إن من السمات البارزة للحضارة الحديثة شيوع القلق والحيرة والارتباك والارتياب بين الناس، يشعر الفرد بأنه منبوذ مهجور في عالم يستغله ويغشه ويخدعه، حضارة تشعره بالعزلة والعجز وقلة الحيلة في عالم عدائي يغشاه من كل جانب، فقد شجعت التنافس المسعور بين الناس، وأوهنت روابط الأسرة، وجعلت كل إنسان يعيش لنفسه. فهي جملتها حضارة مادة وهوس وسرعة وتوثر وضجيج، واحتد فيها الصراع والنزاع وكثرت القضايا بردهات المحاكم وامتلأت السجون في غياب الوسائل البديلة لحل النزاعات دون اللجوء للتقاضي، وضعفت ثقافة إصلاح ذات البين بين الناس، وتم التخلي على العادات والتقاليد في مجال الصلح والوساطة بين الأطراف والتضامن المجتمعي والتكافل الاجتماعي، فازداد اللجوء للقضاء.
وبالعودة للتراث الحضاري الإنساني داخل المجتمع المغربي، والأعراف الشعبية المتمثلة في دور الشيوخ ورجال الدين وأعيان القبيلة أو الجماعة التي ينتمي إليها الأطراف المتنازعة، كانت هذه الفئات من المجتمع تقوم بدور الوساطة وحل النزاعات والصراعات و التوفيق بين الأطراف في المواقف والمصالح بشكل ودي ومرض و اختياري لحل متفاوض بشأنه.
ولقد كان لصنيع المشرع المغربي، باعتماده للصلح كمسطرة جوهرية ووسيلة أساسية لتحقيق إصلاح ذات البين بين أفراد الأسرة المغربية ،الأثر الايجابي في التقليل من نسبة الطلاق و التطليق بصفة عامة ، و العمل على لم شمل الأسرة وحمايتها من الفرقة و التفكك و الشتات. كل هذا من أجل تحقيق الأهداف النبيلة المسطرة في مدونة الأسرة، التي جاءت نتيجة حوار اجتماعي وقانوني عميق بين مختلف مكونات المجتمع، وحققت ملائمة ومزاوجة متميزة وفريدة بين الأصالة والمعاصرة، وبين الحفاظ على الهوية والانخراط في الكونية سعيا لتماسك الأسرة واستقرارها في أداء دورها الأساسي لبناء كيان أفراد المجتمع.
وتزداد أهمية استعانة المحكمة بمؤسسة المساعدة الاجتماعية القضائية بإعتبارها، مؤهلة لإصلاح ذات البين بين الزوجين والأبناء و تسوية النزاعات الأسرية وإجراء الصلح بتقنية الوساطة، لكونها تكتسي طابعا خاصا، وتتعلق بعلاقات ذات حساسية وخصوصية وتقتضي الكثير من الكتمان والسرية والحكمة والتروي في معالجة جوانب منها، كونها على درجة من التعقيد وتتميز باختلاف طبائع الناس والتقاليد والمحيط الذي نشأ فيه أطرافها بالإضافة إلى تداخل ما هو قانوني وما هو اجتماعي ونفسي في النزاع.
يتضح أن الهدف الأساسي من القيام بعملية الوساطة هو إتاحة الفرصة للأطراف المتنازعة من أجل خلق جو من التفاهم، والمساهمة في إشاعة ثقافة الحوار والسلم الاجتماعي، ودفعها للمشاركة بشكل إيجابي في ابتكار حلول توفيقية، ومحاولة إذابة الخلاف وتقريب وجهات النظر، وهي بذلك توفر إطارا قانونيا على القياس لكل حالا يكون مقبولا من الطرفين المتنازعين ومن صنعهم ، يضمن لهم الحصول على عدالة في ظروف يمكن الاطمئنان إليها، تكون فيها الأطراف هي المشرعة لنفسها لحسم النزاع بشكل أفضل .