عرفت مضامين مسودة مشروع قانون المسطرة الجنائية بعد عرضها من طرف وزارة العدل والحريات على أنظار الرأي العام بمختلف مكوناته، من قضاة ومحامين ومهنيين وأساتذة جامعيين وحقوقيين وجمعويين…، نقاشا قانونيا وحقوقيا هاما عكس من جهة أهمية النص القانوني المذكور لصلته الوثيقة بمجال حساس يتعلق بحقوق وحريات الأشخاص ومكافحة الجريمة وحماية الأمن العام وسلامة الأشخاص والممتلكات، ومن جهة أخرى غنى مستجدات المشروع ومضامينه.
وفي إطار تتبع النقاش الدائر حول مضامين مسودة مشروع قانون المسطرة الجنائية، وما أفرزه من قراءات متعددة لأحكامها اختلفت بين مؤيد ومعارض حسب انتماءات أصحابها ومرجعياتهم الحقوقية أو القانونية أو السياسية…،
استوقفتني قراءة تم نشــــــــــرها في صفحــــــــات جريدة أخبـــــــــــار اليوم بـــــــــــعددها 10730 بتـــــــــاريخ 20 يونيو 2014 للأستـــــــاذ عبد الكبير طبيح المحامي بهيئة الدار البيضاء، أدخلت مسودة مشروع تعديل قانون المسطرة الجنائية قفص الاتهام والتمست الحكم عليها بأقصى العقوبات من أجل تهمة ضرب المكتسبات والتراجع في مجال الحقوق والحريات.
فهل يعكس صك الاتهام أعلاه، حقيقة مسودة مشروع قانون المسطرة الجنائية؟
اسمحوا لي أن أنتسب في هذه المناسبة الى أسرة الدفاع النبيلة، وأتطفل عليها وأرتدي جبة المحاماة دفاعا عن نصوص قانونية متهمة لم تتثبت بعد إدانتها بحكم نهائي، اقتناعا بمبدأ قرينة البراءة وليس انتصارا لهاته النصوص لأن أي عمل بشري قد يشوبه النقصان ولكن قد يصيب بعد التتميم والتقويم.
وقبل الدخول في مناقشة الملاحظات المثارة، التي يعتبرها صاحب المقال بمثابة تراجعات وضرب للمكتسبات، ينبغي استحضار بعض المعطيات كمفاتيح أولية أرى أن من شأنها مساعدتنا في الوقوف بجلاء على مضامين المشروع وفهم كنه مستجداته وتقييمه:
• أولا: تعتبر مسودة مشروع قانون المسطرة الجنائية نتاج مجهودات كبيرة للعديد من المختصين الذين اشتغلوا من خلال لجان كان آخرها لجنة علمية مختصة ضمت 28 عضوا من مشارب مختلفة، من بينهم، مسؤولون قضائيون ورؤساء غرف بمحكمة النقض وقضاة للتحقيق وقضاة للأحداث وتطبيق العقوبات، ومحامون وأساتذة جامعيون وضباط للشرطة القضائية وممثلون عن بعض القطاعات الحكومية ذات الصلة بمجال العدالة الجنائية.
هذا، ومن باب الغرابة أن صاحب المقال الأستاذ عبد الكبير طبيح كان من بين أعضاء اللجنة المذكورة بصفته محام. وهو إن لم يشارك في كافة حلقات النقاش فإنه وعد بتقديم اقتراحاته وملاحظاته للوزارة إلا أنه اختار أسلوب الخروج الإعلامي لم يشر فيه إلى أنه كان مدعواً للإسهام في الصياغة بل وتنازل في جزء مهم منها.
• ثانيا: تأتي أغلب مستجدات مشروع تعديل قانون المسطرة الجنائية، في إطار تنزيل توصيات الميثاق الوطني حول اصلاح منظومة العدالة التي كانت نتاج حوار وطني، حيث تم تنزيل حوالي 29 توصية من الميثاق تتعلق بالمنظومة الجنائية داخل أحكام المشروع؛
• ثالثا: إن بعض المستجدات الواردة في المشروع فرضتها ضرورة الملاءمة مع أحكام دستور المملكة لسنة 2011، وكذا الملاءمة مع العديد من الاتفاقيات الدولية ذات الصلة بحقوق الانسان ومكافحة الجريمة التي صادق عليها المغرب وتم نشرها بالجريدة الرسمية؛
• رابعا: انفتحت مسودة مشروع قانون المسطرة الجنائية على العديد من المبادئ التي كرسها العمل القضائي المغربي في نقط قانونية متعددة، وكذا على العديد من التشريعات الجنائية المقارنة الحديثة والمتطورة من قبيل القوانين الاجرائية الجنائية لكل من دول فرنسا وبلجيكا وإسبانيا وسويسرا…..؛
• خامسا: من الطبيعي أن تمس بعض قواعد المسطرة الجنائية بحقوق وحريات الأفراد، لأن قانون المسطرة الجنائية بقدر ما يهدف إلى حماية حريات الأفراد وضمان محاكمة عادلة لهم بقدر ما يروم مكافحة الجريمة وحماية الأمن العام وسلامة الأشخاص والممتلكات. وهي معادلة صعبة تقتضي حماية المصلحتين وعدم إهدار إحداهما للأخرى.
لكن ما ينبغي التأكيد عليه في هذا الاطار، هو ضرورة التقيد عند وضع قواعد إجرائية ماسة بحريات وحقوق الأشخاص بالضوابط والمعايير المتفق عليها عالميا، والتي لا تخرج عن مبادئ ثلاث أساسية تتجسد في مبدأ ” الضرورة ” أي لا مجال لوضع قاعدة إجرائية مقيدة للحرية مالم تقتضيها الضرورة، ومبدأ ” التناسب ” من خلال مراعاة التوازن بين الحرية أو الحق المراد المساس به والغاية المتوخاة من وضع القاعدة الاجرائية، ومبدأ “الشرعية ” الذي يقتضي احترام الضوابط المفروضة عند صياغة قاعدة قانونية.
• سادسا: إن ردنا على ملاحظات الاستاذ عبد الكبير طبيح لا يعني أن هذا النص مبرأ من العيوب خال من الثغرات إذ الحقيقة أنه مازال مجرد مسودة مشروع قانون يحتاج إلى التصويب والتنقيح، لكن ملاحظات الأستاذ عبد الكبير طبيح وبالصيغة التي أتت بها ما كان يمكن أن تقابل بالسكوت واللامبالاة خاصة مع وجود من انخدع بها، وظن وجاهتها بل وروج لها حتى جعل منها حجة لتسفيه مجهودات مشكورة لفعاليات علمية وقضائية ومهنية محترمة.
هذا، وبناء على ما طرحه صاحب المقال من انتقادات حول مضامين مسودة مشروع قانون المسطرة الجنائية حددت في 23 ملاحظة، نبسط وجهة نظرنا بشأنها مع الشرح والتعليل على النحو التالي:
الملاحظة (1): حصر حق إطلاع الرأي العام على القضايا المعروضة على القضاء في شخص النيابة العامة والشرطة القضائية ( المادة 15 من ق م ج):
ينبغي التأكيد في البداية على أن إقصاء المحامين والصحافة وأطراف القضية من الحق في إطلاع الرأي العام على القضايا المعروضة على القضاء لم يكن سلبا لحق كان مكرسا لهم قانونا، بل إن القانون الحالي يمنع صراحة إفشاء أسرار البحث والتحقيق على المشاركين في إجرائه، مما يحول دون إطلاع الرأي العام على الجرائم التي تسترعي اهتمامه. ولذلك فإن تعديل المادة 15 ذهب إلى سد هذا الفراغ عن طريق منح النيابة العامة حق إطلاع الرأي العام على القضايا المعروضة على القضاء. وأما إسناد هذه المهمة إلى النيابة العامة فقد أملته عدة اعتبارات ترجع بالأساس إلى أن النيابة العامة هي ممثلة المجتمع بما فيه المتهم أو المشتبه فيه تتحدث باسمه وتدافع عن مصالحه. زيادة على أن فسح المجال لها وحدها للإفصاح عن المعلومة القضائية سيؤدي الى تفادي المعلومات غير الصحيحة أو الملفقة من جهة. ومن جهة أخرى الى احترام نص القانون نفسه ومراعاة خصوصيات الأفراد، وضمان عدم التأثير على سير الأبحاث والتحريات القضائية والحفاظ على مبدأ قرينة البراءة.
وهو الاتجاه الذي كرسته العديد من التشريعات المقارنة، كما هو الحال بالنسبة للمشرع الفرنسي في القانون رقم 516/ 2000 الصادر بتاريخ 15 يونيو2000 ، الذي أضاف فقرة إلى مقتضيات المادة 11 من قانون المسطرة الجنائية تجيز لوكيل الجمهورية إطلاع الرأي العام حول مجريات قضية ما دون تقييم الاتهامات:
« Toutefois, afin d’éviter la propagation d’informations parcellaires ou inexactes ou pour mettre fin à un trouble à l’ordre public, le procureur de la république peut d’office et à la demande de la juridiction d’instruction ou des parties, rendre publics des éléments objectifs tirés de la procédure ne comportant appréciation sur le bien-fondé des charges retenues contre les personnes mise en cause ».
وكذا قانون الإجراءات الجزائية الجزائري لسنة 1966 بنصه ضمن أحكام الفقرة الثالثة من المادة 11 كما تم تغييرها وتتميمها بموجب القانون رقم 22.06 تاريخ 20 ديسمبر 2006 على ما يلي:
“غير أنه تفاديا لانتشار معلومات غير كاملة أو غير صحيحة أو لوضع حد للإخلال بالنظام العام يجوز لممثل النيابة العامة دون سواه أن يخبر الرأي العام بعناصر موضوعية مستخلصة من الإجراءات على أن لا تتضمن أي تقييم للاتهامات المتمسك بها ضد الأشخاص المتورطين”.
أما بخصوص القول بتعارض مستجد مشروع المادة 15 من ق م ج مع مبدأ الحق في الحصول على المعلومة، فيمكن القول على أنه إذا كان الحق في الحصول على المعلومة يعد من الحقوق الأساسية للإنسان، التي كرستها وكفلتها في نطاق واسع الأوفاق الدولية والتشريعات الوطنية، فإن المعايير الدولية ومختلف النصوص الوطنية المقارنة أجمعت على استثناء المعلومة القضائية من مجال الحق في الحصول على المعلومة باستثناء بعض المعلومات التي يمكن الافصاح عنها كالمعلومات الإدارية الصادرة عن السلطات القضائية (الإحصاءات القضائية، الوثائق الإدارية…)، أو المرتبطة بالقضايا الصادرة فيها أحكام قضائية غير قابلة للطعن أو الأبحاث القضائية التي اتخذ فيها قرار بالحفظ أو عدم المتابعة.
ونستدل في هذا الصدد بما أقرته العديد من المعايير الدولية والتشريعات المقارنة، وفق ما يلي:
1. على مستوى المعايير الدولية:
• تنص أحكام الفقرة الثالثة من المادة 19 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية على ما يلي: ” تستتبع ممارسة الحقوق المنصوص عليها في الفقرة 2 من هذه المادة واجبات ومسؤوليات خاصة. وعلى ذلك يجوز إخضاعها لبعض القيود ولكن شريطة أن تكون محددة بنص القانون وأن تكون ضرورية:
(أ) لاحترام حقوق الآخرين وسمعتهم؛
(ب) لحماية الأمن القومي أو النظام العام أو الصحة العامة أو الآداب العامة”.
• تنص أحكام الفقرة الثالثة من مبادئ الكومنولث لحرية المعلومات التي تم تبنيها في اجتماع وزراء العدل في الدول الأعضاء في رابطة الكومنولث بترينداد و توباغو سنة 1999 على ما يلي: “يجوز أن يخضع الحق في الإطلاع على المعلومات إلى إعفاءات محدودة ولكن يتعين الحرص على تضييقها”؛
• تنص أحكام المادة الثالثة من اتفاقية المجلس الأوربي بشأن الوصول إلى الوثائق الرسمية (تروموسو 18 يونيو 2009) إلى ما يلي: ” يجوز لكل طرف أن يقيد الحق في الحصول على الوثائق الرسمية ويجب تحديد القيود بصورة دقيقة في القانون. وأن تكون ضرورية في مجتمع ديمقراطي وأن تكون متكافئة مع الهدف المتوخى من حماية:
أ. ـــــــــــــــــــــــــــــــ ؛
ج. الوقاية من النشاطات الجنائية والتحقيق فيها وملاحقة مرتكبيها؛
ط. المساواة بين الأطراف في إجراءات المحاكمات والإدارة الفعالة لقطاع العدالة”.
• تنص أحكام المبدأ (11) من مبادئ جوهانسبورغ بشأن الأمن القومي وحرية التعبير عن الرأي والوصول إلى المعلومات لسنة 1996 على ما يلي: “لكل شخص الحق في الحصول على المعلومات من السلطات العامة بما فيها المعلومات ذات الصلة بالأمن القومي. ولا يجوز فرض أي قيد على هذا الحق على أساس الأمن القومي ما لم تبرهن الحكومة على أن القانون ينص على هذا القيد وعلى أنه ضروري في المجتمع الديمقراطي من أجل حماية مصلحة مشروعة من مصالح الأمن القومي”.
• تنص أحكام المادة 29 من القانون النموذجي حول حرية الإطلاع على المعلومات المعد من طرف منظمة المادة 19 (Article 19) على ما يلي: ” يحق للهيئة رفض تحديد حيازتها على وثيقة ما أو رفض إعطاء معلومات تتضمنها هذه الوثيقة إذا كان تقديم مثل هذه المعلومة يمكن أن يحدث ضررا جديا:
أ. الوقاية من الجريمة أو كشفها؛
ب. إلقاء القبض على المجرم أو محاكمته؛
ج. إدارة العدل؛
د. تقدير الضرائب أو الرسوم أو جمعهما؛
ه. إدارة مراقبة الهجرة؛
و. أو تقدير ما إذا كان تبرير الإجراءات المدنية أو الجزائية أو عمليات التسوية وفقا لأي قانون”.
2. على مستوى التشريعات المقارنة:
ذهبت جل التشريعات الوطنية الخاصة بضمان حق الحصول على المعلومة إلى التنصيص على استثناء المعلومة القضائية من المعلومات الواجبة الإطلاع، اهتداء بما أرسته المعايير والمقاييس المثلى في هذا الإطار:
• تنص أحكام المادة الثانية (2) من القانون السويدي لسنة 1978 بشأن حرية الصحافة على ما يلي: “يجوز تقييد الحق في الإطلاع على المعلومات إذا كان هذا التقييد ضروريا فقط مع الأخذ في الاعتبار.
1. ……
2. ……
3. ……
4. المصلحة المتمثلة في منع الجريمة وملاحقة مرتكبيها”.
• تنص أحكام المادة الثالثة (3) من القانون الفيدرالي السويسري لسنة 2007 بشأن مبدأ حرية المعلومات في الإدارة العامة على ما يلي:
1. لا يسري هذا القانون على:
أ. الحصول على الوثائق الرسمية التي تتعلق بـ:
1. الإجراءات المدنية؛
2. الإجراءات الجنائية؛
3. إجراء المساعدة القانونية والإدارية والدولية؛
4. إجراءات تسوية المنازعات الدولية؛
5. الإجراءات القضائية الدستورية والإدارية؛
6. إجراءات التحكيم.
ب. التشاور الذي يجريه طرف من الأطراف بشأن ملف القضية الذي يخضع للإجراءات الإدارية أمام محكمة البداية”.
• تنص أحكام الفصل السادس (6) القانون الفرنسي بشأن مختلف مقاييس تطوير العلاقات بين الإدارة والعموم ومختلف مقتضيات النظام الإداري على ما يلي:
« Ne sont pas communicables :
1. Les avis des conseils d’état et juridictions administratives, les documents de la cour des comptes mentionnés à l’article L-141-10 du code des juridictions financières et les documents des chambres régionales des comptes mentionnées à l’article L-241-6 du même code.
2. Les autres documents administratifs dont la consultation ou la communication porterait atteinte.
a. ……
b. ……
c. ……
d. ……
e. ……
f. Au déroulement des procédures engagées devant les juridictions ou d’opérations préliminaires à de telles procédures, sauf autorisation donnée par l’autorité compétente.
g. A la recherche, par les services compétents, les infractions fiscales et douanières. »
• تنص أحكام المادة الثالثة عشر (13) من قانون ضمان حق الحصول على المعلومات الأردني لسنة 2007 على ما يلي:
أ. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ؛
ح. التحقيقات التي تجريها النيابات العامة أو الضابطة العدلية أو الأجهزة العدلية بشأن أي جريمة أو قضية ضمن اختصاصها وذلك التحقيقات التي تقوم بها السلطات المختصة للكشف عن المخالفات المالية أو الجمركية أو البنكية ما لم تأذن الجهة المختصة للكشف عنه”.
الملاحظة (2): رفع أجل سحب جواز السفر وإغلاق الحدود من شهر إلى ثلاثة أشهر بإذن من النيابة العامة (المادة 40 من ق م ج.
يعتبر إجراء سحب جواز السفر وإغلاق الحدود من بين أهم التدابير المخولة للنيابة العامة خلال مرحلة البحث والتحري بالنسبة للجنح المعاقب عليها بسنتين حبسا أو أكثر، إذا اقتضت ذلك ضرورة البحث لمدة لا تتجاوز شهرا واحدا، مع إمكانية تمديد هذا الأجل لغاية انتهاء البحث إذا كان الشخص المعني بالأمر هو المتسبب في تأخير إتمامه.
غير أن ما ورد من انتقاد بشأن مقتضيات المادة 40 من مشروع مسودة قانون المسطرة الجنائية، فيما يتعلق برفع أجل سحب جواز السفر وإغلاق الحدود إلى ثلاثة (3) أشهر، من خلال منح النيابة العامة سلطة تمديد أجل الشهر إلى مرتين، يبقى غير مبني على أساس، لاعتبارات عدة يمكن إجمالها فيما يلي:
- رفع الأجل المذكور يبقى مجرد إمكانية للنيابة العامة بالنسبة فقط للجرائم المنصوص عليها في المادة 108 من ق م ج، نظرا لخطورتها على أمن الدولة وسلامة الاقتصاد والأشخاص؛
- أثبت واقع الممارسة العملية أن إنجاز الأبحاث بالنسبة للجرائم المنصوص عليها في المادة 108 من ق م ج، يتطلب مددا طويلة قد تفوق مدة الشهر، نظرا لطبيعتها المعقدة و ما قد يرافق عملية التحري عنها من إجراءات كالأمر بإجراء خبرات والإطلاع على الحسابات البنكية وتتبع حركة الأموال والعقارات وانتظار مآل بعض الانابات القضائية التي قد تكون منجزة على المستوى الدولي….؛
- بقدر ما ينظر إلى إجراء سحب جواز السفر وإغلاق الحدود كإجراء مقيد لحرية الأشخاص في التنقل والسفر، فإنه يساعد الأجهزة المكلفة بالبحث على الوصول إلى الحقيقة ويمنح المشتبه فيه فرصة لإعداد وسائل دفاعه، كما يعتبر إجراء كفيلا بضمان حضور المتهم دون اللجوء إلى تقييد حريته. وفضلا عن ذلك فإنه يعتبر بديلا للاعتقال الاحتياطي، حيث إنه بدون هذا الإجراء سيتم اللجوء إلى التحقيق والتماس تطبيق الاعتقال الاحتياطي إلى غاية نهاية الأبحاث، علما أن مدة الاعتقال الاحتياطي تكون أطول، ولذلك فلا يمكن اعتبار هذا الإجراء تراجعا لأنه يهدف إلى إعطاء الإمكانيات لإجراء البحث الجنائي دون اللجوء إلى الاعتقال.
الملاحظة (3): إلغاء إجراء استنطاق المتهم من طرف النيابة العامة قبل إصدار أمر باعتقاله ( المادة 47 من ق م ج:
بالرجوع الى التعديل الذي طال مقتضيات المادة 47 من قانون المسطرة الجنائية يظهر أن مسألة إلغاء إجراء استنطاق المتهم من طرف النيابة العامة قبل إصدار أمر بإيداعه بالسجن تبقى غير قائمة، وأن هناك فقط لبس في فهم المادة أو حرص على تصيد ما يعتبر ثغرات أو تراجعات بخلاف الواقع بسبب حذف عبارة ” فإن وكيل الملك يقوم باستنطاق المشتبه فيه ” من مقتضيات الفقرة الأولى من المادة المذكورة .
وما يؤيد فكرة الاحتفاظ بإجراء الاستنطاق ما تضمنته مقتضيات الفقرة الثانية من نفس المادة، التي تنص صراحة على استعانة وكيل الملك بترجمان أو بكل شخص يحسن التخاطب أو التفاهم مع من يقع استنطاقه عند الاقتضاء. زيادة على أن المادة 47 من ق م ج تحيل على مقتضيات المادة 74 من نفس القانون التي تنص صراحة على إجراء استنطاق المتهم عن هويته والأفعال المنسوبة اليه من طرف وكيل الملك.
وإذا كانت مسودة المشروع قد تلافت الاحتفاظ بالصياغة المذكورة منعا لتكرارها في المادة 74، فإنه تفاديا لأي تأويل مماثل لما قام به الأستاذ طبيح سيتم الاحتفاظ بتلك الصياغة في المادة 47 رغم تكرارها في المادة 74.
الملاحظتان (4) و (5): اختصاصات الوكيل العام لملك لدى محكمة النقض ( المادة 51 من ق م ج.
أثار الأستاذ عبد الكبير طبيح في مقاله مجموعة من الملاحظات حول مقتضيات المادة 51 من مسودة مشروع قانون المسطرة الجنائية، انتقد فيها توجه المشروع نحو توسيع صلاحيات وسلطات مؤسسة الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض، من خلال إسناده رئاسة النيابة العامة بدلا من وزير العدل وتخويله صلاحية مراجعة الأحكام والسهر على تطبيق القانون الجنائي في مجموع إقليم المملكة وتحصينه من المتابعة القضائية.
والجدير بالذكر، أنه من باب الغرابة أن نسمع بمثل هذا القول في ظل تعدد الأصوات الداعية الى فصل سلطة وزير العدل عن النيابة العامة باعتباره يمثل سلطة تنفيذية، ومنحها للوكيل العام للملك لدى محكمة النقض كمؤسسة قضائية، وهي الأصوات التي كان لها التأثير البالغ على توجه مسودة المشروع الحالي رغم أن العديد من التشريعات المقارنة مازالت تحتفظ بتبعية النيابة العامة لوزير العدل.
هذا، ويأتي التوجه المذكور في إطار تنزيل توصيات ميثاق إصلاح منظومة العدالة خاصة التوصيات 37 إلى 41 منه المرتبطة بالهدف الفرعي السابع المعنون ب ” استقلال النيابة العامة عن السلطة التنفيذية”، التي نصت صراحة على إسناد رئاسة النيابة العامة إلى الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض ومنحه صلاحية توجيه التعليمات القانونية إلى الوكلاء العامين للملك…، هذه التوصية التي لم تكن سوى رجع الصدى للمطالبات الحقوقية التي كادت أن تجمع على هذا الاختيار.
ومن الطبيعي أن تنقل على ضوء هذا التغيير، السلطات التي كانت مخولة لوزير العدل والحريات إلى السلطات القضائية الجديدة ولاسيما المجلس الأعلى للسلطة القضائية أو الرئيس المنتدب له أو الوكيل العام للملك بوصفه رئيسا للنيابة العامة. إذ ستنقل الدعوى العمومية إلى السلطة الجديدة التي ستحل محله وهي الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض كما قررت ذلك توصيات الميثاق، وكما ضمن في مشروع القانون التنظيمي المتعلق بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية. وهذه الصلاحيات التي يخولها القانون الحالي لوزير العدل والحريات بوصفه رئيسا للنيابة العامة تهم ممارسة الدعوى العمومية وبعض الطعون كالمراجعة والطعن بالنقض لفائدة القانون والاحالة من أجل تجاوز السلطة، أو تنفيذ العقوبات …
الملاحظة (6): استشارة النيابة العامة في تعيين قضاة التحقيق (المادة 52 من ق م ج.
يعين قضاة التحقيق في إطار مقتضيات المادة 53 من ق م ج الجاري به العمل حاليا من بين قضاة الحكم داخل المحاكم الابتدائية والاستئنافية لمدة ثلاث سنوات قابلة للتجديد بقرار لوزير العدل والحريات، بناء على اقتراح من رؤساء المحاكم.
ويروم مشروع تعديل قانون المسطرة الجنائية في إطار المادة 53 المذكورة، إلى منح صلاحية تعيين القضاة المكلفين بالتحقيق إلى الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية بدلا من وزير العدل، بناء على اقتراح من رؤساء المحاكم وبعد استشارة النيابة العامة.
وقد تم التنصيص على استشارة النيابة العامة عند اقتراح قضاة التحقيق من طرف رؤساء المحاكم، في إطار الاستنارة والاسترشاد برأيها فقط وليس على سبيل الإلزام والوجوب، وذلك بفعل احتكاكها اليومي في العمل مع قضاة الحكم من جهة، ومع قضاة التحقيق الممارسين لكون النيابة العامة تعد طرفا أصليا في سير إجراءات التحقيق خولها المشرع صلاحيات مهمة في هذا الإطار، ورأيها لا يلزم السلطة التي تملك حق التعيين وهي الرئيس المنتدب للسلطة القضائية.
وتبقى غاية هذا التوجه هو المساهمة في اختيار قضاة مؤهلين للقيام بمهام التحقيق لطابعه الخاص والمهم في كشف الحقيقة وتنوير العدالة، ولا علاقة لذلك على الاطلاق بمسألة المساس باستقلال القضاة وتحكم النيابة العامة في قضاء الحكم كما يشير إلى ذلك صاحب المقال، نظرا للطابع الاستشاري لرأي النيابة العامة من جهة، واحتفاظ الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية وحده بصلاحية اتخاذ قرار تعيين قضاة التحقيق.
الملاحظة (7) : السماح بإجراء التفتيش في جميع الأماكن دون التقيد بأية ضوابط (المادة 59 من ق م ج.
توجهت إحدى ملاحظات الأستاذ طبيح على مسودة مشروع تعديل قانون المسطرة الجنائية، إلى انتقاد ما تضمنته مقتضيات المادة 59 منها، في شأن إضافة فقرة ثالثة أفرغت إجراء التفتيش من محتواه حينما نصت على إجرائه في جميع الأماكن دون تقييده بضوابط محددة وقد وردت صيغة الفقرة على النحو التالي:
“يجري التفتيش في جميع الأماكن التي يمكن أن يعثر بها على مستندات أو وثائق أو معطيات معلوماتية أو أشياء مفيدة في إظهار الحقيقة”.
غير أنه بالرجوع إلى مقتضيات المادة 59 المشار إليها أعلاه، يظهر أن هذا الانتقاد يفقد وجاهته، لقيامه على قراءة ضيقة لأحكام الفقرة الثالثة المضافة بموجب المشروع دون ربطها بمقتضيات المادة 59 بأكلمها التي تضع ضوابط وقيود على تفتيش الأماكن تسري حتى على أحكام الفقرة الثالثة المضافة وذلك حسب الغاية المخصصة لها، سواء كانت معدة للسكنى أو الاستعمال المهني، زيادة على الضوابط المحددة في المادتين 60 و62 من نفس القانون التي تطبق على إجراء التفتيش فيما يخص الكيفية والمدة المسموح بها قانونا.
وما يؤكد الطرح المذكور إشارة المادة 60 نفسها إلى ضرورة مراعاة مقتضيات المادة 59 من ق م ج بصريح العبارة التالية:
“يطبق ما يلي مع مراعاة مقتضيات المادة السابقة”.
الملاحظة (8): منح النيابة العامة صلاحية التصرف في الحجج التي يتم حجزها وذلك بحذفها النهائي للدعامة المادية التي لم توضع رهن إشارة المحكمة في حالات محددة. (المادة 59 من ق م ج).
نصت مقتضيات الفقرة الثامنة من المادة 59 من مشروع ق م ج على أنه يمكن لكل من الوكيل العام للملك ووكيل الملك كل فيما يخصه، صلاحية الأمر بالحذف النهائي للنسخة الأصلية من الدعامة المادية التي لم توضع رهن إشارة المحكمة بعد أخذ نسخة منها، وذلك إذا كانت حيازة النسخة أو استعمالها غير مشروع أو كانت تشكل خطرا على أمن الأفراد أو الممتلكات أو منافية للأخلاق العامة.
وقد انصب الانتقاد الموجه إلى هذا المستجد، على منح النيابة العامة صلاحية التصرف في الحجج المحجوزة بمنحها أحقية الحذف النهائي لها في الحالات المشار إليها أعلاه.
غير أن سن الإجراء المذكور أملته ضرورة ملاءمة القانون الوطني مع المعايير الدولية المعتمدة في مجال مكافحة الجريمة المعلوماتية، لا سيما أحكام اتفاقية بودابست (Budapest) المتعلقة بالجريمة المعلوماتية لسنة 2001 التي انضم إليها المغرب مؤخرا وذلك في إطار انخراطه في حماية المجتمع ضد الجريمة المعلوماتية، واستكمال المبادرات التشريعية في هذا الصدد لا سيما فيما يخص دعم الأبحاث والإجراءات الجنائية.
والجدير بالذكر، أن اتفاقية بودابست لمكافحة الجريمة المعلوماتية نصت صراحة على إجراء الحذف النهائي للنسخة الأصلية من الدعامة المادية بعد أخذ نسخة منها، وذلك إذا كانت حيازة النسخة أو استعمالها غير مشروع أو كانت تشكل خطرا على أمن الأفراد أو الممتلكات أو منافية للأخلاق العامة. كما أن العديد من التشريعات المقارنة تبنت الاجراء المذكور في إطار ملاءمة قانونها مع الاتفاقية المذكورة كما هو الحال بالنسبة للقانون البلجيكي ل 28 نونبر 2000 المتعلق بالجريمة المعلوماتية.
الملاحظة (9) : اعتبار منح الشرطة القضائية الحق في استدعاء أي شخص لسماعه وإرغامه على الحضور في حالة امتناعه بمثابة مساس بالحق في الصمت (المادة 60 من ق م ج).
ينبغي التأكيد في البداية على أن المقتضى القانوني الوارد في المادة 60 من ق م ج، في شأن منح الشرطة القضائية حق استدعاء الأشخاص للاستماع إليهم مع إرغامهم على الحضور في حالة الامتناع، لا يعد مستجدا أقرته مسودة مشروع قانون المسطرة الجنائية، وإنما يعود إلى القانون رقم 22.01 المتعلق بالمسطرة الجنائية الصادر سنة 2002 التي كان صاحب الانتقاد الأستاذ طبيح عضوا بلجنة مناقشة أحكامها داخل المؤسسة التشريعية، وأن ما طرأ على المادة المذكورة من تعديل فإنما يخص فقط إضافة عبارة ” المستندات أو المعطيات المعلوماتية” إلى أحكام البند الثالث. وذلك في إطار ملاءمة القانون الوطني مع اتفاقية بودابست لمكافحة الجريمة المعلوماتية لا غير.
ومع ذلك فإن ربط المقتضى المذكور “بالحق في الصمت” يبقى في غير محله، لأن ما تضمنته أحكام المادة 60 من ق م ج يتعلق بالاستدعاء للاستماع والإرغام على الحضور في حالة الامتناع وهو إجراء يتعلق بالأشخاص غير المشتبه فيهم الذين من شأنهم إفادة مجريات البحث في حين يرتبط الحق في الصمت بالمشتبه فيهم.
ولو فرضنا أن إجراء الاستدعاء للاستماع يشمل المشتبه فيهم فإن الأمر يتعلق بمجرد الحضور والنص لا يجبر من حضر على الإفادة والتصريح، ومن ثم يبقى الحق في الصمت محفوظا وفق الضوابط المحددة قانونا.
زيادة على أنه من غير المعقول ترك الحرية للأطراف لعدم الامتثال لاستدعاءات الشرطة القضائية، لأن في ذلك مساس بهبة مؤسسات الدولة وتشجيع على الفوضى وعدم الامتثال.
الملاحظة (10): منح الوكيل العام للملك صلاحية الأمر بالاعتقال في غير حالة التلبس (المادة 1-73 من ق م ج.
تقوم هذه الملاحظة على انتقاد توجه مشروع ق م ج، فيما يخص منح الوكيل العام للملك صلاحية إحالة المتهم في حالة اعتقال على المحكمة في غير حالة التلبس، ولو في غياب الاعتراف وتوفر ضمانات الحضور.
غير أنه بالرجوع إلى مقتضيات المادة 1-73 من مشروع ق م ج، يتضح أن صلاحية الوكيل العام للملك في إحالة المتهم في حالة اعتقال في غير حالة التلبس يبقى مرتبطا بحالة عدم كفاية تدابير المراقبة القضائية، أو تأثير الإحالة في حالة سراح على حسن سير العدالة، وذلك وفق المسطرة المنصوص عليها في المادة 1-47 من نفس القانون التي تشترط توفر أحد الأسباب الآتية:
- إذا اعترف المتهم بالأفعال المكونة لجريمة يعاقب عليها بالحبس أو ظهرت أدلة قوية على ارتكابه لها أو المشاركة فيها، والذي لا تتوفر فيه ضمانات كافية للحضور؛
- إذا ظهر أنه خطير على النظام العام أو على سلامة الأشخاص أو الأموال؛
- إذا كان الأمر يتعلق بأفعال خطيرة، أو إذا كانت حجم الضرر الذي أحدثته الجريمة جسيما؛
- إذا كانت الوسيلة المستعملة في ارتكاب الفعل خطيرة.
هذا، زيادة على أنه يشترط في قرار الاعتقال أن يكون معللا (الفقرة الأخيرة من المادة 1-47 ق م ج) كما أنه يبقى قابلا للطعن للنظر في مدى شرعيته (المادة 2-73 ق م ج).
الملاحظة (11): اختيارية التحقيق في الجنايات (المادة 83 من ق م ج.
اختلف نطاق التحقيق في ظل التشريعات المقارنة، حسب طبيعة نظامها القانوني والقضائي وما عاشته من تجارب في إطار تطبيق قضاء التحقيق، وعلى ضوء ذلك تعددت الخيارات المعتمدة بين اتجاه لا يقر بقضاء التحقيق داخل نظام عدالته الجنائية بناء على مؤيدات معينة، واتجاه ثان يعتمد نظام قضاء التحقيق مع اختلاف في تحديد مجالات تدخله بين الإلزامية والاختيارية حسب نوع الجرائم وطبيعتها.
وبالرجوع إلى التجربة المغربية، يظهر أن المشرع المغربي أقر قضاء التحقيق داخل منظومتنا الجنائية منذ عدة سنوات، فقد كانت المادة 84 من قانون المسطرة الجنائية لسنة 1958 تنص على إلزامية التحقيق الإعدادي في جميع الجنايات واختياريته في الجنح ما لم يوجد نص خاص كما كانت تسمح للنيابة العامة بإحالة المخالفات على التحقيق، وقد تم تكريس نظام قضاء التحقيق في ظهير الإجراءات الانتقالية لسنة 1974 الذي حول البت في الجنايات إلى محاكم الاستئناف ونقل قضاة التحقيق إلى هذه المحاكم، مع الاحتفاظ بقضاء التحقيق في الجنح في حالة وجود نص خاص.
ونظرا للأهمية التي أصبحت تكتسيها بعض الجنح كالجرائم الاقتصادية والمالية والجنح الخطيرة أقر قانون المسطرة الجنائية لسنة 2002 مبدأ ثنائية التحقيق، فجعل التحقيق إلزاميا على مستوى محاكم الاستئناف في الجنايات المعاقب عليها بالإعدام أو السجن المؤبد أو التي يصل حدها الأقصى إلى ثلاثين سنة، وكذا في الجنايات المرتكبة من طرف الأحداث فيما يكون اختياريا فيما عدا ذلك من الجنايات، وأحدث مؤسسة قضاء التحقيق داخل المحاكم الابتدائية وجعل التحقيق إلزاميا في الجنح بنص خص واختياريا في الجنح المرتكبة من قبل الأحداث وفي الجنح التي يكون الحد الأقصى للعقوبة المقررة لها خمس سنوات.
ويأتي مستجد مشروع ق م ج بخصوص إقرار اختيارية التحقيق في الجنايات وحذفه في الجنح ما لم يقرره نص خاص، في إطار تنزيل توصيات ميثاق إصلاح منظومة العدالة خاصة التوصية رقم 85، وكذا ما سجله النقاش الدائر في الساحة القانونية والقضائية ببلادنا وباقي الدول التي تأخذ بنظام التحقيق من أصوات داعية إلى إعادة النظر في المؤسسة المذكورة نحو الإلغاء الكلي أسوة بما أقرته العديد من التشريعات المقارنة كألمانيا وإيطاليا وسويسرا التي منحت مهمة التحقيق للنيابة العامة أو العمل على الإبقاء عليه، وتجاوز سلبياته.
وعلاوة على ذلك فإن اعتماد اختيارية التحقيق في الجنايات جاء لتجاوز بعض السلبيات التي سجلتها الممارسة العملية من قبيل:
- ارتفاع عدد القضايا المحالة على التحقيق، إذ بلغت مثلا سنة 2011 ما مجموعه 10.680 مطالبة بإجراء تحقيق أمام محاكم الاستئناف بالمملكة مقارنة مع 8509 مطالبة أمام كافة المحاكم الابتدائية أي بنسبة 65%، وهو ما يؤثر على مردودية ونجاعة القضاء نتيجة تضخم عدد قضايا التحقيق رغم أن العديد منها يكون جاهزا؛
- مساهمة التحقيق في ارتفاع حالات الاعتقال الاحتياطي وطول مدة البت في القضايا، زيادة على ما يرافقه من إجراءات ماسة بحريات الأشخاص وممتلكاتهم كأوامر إغلاق الحدود وسحب جواز السفر وأوامر حجز الممتلكات وتجميدها….؛
- إلزام النيابة العامة بتقديم مطالبات بإجراء تحقيق في قضايا جاهزة.
كما ينبغي الاشارة إلى أن مسألة اختيارية التحقيق في الجنايات لا تشكل صلاحيات مضافة للنيابة العامة لتقوية سلطتها كما أشار إلى ذلك صاحب المقال، ما دامت المحاضر في الجنايات تعتبر مجرد بيانات ليست لها قوة إلزامية.
الملاحظة (12): تقييد حق المتضرر في الانتصاب كطرف مدني في حالات الجرائم القابلة للتحقيق (المادة 92 من ق م ج.
جاء مشروع تعديل قانون المسطرة الجنائية بمقتضى جديد طال مقتضيات المادة 92 من نفس القانون، تم من خلاله التنصيص على تقييد حق المتضرر في تقديم شكاية مباشرة أمام قاضي التحقيق بضرورة ارتباطها بجناية أو جنحة قابلة للتحقيق. الأمر الذي دفع الأستاذ طبيح إلى القول بأن هذا المستجد يشكل تراجعا على مكتسبات القانون رقم 22.03 المتعلق بالمسطرة الجنائية لتقييده حق المتضرر في تحريك الدعوى العمومية من جهة، وتأكيد احتكار النيابة العامة لسلطة المتابعة من جهة أخرى.
غير أن هذا القول يبقى مردودا، إذا علمنا أن التعديل الذي طال مقتضيات المادة 92 من ق م ج، لم يأت بأي مقتضى جديد وإنما مجرد تحصيل حاصل لأنه لا يعقل أن تتقيد سلطة النيابة العامة في المطالبة بإجراء تحقيق بضرورة قابلية الأفعال للتحقيق ولا يتقيد بذلك المتضرر. زيادة على أن فتح المجال للمتضرر للجوء إلى قاضي التحقيق في كل جريمة سيغرق قضاء التحقيق في قضايا بسيطة ويفقده طابعه الخاص.
الملاحظة (13): سلطة قاضي التحقيق في الأمر بالتنصت ( 108 من م ج.
خول قانون المسطرة الجنائية لقاضي التحقيق بصفة أساسية في جميع الجرائم سلطة اتخاذ أمر بالتقاط المكالمات والاتصالات المنجزة عن بعد وتسجيلها وأخذ نسخ منها وحجزها إذا اقتضت ضرورة البحث ذلك وكانت القضية معروضة عليه، في حين قيد سلطة الوكيل العام للملك في اتخاذ نفس الإجراء بموافقة الرئيس الأول لمحكمة الاستئناف إما بصفة قبلية بناء على ملتمس كتابي موجه إليه في الموضوع، أو بصفة بعدية في حالة الاستعجال القصوى إذا أمر الوكيل العام للملك بالتقاط المكالمات بشكل تلقائي زيادة على شرط وجوب اقتضاء ضرورة البحث ذلك وأن يتعلق الأمر بجرائم محددة واردة في المادة 108 من ق م ج.
ويقوم هذا التمييز بين سلطة قاضي التحقيق والوكيل العام للملك في الأمر بالتقاط المكالمات والاتصالات المنجزة عن بعد، على فلسفة تروم في غايتها إلى الحد من سلطة النيابة كخصم في الدعوى العمومية وضمان عدم التنصت على الأشخاص إلا بصفة استثنائية وتحت مراقبة السلطة القضائية في شخص الرئيس الأول لمحكمة الاستئناف. أما بالنسبة لقاضي التحقيق فيبقى سلطة قضائية محايدة ومستقلة لا يمكن تقييد سلطتها في اتخاذ أمر بإجراء التنصت بالقيود المفروضة على النيابة العامة.
هذا، ومن باب التأكيد فإن الواقع العملي أفرز لنا أهمية السلطة المخولة لقضاة التحقيق بالنسبة لإجراء التنصت في كشف العديد من الجرائم الخطيرة غير الواردة في المادة 108 من ق م ج والتثبت منها، كما هو الحال بالنسبة للجرائم المرتكبة خلال فترة الانتخابات وغيرها من الجرائم الخطيرة.
الملاحظة (14) : وضع الترتيبات التقنية لتثبيت وسائل التنصت داخل مكاتب المحامين ( المادة 4-116 من ق م ج.
يذهب صاحب المقال إلى انتقاد مقتضيات الفقرة الثانية من المادة 4-116 من مشروع ق م ج، على أساس مساسها بحرمة مكاتب المحامين من خلال إخراجها لحالة وضع الترتيبات التقنية لتثبيت وسائل التنصت داخل الأماكن المذكورة من حالة التجريم والعقاب وفق ما تنص عليه مقتضيات الفقرة الأولى من نفس المادة.
غير أنه بالرجوع إلى مقتضيات المادة المذكورة، يتضح أن هذه الحالة غير واردة على الاطلاق إذ يعتبر فعلا مجرما ومعاقبا عليه كل وضع للترتيبات التقنية بمكاتب المحامين لالتقاط وتثبيت وبث وتسجيل الأصوات والصور وتحديد المواقع.
ويبقى الاستثناء المشار إليه في الفقرة الثانية من المادة 4-116 من مشروع ق م ج، الذي يخرج الفعل المذكور من دائرة التجريم والعقاب يرتبط فقط بالحالة التي يحمل فيها شخص ما ترتيبات تقنية أثناء ولوجه بكيفية شرعية إلى الأماكن المذكورة، وهو ما يعتبر أمرا طبيعيا ومعقولا لإثبات حالات الابتزاز أو غيرها من الأفعال المخالفة للقانون التي قد تمارس داخل الأماكن المشار إليها في الفقرة الأولى من المادة 4-116 من مشروع ق م ج.
هذا، ولا يعتد بالترتيبات التقنية لتثبيت وسائل التنصت المشار إليها أعلاه إلا إذا تمت بصفة قانونية وفق ما تنص عليه أحكام الباب الخامس مكرر المتعلق بالتقاط وتثبيت وبث وتسجيل الأصوات والصور وتحديد المواقع، والتي تقتضي توفر مجموعة من الشروط والضمانات من قبيل:
- صدور إذن بمقتضى مقرر كتابي معلل صادر عن هيئة قضائية في شخص قاضي التحقيق أو النيابة العامة؛
- ارتباط الإجراء بضرورة البحث أو التحقيق؛
- ارتباط الإجراء بجرائم خطيرة محددة في المادة 108 من ق م ج؛
- وضع مدة محدودة لعملية الالتقاط؛
- وضع التدابير اللازمة لضمان احترام السر المهني.
الملاحظة 15: التعرض على الأحكام الغيابية (المادة 393 من ق م ج.
انتقد صاحب المقال مقتضيات المادة 393 من مسودة مشروع تعديل قانون المسطرة الجنائية، فيما يخص تنصيصها على عدم جواز التعرض على الأحكام القابلة للاستئناف لمساسها بحقوق المتهم في التقاضي على درجتين وحرمانه من حقه في الدفاع عن نفسه ومؤازرته من طرف محام.
غير أن ما ينبغي التأكيد عليه في هذا الاطار أن الأمر يتعلق فقط بالأحكام الغيابية غير القابلة للاستئناف وأن الغاية من هذا المستجد تكمن في تفادي حالات تعارض الأحكام بفعل سلوك المتهم لطريقي الطعن بالاستئناف والتعرض معا في العديد من الحالات. زيادة على أن الأثر الناشر للاستئناف يسمح بإعادة النظر في القضية من جديد الأمر ويسمح للمتهم ببسط أوجه دفاعه.
الملاحظتان 17 و18 : ( غير مدرجة بمقال الأستاذ عبد الكبير طبيح).
الملاحظة 19: احتساب بداية أجل الطعن بالنسبة للنيابة العامة (المادة 393 من ق م ج)
انتقد صاحب المقال مقتضيات الفقرة السابقة من المادة 393 من مشروع تعديل ق م ج، بخصوص احتساب بداية أجل الطعن المخول للنيابة العامة من تاريخ إشعارها من طرف كتابة الضبط رغم أن الأحكام تصدر بحضورها.
غير أنه بالرجوع لمقتضيات المادة المذكورة، يظهر أن هذا المستجد يرتبط فقط بحالة الأحكام الغيابية دون غيرها، وأنه من الطبيعي أن لا يحتسب للنيابة العامة أجل الطعن في الحكم الغيابي إلا ابتداء من تاريخ إشعارها بانتهاء أجل التعرض وليس من التاريخ الموالي لصدور الحكم مادام الحكم الغيابي يبقى معلق التنفيذ إلى حين التصريح بالتعرض أو التنازل عنه من طرف المحكوم عليه أو انتهاء آجال تقادم العقوبة وفق الضوابط المحددة قانونا، وأنه للحفاظ على حق النيابة العامة في ممارسة سلطة الطعن يتعين أن لا يحتسب أجل الطعن المخول لها إلا ابتداء من تاريخ إشعارها من طرف كتابة الضبط بانتهاء أجل التعرض.
الملاحظة (20): وضع الأصفاد في يد المتهم أثناء المحاكمة (المادة 423 من ق م ج).
جاءت مضامين مسودة مشروع قانون المسطرة الجنائية بمستجد جديد طال مقتضيات المادة 423 منها، سمح من خلاله لرئيس الهيئة بوضع المتهم الماثل أمامه تحت الأصفاد إذا كان يشكل خطرا على نفسه أو الغير، ولم تكن قاعة الجلسات مجهزة بقفص للاتهام يكفي لدرء الخطر المحتمل. وهو ما يعتبره صاحب المقال بمثابة تراجع عن الوضع الحالي ومساس بالقواعد الحمائية لحقوق الانسان وكرامته.
غير أن ما ينبغي التأكيد عليه في هذا الاطار، أن سياق وضع هذا المستجد اقتضته العديد من حالات الاعتداء التي طرأت على أرض الواقع داخل قاعات المحاكم المغربية من طرف بعض المتهمين، ألحقت ضررا بليغا اما بهيئات الحكم أو الدفاع أو موظفي الأمن المكلفين بالحراسة أو أطراف القضية بما فيهم المتهمين أنفسهم، وصلت الى حد إزهاق الأرواح نتيجة خطورة بعض المتهمين ووضعهم النفسي.
والجدير بالذكر أن مستجد وضع المتهم تحت الأصفاد، ليس بمبدأ عام يطبق على جميع المتهمين، بل يعد إجراء احتياطيا يلجأ اليه في حالة الاستثناء إذا تبين لرئيس الجلسة أن المتهم يشكل خطرا على نفسه أو الغير، ولم تكن قاعة الجلسات مجهزة بقفص للاتهام يكفي لدرء الخطر المحتمل.
الملاحظة (21): تقييد النطق بعقوبة الاعدام بإجماع كافة أعضاء هيئة الحكم ( المادة 430 ق م ج).
يذهب صاحب المقال بالقول على أن تنصيص المادة 430 من مسودة مشروع قانون المسطرة الجنائية، على تقييد النطق بعقوبة الاعدام بضرورة إجماع كافة قضاة هيئة الحكم، يعد بمثابة تراجع عن التوجه العام الوطني الذي يكاد يلامس الاجماع على إلغاء عقوبة الاعدام.
غير أنه بالوقوف على النقاش المجتمعي الدائر ببلادنا حول مستقبل عقوبة الاعدام يتعذر إلى حد يومه حسم الموضوع بشكل قطعي، إذ يتجاذبه تياران أحدهما يدعو الى الابقاء على عقوبة الاعدام والآخر الى إلغائها ( اشتد الاتجاه الأخير منذ فترة تسعينات القرن الماضي وبلغ أوجه سنة 2003 بعد انشاء سبع جمعيات من منظمات المجتمع المدني ما سمي ب ” الائتلاف المغربي من أجل إلغاء عقوبة الاعدام”).
ومن جهة أخرى، فان مستجد تقييد النطق بعقوبة الاعدام بإجماع كافة قضاة الحكم ما هو إلا تأكيد لتوصيات مناظرة السياسة الجنائية التي نظمتها وزارة العدل والحريات خلال شهر دجنبر من سنة 2004 التي كان صاحب الانتقاد الأستاذ عبد الكبير طبيح من بين المشاركين الأساسيين في أشغالها، والتي أوصت بما يلي:
- الحد من عقوبة الاعدام وانتهاج التدرج في الغائها؛
- اشتراط النطق بها بإجماع القضاة الذين تتألف منهم هيأة الحكم.
هذا، وقد تبنت هيئة الانصاف والمصالحة التوصيتين المذكورتين بخصوص عقوبة الاعدام، زيادة على أن المنتظم الدولي نفسه يقر بآلية تقييد عقوبة الاعدام بموجب المادة السادسة من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية بالنسبة للدول التي لم تلغ بعد عقوبة الاعدام.
الملاحظة (22): عدم قابلية الطعن بالنقض ضد المقررات القضائية الصادرة بغرامة يقل مبلغها عن 20.000 درهم ( المادة 523 ق م ج).
يأتي المستجد الذي طال مقتضيات المادة 523 من ق م ج، بشأن عدم قابلية الطعن بالنقض ضد المقررات القضائية الصادرة بغرامة يقل مبلغها عن 20.000 درهم، في إطار الحد من حالات الطعون بالنقض بالنسبة للقضايا جد البسيطة التي تثقل كاهل المحكمة والقضاة وتؤثر على مردوديتهم ما دام أن أصحابها قد استفادوا من درجتين للتقاضي.
هذا، وقد سبق للمشرع المغربي في إطار الحد من حالات الطعون بالنقض ضد المقررات المذكورة أن اشترط لقبولها الادلاء بما يفيد أداء الغرامات وذلك بموجب التعديل الذي طال مقتضيات المادة المذكورة سنة 2005 عن طريق القانون رقم 24.05 الصادر بتنفيذه الظهير الشريف ل 23 نوفمبر 2005. غير أن ذلك لم يحد من كثرة عدد الطعون المقدمة في الموضوع.
الملاحظة (23): سلطة المحكمة في اعادة تكييف الأفعال ( المادة 49 ق م ج).
يأتي المستجد الوارد ضمن مقتضيات المادة 49 من ق م ج في شأن منح الوكيل العام للملك صلاحية إحالة قضية تشكل جناية على وكيل الملك باعتبارها جنحة كلما ظهر إليه أن الضرر الناجم عنها يبقى محدودا أو قيمة الحق المعتدى عليه بسيطة، في إطار سد الفراغ التشريعي بشأن آلية التجنيح القضائي كصورة من صور التفريد القضائي تخول للنيابة العامة كجهة متابعة صلاحية تغيير وصف الجريمة من جناية الى جنحة كلما تبين لها أن خطورة الفعل لا تتناسب مع العقوبة المقررة للجناية.
وفي إطار تفعيل الآلية المذكورة كان من اللازم أن يقر المشروع تقييد سلطة المحكمة في إعادة تكييف الأفعال المذكورة مع البت وفق الوصف المحال عليها من طرف النيابة العامة، لتلافي كثرة الاحالات على الغرف الجنائية بالنسبة للقضايا البسيطة والحد من العقوبات الحبسية الطويلة المدة، لاسيما وأن النيابة العامة ارتأت أنه من المصلحة تغيير الوصف والتخلي عن الوصف الأشد باعتبارها سلطة المتابعة ومالكة الدعوى العمومية وممثلة للحق العام والمجتمع.
تلكم كانت أهم التوضيحات بالنسبة لما ورد من ملاحظات في مقال الأستاذ عبد الكبير طبيح حول مسودة مشروع ق م ج، حاولنا من خلالها بسط وجهة نظرنا في الموضوع بكل تجرد ومصداقية بناء على معطيات وأسس قانونية وليس من أجل الانتصار لمشروع القانون المذكور. فاتحين المجال لقراءات أخرى نتمنى أن تنعم بها أنامل سخية في الموضوع بكل صدق واحترافية علمية وتجرد وبعيدا عن القراءات الضيقة أو الأحادية…
وفي إطار تتبع النقاش الدائر حول مضامين مسودة مشروع قانون المسطرة الجنائية، وما أفرزه من قراءات متعددة لأحكامها اختلفت بين مؤيد ومعارض حسب انتماءات أصحابها ومرجعياتهم الحقوقية أو القانونية أو السياسية…،
استوقفتني قراءة تم نشــــــــــرها في صفحــــــــات جريدة أخبـــــــــــار اليوم بـــــــــــعددها 10730 بتـــــــــاريخ 20 يونيو 2014 للأستـــــــاذ عبد الكبير طبيح المحامي بهيئة الدار البيضاء، أدخلت مسودة مشروع تعديل قانون المسطرة الجنائية قفص الاتهام والتمست الحكم عليها بأقصى العقوبات من أجل تهمة ضرب المكتسبات والتراجع في مجال الحقوق والحريات.
فهل يعكس صك الاتهام أعلاه، حقيقة مسودة مشروع قانون المسطرة الجنائية؟
اسمحوا لي أن أنتسب في هذه المناسبة الى أسرة الدفاع النبيلة، وأتطفل عليها وأرتدي جبة المحاماة دفاعا عن نصوص قانونية متهمة لم تتثبت بعد إدانتها بحكم نهائي، اقتناعا بمبدأ قرينة البراءة وليس انتصارا لهاته النصوص لأن أي عمل بشري قد يشوبه النقصان ولكن قد يصيب بعد التتميم والتقويم.
وقبل الدخول في مناقشة الملاحظات المثارة، التي يعتبرها صاحب المقال بمثابة تراجعات وضرب للمكتسبات، ينبغي استحضار بعض المعطيات كمفاتيح أولية أرى أن من شأنها مساعدتنا في الوقوف بجلاء على مضامين المشروع وفهم كنه مستجداته وتقييمه:
• أولا: تعتبر مسودة مشروع قانون المسطرة الجنائية نتاج مجهودات كبيرة للعديد من المختصين الذين اشتغلوا من خلال لجان كان آخرها لجنة علمية مختصة ضمت 28 عضوا من مشارب مختلفة، من بينهم، مسؤولون قضائيون ورؤساء غرف بمحكمة النقض وقضاة للتحقيق وقضاة للأحداث وتطبيق العقوبات، ومحامون وأساتذة جامعيون وضباط للشرطة القضائية وممثلون عن بعض القطاعات الحكومية ذات الصلة بمجال العدالة الجنائية.
هذا، ومن باب الغرابة أن صاحب المقال الأستاذ عبد الكبير طبيح كان من بين أعضاء اللجنة المذكورة بصفته محام. وهو إن لم يشارك في كافة حلقات النقاش فإنه وعد بتقديم اقتراحاته وملاحظاته للوزارة إلا أنه اختار أسلوب الخروج الإعلامي لم يشر فيه إلى أنه كان مدعواً للإسهام في الصياغة بل وتنازل في جزء مهم منها.
• ثانيا: تأتي أغلب مستجدات مشروع تعديل قانون المسطرة الجنائية، في إطار تنزيل توصيات الميثاق الوطني حول اصلاح منظومة العدالة التي كانت نتاج حوار وطني، حيث تم تنزيل حوالي 29 توصية من الميثاق تتعلق بالمنظومة الجنائية داخل أحكام المشروع؛
• ثالثا: إن بعض المستجدات الواردة في المشروع فرضتها ضرورة الملاءمة مع أحكام دستور المملكة لسنة 2011، وكذا الملاءمة مع العديد من الاتفاقيات الدولية ذات الصلة بحقوق الانسان ومكافحة الجريمة التي صادق عليها المغرب وتم نشرها بالجريدة الرسمية؛
• رابعا: انفتحت مسودة مشروع قانون المسطرة الجنائية على العديد من المبادئ التي كرسها العمل القضائي المغربي في نقط قانونية متعددة، وكذا على العديد من التشريعات الجنائية المقارنة الحديثة والمتطورة من قبيل القوانين الاجرائية الجنائية لكل من دول فرنسا وبلجيكا وإسبانيا وسويسرا…..؛
• خامسا: من الطبيعي أن تمس بعض قواعد المسطرة الجنائية بحقوق وحريات الأفراد، لأن قانون المسطرة الجنائية بقدر ما يهدف إلى حماية حريات الأفراد وضمان محاكمة عادلة لهم بقدر ما يروم مكافحة الجريمة وحماية الأمن العام وسلامة الأشخاص والممتلكات. وهي معادلة صعبة تقتضي حماية المصلحتين وعدم إهدار إحداهما للأخرى.
لكن ما ينبغي التأكيد عليه في هذا الاطار، هو ضرورة التقيد عند وضع قواعد إجرائية ماسة بحريات وحقوق الأشخاص بالضوابط والمعايير المتفق عليها عالميا، والتي لا تخرج عن مبادئ ثلاث أساسية تتجسد في مبدأ ” الضرورة ” أي لا مجال لوضع قاعدة إجرائية مقيدة للحرية مالم تقتضيها الضرورة، ومبدأ ” التناسب ” من خلال مراعاة التوازن بين الحرية أو الحق المراد المساس به والغاية المتوخاة من وضع القاعدة الاجرائية، ومبدأ “الشرعية ” الذي يقتضي احترام الضوابط المفروضة عند صياغة قاعدة قانونية.
• سادسا: إن ردنا على ملاحظات الاستاذ عبد الكبير طبيح لا يعني أن هذا النص مبرأ من العيوب خال من الثغرات إذ الحقيقة أنه مازال مجرد مسودة مشروع قانون يحتاج إلى التصويب والتنقيح، لكن ملاحظات الأستاذ عبد الكبير طبيح وبالصيغة التي أتت بها ما كان يمكن أن تقابل بالسكوت واللامبالاة خاصة مع وجود من انخدع بها، وظن وجاهتها بل وروج لها حتى جعل منها حجة لتسفيه مجهودات مشكورة لفعاليات علمية وقضائية ومهنية محترمة.
هذا، وبناء على ما طرحه صاحب المقال من انتقادات حول مضامين مسودة مشروع قانون المسطرة الجنائية حددت في 23 ملاحظة، نبسط وجهة نظرنا بشأنها مع الشرح والتعليل على النحو التالي:
الملاحظة (1): حصر حق إطلاع الرأي العام على القضايا المعروضة على القضاء في شخص النيابة العامة والشرطة القضائية ( المادة 15 من ق م ج):
ينبغي التأكيد في البداية على أن إقصاء المحامين والصحافة وأطراف القضية من الحق في إطلاع الرأي العام على القضايا المعروضة على القضاء لم يكن سلبا لحق كان مكرسا لهم قانونا، بل إن القانون الحالي يمنع صراحة إفشاء أسرار البحث والتحقيق على المشاركين في إجرائه، مما يحول دون إطلاع الرأي العام على الجرائم التي تسترعي اهتمامه. ولذلك فإن تعديل المادة 15 ذهب إلى سد هذا الفراغ عن طريق منح النيابة العامة حق إطلاع الرأي العام على القضايا المعروضة على القضاء. وأما إسناد هذه المهمة إلى النيابة العامة فقد أملته عدة اعتبارات ترجع بالأساس إلى أن النيابة العامة هي ممثلة المجتمع بما فيه المتهم أو المشتبه فيه تتحدث باسمه وتدافع عن مصالحه. زيادة على أن فسح المجال لها وحدها للإفصاح عن المعلومة القضائية سيؤدي الى تفادي المعلومات غير الصحيحة أو الملفقة من جهة. ومن جهة أخرى الى احترام نص القانون نفسه ومراعاة خصوصيات الأفراد، وضمان عدم التأثير على سير الأبحاث والتحريات القضائية والحفاظ على مبدأ قرينة البراءة.
وهو الاتجاه الذي كرسته العديد من التشريعات المقارنة، كما هو الحال بالنسبة للمشرع الفرنسي في القانون رقم 516/ 2000 الصادر بتاريخ 15 يونيو2000 ، الذي أضاف فقرة إلى مقتضيات المادة 11 من قانون المسطرة الجنائية تجيز لوكيل الجمهورية إطلاع الرأي العام حول مجريات قضية ما دون تقييم الاتهامات:
« Toutefois, afin d’éviter la propagation d’informations parcellaires ou inexactes ou pour mettre fin à un trouble à l’ordre public, le procureur de la république peut d’office et à la demande de la juridiction d’instruction ou des parties, rendre publics des éléments objectifs tirés de la procédure ne comportant appréciation sur le bien-fondé des charges retenues contre les personnes mise en cause ».
وكذا قانون الإجراءات الجزائية الجزائري لسنة 1966 بنصه ضمن أحكام الفقرة الثالثة من المادة 11 كما تم تغييرها وتتميمها بموجب القانون رقم 22.06 تاريخ 20 ديسمبر 2006 على ما يلي:
“غير أنه تفاديا لانتشار معلومات غير كاملة أو غير صحيحة أو لوضع حد للإخلال بالنظام العام يجوز لممثل النيابة العامة دون سواه أن يخبر الرأي العام بعناصر موضوعية مستخلصة من الإجراءات على أن لا تتضمن أي تقييم للاتهامات المتمسك بها ضد الأشخاص المتورطين”.
أما بخصوص القول بتعارض مستجد مشروع المادة 15 من ق م ج مع مبدأ الحق في الحصول على المعلومة، فيمكن القول على أنه إذا كان الحق في الحصول على المعلومة يعد من الحقوق الأساسية للإنسان، التي كرستها وكفلتها في نطاق واسع الأوفاق الدولية والتشريعات الوطنية، فإن المعايير الدولية ومختلف النصوص الوطنية المقارنة أجمعت على استثناء المعلومة القضائية من مجال الحق في الحصول على المعلومة باستثناء بعض المعلومات التي يمكن الافصاح عنها كالمعلومات الإدارية الصادرة عن السلطات القضائية (الإحصاءات القضائية، الوثائق الإدارية…)، أو المرتبطة بالقضايا الصادرة فيها أحكام قضائية غير قابلة للطعن أو الأبحاث القضائية التي اتخذ فيها قرار بالحفظ أو عدم المتابعة.
ونستدل في هذا الصدد بما أقرته العديد من المعايير الدولية والتشريعات المقارنة، وفق ما يلي:
1. على مستوى المعايير الدولية:
• تنص أحكام الفقرة الثالثة من المادة 19 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية على ما يلي: ” تستتبع ممارسة الحقوق المنصوص عليها في الفقرة 2 من هذه المادة واجبات ومسؤوليات خاصة. وعلى ذلك يجوز إخضاعها لبعض القيود ولكن شريطة أن تكون محددة بنص القانون وأن تكون ضرورية:
(أ) لاحترام حقوق الآخرين وسمعتهم؛
(ب) لحماية الأمن القومي أو النظام العام أو الصحة العامة أو الآداب العامة”.
• تنص أحكام الفقرة الثالثة من مبادئ الكومنولث لحرية المعلومات التي تم تبنيها في اجتماع وزراء العدل في الدول الأعضاء في رابطة الكومنولث بترينداد و توباغو سنة 1999 على ما يلي: “يجوز أن يخضع الحق في الإطلاع على المعلومات إلى إعفاءات محدودة ولكن يتعين الحرص على تضييقها”؛
• تنص أحكام المادة الثالثة من اتفاقية المجلس الأوربي بشأن الوصول إلى الوثائق الرسمية (تروموسو 18 يونيو 2009) إلى ما يلي: ” يجوز لكل طرف أن يقيد الحق في الحصول على الوثائق الرسمية ويجب تحديد القيود بصورة دقيقة في القانون. وأن تكون ضرورية في مجتمع ديمقراطي وأن تكون متكافئة مع الهدف المتوخى من حماية:
أ. ـــــــــــــــــــــــــــــــ ؛
ج. الوقاية من النشاطات الجنائية والتحقيق فيها وملاحقة مرتكبيها؛
ط. المساواة بين الأطراف في إجراءات المحاكمات والإدارة الفعالة لقطاع العدالة”.
• تنص أحكام المبدأ (11) من مبادئ جوهانسبورغ بشأن الأمن القومي وحرية التعبير عن الرأي والوصول إلى المعلومات لسنة 1996 على ما يلي: “لكل شخص الحق في الحصول على المعلومات من السلطات العامة بما فيها المعلومات ذات الصلة بالأمن القومي. ولا يجوز فرض أي قيد على هذا الحق على أساس الأمن القومي ما لم تبرهن الحكومة على أن القانون ينص على هذا القيد وعلى أنه ضروري في المجتمع الديمقراطي من أجل حماية مصلحة مشروعة من مصالح الأمن القومي”.
• تنص أحكام المادة 29 من القانون النموذجي حول حرية الإطلاع على المعلومات المعد من طرف منظمة المادة 19 (Article 19) على ما يلي: ” يحق للهيئة رفض تحديد حيازتها على وثيقة ما أو رفض إعطاء معلومات تتضمنها هذه الوثيقة إذا كان تقديم مثل هذه المعلومة يمكن أن يحدث ضررا جديا:
أ. الوقاية من الجريمة أو كشفها؛
ب. إلقاء القبض على المجرم أو محاكمته؛
ج. إدارة العدل؛
د. تقدير الضرائب أو الرسوم أو جمعهما؛
ه. إدارة مراقبة الهجرة؛
و. أو تقدير ما إذا كان تبرير الإجراءات المدنية أو الجزائية أو عمليات التسوية وفقا لأي قانون”.
2. على مستوى التشريعات المقارنة:
ذهبت جل التشريعات الوطنية الخاصة بضمان حق الحصول على المعلومة إلى التنصيص على استثناء المعلومة القضائية من المعلومات الواجبة الإطلاع، اهتداء بما أرسته المعايير والمقاييس المثلى في هذا الإطار:
• تنص أحكام المادة الثانية (2) من القانون السويدي لسنة 1978 بشأن حرية الصحافة على ما يلي: “يجوز تقييد الحق في الإطلاع على المعلومات إذا كان هذا التقييد ضروريا فقط مع الأخذ في الاعتبار.
1. ……
2. ……
3. ……
4. المصلحة المتمثلة في منع الجريمة وملاحقة مرتكبيها”.
• تنص أحكام المادة الثالثة (3) من القانون الفيدرالي السويسري لسنة 2007 بشأن مبدأ حرية المعلومات في الإدارة العامة على ما يلي:
1. لا يسري هذا القانون على:
أ. الحصول على الوثائق الرسمية التي تتعلق بـ:
1. الإجراءات المدنية؛
2. الإجراءات الجنائية؛
3. إجراء المساعدة القانونية والإدارية والدولية؛
4. إجراءات تسوية المنازعات الدولية؛
5. الإجراءات القضائية الدستورية والإدارية؛
6. إجراءات التحكيم.
ب. التشاور الذي يجريه طرف من الأطراف بشأن ملف القضية الذي يخضع للإجراءات الإدارية أمام محكمة البداية”.
• تنص أحكام الفصل السادس (6) القانون الفرنسي بشأن مختلف مقاييس تطوير العلاقات بين الإدارة والعموم ومختلف مقتضيات النظام الإداري على ما يلي:
« Ne sont pas communicables :
1. Les avis des conseils d’état et juridictions administratives, les documents de la cour des comptes mentionnés à l’article L-141-10 du code des juridictions financières et les documents des chambres régionales des comptes mentionnées à l’article L-241-6 du même code.
2. Les autres documents administratifs dont la consultation ou la communication porterait atteinte.
a. ……
b. ……
c. ……
d. ……
e. ……
f. Au déroulement des procédures engagées devant les juridictions ou d’opérations préliminaires à de telles procédures, sauf autorisation donnée par l’autorité compétente.
g. A la recherche, par les services compétents, les infractions fiscales et douanières. »
• تنص أحكام المادة الثالثة عشر (13) من قانون ضمان حق الحصول على المعلومات الأردني لسنة 2007 على ما يلي:
أ. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ؛
ح. التحقيقات التي تجريها النيابات العامة أو الضابطة العدلية أو الأجهزة العدلية بشأن أي جريمة أو قضية ضمن اختصاصها وذلك التحقيقات التي تقوم بها السلطات المختصة للكشف عن المخالفات المالية أو الجمركية أو البنكية ما لم تأذن الجهة المختصة للكشف عنه”.
الملاحظة (2): رفع أجل سحب جواز السفر وإغلاق الحدود من شهر إلى ثلاثة أشهر بإذن من النيابة العامة (المادة 40 من ق م ج.
يعتبر إجراء سحب جواز السفر وإغلاق الحدود من بين أهم التدابير المخولة للنيابة العامة خلال مرحلة البحث والتحري بالنسبة للجنح المعاقب عليها بسنتين حبسا أو أكثر، إذا اقتضت ذلك ضرورة البحث لمدة لا تتجاوز شهرا واحدا، مع إمكانية تمديد هذا الأجل لغاية انتهاء البحث إذا كان الشخص المعني بالأمر هو المتسبب في تأخير إتمامه.
غير أن ما ورد من انتقاد بشأن مقتضيات المادة 40 من مشروع مسودة قانون المسطرة الجنائية، فيما يتعلق برفع أجل سحب جواز السفر وإغلاق الحدود إلى ثلاثة (3) أشهر، من خلال منح النيابة العامة سلطة تمديد أجل الشهر إلى مرتين، يبقى غير مبني على أساس، لاعتبارات عدة يمكن إجمالها فيما يلي:
- رفع الأجل المذكور يبقى مجرد إمكانية للنيابة العامة بالنسبة فقط للجرائم المنصوص عليها في المادة 108 من ق م ج، نظرا لخطورتها على أمن الدولة وسلامة الاقتصاد والأشخاص؛
- أثبت واقع الممارسة العملية أن إنجاز الأبحاث بالنسبة للجرائم المنصوص عليها في المادة 108 من ق م ج، يتطلب مددا طويلة قد تفوق مدة الشهر، نظرا لطبيعتها المعقدة و ما قد يرافق عملية التحري عنها من إجراءات كالأمر بإجراء خبرات والإطلاع على الحسابات البنكية وتتبع حركة الأموال والعقارات وانتظار مآل بعض الانابات القضائية التي قد تكون منجزة على المستوى الدولي….؛
- بقدر ما ينظر إلى إجراء سحب جواز السفر وإغلاق الحدود كإجراء مقيد لحرية الأشخاص في التنقل والسفر، فإنه يساعد الأجهزة المكلفة بالبحث على الوصول إلى الحقيقة ويمنح المشتبه فيه فرصة لإعداد وسائل دفاعه، كما يعتبر إجراء كفيلا بضمان حضور المتهم دون اللجوء إلى تقييد حريته. وفضلا عن ذلك فإنه يعتبر بديلا للاعتقال الاحتياطي، حيث إنه بدون هذا الإجراء سيتم اللجوء إلى التحقيق والتماس تطبيق الاعتقال الاحتياطي إلى غاية نهاية الأبحاث، علما أن مدة الاعتقال الاحتياطي تكون أطول، ولذلك فلا يمكن اعتبار هذا الإجراء تراجعا لأنه يهدف إلى إعطاء الإمكانيات لإجراء البحث الجنائي دون اللجوء إلى الاعتقال.
الملاحظة (3): إلغاء إجراء استنطاق المتهم من طرف النيابة العامة قبل إصدار أمر باعتقاله ( المادة 47 من ق م ج:
بالرجوع الى التعديل الذي طال مقتضيات المادة 47 من قانون المسطرة الجنائية يظهر أن مسألة إلغاء إجراء استنطاق المتهم من طرف النيابة العامة قبل إصدار أمر بإيداعه بالسجن تبقى غير قائمة، وأن هناك فقط لبس في فهم المادة أو حرص على تصيد ما يعتبر ثغرات أو تراجعات بخلاف الواقع بسبب حذف عبارة ” فإن وكيل الملك يقوم باستنطاق المشتبه فيه ” من مقتضيات الفقرة الأولى من المادة المذكورة .
وما يؤيد فكرة الاحتفاظ بإجراء الاستنطاق ما تضمنته مقتضيات الفقرة الثانية من نفس المادة، التي تنص صراحة على استعانة وكيل الملك بترجمان أو بكل شخص يحسن التخاطب أو التفاهم مع من يقع استنطاقه عند الاقتضاء. زيادة على أن المادة 47 من ق م ج تحيل على مقتضيات المادة 74 من نفس القانون التي تنص صراحة على إجراء استنطاق المتهم عن هويته والأفعال المنسوبة اليه من طرف وكيل الملك.
وإذا كانت مسودة المشروع قد تلافت الاحتفاظ بالصياغة المذكورة منعا لتكرارها في المادة 74، فإنه تفاديا لأي تأويل مماثل لما قام به الأستاذ طبيح سيتم الاحتفاظ بتلك الصياغة في المادة 47 رغم تكرارها في المادة 74.
الملاحظتان (4) و (5): اختصاصات الوكيل العام لملك لدى محكمة النقض ( المادة 51 من ق م ج.
أثار الأستاذ عبد الكبير طبيح في مقاله مجموعة من الملاحظات حول مقتضيات المادة 51 من مسودة مشروع قانون المسطرة الجنائية، انتقد فيها توجه المشروع نحو توسيع صلاحيات وسلطات مؤسسة الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض، من خلال إسناده رئاسة النيابة العامة بدلا من وزير العدل وتخويله صلاحية مراجعة الأحكام والسهر على تطبيق القانون الجنائي في مجموع إقليم المملكة وتحصينه من المتابعة القضائية.
والجدير بالذكر، أنه من باب الغرابة أن نسمع بمثل هذا القول في ظل تعدد الأصوات الداعية الى فصل سلطة وزير العدل عن النيابة العامة باعتباره يمثل سلطة تنفيذية، ومنحها للوكيل العام للملك لدى محكمة النقض كمؤسسة قضائية، وهي الأصوات التي كان لها التأثير البالغ على توجه مسودة المشروع الحالي رغم أن العديد من التشريعات المقارنة مازالت تحتفظ بتبعية النيابة العامة لوزير العدل.
هذا، ويأتي التوجه المذكور في إطار تنزيل توصيات ميثاق إصلاح منظومة العدالة خاصة التوصيات 37 إلى 41 منه المرتبطة بالهدف الفرعي السابع المعنون ب ” استقلال النيابة العامة عن السلطة التنفيذية”، التي نصت صراحة على إسناد رئاسة النيابة العامة إلى الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض ومنحه صلاحية توجيه التعليمات القانونية إلى الوكلاء العامين للملك…، هذه التوصية التي لم تكن سوى رجع الصدى للمطالبات الحقوقية التي كادت أن تجمع على هذا الاختيار.
ومن الطبيعي أن تنقل على ضوء هذا التغيير، السلطات التي كانت مخولة لوزير العدل والحريات إلى السلطات القضائية الجديدة ولاسيما المجلس الأعلى للسلطة القضائية أو الرئيس المنتدب له أو الوكيل العام للملك بوصفه رئيسا للنيابة العامة. إذ ستنقل الدعوى العمومية إلى السلطة الجديدة التي ستحل محله وهي الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض كما قررت ذلك توصيات الميثاق، وكما ضمن في مشروع القانون التنظيمي المتعلق بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية. وهذه الصلاحيات التي يخولها القانون الحالي لوزير العدل والحريات بوصفه رئيسا للنيابة العامة تهم ممارسة الدعوى العمومية وبعض الطعون كالمراجعة والطعن بالنقض لفائدة القانون والاحالة من أجل تجاوز السلطة، أو تنفيذ العقوبات …
الملاحظة (6): استشارة النيابة العامة في تعيين قضاة التحقيق (المادة 52 من ق م ج.
يعين قضاة التحقيق في إطار مقتضيات المادة 53 من ق م ج الجاري به العمل حاليا من بين قضاة الحكم داخل المحاكم الابتدائية والاستئنافية لمدة ثلاث سنوات قابلة للتجديد بقرار لوزير العدل والحريات، بناء على اقتراح من رؤساء المحاكم.
ويروم مشروع تعديل قانون المسطرة الجنائية في إطار المادة 53 المذكورة، إلى منح صلاحية تعيين القضاة المكلفين بالتحقيق إلى الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية بدلا من وزير العدل، بناء على اقتراح من رؤساء المحاكم وبعد استشارة النيابة العامة.
وقد تم التنصيص على استشارة النيابة العامة عند اقتراح قضاة التحقيق من طرف رؤساء المحاكم، في إطار الاستنارة والاسترشاد برأيها فقط وليس على سبيل الإلزام والوجوب، وذلك بفعل احتكاكها اليومي في العمل مع قضاة الحكم من جهة، ومع قضاة التحقيق الممارسين لكون النيابة العامة تعد طرفا أصليا في سير إجراءات التحقيق خولها المشرع صلاحيات مهمة في هذا الإطار، ورأيها لا يلزم السلطة التي تملك حق التعيين وهي الرئيس المنتدب للسلطة القضائية.
وتبقى غاية هذا التوجه هو المساهمة في اختيار قضاة مؤهلين للقيام بمهام التحقيق لطابعه الخاص والمهم في كشف الحقيقة وتنوير العدالة، ولا علاقة لذلك على الاطلاق بمسألة المساس باستقلال القضاة وتحكم النيابة العامة في قضاء الحكم كما يشير إلى ذلك صاحب المقال، نظرا للطابع الاستشاري لرأي النيابة العامة من جهة، واحتفاظ الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية وحده بصلاحية اتخاذ قرار تعيين قضاة التحقيق.
الملاحظة (7) : السماح بإجراء التفتيش في جميع الأماكن دون التقيد بأية ضوابط (المادة 59 من ق م ج.
توجهت إحدى ملاحظات الأستاذ طبيح على مسودة مشروع تعديل قانون المسطرة الجنائية، إلى انتقاد ما تضمنته مقتضيات المادة 59 منها، في شأن إضافة فقرة ثالثة أفرغت إجراء التفتيش من محتواه حينما نصت على إجرائه في جميع الأماكن دون تقييده بضوابط محددة وقد وردت صيغة الفقرة على النحو التالي:
“يجري التفتيش في جميع الأماكن التي يمكن أن يعثر بها على مستندات أو وثائق أو معطيات معلوماتية أو أشياء مفيدة في إظهار الحقيقة”.
غير أنه بالرجوع إلى مقتضيات المادة 59 المشار إليها أعلاه، يظهر أن هذا الانتقاد يفقد وجاهته، لقيامه على قراءة ضيقة لأحكام الفقرة الثالثة المضافة بموجب المشروع دون ربطها بمقتضيات المادة 59 بأكلمها التي تضع ضوابط وقيود على تفتيش الأماكن تسري حتى على أحكام الفقرة الثالثة المضافة وذلك حسب الغاية المخصصة لها، سواء كانت معدة للسكنى أو الاستعمال المهني، زيادة على الضوابط المحددة في المادتين 60 و62 من نفس القانون التي تطبق على إجراء التفتيش فيما يخص الكيفية والمدة المسموح بها قانونا.
وما يؤكد الطرح المذكور إشارة المادة 60 نفسها إلى ضرورة مراعاة مقتضيات المادة 59 من ق م ج بصريح العبارة التالية:
“يطبق ما يلي مع مراعاة مقتضيات المادة السابقة”.
الملاحظة (8): منح النيابة العامة صلاحية التصرف في الحجج التي يتم حجزها وذلك بحذفها النهائي للدعامة المادية التي لم توضع رهن إشارة المحكمة في حالات محددة. (المادة 59 من ق م ج).
نصت مقتضيات الفقرة الثامنة من المادة 59 من مشروع ق م ج على أنه يمكن لكل من الوكيل العام للملك ووكيل الملك كل فيما يخصه، صلاحية الأمر بالحذف النهائي للنسخة الأصلية من الدعامة المادية التي لم توضع رهن إشارة المحكمة بعد أخذ نسخة منها، وذلك إذا كانت حيازة النسخة أو استعمالها غير مشروع أو كانت تشكل خطرا على أمن الأفراد أو الممتلكات أو منافية للأخلاق العامة.
وقد انصب الانتقاد الموجه إلى هذا المستجد، على منح النيابة العامة صلاحية التصرف في الحجج المحجوزة بمنحها أحقية الحذف النهائي لها في الحالات المشار إليها أعلاه.
غير أن سن الإجراء المذكور أملته ضرورة ملاءمة القانون الوطني مع المعايير الدولية المعتمدة في مجال مكافحة الجريمة المعلوماتية، لا سيما أحكام اتفاقية بودابست (Budapest) المتعلقة بالجريمة المعلوماتية لسنة 2001 التي انضم إليها المغرب مؤخرا وذلك في إطار انخراطه في حماية المجتمع ضد الجريمة المعلوماتية، واستكمال المبادرات التشريعية في هذا الصدد لا سيما فيما يخص دعم الأبحاث والإجراءات الجنائية.
والجدير بالذكر، أن اتفاقية بودابست لمكافحة الجريمة المعلوماتية نصت صراحة على إجراء الحذف النهائي للنسخة الأصلية من الدعامة المادية بعد أخذ نسخة منها، وذلك إذا كانت حيازة النسخة أو استعمالها غير مشروع أو كانت تشكل خطرا على أمن الأفراد أو الممتلكات أو منافية للأخلاق العامة. كما أن العديد من التشريعات المقارنة تبنت الاجراء المذكور في إطار ملاءمة قانونها مع الاتفاقية المذكورة كما هو الحال بالنسبة للقانون البلجيكي ل 28 نونبر 2000 المتعلق بالجريمة المعلوماتية.
الملاحظة (9) : اعتبار منح الشرطة القضائية الحق في استدعاء أي شخص لسماعه وإرغامه على الحضور في حالة امتناعه بمثابة مساس بالحق في الصمت (المادة 60 من ق م ج).
ينبغي التأكيد في البداية على أن المقتضى القانوني الوارد في المادة 60 من ق م ج، في شأن منح الشرطة القضائية حق استدعاء الأشخاص للاستماع إليهم مع إرغامهم على الحضور في حالة الامتناع، لا يعد مستجدا أقرته مسودة مشروع قانون المسطرة الجنائية، وإنما يعود إلى القانون رقم 22.01 المتعلق بالمسطرة الجنائية الصادر سنة 2002 التي كان صاحب الانتقاد الأستاذ طبيح عضوا بلجنة مناقشة أحكامها داخل المؤسسة التشريعية، وأن ما طرأ على المادة المذكورة من تعديل فإنما يخص فقط إضافة عبارة ” المستندات أو المعطيات المعلوماتية” إلى أحكام البند الثالث. وذلك في إطار ملاءمة القانون الوطني مع اتفاقية بودابست لمكافحة الجريمة المعلوماتية لا غير.
ومع ذلك فإن ربط المقتضى المذكور “بالحق في الصمت” يبقى في غير محله، لأن ما تضمنته أحكام المادة 60 من ق م ج يتعلق بالاستدعاء للاستماع والإرغام على الحضور في حالة الامتناع وهو إجراء يتعلق بالأشخاص غير المشتبه فيهم الذين من شأنهم إفادة مجريات البحث في حين يرتبط الحق في الصمت بالمشتبه فيهم.
ولو فرضنا أن إجراء الاستدعاء للاستماع يشمل المشتبه فيهم فإن الأمر يتعلق بمجرد الحضور والنص لا يجبر من حضر على الإفادة والتصريح، ومن ثم يبقى الحق في الصمت محفوظا وفق الضوابط المحددة قانونا.
زيادة على أنه من غير المعقول ترك الحرية للأطراف لعدم الامتثال لاستدعاءات الشرطة القضائية، لأن في ذلك مساس بهبة مؤسسات الدولة وتشجيع على الفوضى وعدم الامتثال.
الملاحظة (10): منح الوكيل العام للملك صلاحية الأمر بالاعتقال في غير حالة التلبس (المادة 1-73 من ق م ج.
تقوم هذه الملاحظة على انتقاد توجه مشروع ق م ج، فيما يخص منح الوكيل العام للملك صلاحية إحالة المتهم في حالة اعتقال على المحكمة في غير حالة التلبس، ولو في غياب الاعتراف وتوفر ضمانات الحضور.
غير أنه بالرجوع إلى مقتضيات المادة 1-73 من مشروع ق م ج، يتضح أن صلاحية الوكيل العام للملك في إحالة المتهم في حالة اعتقال في غير حالة التلبس يبقى مرتبطا بحالة عدم كفاية تدابير المراقبة القضائية، أو تأثير الإحالة في حالة سراح على حسن سير العدالة، وذلك وفق المسطرة المنصوص عليها في المادة 1-47 من نفس القانون التي تشترط توفر أحد الأسباب الآتية:
- إذا اعترف المتهم بالأفعال المكونة لجريمة يعاقب عليها بالحبس أو ظهرت أدلة قوية على ارتكابه لها أو المشاركة فيها، والذي لا تتوفر فيه ضمانات كافية للحضور؛
- إذا ظهر أنه خطير على النظام العام أو على سلامة الأشخاص أو الأموال؛
- إذا كان الأمر يتعلق بأفعال خطيرة، أو إذا كانت حجم الضرر الذي أحدثته الجريمة جسيما؛
- إذا كانت الوسيلة المستعملة في ارتكاب الفعل خطيرة.
هذا، زيادة على أنه يشترط في قرار الاعتقال أن يكون معللا (الفقرة الأخيرة من المادة 1-47 ق م ج) كما أنه يبقى قابلا للطعن للنظر في مدى شرعيته (المادة 2-73 ق م ج).
الملاحظة (11): اختيارية التحقيق في الجنايات (المادة 83 من ق م ج.
اختلف نطاق التحقيق في ظل التشريعات المقارنة، حسب طبيعة نظامها القانوني والقضائي وما عاشته من تجارب في إطار تطبيق قضاء التحقيق، وعلى ضوء ذلك تعددت الخيارات المعتمدة بين اتجاه لا يقر بقضاء التحقيق داخل نظام عدالته الجنائية بناء على مؤيدات معينة، واتجاه ثان يعتمد نظام قضاء التحقيق مع اختلاف في تحديد مجالات تدخله بين الإلزامية والاختيارية حسب نوع الجرائم وطبيعتها.
وبالرجوع إلى التجربة المغربية، يظهر أن المشرع المغربي أقر قضاء التحقيق داخل منظومتنا الجنائية منذ عدة سنوات، فقد كانت المادة 84 من قانون المسطرة الجنائية لسنة 1958 تنص على إلزامية التحقيق الإعدادي في جميع الجنايات واختياريته في الجنح ما لم يوجد نص خاص كما كانت تسمح للنيابة العامة بإحالة المخالفات على التحقيق، وقد تم تكريس نظام قضاء التحقيق في ظهير الإجراءات الانتقالية لسنة 1974 الذي حول البت في الجنايات إلى محاكم الاستئناف ونقل قضاة التحقيق إلى هذه المحاكم، مع الاحتفاظ بقضاء التحقيق في الجنح في حالة وجود نص خاص.
ونظرا للأهمية التي أصبحت تكتسيها بعض الجنح كالجرائم الاقتصادية والمالية والجنح الخطيرة أقر قانون المسطرة الجنائية لسنة 2002 مبدأ ثنائية التحقيق، فجعل التحقيق إلزاميا على مستوى محاكم الاستئناف في الجنايات المعاقب عليها بالإعدام أو السجن المؤبد أو التي يصل حدها الأقصى إلى ثلاثين سنة، وكذا في الجنايات المرتكبة من طرف الأحداث فيما يكون اختياريا فيما عدا ذلك من الجنايات، وأحدث مؤسسة قضاء التحقيق داخل المحاكم الابتدائية وجعل التحقيق إلزاميا في الجنح بنص خص واختياريا في الجنح المرتكبة من قبل الأحداث وفي الجنح التي يكون الحد الأقصى للعقوبة المقررة لها خمس سنوات.
ويأتي مستجد مشروع ق م ج بخصوص إقرار اختيارية التحقيق في الجنايات وحذفه في الجنح ما لم يقرره نص خاص، في إطار تنزيل توصيات ميثاق إصلاح منظومة العدالة خاصة التوصية رقم 85، وكذا ما سجله النقاش الدائر في الساحة القانونية والقضائية ببلادنا وباقي الدول التي تأخذ بنظام التحقيق من أصوات داعية إلى إعادة النظر في المؤسسة المذكورة نحو الإلغاء الكلي أسوة بما أقرته العديد من التشريعات المقارنة كألمانيا وإيطاليا وسويسرا التي منحت مهمة التحقيق للنيابة العامة أو العمل على الإبقاء عليه، وتجاوز سلبياته.
وعلاوة على ذلك فإن اعتماد اختيارية التحقيق في الجنايات جاء لتجاوز بعض السلبيات التي سجلتها الممارسة العملية من قبيل:
- ارتفاع عدد القضايا المحالة على التحقيق، إذ بلغت مثلا سنة 2011 ما مجموعه 10.680 مطالبة بإجراء تحقيق أمام محاكم الاستئناف بالمملكة مقارنة مع 8509 مطالبة أمام كافة المحاكم الابتدائية أي بنسبة 65%، وهو ما يؤثر على مردودية ونجاعة القضاء نتيجة تضخم عدد قضايا التحقيق رغم أن العديد منها يكون جاهزا؛
- مساهمة التحقيق في ارتفاع حالات الاعتقال الاحتياطي وطول مدة البت في القضايا، زيادة على ما يرافقه من إجراءات ماسة بحريات الأشخاص وممتلكاتهم كأوامر إغلاق الحدود وسحب جواز السفر وأوامر حجز الممتلكات وتجميدها….؛
- إلزام النيابة العامة بتقديم مطالبات بإجراء تحقيق في قضايا جاهزة.
كما ينبغي الاشارة إلى أن مسألة اختيارية التحقيق في الجنايات لا تشكل صلاحيات مضافة للنيابة العامة لتقوية سلطتها كما أشار إلى ذلك صاحب المقال، ما دامت المحاضر في الجنايات تعتبر مجرد بيانات ليست لها قوة إلزامية.
الملاحظة (12): تقييد حق المتضرر في الانتصاب كطرف مدني في حالات الجرائم القابلة للتحقيق (المادة 92 من ق م ج.
جاء مشروع تعديل قانون المسطرة الجنائية بمقتضى جديد طال مقتضيات المادة 92 من نفس القانون، تم من خلاله التنصيص على تقييد حق المتضرر في تقديم شكاية مباشرة أمام قاضي التحقيق بضرورة ارتباطها بجناية أو جنحة قابلة للتحقيق. الأمر الذي دفع الأستاذ طبيح إلى القول بأن هذا المستجد يشكل تراجعا على مكتسبات القانون رقم 22.03 المتعلق بالمسطرة الجنائية لتقييده حق المتضرر في تحريك الدعوى العمومية من جهة، وتأكيد احتكار النيابة العامة لسلطة المتابعة من جهة أخرى.
غير أن هذا القول يبقى مردودا، إذا علمنا أن التعديل الذي طال مقتضيات المادة 92 من ق م ج، لم يأت بأي مقتضى جديد وإنما مجرد تحصيل حاصل لأنه لا يعقل أن تتقيد سلطة النيابة العامة في المطالبة بإجراء تحقيق بضرورة قابلية الأفعال للتحقيق ولا يتقيد بذلك المتضرر. زيادة على أن فتح المجال للمتضرر للجوء إلى قاضي التحقيق في كل جريمة سيغرق قضاء التحقيق في قضايا بسيطة ويفقده طابعه الخاص.
الملاحظة (13): سلطة قاضي التحقيق في الأمر بالتنصت ( 108 من م ج.
خول قانون المسطرة الجنائية لقاضي التحقيق بصفة أساسية في جميع الجرائم سلطة اتخاذ أمر بالتقاط المكالمات والاتصالات المنجزة عن بعد وتسجيلها وأخذ نسخ منها وحجزها إذا اقتضت ضرورة البحث ذلك وكانت القضية معروضة عليه، في حين قيد سلطة الوكيل العام للملك في اتخاذ نفس الإجراء بموافقة الرئيس الأول لمحكمة الاستئناف إما بصفة قبلية بناء على ملتمس كتابي موجه إليه في الموضوع، أو بصفة بعدية في حالة الاستعجال القصوى إذا أمر الوكيل العام للملك بالتقاط المكالمات بشكل تلقائي زيادة على شرط وجوب اقتضاء ضرورة البحث ذلك وأن يتعلق الأمر بجرائم محددة واردة في المادة 108 من ق م ج.
ويقوم هذا التمييز بين سلطة قاضي التحقيق والوكيل العام للملك في الأمر بالتقاط المكالمات والاتصالات المنجزة عن بعد، على فلسفة تروم في غايتها إلى الحد من سلطة النيابة كخصم في الدعوى العمومية وضمان عدم التنصت على الأشخاص إلا بصفة استثنائية وتحت مراقبة السلطة القضائية في شخص الرئيس الأول لمحكمة الاستئناف. أما بالنسبة لقاضي التحقيق فيبقى سلطة قضائية محايدة ومستقلة لا يمكن تقييد سلطتها في اتخاذ أمر بإجراء التنصت بالقيود المفروضة على النيابة العامة.
هذا، ومن باب التأكيد فإن الواقع العملي أفرز لنا أهمية السلطة المخولة لقضاة التحقيق بالنسبة لإجراء التنصت في كشف العديد من الجرائم الخطيرة غير الواردة في المادة 108 من ق م ج والتثبت منها، كما هو الحال بالنسبة للجرائم المرتكبة خلال فترة الانتخابات وغيرها من الجرائم الخطيرة.
الملاحظة (14) : وضع الترتيبات التقنية لتثبيت وسائل التنصت داخل مكاتب المحامين ( المادة 4-116 من ق م ج.
يذهب صاحب المقال إلى انتقاد مقتضيات الفقرة الثانية من المادة 4-116 من مشروع ق م ج، على أساس مساسها بحرمة مكاتب المحامين من خلال إخراجها لحالة وضع الترتيبات التقنية لتثبيت وسائل التنصت داخل الأماكن المذكورة من حالة التجريم والعقاب وفق ما تنص عليه مقتضيات الفقرة الأولى من نفس المادة.
غير أنه بالرجوع إلى مقتضيات المادة المذكورة، يتضح أن هذه الحالة غير واردة على الاطلاق إذ يعتبر فعلا مجرما ومعاقبا عليه كل وضع للترتيبات التقنية بمكاتب المحامين لالتقاط وتثبيت وبث وتسجيل الأصوات والصور وتحديد المواقع.
ويبقى الاستثناء المشار إليه في الفقرة الثانية من المادة 4-116 من مشروع ق م ج، الذي يخرج الفعل المذكور من دائرة التجريم والعقاب يرتبط فقط بالحالة التي يحمل فيها شخص ما ترتيبات تقنية أثناء ولوجه بكيفية شرعية إلى الأماكن المذكورة، وهو ما يعتبر أمرا طبيعيا ومعقولا لإثبات حالات الابتزاز أو غيرها من الأفعال المخالفة للقانون التي قد تمارس داخل الأماكن المشار إليها في الفقرة الأولى من المادة 4-116 من مشروع ق م ج.
هذا، ولا يعتد بالترتيبات التقنية لتثبيت وسائل التنصت المشار إليها أعلاه إلا إذا تمت بصفة قانونية وفق ما تنص عليه أحكام الباب الخامس مكرر المتعلق بالتقاط وتثبيت وبث وتسجيل الأصوات والصور وتحديد المواقع، والتي تقتضي توفر مجموعة من الشروط والضمانات من قبيل:
- صدور إذن بمقتضى مقرر كتابي معلل صادر عن هيئة قضائية في شخص قاضي التحقيق أو النيابة العامة؛
- ارتباط الإجراء بضرورة البحث أو التحقيق؛
- ارتباط الإجراء بجرائم خطيرة محددة في المادة 108 من ق م ج؛
- وضع مدة محدودة لعملية الالتقاط؛
- وضع التدابير اللازمة لضمان احترام السر المهني.
الملاحظة 15: التعرض على الأحكام الغيابية (المادة 393 من ق م ج.
انتقد صاحب المقال مقتضيات المادة 393 من مسودة مشروع تعديل قانون المسطرة الجنائية، فيما يخص تنصيصها على عدم جواز التعرض على الأحكام القابلة للاستئناف لمساسها بحقوق المتهم في التقاضي على درجتين وحرمانه من حقه في الدفاع عن نفسه ومؤازرته من طرف محام.
غير أن ما ينبغي التأكيد عليه في هذا الاطار أن الأمر يتعلق فقط بالأحكام الغيابية غير القابلة للاستئناف وأن الغاية من هذا المستجد تكمن في تفادي حالات تعارض الأحكام بفعل سلوك المتهم لطريقي الطعن بالاستئناف والتعرض معا في العديد من الحالات. زيادة على أن الأثر الناشر للاستئناف يسمح بإعادة النظر في القضية من جديد الأمر ويسمح للمتهم ببسط أوجه دفاعه.
الملاحظتان 17 و18 : ( غير مدرجة بمقال الأستاذ عبد الكبير طبيح).
الملاحظة 19: احتساب بداية أجل الطعن بالنسبة للنيابة العامة (المادة 393 من ق م ج)
انتقد صاحب المقال مقتضيات الفقرة السابقة من المادة 393 من مشروع تعديل ق م ج، بخصوص احتساب بداية أجل الطعن المخول للنيابة العامة من تاريخ إشعارها من طرف كتابة الضبط رغم أن الأحكام تصدر بحضورها.
غير أنه بالرجوع لمقتضيات المادة المذكورة، يظهر أن هذا المستجد يرتبط فقط بحالة الأحكام الغيابية دون غيرها، وأنه من الطبيعي أن لا يحتسب للنيابة العامة أجل الطعن في الحكم الغيابي إلا ابتداء من تاريخ إشعارها بانتهاء أجل التعرض وليس من التاريخ الموالي لصدور الحكم مادام الحكم الغيابي يبقى معلق التنفيذ إلى حين التصريح بالتعرض أو التنازل عنه من طرف المحكوم عليه أو انتهاء آجال تقادم العقوبة وفق الضوابط المحددة قانونا، وأنه للحفاظ على حق النيابة العامة في ممارسة سلطة الطعن يتعين أن لا يحتسب أجل الطعن المخول لها إلا ابتداء من تاريخ إشعارها من طرف كتابة الضبط بانتهاء أجل التعرض.
الملاحظة (20): وضع الأصفاد في يد المتهم أثناء المحاكمة (المادة 423 من ق م ج).
جاءت مضامين مسودة مشروع قانون المسطرة الجنائية بمستجد جديد طال مقتضيات المادة 423 منها، سمح من خلاله لرئيس الهيئة بوضع المتهم الماثل أمامه تحت الأصفاد إذا كان يشكل خطرا على نفسه أو الغير، ولم تكن قاعة الجلسات مجهزة بقفص للاتهام يكفي لدرء الخطر المحتمل. وهو ما يعتبره صاحب المقال بمثابة تراجع عن الوضع الحالي ومساس بالقواعد الحمائية لحقوق الانسان وكرامته.
غير أن ما ينبغي التأكيد عليه في هذا الاطار، أن سياق وضع هذا المستجد اقتضته العديد من حالات الاعتداء التي طرأت على أرض الواقع داخل قاعات المحاكم المغربية من طرف بعض المتهمين، ألحقت ضررا بليغا اما بهيئات الحكم أو الدفاع أو موظفي الأمن المكلفين بالحراسة أو أطراف القضية بما فيهم المتهمين أنفسهم، وصلت الى حد إزهاق الأرواح نتيجة خطورة بعض المتهمين ووضعهم النفسي.
والجدير بالذكر أن مستجد وضع المتهم تحت الأصفاد، ليس بمبدأ عام يطبق على جميع المتهمين، بل يعد إجراء احتياطيا يلجأ اليه في حالة الاستثناء إذا تبين لرئيس الجلسة أن المتهم يشكل خطرا على نفسه أو الغير، ولم تكن قاعة الجلسات مجهزة بقفص للاتهام يكفي لدرء الخطر المحتمل.
الملاحظة (21): تقييد النطق بعقوبة الاعدام بإجماع كافة أعضاء هيئة الحكم ( المادة 430 ق م ج).
يذهب صاحب المقال بالقول على أن تنصيص المادة 430 من مسودة مشروع قانون المسطرة الجنائية، على تقييد النطق بعقوبة الاعدام بضرورة إجماع كافة قضاة هيئة الحكم، يعد بمثابة تراجع عن التوجه العام الوطني الذي يكاد يلامس الاجماع على إلغاء عقوبة الاعدام.
غير أنه بالوقوف على النقاش المجتمعي الدائر ببلادنا حول مستقبل عقوبة الاعدام يتعذر إلى حد يومه حسم الموضوع بشكل قطعي، إذ يتجاذبه تياران أحدهما يدعو الى الابقاء على عقوبة الاعدام والآخر الى إلغائها ( اشتد الاتجاه الأخير منذ فترة تسعينات القرن الماضي وبلغ أوجه سنة 2003 بعد انشاء سبع جمعيات من منظمات المجتمع المدني ما سمي ب ” الائتلاف المغربي من أجل إلغاء عقوبة الاعدام”).
ومن جهة أخرى، فان مستجد تقييد النطق بعقوبة الاعدام بإجماع كافة قضاة الحكم ما هو إلا تأكيد لتوصيات مناظرة السياسة الجنائية التي نظمتها وزارة العدل والحريات خلال شهر دجنبر من سنة 2004 التي كان صاحب الانتقاد الأستاذ عبد الكبير طبيح من بين المشاركين الأساسيين في أشغالها، والتي أوصت بما يلي:
- الحد من عقوبة الاعدام وانتهاج التدرج في الغائها؛
- اشتراط النطق بها بإجماع القضاة الذين تتألف منهم هيأة الحكم.
هذا، وقد تبنت هيئة الانصاف والمصالحة التوصيتين المذكورتين بخصوص عقوبة الاعدام، زيادة على أن المنتظم الدولي نفسه يقر بآلية تقييد عقوبة الاعدام بموجب المادة السادسة من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية بالنسبة للدول التي لم تلغ بعد عقوبة الاعدام.
الملاحظة (22): عدم قابلية الطعن بالنقض ضد المقررات القضائية الصادرة بغرامة يقل مبلغها عن 20.000 درهم ( المادة 523 ق م ج).
يأتي المستجد الذي طال مقتضيات المادة 523 من ق م ج، بشأن عدم قابلية الطعن بالنقض ضد المقررات القضائية الصادرة بغرامة يقل مبلغها عن 20.000 درهم، في إطار الحد من حالات الطعون بالنقض بالنسبة للقضايا جد البسيطة التي تثقل كاهل المحكمة والقضاة وتؤثر على مردوديتهم ما دام أن أصحابها قد استفادوا من درجتين للتقاضي.
هذا، وقد سبق للمشرع المغربي في إطار الحد من حالات الطعون بالنقض ضد المقررات المذكورة أن اشترط لقبولها الادلاء بما يفيد أداء الغرامات وذلك بموجب التعديل الذي طال مقتضيات المادة المذكورة سنة 2005 عن طريق القانون رقم 24.05 الصادر بتنفيذه الظهير الشريف ل 23 نوفمبر 2005. غير أن ذلك لم يحد من كثرة عدد الطعون المقدمة في الموضوع.
الملاحظة (23): سلطة المحكمة في اعادة تكييف الأفعال ( المادة 49 ق م ج).
يأتي المستجد الوارد ضمن مقتضيات المادة 49 من ق م ج في شأن منح الوكيل العام للملك صلاحية إحالة قضية تشكل جناية على وكيل الملك باعتبارها جنحة كلما ظهر إليه أن الضرر الناجم عنها يبقى محدودا أو قيمة الحق المعتدى عليه بسيطة، في إطار سد الفراغ التشريعي بشأن آلية التجنيح القضائي كصورة من صور التفريد القضائي تخول للنيابة العامة كجهة متابعة صلاحية تغيير وصف الجريمة من جناية الى جنحة كلما تبين لها أن خطورة الفعل لا تتناسب مع العقوبة المقررة للجناية.
وفي إطار تفعيل الآلية المذكورة كان من اللازم أن يقر المشروع تقييد سلطة المحكمة في إعادة تكييف الأفعال المذكورة مع البت وفق الوصف المحال عليها من طرف النيابة العامة، لتلافي كثرة الاحالات على الغرف الجنائية بالنسبة للقضايا البسيطة والحد من العقوبات الحبسية الطويلة المدة، لاسيما وأن النيابة العامة ارتأت أنه من المصلحة تغيير الوصف والتخلي عن الوصف الأشد باعتبارها سلطة المتابعة ومالكة الدعوى العمومية وممثلة للحق العام والمجتمع.
تلكم كانت أهم التوضيحات بالنسبة لما ورد من ملاحظات في مقال الأستاذ عبد الكبير طبيح حول مسودة مشروع ق م ج، حاولنا من خلالها بسط وجهة نظرنا في الموضوع بكل تجرد ومصداقية بناء على معطيات وأسس قانونية وليس من أجل الانتصار لمشروع القانون المذكور. فاتحين المجال لقراءات أخرى نتمنى أن تنعم بها أنامل سخية في الموضوع بكل صدق واحترافية علمية وتجرد وبعيدا عن القراءات الضيقة أو الأحادية…