برزت إشكالية التشغيل إلى جانب مشاكل اجتماعية عدة بحدة قبيل تقلد السيد عبد الرحمان اليوسفي تدبير الشأن العام. وثمة عدة كتابات صنفت جذور هذه الإشكالية إما ضمن سلبيات تفعيل برنامج التقويم الهيكلي أو ضمن الكيفية السلبية التي تم بها تدبير هذا البرنامج معللين إفادتهم بكون الإشكالية لا تكمن في مضمون برنامج التقويم الهيكلي في حد ذاته ولكنها تكمن في كيفية تدبيره. فالمسئولية إذا قد تكمن في عدم أهلية من عهد إليه تدبير هذا الملف. كما أن التفاقم الراهن لإشكالية البطالة يعكس الغياب، منذ سنوات خلت، لاستراتيجية متميزة برؤية ذات بعد مستقبلي وبالاستمرارية والتنسيق وكذا القدرة على التكيف مع تطور معطيات الاقتصاد الوطني منذ فجر الاستقلال إلى اليوم.
وعلى أية حال، فمنذ ذاك الحين، تعاقبت على قصر المؤتمرات بالصخيرات تقديم عدة برامج تم إعدادها قصد التصدي أو التقليص في حدتها. ولعدم الانسجام والتناغم بين الخطاب السياسي والخطاب الاقتصادي في المغرب وما يفرزه من اختلاف بين مؤشرات البطالة، لا أعتقد أن هناك جهة معينة يمكنها أن تجزم أو لا تجزم ، استنادا إلى مؤشرات رقمية موضوعية تحض بتزكية وطنية ودولية، بنجاح أو بعدم نجاح ذلك المسلسل من البرامج والمبادرات المعلن عنها. فالمؤشر الوحيد والموضوعي المتوفر لدينا يتجلى في خروج، مكرهين تحت وطأة صعوبة الاستمرار في تحمل عبء الواقع المعاش، أفواج من الشباب الباحث عن الشغل إلى الشارع. وانطلاق مما يلاحظ يمكن استخلاص نجاح أو عدم نجاح برامج التشغيل السالفة.
فإذا أكد البعض أن الإشكالية هي ذات صبغة بنيوية، فبالمقابل وجب، على سبيل المعادلة، التخمين الجدي في حلول أو برامج بنيوية عوض التسريع في برمجة برامج ظرفية تعكس اللون السياسي لمن يدبر، خلال ظرفية معينة أي خلال مرحلة انتدابه الانتخابي، مسألة التشغيل. وهذا يعني كون إستراتيجية التشغيل لا تعرف الاستمرارية لا في التخطيط ولا في التنسيق ولا في التوظيفات، فكلما حل مسئول وزاري نبذ وراء ظهره برنامج المسئول الوزاري السابق. لتظل التوظيفات أولا متميزة بالظرفية والمحسوبية والعلاقات الشخصية والانتماءات الحزبية والنقابية أي رهينة بمعايير خارج معايير سوق الشغل والمؤهلات. وما هو موضوعي يكمن في أنه لكل مشكل بنيوي وجب إعداد استراتيجية بنيوية وليست ظرفية. هذا ما تقتضيه المعادلة.
فهذا النهج يجعل من التشغيل مسألة سياسية أكثر منها اقتصادية بمعنى أنها لو كانت فعلا اقتصادية أي أن النسيج الاقتصادي الوطني لا يسمح بالتوظيف، لما توفر الشغل لأي كان تحت أية ظرف أو وساطة. ومما قد يعزز هذه الرؤيا كون الشاب العاطل عندما يلمس يوميا توظيف فلان أو فلانة في مصلحة ما، يتبين له أن مضمون الخطاب الاقتصادي الداعي لعدم توافر فرص الشغل لا أساس له من الصحة وتترسخ لديه فكرة كون فرص التشغيل متوفرة وما هو بالغير متوفر لذا جل الشباب هي العلاقات والزبونية والمحسوبية (...) والتي وجب تجاوزها كضرورة حتمية للتشغيل.
وأعتقد أنه مما يزيد من حدة هذه الاشكالية يكمن في فقدان الثقة بين المسئولين عن تدبير ملف التشغيل وتنسيقيات المعطلين ذلك أن عدم احترام الوعود المقترحة خلال جلسات الحوار لا يساهم إلا في تأجيج الوضعية. وأعتقد أنه لو تم فقط الالتزام بما يقدم لتنسيقيات المعطلين لترسخت في ذهن المعطل مصداقية الخطاب ولآمن المعطلون بكون التوظيف سيتم فعليا على مراحل متفق بشأنها ولم يكونوا لينزلوا للشارع.
ما يحمله مضمون الخطاب السياسي بخصوص التشغيل يمكن تلخيصه في:
- عدم قدرة القطاع العام على استيعاب مجموع الشباب المعطل
- ضرورة توجه الشباب نحو القطاع الخاص
- إعادة التكوين والتأهيل لمواكبة متطلبات السوق وبالتالي ضمان الحصول على شغل.
لنناقش هذه النقط الثلاث قصد استيعاب مصداقيتها وقصد محاولة إيجاد بعض عناصر الإجابة لهذه الاشكالية التي ترهن المستقبل الاقتصادي والاجتماعي للمغرب من خلال إيجاد صيغة لتمكين شباب البلد من إبراز مؤهلاته.
فالقطاع العام يعلل عدم قدرته على توفيره لفرص الشغل ب: أولا، الآثار السلبية للتشغيل على ارتفاع كتلة الأجور وبالتالي على ميزانية التسيير للدولة. إلا أن هذا الطرح قد يفتقد للدقة في طرحه لكون إصلاح منظومة الأجور والتقليص بين الأجور الدنيا والأجور الخيالية والعلاوات والامتيازات المرافقة لها الذي وعد بها السيد وزير تحديث القطاعات العمومية لم يتم إنزاله بعد في وقت تستعد الحكومة لتغيير مكوناتها. فالتقليص بين مستويات الأجور من أبرز وأنجع الحلول لتمكين القطاع العام ليس فقط من خلق فرص الشغل بل حتى من إنجاح الركيزة الأساسية لتنمية الاقتصاد المغربي والمتمثلة في اتساع رقعة الطبقة المتوسطة.
ثانيا، كل القطاعات الاقتصادية والاجتماعية العمومية تعاني من نقص في الأطر وهذا واقع لا جدال فيه بل هناك جهات لا وجود للمرافق العمومية بها وبالتالي سيرغم القطاع العمومي على التوظيف لملأ الفراغ وتجاوز الخصاص خصوصا مع تفعيل مشروع الجهوية الموسعة التي ستتطلب توفير مجموع المصالح العمومية بأطر جديدة بالجهات التي تعاني من نقص لا في المصالح ولا في الأطر.
ثالثا، هناك بعض الخطابات التي تربط عدم قدرة القطاع العمومي على التوظيف بغياب نسبة تنمية ملائمة وهذا التفسير أعتقد ذلك أنه، بدون تدقيق، سيبقى مبهما. فالتنمية ليست تنمية مادية فقط كما عبرت عنها النظرية الليبرالية في نسختها الأصلية، بل هي كذلك معنوية وفكرية أي غير مادية. فإذا أكد السيد والي بنك المغرب على قدرة الاقتصاد المغربي على تحقيق نسبة معقولة في مجال التنمية واستطاع تجنب الانعكاسات السلبية للأزمة العالمية فهذا المعطى في حد ذاته هو إيجابي ويبعث على التفاؤل ويمكننا من استنتاج أن نتيجة التنمية التي هي ثروة البلاد هي في مستوى جيد ليطرح من جديد تساؤل من المستفيد من هذه الثروة ؟ وكيف يمكن تخليق توزيعها وخلق فرص الشغل ؟. أما بخصوص الوجه الآخر للتنمية أي الوجه غير المادي فهو يتمثل في المؤهلات الفكرية المتوفرة في المغرب والتي يبقى القطاع العمومي في حاجة إلى ضمها إثر الخصاص المشار إليه اعلاه وإثر المغادرة الطوعية وما نجم عنها من إفراغ القطاع العمومي من ثروته الفكرية وبالتالي هناك إمكانية لتغطية هذا الخصاص المعنوي الفكري بالمؤهلات الشابة أي بالتوظيف.
رابعا، وفي نفس النسق، أي النسق التنموي، وجب التذكير بدور القطاع العمومي في حل أزمة 1929 من خلال قيامه بإنجاز مشاريع كبرى استطاع من خلالها تحرير الاقتصاد الانجليزي من البطالة والتضخم. نشيد بهذه التجربة لكون المغرب يعرف إنجاز عدة مشاريع تضاهي مشاريع الدول المتقدمة لها انعكاسات إيجابية على الاقتصاد الوطني دون أن تكون لها نفس الانعكاسات على المجالات الاجتماعية وخاصة على الحد من البطالة والقدرة الشرائية... أين يكمن الخلل: هل في النظرية في حد ذاتها؟ أم في تدبيرها؟ أم في العنصر البشري المسئول الذي بات يشار إليه بسوء التدبير والتبذير؟
بناء على ما سلف ذكره، لا اعتقد، كما عبر عنه بعض الشباب خلال برنامج السيد كلحسن ليوم الأربعاء 22.9.2011، أن شباب اليوم ينتظر من النخب المدبرة للشأن العمومي حاليا حلا لمشاكلهم لكونهم لمسوا عدم مصداقية الخطاب السياسي وبالتالي فقدوا الثقة فيه، واضعين كل ثقتهم وأملهم فيما ستنتجه استحقاقات 25 نوفمبر 2011 من نخب وعد وألح ضامن وحدة البلاد بشأنها على ضرورة أن تكون نخبا جديدة شابة مؤهلة وحاملة لأفكار جديدة يمكنهم ترجمتها إلى سياسات اقتصادية واجتماعية قد تفلح من خلالها في تجاوز ما تعاني منه حاليا. ما يأمله الشعب المغربي هو أن لا تكون النخب الشابة مجرد "نسخ مصغرة" لمن سبقوهم لتعيش البلد الطامة الكبرى.
أما بخصوص القطاع الخاص ومدى مساهمته في التخفيف من إشكالية البطالة فمن الملاحظ أن القطاع الخاص هو "قطاع خاص بنفسه" ذلك أن نسيجه يتكون في معظمه من مقاولات عائلية ولا تدمج في إطارها إلا من كان من المقربين الذين، حسب وجهة نظرهم، سيكتسبون المهارة وسيضبطون كيفية تدبير المقاولات مع المدة من خلال احتكاكهم بالعمل. ولا مجال لاستقطاب مؤهلات خارجية (عن الإطار العائلي) لكونه لن يسبب إلا في بروز ما يعتبرونه مشاكل كالانتماءات النقابية والجمعوية والمناداة بضرورة احترام قانون الشغل وغيرها. فنسيج القطاع الخاص بالمغرب هو نسيج يتميز بازدواجية تغلب عليها الصبغة العائلية الضيقة. ويتجلى هذا في نسبة المقاولات المغربية التي تقبل بالولوج إلى بورصة القيم. وهذا معيار علمي لمدى تطور عقلية تدبير المقاولة في المغرب وجعل بورصة القيم آلية اساسية في التمويل وفي استقطاب الرساميل والاستثمارات.
وما يتواجد داخل البورصة حاليا إلا نسبة جد ضئيلة من المقاولات المغربية بالرغم من تجربة الخوصصة ومن الترسانة القانونية التحفيزية التي أدرجت بهدف تنشيط بورصة القيم في المغرب، لتبقى هذه النسبة المتواضعة من المقاولات هي من يمكن نعته مع بعض التحفظ بالقطاع الخاص المغربي المعصرن أو الحديث. أما بخصوص مساهمته في الحد من إشكالية البطالة فهي تتصف بخطاب بعيد كل البعد عن وطنيته متناسيا أن الخيرات التي ينعم بها إنما هي خيرات هذا الوطن وبالتالي وجب، ليس جودا منه بل واجبا عليه، المساهمة في الحد من البطالة ضمانا لاستقرار البلاد وضمانا للسلم الاجتماعي الذين بدونهما لن ينعم بالوضعية جد المريحة التي ينعم بها.
وعجيب أن يطالب القطاع الخاص، مقابل ضمان السلم الاجتماعي أي التوظيفات، بتخفيضات في نسب الضرائب المفروضة عليه وبتحمل الدولة تكاليف إعادة تأهيل الشباب العاطل. وهنا أيضا تبرز عدم الجدية في خطاب القطاع الخاص إذ أنها تستفيد من التخفيضات الضريبية دون إدماجها لحاملي الشهادات ذلك أنه لا يحتضن الشباب المعطل إلا لمدة زمنية قصيرة أي المدة التي لن تلزمه بالادماج الفعلي والنهائي للمعطل ليجد الشاب نفسه مرة أخرى في الشارع. بل أكثر من ذلك، فعدم جدية التزام القطاع الخاص هي من يجعل الشاب ينفر من الانضمام إليه لتترسخ في ذهنه أكثر فأكثر ضرورة العمل في القطاع العمومي لكونه حق دستوري. وجب على لشاب أن يعلم بأن التشغيل في القطاع الخاص هو ايضا حق دستوري وجب الدفاع عنه. والدستور واضح في هذا المجال إذ يقر بحق المواطن في الشغل بصفة عامة. والصفة العامة تعني ضمن كلتا القطاعين سواء العمومي أو الخاص. وقصد التمويه، فالقطاع الخاص يشغل نسبة محددة من المعطلين لمدة قصيرة ليرجعها من حيث أتت أي نحو الشارع ليستقطب فوجا آخر بنفس الطريقة ليوهم الرأي العام وليستمر في استفادته من التحفيزات الضريبية أنه يقوم بدوره.
وجب على القطاع الخاص، بما أنه يطالب على لسان رئيسة جمعية المقاولات المغربيات بضرورة دسترة الليبرالية الاقتصادية، لعب دوره وفق هذا المنظور الذي يجعل من القطاع الخاص القاطرة الفعلية لنمو اقتصاد البلاد ليظل القطاع العمومي مقتصرا على بعض الجوانب الاجتماعية وإعداد الترسانة القانونية لضمان اشتغال السوق وفق آليات السوق مع ضمان حماية البلاد والذي هو جزء منها. فعلا، هل بإمكان القطاع الخاص تقييم ثمن اشتغاله في مناخ متسم بالاستقرار والسلم الاجتماعي الذي تسهر عليه الدولة وكم يكلفها ؟
كما أن القطاع الخاص المعصرن لا يمكن اعتباره بقطاع يشتغل في إطار الشفافية ووفقا لآليات السوق. فهو أيضا يتميز بالقرابة والزبونية والتملص الضرائبي واستغلال النفوذ خصوصا عندما يتمكن بعض المقاولين من المزج بين السلطة والأعمال. والملاحظ وهذا أمر يطرح عدة تساؤلات، إذ كيف يعقل أن يكون للفدرالية العامة للمقاولين المغاربة وزن وتأثير أكبر وبليغ على الفعاليات الحكومية بالمقارنة مع مجموع النقابات الأكثر تمثيلية في المغرب وهيآت حماية المستهلك ولجن مكافحة الغش وتوصيات المجلس الأعلى للمنافسة...؟ لا مجال للشرح لكون الأمر جد بين.
وجب أن نعترف بكون بلادنا، لا تتوفر على قطاع خاص كما هو متوفر لذا الدول المتقدمة ولكننا نتوفر على قطاع خاص مشكل من بعض العائلات تتقاسم القطاعات الاقتصادية الحيوية في ما بينها مشتغلة في مناخ اقتصادي متميز باحتكارات قطاعية من جراء تمكنها من المزج والجمع بين السلطة والاقتصاد. وهذا المنحى يتناقض خطابا ومضمونا وممارسة مع الطابع الذي يجب أن يتميز به القطاع الخاص. لن نتوفر على قطاع خاص، وطني الممارسات، إلا بالتنزيل الفعلي لمقتضيات دستور 11 يوليوز 2011.
كيف لنا أن نتحدث عن تواجد قطاع خاص في المغرب في وقت نلمس فيه أنه كلما هبت رياح أزمة أو ضائقة إلا وتراه متراجعا إلى الوراء مستتيرا وملتزما الصمت تاركا الدولة في الواجهة لتتحمل لمفردها مسئولية الأزمة ولتضطر بمفردها كذلك للتفكير في إيجاد حلول لتخطي الأزمة. ليس هذا بالسبيل القويم بل هو سبيل الانتهازية وعدم الوطنية وعدم الإرادة في المساهمة إلى جانب القطاع العمومي في تخطي معضلة تهم الجميع.
فإذا كان القطاع الخاص لا يتوفر على إمكانية ابتكار أفكار تؤهله لتوجيه الاقتصاد الوطني نحو الرقي، فعليه أن يستلهم أفكاره من مبادرات ملك البلاد ذلك أنه إذا كان القطاع الخاص يحتمي وراء "حدوثة" عدم توافق الشواهد المحصل عليها من طرف الشباب المغربي ومتطلبات السوق المغربية، فلماذا لا يقوم هو بإنشاء مشاتل داخل مقاولته لتكوين وتأهيل وضمان توفير نوعية الأطر والعمالة التي يرغب فيها.
ولو كانت "الحدوثة" المشار إليها موضوعية وواقعية فكيف يمكن لقطاعنا الخاص أن يفسر هجرة الأدمغة التي تلقت تكوينها في المغرب وتمكنت من التألق وفرض نفسها في الاقتصادات الأجنبية؟ إنها بالفعل حدوثة لا يجب على الشاب المغربي تحمل عقباتها ذلك أن الشاب المغربي منذ ولادته وهو يتابع تكوينه وتأهيله وفق مناهج تربوية وتكوينية تم إعدادها من طرف خبراء مغاربة وأجانب لتبرز لنا أطر ذات تكوين إيجابي. وبالتالي لا يعقل ولا يليق أن يتحمل الشاب المغربي العاطل سلبيات هذه "الحدوثة" المفتعلة والتي لا اساس لها من الصحة.
فإذا كان عدم توافق الشواهد المحصل عليها مع حاجيات السوق فهذا يعني مسألة واحدة، لا ثانية ولا ثالثة لها، تكمن في كون الساهرين على إعداد المناهج التربوية والتكوينية والتأهيلية لا يتخذون من متطلبات رقي الاقتصاد المغربي وحاجيات السوق أرضية لصياغة هذه المناهج. وأعتقد أنه وجب تقويم منظومة التربية والتكوين والتأهيل من خلال جعل المؤسسات التعليمية مجالات للتعلم وإغناء الفكر وفي نفس الوقت مجالا يمكن من اكتساب مهارات مهنية وظيفية تؤهل ابناء هذا الوطن بعد تجاوزهم للسلك الاعدادي والثانوي من التوفر على تكوين نظري وتأهيل مهني في نفس الوقت. وحينها يبقى لديه الاختيار بعد حصوله على شهادة الباكلوريا من اختيار الوجهة التي يجد فيها نفسه: إما الاستمرارية في التراكمات الفكرية ليتوجه إلى الجامعات والمعاهد التي يرغب فيها، وإما التوجه إلى سوق العمل بعد أن يكون قد اكتسب لمد سبع سنوات قضاها في الاعدادي ثم الثانوي خبرة تمكنه من التوجه نحو إما المعاهد التطبيقية قصد تعميق تكوينه المهني أو اللجوء إلى سوق العمل أو محاولة المزج بين السبيلين.
وعليه، فالمؤسسات الاعدادية والثانوية وجب التفكير بل الإسراع في إعادة النظر في هندستها من خلال احتضانها، علاوة على أقسام التكوين النظري الحالي، إنجاز جناح خاص بأوراش ومشاتل يتلقى فيها التلميذ مبكرا وتدريجيا تكوينا مهنيا يتماشى ومتطلبات سوق العمل. وبنجاح هذه التجربة، ستغيب "حدوثة" عدم ملاءمة الشواهد المحصل عليها مع متطلبات سوق العمل. إلا أن نجاحها يستلزم من القطاع العام والقطاع الخاص العمل سويا من خلال تكفل القطاع العام أو الحكومة بضمان إعداد مناهج ومضامين تربوية تتماشى ومستلزمات الاقتصاد الوطني، في حين يتكفل القطاع الخاص بإعداد المشاتل والأوراش التكوينية داخل المؤسسات وفقا لما يراه هذا القطاع مواكبا لمتطلباته.
علاوة على هذا التوجه وجب علينا كمجتمع مدني وكآباء وأمهات أن نساهم في إنجاح هذا التوجه من خلال إيماننا بكون التربية تبدأ من المنزل بمعنى انه وجب علينا منذ السنوات الأولى لأبنائنا وبناتنا توجيه تربيتهم نحو إنشاء مقاولاتهم لضمان استقلاليتهم ولكي لا يضطر إلى طرق باب لا القطاع العام ولا القطاع الخاص أولا. ثانيا، هذا التوجه في التربية سيمكن أبناءنا تدريجيا من إدراك أنه لا علاقة أوتوماتيكية بين الحصول على شهادة والعمل في القطاع العمومي. ثالثا، ستترسخ لدى أبناءنا فكرة أنهم يتوجهون إلى المؤسسة التربوية والتعليمية قصد تنوير وإغناء فكرهم. رابعا، إذا تمكنا من النجاح في سلك هذا السبيل في تربية أبناءنا، سنكون قد نجحنا في جعل أبناءنا يجتهدون أكثر فأكثر لاكتساب المعلومات والتفوق حتى يكونوا قادرين على تفعيل ما راكموه من فكر في تدبير مقاولاتهم وحتى يكون الفاعلون الاقتصاديون هم من يطرقون بابهم قصد الاستفادة من مؤهلاتهم. خامسا، ضرورة العمل على محو مغالطة خطيرة مزروعة ولصيقة في فكر أبناءنا و المتمثلة في عزوفهم عن التربية والتكوين بدعوى أنها لا تفيد في شيء نظرا للبطالة التي يعاني منها إخوانهم وأخواتهم وما يشاهدونه ولا يستوعبون أبعاده وحيثياته في الشارع. فغالبا ما تسمع أحد الشباب يردد قولة " لماذا يطلب مني التوجه إلى المدرسة أو الكلية وما يستلزم ذلك من مجهودات فكرية ومصاريف، ليكون آخر المطاف: البطالة". إنها بالفعل أفكار هدامة وخطيرة على أسرنا ووطننا وبالتالي وجب علينا محاربتها بالتواصل المستمر بين آباء وأولياء التلاميذ في إطار جمعيات سواء الجمعيات المدرسية أو جمعيات الحي... كي نبلغ هدفنا الوحيد المتمثل في كون اكتساب العلم والمعرفة هي الأساس وأن العمل سيتوفر حتما سواء في القطاع العام أو في القطاع الخاص أو في إطار المقاولة الشخصية. والعبرة يجب أن يأخذها أبناءنا من أولئك المسنين الذين بالرغم من سنهم المتقدم يزدادون إقبالا على اكتساب المعرفة والتعلم في إطار محو الأمية ليس من أجل التوظيف ولكن بهدف التعلم والتعلم فقط.
والغريب في الأمر أن هذا الخطاب الذي يدعي بعدم ملاءمة الشواهد ومتطلبات السوق هو خطاب اقصائي وغير منطقي وأعتقد أننا لا نسمعه إلا في وسطنا. فوطننا كباقي الدول هو في حاجة لكل المؤهلات ولمجموع التخصصات العلمية والاقتصادية والقانونية والفنية والمهنية والدينية والأدبية واللغات والتاريخية والفلسفية وغيرها. وتشبث البعض بتلك "الحدوثة" إنما هو تشبث مجانب تماما للصواب وإقصاء دون أي سند يستوعبه العقل لمجال معين من التربية والتكوين والتاهيل. ذلك أن الفكر في وطن معين لا يقبل التجزئة أو الاقصاء. فالفكر في وطن معين إما أن يكون شاملا ومتكاملا أو لا يكون.
وعلى أية حال، فمنذ ذاك الحين، تعاقبت على قصر المؤتمرات بالصخيرات تقديم عدة برامج تم إعدادها قصد التصدي أو التقليص في حدتها. ولعدم الانسجام والتناغم بين الخطاب السياسي والخطاب الاقتصادي في المغرب وما يفرزه من اختلاف بين مؤشرات البطالة، لا أعتقد أن هناك جهة معينة يمكنها أن تجزم أو لا تجزم ، استنادا إلى مؤشرات رقمية موضوعية تحض بتزكية وطنية ودولية، بنجاح أو بعدم نجاح ذلك المسلسل من البرامج والمبادرات المعلن عنها. فالمؤشر الوحيد والموضوعي المتوفر لدينا يتجلى في خروج، مكرهين تحت وطأة صعوبة الاستمرار في تحمل عبء الواقع المعاش، أفواج من الشباب الباحث عن الشغل إلى الشارع. وانطلاق مما يلاحظ يمكن استخلاص نجاح أو عدم نجاح برامج التشغيل السالفة.
فإذا أكد البعض أن الإشكالية هي ذات صبغة بنيوية، فبالمقابل وجب، على سبيل المعادلة، التخمين الجدي في حلول أو برامج بنيوية عوض التسريع في برمجة برامج ظرفية تعكس اللون السياسي لمن يدبر، خلال ظرفية معينة أي خلال مرحلة انتدابه الانتخابي، مسألة التشغيل. وهذا يعني كون إستراتيجية التشغيل لا تعرف الاستمرارية لا في التخطيط ولا في التنسيق ولا في التوظيفات، فكلما حل مسئول وزاري نبذ وراء ظهره برنامج المسئول الوزاري السابق. لتظل التوظيفات أولا متميزة بالظرفية والمحسوبية والعلاقات الشخصية والانتماءات الحزبية والنقابية أي رهينة بمعايير خارج معايير سوق الشغل والمؤهلات. وما هو موضوعي يكمن في أنه لكل مشكل بنيوي وجب إعداد استراتيجية بنيوية وليست ظرفية. هذا ما تقتضيه المعادلة.
فهذا النهج يجعل من التشغيل مسألة سياسية أكثر منها اقتصادية بمعنى أنها لو كانت فعلا اقتصادية أي أن النسيج الاقتصادي الوطني لا يسمح بالتوظيف، لما توفر الشغل لأي كان تحت أية ظرف أو وساطة. ومما قد يعزز هذه الرؤيا كون الشاب العاطل عندما يلمس يوميا توظيف فلان أو فلانة في مصلحة ما، يتبين له أن مضمون الخطاب الاقتصادي الداعي لعدم توافر فرص الشغل لا أساس له من الصحة وتترسخ لديه فكرة كون فرص التشغيل متوفرة وما هو بالغير متوفر لذا جل الشباب هي العلاقات والزبونية والمحسوبية (...) والتي وجب تجاوزها كضرورة حتمية للتشغيل.
وأعتقد أنه مما يزيد من حدة هذه الاشكالية يكمن في فقدان الثقة بين المسئولين عن تدبير ملف التشغيل وتنسيقيات المعطلين ذلك أن عدم احترام الوعود المقترحة خلال جلسات الحوار لا يساهم إلا في تأجيج الوضعية. وأعتقد أنه لو تم فقط الالتزام بما يقدم لتنسيقيات المعطلين لترسخت في ذهن المعطل مصداقية الخطاب ولآمن المعطلون بكون التوظيف سيتم فعليا على مراحل متفق بشأنها ولم يكونوا لينزلوا للشارع.
ما يحمله مضمون الخطاب السياسي بخصوص التشغيل يمكن تلخيصه في:
- عدم قدرة القطاع العام على استيعاب مجموع الشباب المعطل
- ضرورة توجه الشباب نحو القطاع الخاص
- إعادة التكوين والتأهيل لمواكبة متطلبات السوق وبالتالي ضمان الحصول على شغل.
لنناقش هذه النقط الثلاث قصد استيعاب مصداقيتها وقصد محاولة إيجاد بعض عناصر الإجابة لهذه الاشكالية التي ترهن المستقبل الاقتصادي والاجتماعي للمغرب من خلال إيجاد صيغة لتمكين شباب البلد من إبراز مؤهلاته.
فالقطاع العام يعلل عدم قدرته على توفيره لفرص الشغل ب: أولا، الآثار السلبية للتشغيل على ارتفاع كتلة الأجور وبالتالي على ميزانية التسيير للدولة. إلا أن هذا الطرح قد يفتقد للدقة في طرحه لكون إصلاح منظومة الأجور والتقليص بين الأجور الدنيا والأجور الخيالية والعلاوات والامتيازات المرافقة لها الذي وعد بها السيد وزير تحديث القطاعات العمومية لم يتم إنزاله بعد في وقت تستعد الحكومة لتغيير مكوناتها. فالتقليص بين مستويات الأجور من أبرز وأنجع الحلول لتمكين القطاع العام ليس فقط من خلق فرص الشغل بل حتى من إنجاح الركيزة الأساسية لتنمية الاقتصاد المغربي والمتمثلة في اتساع رقعة الطبقة المتوسطة.
ثانيا، كل القطاعات الاقتصادية والاجتماعية العمومية تعاني من نقص في الأطر وهذا واقع لا جدال فيه بل هناك جهات لا وجود للمرافق العمومية بها وبالتالي سيرغم القطاع العمومي على التوظيف لملأ الفراغ وتجاوز الخصاص خصوصا مع تفعيل مشروع الجهوية الموسعة التي ستتطلب توفير مجموع المصالح العمومية بأطر جديدة بالجهات التي تعاني من نقص لا في المصالح ولا في الأطر.
ثالثا، هناك بعض الخطابات التي تربط عدم قدرة القطاع العمومي على التوظيف بغياب نسبة تنمية ملائمة وهذا التفسير أعتقد ذلك أنه، بدون تدقيق، سيبقى مبهما. فالتنمية ليست تنمية مادية فقط كما عبرت عنها النظرية الليبرالية في نسختها الأصلية، بل هي كذلك معنوية وفكرية أي غير مادية. فإذا أكد السيد والي بنك المغرب على قدرة الاقتصاد المغربي على تحقيق نسبة معقولة في مجال التنمية واستطاع تجنب الانعكاسات السلبية للأزمة العالمية فهذا المعطى في حد ذاته هو إيجابي ويبعث على التفاؤل ويمكننا من استنتاج أن نتيجة التنمية التي هي ثروة البلاد هي في مستوى جيد ليطرح من جديد تساؤل من المستفيد من هذه الثروة ؟ وكيف يمكن تخليق توزيعها وخلق فرص الشغل ؟. أما بخصوص الوجه الآخر للتنمية أي الوجه غير المادي فهو يتمثل في المؤهلات الفكرية المتوفرة في المغرب والتي يبقى القطاع العمومي في حاجة إلى ضمها إثر الخصاص المشار إليه اعلاه وإثر المغادرة الطوعية وما نجم عنها من إفراغ القطاع العمومي من ثروته الفكرية وبالتالي هناك إمكانية لتغطية هذا الخصاص المعنوي الفكري بالمؤهلات الشابة أي بالتوظيف.
رابعا، وفي نفس النسق، أي النسق التنموي، وجب التذكير بدور القطاع العمومي في حل أزمة 1929 من خلال قيامه بإنجاز مشاريع كبرى استطاع من خلالها تحرير الاقتصاد الانجليزي من البطالة والتضخم. نشيد بهذه التجربة لكون المغرب يعرف إنجاز عدة مشاريع تضاهي مشاريع الدول المتقدمة لها انعكاسات إيجابية على الاقتصاد الوطني دون أن تكون لها نفس الانعكاسات على المجالات الاجتماعية وخاصة على الحد من البطالة والقدرة الشرائية... أين يكمن الخلل: هل في النظرية في حد ذاتها؟ أم في تدبيرها؟ أم في العنصر البشري المسئول الذي بات يشار إليه بسوء التدبير والتبذير؟
بناء على ما سلف ذكره، لا اعتقد، كما عبر عنه بعض الشباب خلال برنامج السيد كلحسن ليوم الأربعاء 22.9.2011، أن شباب اليوم ينتظر من النخب المدبرة للشأن العمومي حاليا حلا لمشاكلهم لكونهم لمسوا عدم مصداقية الخطاب السياسي وبالتالي فقدوا الثقة فيه، واضعين كل ثقتهم وأملهم فيما ستنتجه استحقاقات 25 نوفمبر 2011 من نخب وعد وألح ضامن وحدة البلاد بشأنها على ضرورة أن تكون نخبا جديدة شابة مؤهلة وحاملة لأفكار جديدة يمكنهم ترجمتها إلى سياسات اقتصادية واجتماعية قد تفلح من خلالها في تجاوز ما تعاني منه حاليا. ما يأمله الشعب المغربي هو أن لا تكون النخب الشابة مجرد "نسخ مصغرة" لمن سبقوهم لتعيش البلد الطامة الكبرى.
أما بخصوص القطاع الخاص ومدى مساهمته في التخفيف من إشكالية البطالة فمن الملاحظ أن القطاع الخاص هو "قطاع خاص بنفسه" ذلك أن نسيجه يتكون في معظمه من مقاولات عائلية ولا تدمج في إطارها إلا من كان من المقربين الذين، حسب وجهة نظرهم، سيكتسبون المهارة وسيضبطون كيفية تدبير المقاولات مع المدة من خلال احتكاكهم بالعمل. ولا مجال لاستقطاب مؤهلات خارجية (عن الإطار العائلي) لكونه لن يسبب إلا في بروز ما يعتبرونه مشاكل كالانتماءات النقابية والجمعوية والمناداة بضرورة احترام قانون الشغل وغيرها. فنسيج القطاع الخاص بالمغرب هو نسيج يتميز بازدواجية تغلب عليها الصبغة العائلية الضيقة. ويتجلى هذا في نسبة المقاولات المغربية التي تقبل بالولوج إلى بورصة القيم. وهذا معيار علمي لمدى تطور عقلية تدبير المقاولة في المغرب وجعل بورصة القيم آلية اساسية في التمويل وفي استقطاب الرساميل والاستثمارات.
وما يتواجد داخل البورصة حاليا إلا نسبة جد ضئيلة من المقاولات المغربية بالرغم من تجربة الخوصصة ومن الترسانة القانونية التحفيزية التي أدرجت بهدف تنشيط بورصة القيم في المغرب، لتبقى هذه النسبة المتواضعة من المقاولات هي من يمكن نعته مع بعض التحفظ بالقطاع الخاص المغربي المعصرن أو الحديث. أما بخصوص مساهمته في الحد من إشكالية البطالة فهي تتصف بخطاب بعيد كل البعد عن وطنيته متناسيا أن الخيرات التي ينعم بها إنما هي خيرات هذا الوطن وبالتالي وجب، ليس جودا منه بل واجبا عليه، المساهمة في الحد من البطالة ضمانا لاستقرار البلاد وضمانا للسلم الاجتماعي الذين بدونهما لن ينعم بالوضعية جد المريحة التي ينعم بها.
وعجيب أن يطالب القطاع الخاص، مقابل ضمان السلم الاجتماعي أي التوظيفات، بتخفيضات في نسب الضرائب المفروضة عليه وبتحمل الدولة تكاليف إعادة تأهيل الشباب العاطل. وهنا أيضا تبرز عدم الجدية في خطاب القطاع الخاص إذ أنها تستفيد من التخفيضات الضريبية دون إدماجها لحاملي الشهادات ذلك أنه لا يحتضن الشباب المعطل إلا لمدة زمنية قصيرة أي المدة التي لن تلزمه بالادماج الفعلي والنهائي للمعطل ليجد الشاب نفسه مرة أخرى في الشارع. بل أكثر من ذلك، فعدم جدية التزام القطاع الخاص هي من يجعل الشاب ينفر من الانضمام إليه لتترسخ في ذهنه أكثر فأكثر ضرورة العمل في القطاع العمومي لكونه حق دستوري. وجب على لشاب أن يعلم بأن التشغيل في القطاع الخاص هو ايضا حق دستوري وجب الدفاع عنه. والدستور واضح في هذا المجال إذ يقر بحق المواطن في الشغل بصفة عامة. والصفة العامة تعني ضمن كلتا القطاعين سواء العمومي أو الخاص. وقصد التمويه، فالقطاع الخاص يشغل نسبة محددة من المعطلين لمدة قصيرة ليرجعها من حيث أتت أي نحو الشارع ليستقطب فوجا آخر بنفس الطريقة ليوهم الرأي العام وليستمر في استفادته من التحفيزات الضريبية أنه يقوم بدوره.
وجب على القطاع الخاص، بما أنه يطالب على لسان رئيسة جمعية المقاولات المغربيات بضرورة دسترة الليبرالية الاقتصادية، لعب دوره وفق هذا المنظور الذي يجعل من القطاع الخاص القاطرة الفعلية لنمو اقتصاد البلاد ليظل القطاع العمومي مقتصرا على بعض الجوانب الاجتماعية وإعداد الترسانة القانونية لضمان اشتغال السوق وفق آليات السوق مع ضمان حماية البلاد والذي هو جزء منها. فعلا، هل بإمكان القطاع الخاص تقييم ثمن اشتغاله في مناخ متسم بالاستقرار والسلم الاجتماعي الذي تسهر عليه الدولة وكم يكلفها ؟
كما أن القطاع الخاص المعصرن لا يمكن اعتباره بقطاع يشتغل في إطار الشفافية ووفقا لآليات السوق. فهو أيضا يتميز بالقرابة والزبونية والتملص الضرائبي واستغلال النفوذ خصوصا عندما يتمكن بعض المقاولين من المزج بين السلطة والأعمال. والملاحظ وهذا أمر يطرح عدة تساؤلات، إذ كيف يعقل أن يكون للفدرالية العامة للمقاولين المغاربة وزن وتأثير أكبر وبليغ على الفعاليات الحكومية بالمقارنة مع مجموع النقابات الأكثر تمثيلية في المغرب وهيآت حماية المستهلك ولجن مكافحة الغش وتوصيات المجلس الأعلى للمنافسة...؟ لا مجال للشرح لكون الأمر جد بين.
وجب أن نعترف بكون بلادنا، لا تتوفر على قطاع خاص كما هو متوفر لذا الدول المتقدمة ولكننا نتوفر على قطاع خاص مشكل من بعض العائلات تتقاسم القطاعات الاقتصادية الحيوية في ما بينها مشتغلة في مناخ اقتصادي متميز باحتكارات قطاعية من جراء تمكنها من المزج والجمع بين السلطة والاقتصاد. وهذا المنحى يتناقض خطابا ومضمونا وممارسة مع الطابع الذي يجب أن يتميز به القطاع الخاص. لن نتوفر على قطاع خاص، وطني الممارسات، إلا بالتنزيل الفعلي لمقتضيات دستور 11 يوليوز 2011.
كيف لنا أن نتحدث عن تواجد قطاع خاص في المغرب في وقت نلمس فيه أنه كلما هبت رياح أزمة أو ضائقة إلا وتراه متراجعا إلى الوراء مستتيرا وملتزما الصمت تاركا الدولة في الواجهة لتتحمل لمفردها مسئولية الأزمة ولتضطر بمفردها كذلك للتفكير في إيجاد حلول لتخطي الأزمة. ليس هذا بالسبيل القويم بل هو سبيل الانتهازية وعدم الوطنية وعدم الإرادة في المساهمة إلى جانب القطاع العمومي في تخطي معضلة تهم الجميع.
فإذا كان القطاع الخاص لا يتوفر على إمكانية ابتكار أفكار تؤهله لتوجيه الاقتصاد الوطني نحو الرقي، فعليه أن يستلهم أفكاره من مبادرات ملك البلاد ذلك أنه إذا كان القطاع الخاص يحتمي وراء "حدوثة" عدم توافق الشواهد المحصل عليها من طرف الشباب المغربي ومتطلبات السوق المغربية، فلماذا لا يقوم هو بإنشاء مشاتل داخل مقاولته لتكوين وتأهيل وضمان توفير نوعية الأطر والعمالة التي يرغب فيها.
ولو كانت "الحدوثة" المشار إليها موضوعية وواقعية فكيف يمكن لقطاعنا الخاص أن يفسر هجرة الأدمغة التي تلقت تكوينها في المغرب وتمكنت من التألق وفرض نفسها في الاقتصادات الأجنبية؟ إنها بالفعل حدوثة لا يجب على الشاب المغربي تحمل عقباتها ذلك أن الشاب المغربي منذ ولادته وهو يتابع تكوينه وتأهيله وفق مناهج تربوية وتكوينية تم إعدادها من طرف خبراء مغاربة وأجانب لتبرز لنا أطر ذات تكوين إيجابي. وبالتالي لا يعقل ولا يليق أن يتحمل الشاب المغربي العاطل سلبيات هذه "الحدوثة" المفتعلة والتي لا اساس لها من الصحة.
فإذا كان عدم توافق الشواهد المحصل عليها مع حاجيات السوق فهذا يعني مسألة واحدة، لا ثانية ولا ثالثة لها، تكمن في كون الساهرين على إعداد المناهج التربوية والتكوينية والتأهيلية لا يتخذون من متطلبات رقي الاقتصاد المغربي وحاجيات السوق أرضية لصياغة هذه المناهج. وأعتقد أنه وجب تقويم منظومة التربية والتكوين والتأهيل من خلال جعل المؤسسات التعليمية مجالات للتعلم وإغناء الفكر وفي نفس الوقت مجالا يمكن من اكتساب مهارات مهنية وظيفية تؤهل ابناء هذا الوطن بعد تجاوزهم للسلك الاعدادي والثانوي من التوفر على تكوين نظري وتأهيل مهني في نفس الوقت. وحينها يبقى لديه الاختيار بعد حصوله على شهادة الباكلوريا من اختيار الوجهة التي يجد فيها نفسه: إما الاستمرارية في التراكمات الفكرية ليتوجه إلى الجامعات والمعاهد التي يرغب فيها، وإما التوجه إلى سوق العمل بعد أن يكون قد اكتسب لمد سبع سنوات قضاها في الاعدادي ثم الثانوي خبرة تمكنه من التوجه نحو إما المعاهد التطبيقية قصد تعميق تكوينه المهني أو اللجوء إلى سوق العمل أو محاولة المزج بين السبيلين.
وعليه، فالمؤسسات الاعدادية والثانوية وجب التفكير بل الإسراع في إعادة النظر في هندستها من خلال احتضانها، علاوة على أقسام التكوين النظري الحالي، إنجاز جناح خاص بأوراش ومشاتل يتلقى فيها التلميذ مبكرا وتدريجيا تكوينا مهنيا يتماشى ومتطلبات سوق العمل. وبنجاح هذه التجربة، ستغيب "حدوثة" عدم ملاءمة الشواهد المحصل عليها مع متطلبات سوق العمل. إلا أن نجاحها يستلزم من القطاع العام والقطاع الخاص العمل سويا من خلال تكفل القطاع العام أو الحكومة بضمان إعداد مناهج ومضامين تربوية تتماشى ومستلزمات الاقتصاد الوطني، في حين يتكفل القطاع الخاص بإعداد المشاتل والأوراش التكوينية داخل المؤسسات وفقا لما يراه هذا القطاع مواكبا لمتطلباته.
علاوة على هذا التوجه وجب علينا كمجتمع مدني وكآباء وأمهات أن نساهم في إنجاح هذا التوجه من خلال إيماننا بكون التربية تبدأ من المنزل بمعنى انه وجب علينا منذ السنوات الأولى لأبنائنا وبناتنا توجيه تربيتهم نحو إنشاء مقاولاتهم لضمان استقلاليتهم ولكي لا يضطر إلى طرق باب لا القطاع العام ولا القطاع الخاص أولا. ثانيا، هذا التوجه في التربية سيمكن أبناءنا تدريجيا من إدراك أنه لا علاقة أوتوماتيكية بين الحصول على شهادة والعمل في القطاع العمومي. ثالثا، ستترسخ لدى أبناءنا فكرة أنهم يتوجهون إلى المؤسسة التربوية والتعليمية قصد تنوير وإغناء فكرهم. رابعا، إذا تمكنا من النجاح في سلك هذا السبيل في تربية أبناءنا، سنكون قد نجحنا في جعل أبناءنا يجتهدون أكثر فأكثر لاكتساب المعلومات والتفوق حتى يكونوا قادرين على تفعيل ما راكموه من فكر في تدبير مقاولاتهم وحتى يكون الفاعلون الاقتصاديون هم من يطرقون بابهم قصد الاستفادة من مؤهلاتهم. خامسا، ضرورة العمل على محو مغالطة خطيرة مزروعة ولصيقة في فكر أبناءنا و المتمثلة في عزوفهم عن التربية والتكوين بدعوى أنها لا تفيد في شيء نظرا للبطالة التي يعاني منها إخوانهم وأخواتهم وما يشاهدونه ولا يستوعبون أبعاده وحيثياته في الشارع. فغالبا ما تسمع أحد الشباب يردد قولة " لماذا يطلب مني التوجه إلى المدرسة أو الكلية وما يستلزم ذلك من مجهودات فكرية ومصاريف، ليكون آخر المطاف: البطالة". إنها بالفعل أفكار هدامة وخطيرة على أسرنا ووطننا وبالتالي وجب علينا محاربتها بالتواصل المستمر بين آباء وأولياء التلاميذ في إطار جمعيات سواء الجمعيات المدرسية أو جمعيات الحي... كي نبلغ هدفنا الوحيد المتمثل في كون اكتساب العلم والمعرفة هي الأساس وأن العمل سيتوفر حتما سواء في القطاع العام أو في القطاع الخاص أو في إطار المقاولة الشخصية. والعبرة يجب أن يأخذها أبناءنا من أولئك المسنين الذين بالرغم من سنهم المتقدم يزدادون إقبالا على اكتساب المعرفة والتعلم في إطار محو الأمية ليس من أجل التوظيف ولكن بهدف التعلم والتعلم فقط.
والغريب في الأمر أن هذا الخطاب الذي يدعي بعدم ملاءمة الشواهد ومتطلبات السوق هو خطاب اقصائي وغير منطقي وأعتقد أننا لا نسمعه إلا في وسطنا. فوطننا كباقي الدول هو في حاجة لكل المؤهلات ولمجموع التخصصات العلمية والاقتصادية والقانونية والفنية والمهنية والدينية والأدبية واللغات والتاريخية والفلسفية وغيرها. وتشبث البعض بتلك "الحدوثة" إنما هو تشبث مجانب تماما للصواب وإقصاء دون أي سند يستوعبه العقل لمجال معين من التربية والتكوين والتاهيل. ذلك أن الفكر في وطن معين لا يقبل التجزئة أو الاقصاء. فالفكر في وطن معين إما أن يكون شاملا ومتكاملا أو لا يكون.