو ما سنحاول التطرق له وإلقاء الضوء عليها من خلال مقتضيات ونصوص الدساتير المقارنة باعتبارها تندرج ضمن الحقوق الأصلية التي يكفلها القانون الدولي الانساني وتعمل على حمايتها جل دساتير الدول الديمقراطية من أجل توفير إطار قانوني موحد للقيم والمعايير المعترف بها دوليا.
الفقرة الثانية: الحقوق الاجتماعية في الدساتير المقارنة
بالرجوع إلى الدستور الفرنسي نجده في المادة 1 من الدستور ينص ويكرس مبدأ المساواة أمام القانون جميع المواطنين دون استثناء كيفما كان اصله أو جنسه أو ديانته[16]. وتمثل الحقوق الاجتماعية جزءا من القيم الأساسية التي تقوم عليها الجمهورية الفرنسية كما هو منصوص عليه في الدستور الفرنسي، ويندرج احترامها في صلب ممارسة حق المواطنة في فرنسا وفي التزاماتها داخل الاتحاد الأوربي والمنظمات الدولية وعلى مدار السنوات الأربعين الأخيرة، أصبح من الشائع الإشارة إلى الحقوق الاجتماعية بصفتها حقوق الجيل الثاني، أي إضافات إلى الحقوق المدنية والسياسية التي قدمها عصر التنوير الأوربي، حيث كان الفقر ظرفا قانونيا ينطوي على ضرورة مساعدة الفقراء، وجاءت هذه الحزمة من الحقوق وتمت دسترتها في دستور 1793 كأول مرة يتم التنصيص فيه على الحق في العمل والإعاشة والتعليم بعد الثورة الفرنسية 1789 قبل أن يتم حذفها تماما في دستور 1795 وذلك بعد الإشكالية التي طرحتها الحقوق الاجتماعية وتحولت إلى ابتزاز الأفراد وفرض ضرائب وضم الممتلكات من طرف المسؤولين على هواهم وبحسب الظروف وتقلب الأحوال[17].
وبناء على جملة من العوامل عاودت الحقوق الاجتماعية الظهور في القرن العشرين إذ ظهرت في دساتير أوربا والأمريكيتين في المكسيك 1917 وألمانيا 1919 وأيرلندا (1922 و1937) والاتحاد السوفياتي 1936 ودول أخرى. وفي عام 1944 طالب فرانكلين ديلانو روزفلت في كلمته الشهيرة ب "وثيقة حقوقية ثانية" تشمل الحق في عدم التعرض للعوز والتي من خلالها تم ضم الحقوق الاجتماعية إلى مسودة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان سنة 1948[18]. كما أن دستور 1958 الفرنسي المعدل سنة 2008 نجده ينص في المادة 34 من الباب الخامس على رزمة من الحقوق الاجتماعية إذ نجدها تنص في الفقرة الثانية على حق الجنسية ووضع الأشخاص وأهليتهم وأنظمة الملكية الزوجية والشركات والهبات وفي الفقرة الحادية عشر وما بعدها على الحق في التعليم والمحافظة على البيئة، ونظام الملكية وحقوق الملكية والالتزامات المدنية والتجارية، وقانون العمل وقانون النقابات العمالية والضمان الاجتماعي[19].
وبخصوص الدساتير العربية المقارنة نص الدستور المصري الصادر في عام 1971 في الباب الأول منه على مجموعة من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية تحت عنوان المقومات الأساسية للمجتمع وفي الباب الأول منه عرض للمقومات الاجتماعية حيث نجده على سبيل المثال نص في المادة 13 منه على أن العمل حق وواجبي وشرف تكفله الدولة، ويكون العاملون الممتازون محل تقدير الدولة والمجتمع، كما أورد عدم جواز فرض أي عمل جبرا على المواطنين إلا بمقتضى ولأداء خدمة عامة وبمقابل عادل[20]. وهو ما صار عليه الدستوري الحالي المصري المعدل بتاريخ 23 أبريل 2019 في الباب الثاني منه المنضوي تحت عنوان المقومات الأساسية للمجتمع في الفصل الأول وذلك في المادة 8 و9 و10 و11 و12 و13 و14 و15 و17 و18 و19 و20 و21 و22 و23 و25 التي قامت بالتنصيص ودسترة الحقوق الاجتماعية والتزام الدولة وكفالتها لهذه الحقوق[21]. وسار على نفس النهج تقريبا الدستور السوري الصادر في عام 1973 حيث نص على مجموعة من الحقوق الاجتماعية كالمادة 25 التي نص فيها على كفالة الدولة لمبدأ تكافئ الفرص بين المواطنين والمادة الثالثة والثلاثون على أنه لكل مواطن الحق بالتنقل في أراضي الدولة، وفي المادة 36 من الدستور على أن العمل حق لكل مواطن وواجب عليه والدولة تكفل ذلك وتكفل الضمان الاجتماعي للعاملين[22]. وحافظ الدستور السوري لسنة 2012 في الفصل الثالث على نفس التوجه حيث خصص الفصل كاملا للمبادئ الاجتماعية من المادة 19 إلى المادة 27 من نفس الدستور[23]. وهو نفس الاتجاه والنهج الذي سار على دربه الدستور الأردني لسنة 1952 والمشرع الجزائري وغيرهم من الدساتير العربية، أما بالنسبة للدستور المغربي هو ما سنتطرق له في الفقرة الثالثة.
الفقرة الثالثة: الحقوق الاجتماعية في دستور 2011
تضمنت بنود وأحكام الدستور تنصيصا صريحا وتكريسا للعديد من الحقوق الاجتماعية الواردة في العهد الدولي الخاص بالحقوق الاجتماعية وفي الاتفاقيات الدولية الأساسية الثمانية الصادرة عن منظمة العمل الدولية والمتعلقة بالحقوق الأساسية للإنسان في العمل[24]. وبالرجوع للمنظومة الدستورية المغربية منذ سنة 1962 إلى غاية دستور 2011 نجدها تناولت الحقوق الاجتماعية بصيغ وكيفيات مختلفة، حيث عرفت جل الدساتير والتعديلات المدخلة عليها إلى غاية 1996 ضعف وتواضعا من حيث دسترة الحقوق الاجتماعية دون أن تتأثر تلك النصوص بالواقع الداخلي المليء بالاحتجاجات الاجتماعية، أو بالتحولات التي عرفها العالم في هذا الجانب[25].
وجاء الدستور المغربي الجديد لسنة 2011 محكوما بسياق الانتفاضات العربية، وديناميكية حركة 20 فبراير الذي عرف قفزة نوعية ملحوظة من حيث دسترة الحقوق الاجتماعية، وكرس الحقوق الاقتصادية والاجتماعية كما هي متعارف عليها عالميا في المواثيق الدولية، حيث نجده نص على الحق في العمل في الفصل 31 منه حيث جاء فيه أنه تعمل الدولة والمؤسسات العمومية والجماعات الترابية على تعبئة كل الوسائل المتاحة لتيسير أسباب استفادة المواطنين والمواطنات على قدم المساواة من الحق في الشغل والدعم من طرف السلطات العمومية في البحث عن منصب شغل أو التشغيل الذاتي كما نص الدستور في نفس الفصل على الحق في الضمان الاجتماعي وهو من الحقوق التي تم إحداثها لتغطية المخاطر الحياتية والآفات التي يتعرض لها الفرد والشيخوخة والعجز عن كل ما من شأنه أن يحرم العامل من الاستفادة من أجره[26]. كما تولى الدستور المغربي الجديد لسنة 2011 على الحق في تكوين الأسرة والعمل على معالجة الأوضاع الهشة لفئات من النساء والأطفال والأشخاص المسنين والفئات ذوي الاحتياجات الخاصة وهو ما نجد معه الفصل الثاني والثلاثين ينص صراحة على أن الأسرة القائمة على علاقة الزواج الشرعي هي الخلية الأساسية للمجتمع، وتعمل الدولة على ضمان الحماية الحقوقية والاجتماعية والاقتصادية للأسرة بمقتضى القانون، كما تسعى الدولة لتوفير الحماية والاعتبار الاجتماعي والمعنوي لجميع الأطفال بكيفية متساوية بصرف النظر عن وضعيتهم العائلية[27].
كما أن الدولة تضمن لكل فرد الحق في عيش ملائم ومناسب لنفسه ولعائلته بما في ذلك الغذاء والملبس والمسكن والتطبيب والخدمات الاجتماعية والعناية الصحية والحماية الاجتماعية والتغطية الصحية والسكن اللائق[28].
المطلب الثاني: الحماية القضائية للحقوق الاجتماعية
فالحقوق الاجتماعية تتميز بخصوصيات ومميزات تميزها عن باقي الحقوق، بالنظر للأبعاد التي تأخذها، والمجالات التي تغطيها، وبالرغم من حرص القاضي على تحصين مختلف الحقوق، لكننا سنقتصر في هذا المطلب على الحقوق الاجتماعية، ولا شك أن تجليات هذه الحماية تتمظهر من خلال الحكام والقرارات القضائية التي تؤسس لقواعد ومبادئ في هذا المجال تضبط العلاقة بين الأفراد والمؤسسات والمرافق العامة، وسنتطرق من خلال هذا المطلب إلى الحماية القضائية للحقوق الاجتماعية في المنظومة القضائية بالمغرب (الفقرة الأولى)، والحماية القضائية للحقوق الاجتماعية على ضوء القضاء المقارن (الفقرة الثانية).
الفقرة الأولى: الحماية القضائية للحقوق الاجتماعية
نظرا لشساعة مجموع الحقوق الاجتماعية فإننا سنقتصر على التطرق لبعض الحقوق الاجتماعية الأكثر شيوعا وأهمية التي صدرت فيها أحكام وقرارات قضائية وعرفت احتدام كبير على مستوى الاجتهاد القضائي وهي:
أولا: الحق في التعليم
يمكن أن نشير في هذا الصدد إلى الحكم الصادر عن المحكمة الإدارية بالرباط عدد 541/5/2012 الصادر بتاريخ 2 ماي 2013 الذي جاء فيه "... وحيث لما كان الحق في التعليم يعد أهم الحقوق الأساسية للأفراد بالنظر لارتباطه بباقي الحقوق والحريات ويشكل دعامة لها ويسهم في توطيدها، فإنه يحظى برعاية دستورية من خلال الفصل 31 الذي حمل الدولة للالتزام بتعبئة كل الوسائل المتاحة لتسيير أسباب استفادة المواطنين والمواطنات على قدم المساواة، من الحق في الحصول على تعليم عصري ميسر الولوج، فضلا على أن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر بتاريخ 10 دجنبر 1948 نص في المادة السادسة والعشرين منه على أنه لكل شخص الحق في التعليم، ويجب أن يكون التعليم في مراحله الأولى والأساسية على الأقل بالمجان وأن يكون التعليم الأولي إلزاميا... وهو ما نص عليه العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في المادة 13 منه[29]. وعززت هذا الحق نفس المحكمة في حكم أخر عدد 41 بتاريخ 2002/4/17 جاء فيه أنه: "من المجمع عليه فقها وقضاء أن الوظيفة العمومية لم تكن تهدف تأمين مصلحة الموظف وإنما تهدف تأمين المصلحة العامة والتي تقدم على المصلحة الخاصة وإن كان بإمكان المدعي استعمال الإمكانية التي خولها إياه المشرع بطلب إحالته على الاستيداع عملا بمقتضيات الفصل 58 من قانون الوظيفة العمومية... يتعين على الإدارة أن تبين الأسباب التي اعتمدتها في الرفض وإن كانت غير ملزمة الافصاح عن هذه الأسباب في صلب قرارتها إلا حيثما يحتم عليها القانون ذلك فإن ضرورة قيام قراراتها على سبب تظل قائمة حيث تلزم بالكشف عن هذه الأسباب أمام القضاء وإثباتها وفي حالة تقاعسها أو عجزها عن ذلك يعتبر قرارها باطلا[30]. من خلال هذا الحكم يتبين وقوف القاضي الإداري أمام انتهاك أهم حق اجتماعي من حقوق الإنسان الأساسية وهو الحق في التعليم للموظف تحت ذريعة الحفاظ على استمرارية المرفق العام من سبب احتمالي وهو غياب الموظف على عمله وإخلاله بالتزاماته الوظيفية وهو ما دفع القاضي الإداري من إلغاء قرار الإدارة من منع الموظف من إكمال ومتابعة دراسته كما جاء في القرار عدد 398 الصادر بتاريخ 02/04/2008 في الملف عدد 152/07/5 في محكمة الاستئناف الإدارية بالرباط الذي جاء فيه: "إن إفصاح الإدارة أثناء جريان الدعوى عن سبب رفضها طلب المستأنف عليها الرامي إلى الاستفادة من المغادرة الطوعية.. يعطي للقضاء امكانية رقابة القضاء الإداري المطعون فيه من خلال المشروعية الداخلية والخارجية... وذلك لما اعتبرت بأن سبب رفض الإدارة لطلب المستأنف عليها يعود إلى ما يقتضيه السير العادي للمؤسسة التعليمية ومصلحة التلاميذ والمتمدرسين مع أن المعنية بالأمر مصابة بمرض عضال وأنها لا تستطيع استعمال يدها اليمنى بسبب بتر ثديها نتيجة لهذا المرض وبالتالي كان للإدارة الاستجابة لطلب المعينة بالأمر بدل التستر وراء المصلحة العامة التي أصبح من المستحيل تحقيقها أمام الوضع الصحي الخطير الذي تعاني منه المستأنف عليها... مما يجعل القرار الإداري المطعون فيه متسما بتجاوز السلطة لعيب السبب وموجبا بالتالي للإلغاء[31].
ثانيا: الحق في الصحة
بالنظر إلى أن الحق في الصحة من أعظم الحقوق التي أقرتها جل الدساتير الوطنية للدول وحتى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وحيث أن لا يخفى عن الشكل أن العمل الطبي المعهود إلى الطبيب والممارس على المرضى الذين يلجؤون إليه يمس جسد الإنسان وصحة وسلامة هذا الأخير، وهو ما يجعله قد يرتكب خطأ طبي على جسم الإنسان، مما جعل القضاء يتدخل لحماية صحة الإنسان يتضح ذلك من خلال عدة اجتهادات قضائية نذكر منها القرار عدد 681 الصادر، بتاريخ 27/05/1987 في الملف المدني عدد 5/8134 بأن مسؤولية الطبيب ليست مفترضة ولا تقوم على مجرد فكرة المخاطر، بل لابد من إثبات خطأ الطبيب المهني وكون هذا الخطأ هو السبب المباشر في حصول الضرر اللاحق بالمريض[32]. غير أن مسألة الإثبات في موقف القضاء أصبحت تعرف تغيرا يسير نحو التخفيف على المريض من عبئ الإثبات كما جاء في قرار لمحكمة الاستئناف بالدار البيضاء في الملف المدني عدد 83/2425 حيث اعتبر أن الطبيب ارتكب خطأ فنيا عن بينة واختيار حيث أقدم على توليد امرأة بطريقة عادية دون مراعاة ملفها الطبي الذي يشير إلى أنه لا يمكن توليدها إلا بإجراء عملية قيصرية وكذلك كما جاء في قرار لمحكمة النقض 1995 الصادر بتاريخ 20 أبريل 2010 في الملف المدني عدد 129/1/3/2008 بأن الطبيب الجراح ملزم ببذل عناية الرجل المتبصر حي الضمير وأن يشكل في ذلك مسلك الطبيب اليقظ من نفس مستواه المهني الموجود في نفس الظروف المحيطة به، وكل تقصير أو إهمال من طرفه مناف للأصول العلمية الثابتة في علم الطب يرتب المسؤولية المدنية معه تكون محكمة الموضوع قد بنت قرارها على أساس لما استخلصت من الخبرات الطبية أن الطبيب كان عليه أن يعلم من هذه الفحوصات ما فوق الصوتية وجود أورام برحمها يمكن أن تؤدي إزالتها بحسب االأصول العملية في ميدان الطب إلى نزيف دموي حاد واعتبرت عدم تحضيره لكمية الدم الكافية قبل الإقدام على العملية الجراحية يشكل إهمالا وتقصيرا منه، إلى جانب المصحة التي تأخرت في إحضار الدم من مركز تحاقن الدم مما أودى بحياتها إذ أن المصحة تتقاضى أجرا عن العمليات والاستشفاء بها وهي ملزمة بتوفير ما تستلزمه العمليات الجراحية من تجهيزات ومواد[33]. وهذه بعض النماذج من الحقوق الاجتماعية التي عمل القضاء الوطني على حمايتها على غرار القضاء المقارن في دول أخرى وهو ما سنتطرق له في (الفقرة الثانية).
الفقرة الثانية: الاجتهادات القضائية المقارنة
يطرح السياق الفرنسي، نموذجا خاصا في تعيين الحقوق والحريات الأساسية المشمولة بالحماية الدستورية والقضائية، حيث جرى تنظيم تلك الحقوق والحريات في إطار ما اتفق على تسميته بالكتلة الدستورية وقد عرفها القاموس الدستوري على أنها: "مجموعة المبادئ والقواعد ذات القيمة الدستورية التي من الواجب أن تحترم، وتفرض أحكامها على السلطة التشريعية والتنفيذية من طرف السلطة القضائية، أو بصورة أشمل على كل السلطات في الدولة[34]. وتتجسد الحماية القضائية للحقوق الاجتماعية من خلال مجموعة من الأحكام نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر في إحدى الأحكام الصادرة عن مجلس الدولة الفرنسي سنة 1795 في قضية "Cames" التي تتعلق القضية المذكورة بإصابة يد عامل في أحد مؤسسات الدفاع الوطني نتيجة تطاير شظايا الحديد مما أدى إلى عدم استطاعته استعمالها بصفة نهائية، وحصل على تعويض من وزير الحرب ولكن السيد Cames طالب في مجلس الدولة بزيادة التعويض، وارتكز مفوض الدولة "Romieu" إلى خصوصية مسؤولية الدولة وألزمها بالتعويض على اساس المسؤولية بدون خطأ، وهو ما جعل المحاكم والسلطة التشريعية تتبنى الموقف نفسه فيما بعد[35]. كما أن الحماية القضائية للحقوق الاجتماعية في الاتحاد الأوربي بصفة عامة من خلال الحكم الصادر عن المحكمة الأوربية لحقوق الإنسان بتاريخ 26 أكتوبر 2005 بستراسبورغ في الشكوى رقم 01/73316 المقدمة من مواطنة توغولية السيدة سيواء أكوفا سيليادين (المدعية) ضد الجمهورية الفرنسية التي كانت تعمل بدون أجر لدى زوجين فرنسيين وقام باستغلالها وعدم تسوية وضعيتها الإدارية واحتجاز جواز سفرها قبل أن تقوم إحدى الجارات بإعلام لجنة مناهضة العبودية الحديثة وإبلاغ النائب العام بوضع المدعية، وتمت متابعتهم باحتجاز شخص مستغلين ضعفه وتبعيته، في ظروف عمل وإقامة تتنافى مع الكرامة الإنسانية وتوظيفهم شخص أجنبي دون أن تكون له رخصة عمل وعدم تسوية وضعيتها الإدارية، فأصدرت المحكمة بالإجماع حكما يرفض الاعتراض المبدئي للحكومة المبني على أساس فقدان المدعية لصفة الضحية، وحكمت على الدولة المدعى عليها أن تدفع للمدعية في غضون ثلاثة اشهر 26209.69 يورو[36].
فالهواجس أصبحت واضحة بشكل أوسع حول قابلية إمكانية التقاضي بشأن الحقوق الاجتماعية في أجندة قضائية وسياسية عالمية لإنفاذ الحقوق الاجتماعية، وبالتالي، فإن الأمر يتعلق بالشروع في إعادة تحديد السياسات العامة والالتزامات الاجتماعية للدولة التي يكون القضاة فيها من العناصر المؤثرة.
وبالرجوع إلى القضاء المصري نجد مجموعة من التطبيقات القضائية التي تكرس لمبدأ الحماية القضائية للحقوق الاجتماعية، لذلك نجد مثلا أن المحكمة العليا دفعت بعدم دستورية البند 2 من الفقرة الثانية من المادة الأولى من القانون رقم 88 لسنة 2004 لتقريرها حد أقصى للزيادة المقررة لأصحاب المعاشات دون العاملين بالدولة حيث قررت لهم هذه الزيادة دون حد أقصى رغم وحدة الهدف وهو مجابهة الأعباء المعيشية المتزايدة، مما يعد تجاوزا من المشرع في استخدام سلطته في مجال تنظيم الحقوق وهو الأمر الذي يشكل مخالفة المادتين 17 و122 من الدستور. كما نجد نفس المحكمة قضت بعدم دستورية البند السادس من المادة 44 من قانون الضريبة العامة على المبيعات لمخالفة المادة المطعون فيها للمواد (26 و34 و74 و76 و77 و78 و81 و82 و168 و170) من الدستور المعنية بضوابط المحاكمة المنصفة وما تشتمل عليه من الحق في الدفاع وبمبدأ الأصل في البراءة ومبدأ العدالة الاجتماعية والمساواة حيث ساوت هذه المادة بين الطاعن وهو من قدم إقراره الضريبي مع من لم يقدم إقرارا ضريبيا من الأساس واعتبر الأخير متهربا من الضريبة أيضا[37]. أما بالنسبة للقضاء التونسي نجد المحكمة الإدارية في حكمها عدد 41/2861 بتاريخ 14 ماي 2009 تتجلى فيه أبعاد حماية الحق في التعليم حيث نصت في منطوق حكمها على أن طرد تلميذ نهائيا من جميع المعاهد يمثل انتهاكا لحقه في التعليم[38]. وهو نفس الاتجاه الذي صارت عليه جل التطبيقات القضائية للدول العربية كالحكم الصادر عن محكمة صلح جزاء عمان حيث قررت المحكمة في قرارها رقم 26/1999 الامتناع عن تطبيق نص في قانون العقوبات نظرا لعدم دستوريته، حيث قضت بأن المادة 389 الفقرة 5 منها تتعارض مع حق الشخص في التنقل داخل إقليم بلاده، كما تضمن الحكم تسبيبا واستنتاجا مهما عندما جاء في تعليل المحكمة إن البحث في دستورية القوانين هو من النظام العام وتمتلك المحكمة إثارته من تلقاء نفسها، وذلك لأن تطبيق القاعدة القانونية الأعلى عند تعارضها مع قاعدة أخرى تدنوها مرتبة يدخل ضمن اختصاص المحكمة وفي ضوء ذلك ينبغي تطبيق أحكام الدستور إذا تعارض القانون العادي معها. لأن الدستور أعلى وأسمى من كل القوانين الأمر الذي وجدت المحكمة من خلاله أنه يتوجب عليها الامتناع عن تطبيق الفقرة الخامسة من المادة المشار إليها من قانون العقوبات لمخالفتها المادة 120 من الدستور[39].
خاتمة:
وختاما يمكن القول بعد الدراسة البسيطة التي قمنا بها حول الحماية القضائية للحقوق الاجتماعية وفق دراسة مقارنة للأنظمة القضائية الغربية والعربية أن التقاضي شأن الحقوق الاجتماعية واللجوء إلى السلطة القضائية لحمايتها أصبح ممكنا، ولم يعد أمرا غير قابل للتطبيق، فأصبح بإمكان القاضي أن يقوم بدور رئيسيي في هذا المجال، بمعالجته للثغرات التشريعية، وأن يصحح تعسفا إداريا، وأن يلزم الحكومة بقرار إيجابي لفائدة فرد أو جماعة من الأفراد في مجال الحقوق الاجتماعية فهو نهج جديد للدولة الحديثة أو ما يطلق عليها الدولة الاجتماعية. غير أن الإشكال المطروح أنه مازال القضاء في بعض الدول يرفض تفعيل هذه الحماية القضائية وإنفاذها رغما عن تعاكسها مع مصالح الدولة التي تتدرع "بالموارد المالية المتاحة" لتقليص التزاماتها الاجتماعية والتنصل منها، وبالرغم من أهمية الحقوق الاجتماعية التي أقرها دستور 2011 وعمل على تقعيدها والتنصيص عليها في صلب الدستور، إلا أنها لازالت تصطدم ببعض الاشكالات على مستوى التنزيل المرتبطة خصوصا بعدم تطابقها مع الواقع المجتمعي المغربي وكذا عدم انسجام مقتضيات الدستور المعدل مع المواثيق الدولية ذلك أن الكثير من الحقوق المشار إليها في الدستور ضلت مرتبطة بصدور قانون منظم وهو المقتضى الذي يمكن أن يعرقل تنزيل هذه المقتضيات وبطئها لعدم وجود قانون تنظيمي أو عدم إنزاله هذه النصوص على وجه بناء وسليم. وكذا العمل على عدم مخالفة مقتضيات الدستور من طرف السلطات العامة هو الشيء الكفيل في إبراز بجلاء مدى احترام وتفعيل هذه الحقوق وحمايتها من عدمه، والقضاء أصبح له دور فعال في هذا المجال بعد سعي الدولة المغربية إلى تكريس مفهوم ومبادئ الدولة الاجتماعية في السنوات الأخيرة من خلال عدة برامج عملت على تنزيلها على أرض الواقع.
الدولة الاجتماعية تقع في قلب الديمقراطية التشاركية، وهي تضمن بأن الحقوق الأساسية لا تمنح فقط في القوانين الأساسية والرسمية بل تعاش على المستوى الواقعي والعملي[1]. وقد عرف مفهوم الدولة وبعدها الهوياتي الحديث خاصة بعد الثورة الفرنسية لسنة 1987 عندما برزت مفاهيم إلى السطح كالديمقراطية وحقوق الإنسان والطبقة الاجتماعية فعوضت معها مفاهيم أخرى كانت أساس الهوية القومية للدولة المركزية الملكية، كما ساهمت بشكل كبير في هذا التحول النظريات التحليلية الماركسية للنموذج البورجوازي وشكل ومضمون الدولة الحديثة.
وبسبب الصراعات التي نشأت إثر الهوة الكبيرة بين الطبقة البورجوازية والطبقة العاملة على المستوى الاقتصادي والاجتماعي في الدولة وما استتبعها من ثورات اشتراكية لتغيير الأنظمة الرأسمالية مع بداية القرن العشرين[2].
وعملت لجنة حقوق الإنسان في دورتها السابعة التي عقدت في عام 1951، وبمساعدة ممثلي منظمة العمل الدولية ومنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) ومنظمة الصحة العالمية على إعداد مشروعها الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، الذي تم تقديمه إلى المجلس الاقتصادي والاجتماعي، والذي ناقش مشاريع المواد وتدابير تنفيذها، وبعد المناقشات التي دارت في الجلسة العامة اعتمدت الجمعية العامة بالإجماع توصية اللجنة الثالثة (لجنة الشؤون الاجتماعية والانسانية والثقافية) الواردة في القرار 220 ألف (د-21). المؤرخ في 16 ديسمبر 1966، وفي تصويت منفصل بأغلبية 105 أصوات مقابل صفر ومعه بدأ نفاذ العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في 3 يناير 1976[3].
وبالرجوع إلى دستور 2011 نجده يتضمن وينص على مجموعة الحقوق السياسية والاجتماعية، حيث نجد أنه خص بابا كاملا للحقوق والحريات، كالفصل 19 الذي ينص على المساواة بين الرجل والمرأة في مختلف الحقوق[4]. والفصل 20 من الدستور الذي ينص على الحق في الحياة والعلاج والعناية الصحية والحماية الاجتماعية والتغطية الصحية[5]. والحصول على تعليم عصري ميسر الولوج وذي جودة كما هو منصوص عليه في الفصل 31 من الدستور[6]، ووجوب التدخل الإيجابي من طرف السلطات العمومية لتفعيل هذه الحقوق كما هو منصوص عليه في الفصلين 33 و34 من الدستور[7]. مما تبرز معه أهمية الحماية القانونية والقضائية للحقوق الاجتماعية.
ويستمد موضوع الحماية القانونية والقضائية للحقوق الاجتماعية أهميته من حيث الواقع والتشريع، بحيث تعتبر هي محور البناء الديمقراطي وتحقيق العدالة الاجتماعية وهي العمود الفقري لأي تنمية لارتباطها بأسمى شيء في الوجود وهو الإنسان وكرامته والإشكالية التي تطرح نفسها والتي سنحاول تفكيكها من خلال هذا البحث هي موقف القانون والقضاء المغربي من الحقوق الاجتماعية وأوجه الحماية التي استطاع المشرع والقضاء توفيرها للحقوق الاجتماعية من خلال النصوص والقرارات والأحكام الاجتماعية التي أصدرها؟
وتتفرع عن هذه الإشكالية مجموعة من الأسئلة نذكر منها، كيف قارب المشرع والقضاء موضوع حماية الحقوق الاجتماعية؟
وهل ساهم دستور 2011 في تحصين هذه الحقوق وتكريسها؟ وهل واكبت النصوص القانونية تطورات وتحولات المجتمع؟ وهي الإشكالية والأسئلة المتفرعة عنها التي سنحاول معالجتها من خلال التقسيم التالي:
المطلب الأول: الحماية الدستورية للحقوق الاجتماعية
الفقرة الأولى: أهمية إدراج الحقوق الاجتماعية في الدساتير
الفقرة الثانية: الحقوق الاجتماعية في دساتير مقارنة
الفقرة الثالثة: الحقوق الاجتماعية في دستور 2011
المطلب الثاني: الحماية القضائية للحقوق الاجتماعية
الفقرة الأولى: الاجتهادات القضائية المغربية
الفقرة الثانية: الاجتهادات القضائية المقارنة
المطلب الأول: الحماية الدستورية للحقوق الاجتماعية
كانت الحماية للحقوق الاجتماعية تجد أساسها في العادات والتقاليد، وكذلك المنظومة الإسلامية التي تحت على التعاون والتآزر والرحمة بالناس وواجب المساعدة الاجتماعية على المسلم كالزكاة لميسوري الحال[8]. قبل أن ينظمها القانون الوضعي كالإعلان العالمي لحقوق الإنسان لسنة 1948[9]. والعهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية من خلال المواد 9 و12 منه[10]. والاتفاقية 118 المتعلقة بالمساواة في المعاملة بين الوطنين والغير وطنين في ميدان الضمان الاجتماعي[11]. والاتفاقية 143 التي أكدت على حق الأجير في الحماية الاجتماعية[12].
وبالرجوع إلى المنظومة التشريعية المغربية نجد أن سلطات الحماية حاولت فرض بعض القوانين التي تضمنت حقوق اجتماعية لتشجيع المعمرين على الاستقرار في المغرب ومن بين هاته القوانين نجد الظهرين الصادرين سنة 1930 المتعلقين بنظام المعاشات المدنية، وبإحداث الصندوق المغربي للتقاعد[13]. وظهير الصادر سنة 1943 المتعلق بالتعويض على الأمراض المهنية[14].
وهو ما سنتطرق له في هذا المطلب من خلال أهمية إدراج الحقوق الاجتماعية في الدساتير (الفقرة الأولى)، وتكريسها وحمايتها في إطار دستور 2011 (الفقرة الثانية) والدساتير المقارنة (الفقرة الثالثة).
الفقرة الأولى: أهمية إدراج الحقوق الاجتماعية في الدساتير
تعتبر أكثر الطرق فعالية الاعتراف بالحقوق الاجتماعية للأفراد والجماعات من طرف الدولة وإلزامها بها لتطبيقها على أرض الواقع وهي إدراجها في الدستور باعتباره العقد الاجتماعي بين الأمة والشعب واسمى وثيقة قانونية في الدولة التي تنظم العلاقة بين الدولة والأفراد وبين المؤسسات فيما بينها والاحتكام إليه كلما كان هناك تعسف في استعمال السلطة من إحدى المؤسسات أو التماطل في تنفيذ إحدى الالتزامات المنصوص عليها دستوريا. وتعتبر الحماية الاجتماعية مجموعة من السياسات والبرامج التي تهدف إلى تقليص الفقر والهشاشة، كما أنه يمكن اعتبارها مجموعة من الآليات التي تروم مساعدة الأفراد على مواجهة آثار المخاطر الاجتماعية كالبطالة والشيخوخة والمرض وهي تقوم على مجموعة من المبادئ التي تسمح ببناء مجتمع ديمقراطي يتمتع بالعمل والمساواة والتضامن وتحقيق الرخاء الاجتماعي لكل أفراده من خلال التكافل الاجتماعي ومنظومة الحماية الاجتماعية تعتبر من أهم حقوق الإنسان الأساسية المنصوص عليها في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لسنة 1948 في المادة 22 منه[15]. وبحكم أن المغرب صادق عليه فكان لابد من سن قوانين تتلاءم مع الاتفاقيات الدولية لسموها على القوانين الوطنية عند المصادقة عليها وهو ما سنحاول التطرق له وإلقاء الضوء عليها من خلال مقتضيات ونصوص الدساتير المقارنة باعتبارها تندرج ضمن الحقوق الأصلية التي يكفلها القانون الدولي الانساني وتعمل على حمايتها جل دساتير الدول الديمقراطية من أجل توفير إطار قانوني موحد للقيم والمعايير المعترف بها دوليا.
الفقرة الثانية: الحقوق الاجتماعية في الدساتير المقارنة
بالرجوع إلى الدستور الفرنسي نجده في المادة 1 من الدستور ينص ويكرس مبدأ المساواة أمام القانون جميع المواطنين دون استثناء كيفما كان اصله أو جنسه أو ديانته[16]. وتمثل الحقوق الاجتماعية جزءا من القيم الأساسية التي تقوم عليها الجمهورية الفرنسية كما هو منصوص عليه في الدستور الفرنسي، ويندرج احترامها في صلب ممارسة حق المواطنة في فرنسا وفي التزاماتها داخل الاتحاد الأوربي والمنظمات الدولية وعلى مدار السنوات الأربعين الأخيرة، أصبح من الشائع الإشارة إلى الحقوق الاجتماعية بصفتها حقوق الجيل الثاني، أي إضافات إلى الحقوق المدنية والسياسية التي قدمها عصر التنوير الأوربي، حيث كان الفقر ظرفا قانونيا ينطوي على ضرورة مساعدة الفقراء، وجاءت هذه الحزمة من الحقوق وتمت دسترتها في دستور 1793 كأول مرة يتم التنصيص فيه على الحق في العمل والإعاشة والتعليم بعد الثورة الفرنسية 1789 قبل أن يتم حذفها تماما في دستور 1795 وذلك بعد الإشكالية التي طرحتها الحقوق الاجتماعية وتحولت إلى ابتزاز الأفراد وفرض ضرائب وضم الممتلكات من طرف المسؤولين على هواهم وبحسب الظروف وتقلب الأحوال[17].
وبناء على جملة من العوامل عاودت الحقوق الاجتماعية الظهور في القرن العشرين إذ ظهرت في دساتير أوربا والأمريكيتين في المكسيك 1917 وألمانيا 1919 وأيرلندا (1922 و1937) والاتحاد السوفياتي 1936 ودول أخرى. وفي عام 1944 طالب فرانكلين ديلانو روزفلت في كلمته الشهيرة ب "وثيقة حقوقية ثانية" تشمل الحق في عدم التعرض للعوز والتي من خلالها تم ضم الحقوق الاجتماعية إلى مسودة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان سنة 1948[18]. كما أن دستور 1958 الفرنسي المعدل سنة 2008 نجده ينص في المادة 34 من الباب الخامس على رزمة من الحقوق الاجتماعية إذ نجدها تنص في الفقرة الثانية على حق الجنسية ووضع الأشخاص وأهليتهم وأنظمة الملكية الزوجية والشركات والهبات وفي الفقرة الحادية عشر وما بعدها على الحق في التعليم والمحافظة على البيئة، ونظام الملكية وحقوق الملكية والالتزامات المدنية والتجارية، وقانون العمل وقانون النقابات العمالية والضمان الاجتماعي[19].
وبخصوص الدساتير العربية المقارنة نص الدستور المصري الصادر في عام 1971 في الباب الأول منه على مجموعة من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية تحت عنوان المقومات الأساسية للمجتمع وفي الباب الأول منه عرض للمقومات الاجتماعية حيث نجده على سبيل المثال نص في المادة 13 منه على أن العمل حق وواجبي وشرف تكفله الدولة، ويكون العاملون الممتازون محل تقدير الدولة والمجتمع، كما أورد عدم جواز فرض أي عمل جبرا على المواطنين إلا بمقتضى ولأداء خدمة عامة وبمقابل عادل[20]. وهو ما صار عليه الدستوري الحالي المصري المعدل بتاريخ 23 أبريل 2019 في الباب الثاني منه المنضوي تحت عنوان المقومات الأساسية للمجتمع في الفصل الأول وذلك في المادة 8 و9 و10 و11 و12 و13 و14 و15 و17 و18 و19 و20 و21 و22 و23 و25 التي قامت بالتنصيص ودسترة الحقوق الاجتماعية والتزام الدولة وكفالتها لهذه الحقوق[21]. وسار على نفس النهج تقريبا الدستور السوري الصادر في عام 1973 حيث نص على مجموعة من الحقوق الاجتماعية كالمادة 25 التي نص فيها على كفالة الدولة لمبدأ تكافئ الفرص بين المواطنين والمادة الثالثة والثلاثون على أنه لكل مواطن الحق بالتنقل في أراضي الدولة، وفي المادة 36 من الدستور على أن العمل حق لكل مواطن وواجب عليه والدولة تكفل ذلك وتكفل الضمان الاجتماعي للعاملين[22]. وحافظ الدستور السوري لسنة 2012 في الفصل الثالث على نفس التوجه حيث خصص الفصل كاملا للمبادئ الاجتماعية من المادة 19 إلى المادة 27 من نفس الدستور[23]. وهو نفس الاتجاه والنهج الذي سار على دربه الدستور الأردني لسنة 1952 والمشرع الجزائري وغيرهم من الدساتير العربية، أما بالنسبة للدستور المغربي هو ما سنتطرق له في الفقرة الثالثة.
الفقرة الثالثة: الحقوق الاجتماعية في دستور 2011
تضمنت بنود وأحكام الدستور تنصيصا صريحا وتكريسا للعديد من الحقوق الاجتماعية الواردة في العهد الدولي الخاص بالحقوق الاجتماعية وفي الاتفاقيات الدولية الأساسية الثمانية الصادرة عن منظمة العمل الدولية والمتعلقة بالحقوق الأساسية للإنسان في العمل[24]. وبالرجوع للمنظومة الدستورية المغربية منذ سنة 1962 إلى غاية دستور 2011 نجدها تناولت الحقوق الاجتماعية بصيغ وكيفيات مختلفة، حيث عرفت جل الدساتير والتعديلات المدخلة عليها إلى غاية 1996 ضعف وتواضعا من حيث دسترة الحقوق الاجتماعية دون أن تتأثر تلك النصوص بالواقع الداخلي المليء بالاحتجاجات الاجتماعية، أو بالتحولات التي عرفها العالم في هذا الجانب[25].
وجاء الدستور المغربي الجديد لسنة 2011 محكوما بسياق الانتفاضات العربية، وديناميكية حركة 20 فبراير الذي عرف قفزة نوعية ملحوظة من حيث دسترة الحقوق الاجتماعية، وكرس الحقوق الاقتصادية والاجتماعية كما هي متعارف عليها عالميا في المواثيق الدولية، حيث نجده نص على الحق في العمل في الفصل 31 منه حيث جاء فيه أنه تعمل الدولة والمؤسسات العمومية والجماعات الترابية على تعبئة كل الوسائل المتاحة لتيسير أسباب استفادة المواطنين والمواطنات على قدم المساواة من الحق في الشغل والدعم من طرف السلطات العمومية في البحث عن منصب شغل أو التشغيل الذاتي كما نص الدستور في نفس الفصل على الحق في الضمان الاجتماعي وهو من الحقوق التي تم إحداثها لتغطية المخاطر الحياتية والآفات التي يتعرض لها الفرد والشيخوخة والعجز عن كل ما من شأنه أن يحرم العامل من الاستفادة من أجره[26]. كما تولى الدستور المغربي الجديد لسنة 2011 على الحق في تكوين الأسرة والعمل على معالجة الأوضاع الهشة لفئات من النساء والأطفال والأشخاص المسنين والفئات ذوي الاحتياجات الخاصة وهو ما نجد معه الفصل الثاني والثلاثين ينص صراحة على أن الأسرة القائمة على علاقة الزواج الشرعي هي الخلية الأساسية للمجتمع، وتعمل الدولة على ضمان الحماية الحقوقية والاجتماعية والاقتصادية للأسرة بمقتضى القانون، كما تسعى الدولة لتوفير الحماية والاعتبار الاجتماعي والمعنوي لجميع الأطفال بكيفية متساوية بصرف النظر عن وضعيتهم العائلية[27].
كما أن الدولة تضمن لكل فرد الحق في عيش ملائم ومناسب لنفسه ولعائلته بما في ذلك الغذاء والملبس والمسكن والتطبيب والخدمات الاجتماعية والعناية الصحية والحماية الاجتماعية والتغطية الصحية والسكن اللائق[28].
المطلب الثاني: الحماية القضائية للحقوق الاجتماعية
فالحقوق الاجتماعية تتميز بخصوصيات ومميزات تميزها عن باقي الحقوق، بالنظر للأبعاد التي تأخذها، والمجالات التي تغطيها، وبالرغم من حرص القاضي على تحصين مختلف الحقوق، لكننا سنقتصر في هذا المطلب على الحقوق الاجتماعية، ولا شك أن تجليات هذه الحماية تتمظهر من خلال الحكام والقرارات القضائية التي تؤسس لقواعد ومبادئ في هذا المجال تضبط العلاقة بين الأفراد والمؤسسات والمرافق العامة، وسنتطرق من خلال هذا المطلب إلى الحماية القضائية للحقوق الاجتماعية في المنظومة القضائية بالمغرب (الفقرة الأولى)، والحماية القضائية للحقوق الاجتماعية على ضوء القضاء المقارن (الفقرة الثانية).
الفقرة الأولى: الحماية القضائية للحقوق الاجتماعية
نظرا لشساعة مجموع الحقوق الاجتماعية فإننا سنقتصر على التطرق لبعض الحقوق الاجتماعية الأكثر شيوعا وأهمية التي صدرت فيها أحكام وقرارات قضائية وعرفت احتدام كبير على مستوى الاجتهاد القضائي وهي:
أولا: الحق في التعليم
يمكن أن نشير في هذا الصدد إلى الحكم الصادر عن المحكمة الإدارية بالرباط عدد 541/5/2012 الصادر بتاريخ 2 ماي 2013 الذي جاء فيه "... وحيث لما كان الحق في التعليم يعد أهم الحقوق الأساسية للأفراد بالنظر لارتباطه بباقي الحقوق والحريات ويشكل دعامة لها ويسهم في توطيدها، فإنه يحظى برعاية دستورية من خلال الفصل 31 الذي حمل الدولة للالتزام بتعبئة كل الوسائل المتاحة لتسيير أسباب استفادة المواطنين والمواطنات على قدم المساواة، من الحق في الحصول على تعليم عصري ميسر الولوج، فضلا على أن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر بتاريخ 10 دجنبر 1948 نص في المادة السادسة والعشرين منه على أنه لكل شخص الحق في التعليم، ويجب أن يكون التعليم في مراحله الأولى والأساسية على الأقل بالمجان وأن يكون التعليم الأولي إلزاميا... وهو ما نص عليه العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في المادة 13 منه[29]. وعززت هذا الحق نفس المحكمة في حكم أخر عدد 41 بتاريخ 2002/4/17 جاء فيه أنه: "من المجمع عليه فقها وقضاء أن الوظيفة العمومية لم تكن تهدف تأمين مصلحة الموظف وإنما تهدف تأمين المصلحة العامة والتي تقدم على المصلحة الخاصة وإن كان بإمكان المدعي استعمال الإمكانية التي خولها إياه المشرع بطلب إحالته على الاستيداع عملا بمقتضيات الفصل 58 من قانون الوظيفة العمومية... يتعين على الإدارة أن تبين الأسباب التي اعتمدتها في الرفض وإن كانت غير ملزمة الافصاح عن هذه الأسباب في صلب قرارتها إلا حيثما يحتم عليها القانون ذلك فإن ضرورة قيام قراراتها على سبب تظل قائمة حيث تلزم بالكشف عن هذه الأسباب أمام القضاء وإثباتها وفي حالة تقاعسها أو عجزها عن ذلك يعتبر قرارها باطلا[30]. من خلال هذا الحكم يتبين وقوف القاضي الإداري أمام انتهاك أهم حق اجتماعي من حقوق الإنسان الأساسية وهو الحق في التعليم للموظف تحت ذريعة الحفاظ على استمرارية المرفق العام من سبب احتمالي وهو غياب الموظف على عمله وإخلاله بالتزاماته الوظيفية وهو ما دفع القاضي الإداري من إلغاء قرار الإدارة من منع الموظف من إكمال ومتابعة دراسته كما جاء في القرار عدد 398 الصادر بتاريخ 02/04/2008 في الملف عدد 152/07/5 في محكمة الاستئناف الإدارية بالرباط الذي جاء فيه: "إن إفصاح الإدارة أثناء جريان الدعوى عن سبب رفضها طلب المستأنف عليها الرامي إلى الاستفادة من المغادرة الطوعية.. يعطي للقضاء امكانية رقابة القضاء الإداري المطعون فيه من خلال المشروعية الداخلية والخارجية... وذلك لما اعتبرت بأن سبب رفض الإدارة لطلب المستأنف عليها يعود إلى ما يقتضيه السير العادي للمؤسسة التعليمية ومصلحة التلاميذ والمتمدرسين مع أن المعنية بالأمر مصابة بمرض عضال وأنها لا تستطيع استعمال يدها اليمنى بسبب بتر ثديها نتيجة لهذا المرض وبالتالي كان للإدارة الاستجابة لطلب المعينة بالأمر بدل التستر وراء المصلحة العامة التي أصبح من المستحيل تحقيقها أمام الوضع الصحي الخطير الذي تعاني منه المستأنف عليها... مما يجعل القرار الإداري المطعون فيه متسما بتجاوز السلطة لعيب السبب وموجبا بالتالي للإلغاء[31].
ثانيا: الحق في الصحة
بالنظر إلى أن الحق في الصحة من أعظم الحقوق التي أقرتها جل الدساتير الوطنية للدول وحتى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وحيث أن لا يخفى عن الشكل أن العمل الطبي المعهود إلى الطبيب والممارس على المرضى الذين يلجؤون إليه يمس جسد الإنسان وصحة وسلامة هذا الأخير، وهو ما يجعله قد يرتكب خطأ طبي على جسم الإنسان، مما جعل القضاء يتدخل لحماية صحة الإنسان يتضح ذلك من خلال عدة اجتهادات قضائية نذكر منها القرار عدد 681 الصادر، بتاريخ 27/05/1987 في الملف المدني عدد 5/8134 بأن مسؤولية الطبيب ليست مفترضة ولا تقوم على مجرد فكرة المخاطر، بل لابد من إثبات خطأ الطبيب المهني وكون هذا الخطأ هو السبب المباشر في حصول الضرر اللاحق بالمريض[32]. غير أن مسألة الإثبات في موقف القضاء أصبحت تعرف تغيرا يسير نحو التخفيف على المريض من عبئ الإثبات كما جاء في قرار لمحكمة الاستئناف بالدار البيضاء في الملف المدني عدد 83/2425 حيث اعتبر أن الطبيب ارتكب خطأ فنيا عن بينة واختيار حيث أقدم على توليد امرأة بطريقة عادية دون مراعاة ملفها الطبي الذي يشير إلى أنه لا يمكن توليدها إلا بإجراء عملية قيصرية وكذلك كما جاء في قرار لمحكمة النقض 1995 الصادر بتاريخ 20 أبريل 2010 في الملف المدني عدد 129/1/3/2008 بأن الطبيب الجراح ملزم ببذل عناية الرجل المتبصر حي الضمير وأن يشكل في ذلك مسلك الطبيب اليقظ من نفس مستواه المهني الموجود في نفس الظروف المحيطة به، وكل تقصير أو إهمال من طرفه مناف للأصول العلمية الثابتة في علم الطب يرتب المسؤولية المدنية معه تكون محكمة الموضوع قد بنت قرارها على أساس لما استخلصت من الخبرات الطبية أن الطبيب كان عليه أن يعلم من هذه الفحوصات ما فوق الصوتية وجود أورام برحمها يمكن أن تؤدي إزالتها بحسب االأصول العملية في ميدان الطب إلى نزيف دموي حاد واعتبرت عدم تحضيره لكمية الدم الكافية قبل الإقدام على العملية الجراحية يشكل إهمالا وتقصيرا منه، إلى جانب المصحة التي تأخرت في إحضار الدم من مركز تحاقن الدم مما أودى بحياتها إذ أن المصحة تتقاضى أجرا عن العمليات والاستشفاء بها وهي ملزمة بتوفير ما تستلزمه العمليات الجراحية من تجهيزات ومواد[33]. وهذه بعض النماذج من الحقوق الاجتماعية التي عمل القضاء الوطني على حمايتها على غرار القضاء المقارن في دول أخرى وهو ما سنتطرق له في (الفقرة الثانية).
الفقرة الثانية: الاجتهادات القضائية المقارنة
يطرح السياق الفرنسي، نموذجا خاصا في تعيين الحقوق والحريات الأساسية المشمولة بالحماية الدستورية والقضائية، حيث جرى تنظيم تلك الحقوق والحريات في إطار ما اتفق على تسميته بالكتلة الدستورية وقد عرفها القاموس الدستوري على أنها: "مجموعة المبادئ والقواعد ذات القيمة الدستورية التي من الواجب أن تحترم، وتفرض أحكامها على السلطة التشريعية والتنفيذية من طرف السلطة القضائية، أو بصورة أشمل على كل السلطات في الدولة[34]. وتتجسد الحماية القضائية للحقوق الاجتماعية من خلال مجموعة من الأحكام نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر في إحدى الأحكام الصادرة عن مجلس الدولة الفرنسي سنة 1795 في قضية "Cames" التي تتعلق القضية المذكورة بإصابة يد عامل في أحد مؤسسات الدفاع الوطني نتيجة تطاير شظايا الحديد مما أدى إلى عدم استطاعته استعمالها بصفة نهائية، وحصل على تعويض من وزير الحرب ولكن السيد Cames طالب في مجلس الدولة بزيادة التعويض، وارتكز مفوض الدولة "Romieu" إلى خصوصية مسؤولية الدولة وألزمها بالتعويض على اساس المسؤولية بدون خطأ، وهو ما جعل المحاكم والسلطة التشريعية تتبنى الموقف نفسه فيما بعد[35]. كما أن الحماية القضائية للحقوق الاجتماعية في الاتحاد الأوربي بصفة عامة من خلال الحكم الصادر عن المحكمة الأوربية لحقوق الإنسان بتاريخ 26 أكتوبر 2005 بستراسبورغ في الشكوى رقم 01/73316 المقدمة من مواطنة توغولية السيدة سيواء أكوفا سيليادين (المدعية) ضد الجمهورية الفرنسية التي كانت تعمل بدون أجر لدى زوجين فرنسيين وقام باستغلالها وعدم تسوية وضعيتها الإدارية واحتجاز جواز سفرها قبل أن تقوم إحدى الجارات بإعلام لجنة مناهضة العبودية الحديثة وإبلاغ النائب العام بوضع المدعية، وتمت متابعتهم باحتجاز شخص مستغلين ضعفه وتبعيته، في ظروف عمل وإقامة تتنافى مع الكرامة الإنسانية وتوظيفهم شخص أجنبي دون أن تكون له رخصة عمل وعدم تسوية وضعيتها الإدارية، فأصدرت المحكمة بالإجماع حكما يرفض الاعتراض المبدئي للحكومة المبني على أساس فقدان المدعية لصفة الضحية، وحكمت على الدولة المدعى عليها أن تدفع للمدعية في غضون ثلاثة اشهر 26209.69 يورو[36].
فالهواجس أصبحت واضحة بشكل أوسع حول قابلية إمكانية التقاضي بشأن الحقوق الاجتماعية في أجندة قضائية وسياسية عالمية لإنفاذ الحقوق الاجتماعية، وبالتالي، فإن الأمر يتعلق بالشروع في إعادة تحديد السياسات العامة والالتزامات الاجتماعية للدولة التي يكون القضاة فيها من العناصر المؤثرة.
وبالرجوع إلى القضاء المصري نجد مجموعة من التطبيقات القضائية التي تكرس لمبدأ الحماية القضائية للحقوق الاجتماعية، لذلك نجد مثلا أن المحكمة العليا دفعت بعدم دستورية البند 2 من الفقرة الثانية من المادة الأولى من القانون رقم 88 لسنة 2004 لتقريرها حد أقصى للزيادة المقررة لأصحاب المعاشات دون العاملين بالدولة حيث قررت لهم هذه الزيادة دون حد أقصى رغم وحدة الهدف وهو مجابهة الأعباء المعيشية المتزايدة، مما يعد تجاوزا من المشرع في استخدام سلطته في مجال تنظيم الحقوق وهو الأمر الذي يشكل مخالفة المادتين 17 و122 من الدستور. كما نجد نفس المحكمة قضت بعدم دستورية البند السادس من المادة 44 من قانون الضريبة العامة على المبيعات لمخالفة المادة المطعون فيها للمواد (26 و34 و74 و76 و77 و78 و81 و82 و168 و170) من الدستور المعنية بضوابط المحاكمة المنصفة وما تشتمل عليه من الحق في الدفاع وبمبدأ الأصل في البراءة ومبدأ العدالة الاجتماعية والمساواة حيث ساوت هذه المادة بين الطاعن وهو من قدم إقراره الضريبي مع من لم يقدم إقرارا ضريبيا من الأساس واعتبر الأخير متهربا من الضريبة أيضا[37]. أما بالنسبة للقضاء التونسي نجد المحكمة الإدارية في حكمها عدد 41/2861 بتاريخ 14 ماي 2009 تتجلى فيه أبعاد حماية الحق في التعليم حيث نصت في منطوق حكمها على أن طرد تلميذ نهائيا من جميع المعاهد يمثل انتهاكا لحقه في التعليم[38]. وهو نفس الاتجاه الذي صارت عليه جل التطبيقات القضائية للدول العربية كالحكم الصادر عن محكمة صلح جزاء عمان حيث قررت المحكمة في قرارها رقم 26/1999 الامتناع عن تطبيق نص في قانون العقوبات نظرا لعدم دستوريته، حيث قضت بأن المادة 389 الفقرة 5 منها تتعارض مع حق الشخص في التنقل داخل إقليم بلاده، كما تضمن الحكم تسبيبا واستنتاجا مهما عندما جاء في تعليل المحكمة إن البحث في دستورية القوانين هو من النظام العام وتمتلك المحكمة إثارته من تلقاء نفسها، وذلك لأن تطبيق القاعدة القانونية الأعلى عند تعارضها مع قاعدة أخرى تدنوها مرتبة يدخل ضمن اختصاص المحكمة وفي ضوء ذلك ينبغي تطبيق أحكام الدستور إذا تعارض القانون العادي معها. لأن الدستور أعلى وأسمى من كل القوانين الأمر الذي وجدت المحكمة من خلاله أنه يتوجب عليها الامتناع عن تطبيق الفقرة الخامسة من المادة المشار إليها من قانون العقوبات لمخالفتها المادة 120 من الدستور[39].
خاتمة:
وختاما يمكن القول بعد الدراسة البسيطة التي قمنا بها حول الحماية القضائية للحقوق الاجتماعية وفق دراسة مقارنة للأنظمة القضائية الغربية والعربية أن التقاضي شأن الحقوق الاجتماعية واللجوء إلى السلطة القضائية لحمايتها أصبح ممكنا، ولم يعد أمرا غير قابل للتطبيق، فأصبح بإمكان القاضي أن يقوم بدور رئيسيي في هذا المجال، بمعالجته للثغرات التشريعية، وأن يصحح تعسفا إداريا، وأن يلزم الحكومة بقرار إيجابي لفائدة فرد أو جماعة من الأفراد في مجال الحقوق الاجتماعية فهو نهج جديد للدولة الحديثة أو ما يطلق عليها الدولة الاجتماعية. غير أن الإشكال المطروح أنه مازال القضاء في بعض الدول يرفض تفعيل هذه الحماية القضائية وإنفاذها رغما عن تعاكسها مع مصالح الدولة التي تتدرع "بالموارد المالية المتاحة" لتقليص التزاماتها الاجتماعية والتنصل منها، وبالرغم من أهمية الحقوق الاجتماعية التي أقرها دستور 2011 وعمل على تقعيدها والتنصيص عليها في صلب الدستور، إلا أنها لازالت تصطدم ببعض الاشكالات على مستوى التنزيل المرتبطة خصوصا بعدم تطابقها مع الواقع المجتمعي المغربي وكذا عدم انسجام مقتضيات الدستور المعدل مع المواثيق الدولية ذلك أن الكثير من الحقوق المشار إليها في الدستور ضلت مرتبطة بصدور قانون منظم وهو المقتضى الذي يمكن أن يعرقل تنزيل هذه المقتضيات وبطئها لعدم وجود قانون تنظيمي أو عدم إنزاله هذه النصوص على وجه بناء وسليم. وكذا العمل على عدم مخالفة مقتضيات الدستور من طرف السلطات العامة هو الشيء الكفيل في إبراز بجلاء مدى احترام وتفعيل هذه الحقوق وحمايتها من عدمه، والقضاء أصبح له دور فعال في هذا المجال بعد سعي الدولة المغربية إلى تكريس مفهوم ومبادئ الدولة الاجتماعية في السنوات الأخيرة من خلال عدة برامج عملت على تنزيلها على أرض الواقع.
[1] - Soraya fersi, édition freindrich ebert stiftunger, académie politique, bonn ( deuxième édition actualisé (Novembre 2012, P4.
[2] - محمد أزوكاغ، الدولة الاجتماعية ومأسسة الحوار الاجتماعي، مقال منشور على الموقع الالكتروني www.modar21.com بتاريخ 16 سيتمبر 2022 على الساعة 17:39 تاريخ الزيارة 16/10/2022 على الساعة 16:00.
[3] - العهد الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية الذي تم اعتمدها من طرف الجمعية العامة للأمم المتحدة سنة 1966 والمصادق عليه من طرف المغرب سنة 1973.
[4] - الفصل 19 من الدستور المغربي
[5] - الفصل 20 من الدستو ر المغربي
[6] -الفصل 31 من الدستور المفربي
[7] - الفصلين 33و 34 من الدستور المغربي
[8] - يوسف الماموني، محمد العسري، عرض موضوع الحماية الاجتماعية، ماستر قانون ومقاولة، جامعة محمد الخامس الرباط سنة 2019، ص 3.
[9] - الإعلان العالمي لحقوق الإنسان المعتمد من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة في باريس في 10 كانون الأول ديسمبر 1948، بموجب القرار 21 بوصفه المعيار المشترك بين كافة الشعوب والأمم.
[10] - العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في معاهدة اعتمدتها الجمعية العامة للأمم المتحدة في 16 ديسمبر 1966 ودخلت حيز النفاذ من 3 يناير 1976.
[11] - اتفاقية العمل الدولية رقم 118 الخاصة في المعاملة بين الوطنين وغير الوطنين في الضمان الاجتماعي التي أقرها المؤتمر العام لمنظمة العمل الدولية في دورته السادسة والٍبعين بتاريخ 28/حزيران 1962 رقم 166 لسنة 1977.
[12] - الاتفاقية رقم 143 لمنظمة العمل الدولية لحماية حقوق جميع العمال المهاجرين وأفراد أسرهم بشأن الهجرة في أوضاع اعتسافية وتعزيز تكافئ الفرص والمعاملة للعمال والمهاجرين المعتمدة من قبل المؤتمر العام لمنظمة العمل الدولية في دورته الستين المنعقد بجنيف في 24 يونيو 1975 اصدر على اثره المغرب مشروع قانون 01.16 يوافق بموجبه على الاتفاقية رقم 143
[13] - ظهير شريف رقم 1.96.106 صادر في 21 من ربيع الأول 1417 (7 أغسطس 1996 بتنفيذ القانون رقم 43.95 القاضي بإعادة تنظيم الصندوق المغربي للتقاعد.
[14] - قرار وزير الشغل والشؤون الاجتماعية رقم 100.68 بتاريخ 20 ماي 1967 بتطبيق الظهير الشريف الصادر في 26 جمادى الأولى 1362 (31 ماي 1943) بتمديد المراض المهنية بالمقتضيات التشريعية المتعلقة بالتعويض عن حوادث الشغل.
[15] - يوسف الماموني، محمد العسري، عرض حول أسس الحماية الاجتماعية، جامعة محمد الخامس الرباط، سنة 2019، ص 4.
[16] - Article 1 de la constitution française
[17] - شارل والتون، ما الذي تخبرنا به الثورة الفرنسية عن تاريخ الحقوق الاجتماعية، مقال منشور على الموقع الالكتروني www.openglobalrighits.org.com .
[18] - نفس المرجع السابق
[19] - L’article 34 de la constitution français
[20] - المادة 13 من دستور مصر لسنة 1971.
[21] - دستور جمهورية مصر المعدل سنة 23 أبريل 2019 وهو تاريخ صدور قرار الهيئة الوطنية للانتخابات رقم 38 لسنة 2019 بإعلان موافقة الشعب على التعديلات الدستورية في الاستفتاء.
[22] - دستور الجمهورية السورية الصادر في 13 آذار/ماترس 1973 الموافق لسنة 1393/2/9 هـ وعدل بالقانون رقم 2 المؤرخ في 29 آذار/مارس 1980 والقانون رقم 18 المؤرخ في 3 تموز/يوليوز 1991، والقانون رقم 9 المؤرخ في 11 حزيران يونيو 2000.
[23] - دستور الجمهورية العربية السورية الصادر عام 2012.
[24] - شادية شطور الحقوق الاقتصادية والاجتماعية في الدستور الفرنسي مجلة المنظمة العربية القانون الدستوري الصادرة سنة 2018، ص 8.
[25] - عبد الرحمان علال، الحقوق الاقتصادية والاجتماعية في الدساتير المغربية، مقال منشور بمجلة المنظمة العربية للقانون الدستوري، الدورة الثالثة لسنة 2018، ص 64.
[26] - الفصل 31 من الدستور المغربي لسنة 2011.
[27] - الفصل 32 من الدستور الجديد 2011.
[28] - الفصل 31 من الدستور الجديد المغربي.
[29] - قرار صادر عن المحكمة الإدارية بالرباط عدد 541/5/2012 بتاريخ 2 ماي 2013.
[30] - قرار صادر عن المحكمة الإدارية بالرباط عدد 41 بتاريخ 2002/4/17.
[31] - قرار صادر عن محكمة الاستئناف بالرباط عدد 358 بتاريخ 02/04/2008 في الملف عدد 152/07/5.
[32] - قرار عدد 651 صادر عن محكمة الاستئناف بطنجة عدد 681 بتاريخ 27/05/1987 في الملف المدني عدد 5/8134.
[33] - قرار محكمة النقض عدد 1795 الصادر بتاريخ 20 أبريل 2010 في الملف المدني عدد 129/1/3/2008.
[34] - كريم القرقوري، اسس ومرجعيات القضاء الدستوري في حماية الحقوق والحريات الأساسية، مقال منشور على الموقع الالكتروني www.maroc.law.com بتاريخ 6 أكتوبر 2022، تاريخ الزيارة 2022/12/13 على الساعة 22:00.
[35] - د. محمد احمد سلامة مشعل، الضمانات الدستورية للحق في الصحة، مقال منشور بالمجلة القانونية، مجلة متخصصة في الدراسات والبحوث القانونية، دون ذكر السنة والعدد، ص 295.
[36] - قرار صادر عن المحكمة الأوربية لحقوق الإنسان بتاريخ 26 أكتوبر 2005، ستراسبورغ منشور على الموقع الرسمي للمجلس الأوربي لحقوق الإنسان.
[37] -
[38] - المعهد العلى للمحاماة قابلية الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للتقاضي الإطار القانوني والتطبيقات القضائية، الجمهورية التونسية وزارة العدل، تقرير تم إعداده سنة 2016 وتحينه سنة 2008، ص 121.
[39] - المنظمة العربية للقانون الدستوري الحقوق الاجتماعية والاقتصادية في الدساتير العربية أكاديمية القانون الدستوري الدورة الثالثة لسنة 2018، ص 48.