بإجراء قراءة في التاريخ الحديث، يتجلى للذهن والبصيرة أن منطقة شمال إفريقيا تظل موضوع هيكلة منتظمة ومتجددة باستمرار، وذلك على القدر التي تسمح به الأجندات الخارجية للقوى القائمة على الشأن الدولي، وبالقياس الذي يمليه تدافع وتزاحم مصالحها، لاسيما الطاقية أو تلك التي تعتقد أنها مكتسبة بقوة التاريخ. في ضوء هذا التوجه، يظل المغرب الكبير شديد الارتباط بمشروع "الشرق الأوسط الكبير"، حيث تحط العوامل الخارجية بثقلها على أنماط الحكم القائمة في المنطقة تحت يافطة الانتقال الديمقراطي والتوازن الاقتصادي-الطاقي الجديد.
ما قبــل اندلاع المــد الثوري
شهدت الساحة السياسية في بلادنا الإفصاح بين الحين والآخر عن سلسلة من التصريحات الصادرة عن بعض الأحزاب والهيئات المحسوبة على المعارضة في شموليتها الداعية إلى تسريع وثيرة الانتقال الديمقراطي في البلاد كما هو الحال عليه في الديمقراطيات العريقة، ونتذكر جيدا في هذا الباب مواقف الاتحاد الاشتراكي لاسيما في موضوع التعديل الدستوري، إلا أن مضمون هذه التصريحات ظل ولفترة طويلة مجرد كلمات اكتتبها ساسة تواقون للسبق السياسي، تلوكها الألسن وتتداولها عناوين الصحف على اختلاف مشاربها، دون أن تتوج برص الصفوف ولملة الحشود والأطياف والجماعات حول إجراء تعديل دستوري بنيوي، يزكي أوراش الإصلاح التي يقودها صاحب الجلالة.
هكذا قد لا نبالغ في القول بأن الممارسة السياسية ما قبل الربيع العربي عرفت ما يسمى بما تحت السياسة، تلقينا بملئ السمع خطابات سياسية تلتحف الحماسة وتجاهر بشعارات رنانة لكن بحضور باهت. ولهذا لا نتلكأ في الاعتقاد بأن الممارسة السياسية في بلادنا لم تنفك تخلع عنها رداء الفراغ وتولي الأفضلية إلى الإبقاء على الوضع القائم « statu quo »، وتوجب بالنتيجة الاستبشار بمقدم دواعي خارجية لتأكيد حتمية واستعجالية الانخراط في ثورة دستورية مهيكلة، في الوقت الذي كانت فيه الدواعي الداخلية من أجل اكتمال النضج الديمقراطي في أوج اختمارها واعتمارها. فقد آثرت القوى الحزبية على نفسها تفويض تهيئة الأرضية المنتجة للتعديل الدستوري إلى "أيادي خفية" تتمثل أساسا في الامتدادات الجيوسياسية لما يشبه الهزة الجيولوجية التي فجرت فوهات المطالب السياسية والحقوقية في عدد من الأقطار العربية، وحركة 20 فبراير صورة من صور هذه الامتدادات. على ضوء ما سبق، نستنتج أن غياب "التعبئة الذاتية" أو "التحفيز الذاتي" من أهم السمات التي طبعت المشهد السياسي آنذاك، وكأن بغالبية الأحزاب الفاعلة انشغلت عن الالتفات إلى القضايا الحيوية وعلى رأسها التعديل الدستوري، وانصرفت بخواطرها وأفئدتها إلى تحصيل المكاسب الانتخابية، ولا ضير في ذلك إذا أعطي كل شيء قدر حقه ومقدار حصته.
الساحة السياسية التي هي جزء من هذا السياق أوهنتها البلقنة وافتتنتها الفرقة وغمرها الشتات، حوالي 35 حزبا تشتت عليها قوتها الاقتراحية في الوقعات الكلامية والتراشق بالانتقادات اللاذعة وصيد الهفوات، وذلك في أجواء سياسية تفتقر للتنافسية التكاملية وتغيب عنها روح المعارضة البناءة.
لم يكن لذلك الوضع غير السوي إلا أن ألقى بوقعه على الخصوبة الاقتراحية للقوى الحزبية وعلى إنتاجيتها السياسية، فضلا عن التضييق على مساحة تفرغها للاستثمار في القضايا الكبرى الكفيلة باستكمال البناء الديمقراطي والتنموي لمغرب القرن الواحد والعشرين.
هذا ما يلهمنا القول بأن المسرح السياسي الراهن يحتاج من أي أكثر وقت مضى إلى المبادرة بهيكلة سياسية تستقي مادتها من المعايير الديمقراطية العصرية كما هي متعارف عليها دوليا، ولا يتحقق ذلك إلا بالترفع عن الحسابات الشخصية الضيقة لاسيما بين الرموز الحزبية، ونبذ الانجرار وراء التقاذف بالخطابات التصعيدية وتبادل أطراف التلاوم والانشغال بالمراء السياسي المنسلخ من جلد العلمية والمفتقر لمقومات الجدية.
تحـولات ما بعد الربيــع العربـــي
لعل من أهم ما جاد به الربيع العربي هو أنه أعاد الاعتبار إلى العمل السياسي وشد أزره في الخروج من عنق الزجاجة، ونعتقد أننا لا نبالغ في القول بأن هذا الواقع العربي ضخ في الجسم السياسي للمغرب ما يحتاج إليه من دماء المصداقية، فتجلت مردوديته وتنامت حيويته ورجع على قدر إلى وظائفه المرجعية، حيث سجلت المرحلة إعادة الثقة إلى الحياة السياسية وعودة المواطن إلى التفكر في الآلية السياسية والمراهنة عليها، بل وصياغة سلسلة من الانتظارات والتطلع إلى جملة من المطامح يعتقد في قرارات نفسه أنها مشروعة وأنه بالعمل السياسي الجاد يستطيع أن يبلغها. كما أن المرحلة ساهمت وبقوة في إعادة النظر في سقف المطالب والتطلعات المطروحة على البساط وإعادة ترتيب أنماط التفاعل السياسي مع القضايا وفيما بين المتدخلين أنفسهم.
المد العربي ساهم أيضا في إخراج الفعل السياسي من المحدودية والركود إلى الإنتاجية والحركية. قبل الربيع العربي كان التحفظ والمناورة السياسية الضيقة من أبرز القواعد التي ألقت بضلالها على الخرجات السياسية، أما في المرحلة التي أعقبته فشهدنا تغييرا على هذه القواعد باتجاه الانفتاح والانعتاق من بعض قيود المرحلة السابقة. هكذا وجدت القوى السياسية والفعاليات الحية نفسها تلتف على نحو غير مشروط حول دعوات الإصلاح التي يكون دوما للمؤسسة الملكية قصب السبق في الإعلان عنها، فإذا بنا أمام نص تأسيسي جديد يعتبر بإجماع المتتبعين بمثابة تدشين حقيقي لعصر الإصلاحات وإعادة إقامة توازن جديد في منظومة العلاقات التي تربط الدولة بمواطنيها.
هكذا تلملمت الفرق والتنظيمات على تمايز إيديولوجيتها حول حتمية الانتصار للقيم الديمقراطية المتأصلة والذود عن الحقوق السياسية والمدنية والاجتماعية على غرار ما تتمسك به الديمقراطيات التقليدية. وكما يقال رب ضرة نافعة، فلا أحد ينكر على الثورات العربية قوتها في نشر ثقافة القطيعة مع الفساد والمفسدين حتى إلى ما وراء الأقطار العربية، ولا يساورنا العجب أن نسمع بشعارات لها تتردد في ساحات غربية من قبيل نيويورك ومدريد.
مخرجات حركــــــة 20 فبرايــــــر السياسية:
الحركة هي وليدة موجة الاحتجاجات التي انطلقت شرارتها في كل من تونس ومصر، حيث استفادت إلى حد كبير مما اصطلح عليه بالدمقرطة الالكترونية التي تمكنت من أن ترص الصفوف سياسيا في أوساط الشباب العربي المتمدرس على حد تعبير الأستاذة رحمة بورقية. في بادئ الأمر تعرضت الحركة إلى وابل من الانتقادات ولم تلقى ترحيبا على قدر حجمها من قبل أطراف الساحة السياسية، ولعل من أبرز ما قيل فيها أن مسيرة 20 فبراير هي من تأطير وتوجيه جهات انفصالية، وأن الحركة في تكوينها ما هي إلا محاكاة غير مقبولة للأحداث الدرامية التي اجتاحت أقطارا من المغرب العربي والشرق الأوسط، أما حزب الاستقلال فقد اعتبرها في البداية عملا سياسيا موجها ضده، وجل الانتقادات التي تم توجيهها إلى "الفبراريين" تنحدر من مشكاة واحدة وهي التعبير عن المخاوف من اهتزاز السلم الاجتماعي وفقدان بعض من المكاسب التي تمت مراكمتها من التجارب السابقة إلى حد الآن.
لكن سرعان ما أتى خطاب 9 مارس ليمنح حركة 20 فبراير نوعا من المشروعية من خلال الاستجابة إلى أهم مطالبها ألا وهي إقرار دستور جديد للبلاد. وقد سجلت مرحلة ما بعد 9 مارس تسارع غالبية الأحزاب إلى الاعتراف بالحركة والسعي نحو تحقيق مستويات عالية من التقارب معها، أما أقصى اليسار فاختار لنفسه خيار التماهي بالجملة مع ما تدعو إليه دون أن يفسد الخلاف الإيديولوجي للود قضية. تجدر الإشارة إلى أن التوافق المبدئي بين أعضاء الحركة (شباب الفايسبوك، الشبيبة الحزبية، فاعلون حزبيون لاسيما الحزب الاشتراكي الموحد والنهج الديمقراطي، أعضاء الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، الشبيبة الأمازيغية، العدل والإحسان...) أخد في المرحلة ما بعد إقرار الدستور الجديد بالتحول إلى واقع جد صعب على الحركة نفسها خصوصا على مستوى الشعارات والمطالب التي تحملها، وذلك بين من يدعو إلى الضغط من أجل رفع سقف المطالب الاجتماعية والاقتصادية وبين من يدعو إلى التعبئة في كنف النظام الدستوري الجديد.
إن أهم ما يمكن أن نقوله عن حركة 20 فبراير أنها تجسد أبرز مخرجات الربيع العربي بالنسبة للمغرب، من حيث أنها أعادت صياغة المشهد السياسي، فجعلت له سريا من التحرر والجرأة، وأكسبته عزما وحزما متلازمين في مقاربة عدد لا بأس به من القضايا والنوازل السياسية. ولا أحد يستطيع أن ينكر عليها فضلها في إعادة إنتاج اللعبة السياسية بمضامين وآليات عمل متجددة في مجالات حيوية كتقوية البعد الديمقراطي للسياسات الحكومية وتوسع انتشار المد الحقوقي كعقيدة راسخة ومنطلق ثابت لكل مشروع سياسي.
وقد نكون أنصفنا الحركة إذا ما اعتبرناها قيمة مضافة أمطرت الفكر والممارسة السياسية معا بصيب من المواد الداعمة من المناهج والمبادئ والتي أسست في مجملها تأطيرا نظريا أصاب حظه كغيره من الصواب والخطأ. إلا أننا نعتقد أن الأمر يتعلق حقيقة بمرحلة قد نصفها بالمفصلية والحاسمة في التاريخ السياسي المغربي بالنظر إلى أهمية المكتسبات الديمقراطية التي حققتها وسعة الامتدادات التي تعرض لها سقف الحقوق والحريات في بلادنا في أجواء سياسية طبعتها الثورة التوافقية على حد تعبير وزير السياحة المغربي لحسن حداد.