تمهيد
يعتبر الاعتماد المستندي الوسيلة المصرفية الأكثر ذيوعا في تسهيل عمليات بيوعات التجارة الخارجية المعاصرة. يلتجئ إليه التجار لحل مشكل انعدام الثقة الذي تتسم به عمليات الاستيراد والتصدير، لبعد كل من المصدر عن المستورد جغرافيا، مما يجعل التاجر المستورد غير مطمئن لدفع الثمن قبل وصول السلعة إليه كاملة سالمة، ويجعل البائع المصدر غير مطمئن لإرسال السلعة قبل قبض ثمنها.
إضافة إلى أن هذا الاعتماد يمكن التجار المستوردين من تجنب تجميد قيمة مبلغ العملية طوال المدة الفاصلة بين إبرام العقد وتسلم البضاعة التي تتسم غالبا بالطول والتعقيد. فيتدخل البنك عبر الاعتماد المستندي لحل هذه الإشكالات، لما يعرف عنه من ثقة وملاءة.
وقد أثير جدل قانوني حول طبيعته القانونية لدى فقهاء القانون، كما هو الحال بشأن تكييفه الشرعي في الفقه المصرفي الإسلامي، و سنعرف بهذا الاعتماد بشكل وجيز و نعرض لصورته العملية، قبل بسط هذا الجدل في محورين نخصص الأول للطبيعة القانونية للاعتماد المستندي، والثاني لتكييفه الشرعي في الفقه المصرفي الإسلامي.
أ: تعريف الاعتماد المستندي:
الاعتماد المستندي اعتماد يفتحه المصرف، متعهدا بالوفاء بأمر من عميله لفائدة مستفيد وفق شروط معينة في أجل محدد مقابل ضمان حيازي على المستندات الممثلة للبضاعة موضوع المعاملة بين الآمر والمستفيد([1]).
فقد ورد في المرشد العملي الذي وضعته غرفة التجارة الدولية في شأن الاعتماد المستندي سنة 1978 ما يلي: “الاعتماد المستندي في عبارة وجيزة هو تعهد مصرفي مشروط بالوفاء. وبعبارة أوسع هو تعهد مكتوب من بنك (يسمى الْمُصْدِر) يسلَّم للبائع (المستفيد)، وذلك بناء على طلب المشتري (مقدم الطلب أو الآمر) وبالمطابقة لتعليماته، يستهدف القيام بالوفاء (أي بوفاء نقدي أو قبول كمبيالة أو خصمها) وفي حدود مبلغ محدد خلال فترة معينة وفي نظير مستندات مشترطة”([2]).
ويعتبر تعريف الأستاذ البارودي من أبرز التعاريف وأوضحها في هذا الباب، حيث يعرف الاعتماد المستندي بأنه: “تعهد صادر من البنك بناء على طلب العميل (يسمى الآمر، أو معطي الأمر) لصالح الغير المصدر (ويسمى المستفيد)، يلتزم البنك بمقتضاه بدفع أو بقبول كمبيالات مسحوبة عليه من هذا المستفيد، وذلك بشروط معينة واردة في هذا التعهد، ومضمون برهن حيازي على المستندات الممثلة للبضائع المصدرة” ([3]).
ب: الصورة العملية للاعتماد المستندي
بعد إتمام الصفقة وإبرام العقد بين المستورد والمصدر، يُلتجأ إلى المؤسسة المصرفية لفتح الاعتماد بغية تنفيذ العقد الذي يتضمن عادة نصا على فتح اعتماد مستندي، ومن فتح الاعتماد إلى غاية تنفيذ العقد موضوعه تتم العملية عبر المراحل الآتية([4]):
1-يتقدم التاجر المستورد إلى المصرف المحلي الذي يتعامل معه، يطلب منه فتح اعتماد بقيمة عقد البيع، وأن يقوم بتوجيه الاعتماد لصالح البائع المصدر، شريطة تقديمه مستندات يحدد المستورد مواصفتها بدقة تكون مضمنة في عقد فتح الاعتماد.
2-بعد موافقة المصرف على طلب العميل، يقوم بفتح اعتماد مستندي لفائدة البائع المصدر، ويشعره بذلك بإرسال خطاب يسمى "خطاب اعتماد" يتعهد فيه بدفع أو قبول كمبيالة بقيمة البضاعة موضوع الاعتماد إذا تقدم داخل أجل محدد بالمستندات المنصوص عليها في هذا الخطاب.
ويرى بعض الباحثين أن إصدار خطاب الاعتماد هو الخطوة العملية الأولى في فتح الاعتماد المستندي([5]).
3-بعد تلقي البائع المصدر لخطاب الاعتماد يقوم بإعداد البضاعة المطلوبة وبتحرير المستندات المتعلقة بها، ثم يسلمها لفرع البنك فاتح الاعتماد أو مراسله ببلده، وإذا كان تعهد البنك قاصرا على قبول كمبيالة يقوم البائع بسحب كمبيالة يرفقها بالمستندات مطالبا بالوفاء.
4-يقوم المصرف بعد تلقي المستندات بفحصها بغية التأكد من مطابقتها للشروط والمواصفات التي حددها التاجر المستورد (الآمر)، فإذا اطمأن إليها دفع قيمة البضاعة إن كان تعهد بالدفع، وإن كان تعهد بقبول كمبيالة أو بخصمها فعل، لتنتهي بذلك علاقة المصرف بالغير، وتنحصر آثار العملية بين البنك والعميل الآمر الذي يحصل على المستندات من البنك بعد الوفاء بالتزاماته تجاهه، ليتسنى له بعد ذلك تسلم البضاعة أو مبلغ التأمين إذا كانت قد هلكت قبل الوصول، وقد يحدث أن يتكلف المصرف باستلام البضاعة وتخليصها جمركيا على أساس المستندات المسلمة إليه.
المحور الأول: الطبيعة القانونية للاعتماد المستندي
أثير جدل كبير في الفقه القانوني حول الطبيعة القانونية للاعتماد المستندي، ومرد ذلك التزام البنك في هذا الاعتماد في مواجهة المستفيد دون أي علاقة قانونية بينهما، فتعددت بذلك النظريات الفقهية المكيفة لهذا الالتزام، فقيل بنظرية الكفالة، وقيل بالإنابة، وقيل بالإرادة المنفردة، وبالاشتراط لمصلحة الغير، وقيل بغيرها، وسنعرض لهذه النظريات بشكل وجيز على النحو الآتي.
أولا: نظرية الكفالة
مؤدى هذه النظرية أن البنك الذي يفتح اعتمادا قطعيا لصالح البائع يصير كفيلا للمشتري، ويؤكد ذلك دفع قيمة البضاعة بشرط أن يكون البائع قد نفذ التزامه صحيحا([6]).
وقد وجه الكثير من النقد لهذه الفكرة وأبرز ما ينقضها أن الكفالة عقد تابع للالتزام الأصلي موضوع الكفالة، أما الاعتماد المستندي فهو عقد مستقل عن عقد البيع موضوع فتح الاعتماد.
ثانيا: نظرية الإنابة
مفاد هذه النظرية أن أساس التزام البنك مرده إنابة الآمر إياه في الوفاء للمستفيد نيابة قاصرة يمكن معها للبنك الرجوع على الآمر إذا لم يقع الوفاء من البنك.
غير أن هذه الفكرة لم تسلم هي أيضا من نقد، ومما قيل في حقها أن الإنابة لا تنعقد إلا بتوافر رضا الأطراف الثلاثة، أما الاعتماد المستندي فالمستفيد ليس طرفا مباشرا فيه، بحيث لا يلزم لانعقاده رضاه وإن كان يفيد منه.
وفي نقد هاتين النظريتين تقول الأستاذة سميحة القليوبي: “لا يعتبر البنك الذي يقوم بفتح اعتماد للوفاء بقيمة البضاعة وكيلا عن المشتري أو كفيلا له، فالبنك ملتزم التزاما مستقلا عن العقد القائم بين البائع والمشتري، وأساس التزام البنك هو خطاب الاعتماد الموجه منه إلى المستفيد، فإذا قام هذا الأخير بتقديم المستندات الموضحة لشروط الاعتماد كان له حق مباشر في مواجهة البنك” ([7]).
ثالثا: نظرية الإرادة المنفردة
مؤدى هذه النظرية أن مركـز البنك في الاعتماد المستندي مركز الواعد بالجائزة يتعهد كلاهما مستقلا بأداء عمل معين إذا نفذ شخص عملا معينا هو في الاعتماد تقديم المستندات، وهو في الوعد بجائزة العمل الذي تستحق به الجائزة ([8]).
ومما ينقض هذه الفكرة أن الوعد بالجائزة يوجه للجمهور عن طريق علني، أما إذا كان المعني شخصا معينا فإنها تخرج عن دائرة الوعد بجائزة، وتسري عليها قواعد الإيجاب المقترن بالقبول، مما ينفي فكرة الإرادة المنفردة.
وقيل كذلك بفكرة القبول المصرفي كما قيل بحوالة الحق، ولم يسلم أي منها من نقد، كما قيل بأن الاعتماد المستندي عقد ذو طبيعة خاصة، وعيب على هذا القول أنه يقرر الواقع ولا يفسره.
رابعا: نظرية الاشتراط لمصلحة الغير
ذهب بعض الباحثين إلى أن جميع النظريات في هذا الباب عجزت عن تفسير استقلال التزام البنك، ويرى بعضهم أن التزام البنك في الاعتماد المستندي “يرد مصدره في كونه تصرفا قانونيا مجردا، مستندا فيه إلى الأعراف التجارية” ([9]).
ويرد الأستاذ محيي الدين علم الدين على هذا الاتجاه بأن العرف آخر ما يلتجأ إليه لتفسير المستجدات القانونية، بينما يذهب إلى ترجيح فكرة الاشتراط لمصلحة الغير، وذلك لأن صورة عملية الاعتماد المستندي “لا ينطبق عليها إلا وصف واحد هو الاشتراط لمصلحة الغير، فهو الشكل القانوني الذي ينعقد بإرادة طرفين ويرتب حقا لغيرها دون أن يشترك هذا الغير في إبرام التصرف، ولكن يكون له رفض الحق الناشئ منه احتراما لحريته الشخصية، فلا تدخل ذمته حقوق رغما عنه، وبتطبيق فكرة الاشتراط لمصلحة الغير على الاعتماد المستندي نجد أن الآمر (المشترط) يشترط على البنك المنشئ (المتعهد) حقا للمستفيد (المنتفع)، فالآمر المشترط يتعاقد باسمه هـو لا باسـم المستفيـد، ويشترط على البنك حقا مباشرا للمستفيد يتلقاه هـذا الأخير من عقـد الاشتراط ذاتـه دون أن يمر هـذا الحـق بذمـة المشترط أو المتعهد، ويحقـق المشترط بهذا العقد مصلحة مادية ظاهـرة هي الوفاء بدينه، وتسهيـل حصوله على بضاعتـه”([10]).
ويعاب على هذا الرأي أن التزام البنك تجاه المستفيد لا ينشأ عن عقد فتح الاعتماد مع العميل المشتري، بل عن خطاب الاعتماد الصادر عن البنك، وفضلا عن استقلال هذا الالتزام في مصدره، فإنه لا يعلق على قبول المستفيد له، كما أنه لا يتأثر بالعلاقة بين البنك والعميل، وهذا بخلاف القواعد العامة في الاشتراط لمصلحة الغير([11]).
ونحن وإن كنا نميل إلى نظرية الاشتراط لمصلحة الغير لقرب تفسيرها لالتزام البنك تجاه المستفيد ومطابقتها لصورة الاعتماد المستندي، نرى أنه لا ينبغي اعتمادها مستقلة دون إحاطتها بالعرف التجاري لاعتبارين أساسيين:
- الأول: أن فكرة الاشتراط قابلة للاهتزاز في الاعتماد المستندي من ناحيتين:
أولاهما: كون المشترط -وهو الآمر- يستطيع نقض الحق الناشئ للمستفيد.
ثانيهما: كون المتعهد يستطيع أن يدفع في مواجهة المنتفع -وهو المستفيد- بالدفوع الناشئة عن علاقته بالآمر المشترط، أو عن علاقة هذا الأخير بالمستفيد.
ولا يمكن تلافي هذا الاهتزاز إلا بالرجوع إلى العرف المصرفي، وهو ما أقره الأستاذ علم الدين نفسه حين قال وهو يتحدث عن هذا الإشكال: “ولكن العرف المصرفي -استجابة لاحتياجات التجارة- قد عالج هذه الثغرة ومنع الآثار السيئة التي يمكن أن تترتب عليها خصوصا في معاملة تقع بين بلاد مختلفة، كالاعتماد المستندي” ([12]).
- الثاني: أنه لا الكفالة ولا الوكالة ولا غيرها كانت القصد من فتح الاعتماد المستندي، كذلك الاشتراط لمصلحة الغير ليس أساس هذا العقد، وإنما أساسه توفير عنصر الثقة اللازم بين التجار وبخاصة في التجارة الدولية، الذي يعتبر الباعث الرئيس والدافع الأساس وراء استحداث هذا النوع من التعامل المصرفي.
المحور الثاني: التكييف الفقهي للاعتماد المستندي.
الاعتماد المستندي ، كما سبق، وسيلة من وسائل تسهيل البيوعات في التجارة الخارجية، وهذه الوسيلة إما أن تكون وسيلة دفع دون ائتمان، وإما أن تكون وسيلة دفع يصحبها ائتمان.
ففي الأولى تكون قيمة الاعتماد مغطاة بالكامل، فيكون عمل البنك مجرد خدمة يقدمها للعميل.
وفي الثانية تكون قيمة الاعتماد غير مغطاة أو مغطاة جزئيا، حيث يظهر الدور الائتماني للمصرف من خلال تسخير بعض أمواله لتنفيذ العملية([13]).
وبناء على هذا التقسيم، سنتناول الدراسة الفقهية للاعتماد المستندي حكما وتخريجا، وذلك في مبحثين، نخصص الأول للتكييف الشرعي للاعتماد المغطى بالكامل، والثاني للصيغ الشرعية لتطبيق الاعتماد غير المغطى كليا والمغطى جزئيا، و قبل ذلك سنعرض لفتح هذا الاعتماد و حكمه من الناحية الشرعية.
فتح الاعتماد المستندي من الناحية الشرعية
يكيف فقهاء القانون فتح الاعتماد على أنه وعد بالقرض([14])، وهذا معروف في الفقه الإسلامي([15])، وإن اختلف الفقهاء حول لزوم هذا الوعد، وهم في ذلك على مذاهب ثلاثة:
الأول: الوعد ملزم ديانة لا قضاء، وهو مذهب الجمهور.
الثاني: أن الوعد كله لازم، ويقضى به على الواعد، ويجبر عليه، وهو مذهب ابن شبرمة وأصبغ من المالكية، قال ابن حزم في محلاه: “وقال ابن شبرمة: الوعد كله لازم، ويقضى به على الواعد ويجبر” ([16]).
الثالث: أن الوعد غير ملزم إلا إذا دخل الموعود بسببه في كلفة، قال الشيخ عليش: “وقيل: يقضى بها إن كانت على سبب ودخل الموعود بسبب العدة في شيء، وهذا هو المشهور”، وهو مذهب ابن القاسم؛ ففي المدونة: “لو أن رجلا اشترى عبدا من رجل على أن يعينه فلان بألف درهم، فقال له فلان: أنا أعينك بألف درهم فاشتر العبد، أن ذلك لازم لفلان” ([17]).
وهذا القول الثالث هو الذي يرجحه أكثر الفقهاء المعاصرين، وبه أخذت مجلة الأحكام العدلية؛ فقد نصت المادة 84 على أن “المواعيد إذا اكتست بصور التعاليق تكون لازمة، مثلا لو قال رجل لآخر: بع هذا الشيء لفلان وإن لم يعطك ثمنه، فأنا أعطيه لك، فلم يعط المشتري الثمن، لزم على الرجل أداء الثمن المذكور بناء على وعده المعلق” ([18]).
والاعتماد المستندي بما أنه مقترن بعقد يضع على عاتق العميل التزامات يرتب عليه عدم الوفاء بها تبعات تجعله في كلفة من أمره، فإن ذلك يدخله في صميم القول الثالث من أقوال الفقهاء في لزوم الوعد بالعقد، فيكون بذلك فتح الاعتماد المستندي عملا مشروعا، خاصة وأن هذه العملية في صورتها المجردة “عملية لا تخرج عن الشروط التي اشترطها الفقهاء في العقود، كما أنها -عملية الاعتماد- تحقق المقاصد الشرعية للعقود، من التيسير في التعامل وتلبية احتياجات الأفراد، بالإضافة إلى أنها لا تنطوي على محظور شرعي كالربا أو الغبن أو الاستغلال أو الغرر، وهي من قبل ومن بعد، مسألة اجتهادية تندرج في عموم قول الرسول صلى الله عليه وسلم: “أنتم أعلم بأمور دنياكم”([19]).
ونشير إلى أننا في هذه الدراسة الفقهية التي سيوجهها غطاء الاعتماد أو عدمه، سنعتمد الاعتماد المستندي الموصوف بالقطعية، أي الاعتماد المستندي غير القابل للإلغاء، وهو الذي يكون فيه التزام المصرف باتا ونهائيا، اعتبارا لكون أغلب الاعتمادات المستندية قطعية، واعتبارا لندرة الاعتمادات المستندية غير القطعية (أي القابلة للإلغاء) من الناحية العملية. ([20])
المبحث الأول: التكييف الشرعي للاعتماد المغطى بالكامل
يكون الاعتماد المستندي مغطى بالكامل متى كانت قيمة المبلغ المرصود لأجله من قبل العميل تغطي قيمة البضاعة موضوع العقد، وبصيغة أخرى يكون الاعتماد مغطى متى وُفِّر له عند إنشائه “غطاءً نقديا من جانب العميل يتمثل في وجود أموال يقوم هذا العميل بإيداعها في حساب خاص، أو يقوم بتجنيبها من حسابه الجاري، وتكون مخصصة للوفاء للمصدّر الأجنبي” ([21])
وهذا الغطاء الكلي يجنب المصرف مخاطر استعمال أمواله الخاصة، وينحصر دوره في تقديم خدمة يحصل على عمولة مقابلها، مما يجعل العملية تخرج عن إطار الائتمان البنكي، وتتخذ شكل الخدمة البنكية الصرفة الخالية من نظام الفائدة.
الغطاء كما سبق نوعان: نقدي وعيني، وحديثنا في هذا المبحث ينحصر في الغطاء النقدي، لأن الغطاء العيني ليس سوى ضمان للتسهيل الممنوح من المصرف للآمر مقابل فتح الاعتماد، فلا يؤثر في الدور الائتماني للمصرف، في حين أن الغطاء النقدي يجعل دور المصرف خدماتيا بالأساس مما يجعله غير مصادم للشرع ولا مخالف لأي أصل من أصوله، فهو خال من الربا، بعيد من أكل أموال الناس بالباطل، ولا أثر لأي غرر فاحش به، إضافة إلى أنه يحقق المقاصد الشرعية للعقود “من التيسير في التعامل وتلبية حاجات الأفراد” ([22])، مما يجعله عقدا صحيحا من الناحية الشرعية.
لكن ما محل هذا التعامل من الشرع وتحت أي من العقود أو التصرفات المعروفة في الفقه الإسلامي يمكن إدراجه وتكييفه وفْقها؟.
يتراوح التخريج الفقهي لعملية الاعتماد المستندي المغطى بالكامل بين تكييفها وفق عقود مسماة وتصرفات معروفة في الفقه الإسلامي وبين القول بأنها معاملة مستحدثة تشكل عقدا مستجدا قائما بذاته.
والسبب راجع إلى أن هذه العملية من جهة تجد لنفسها أساسا في العديد من العقود والتصرفات المعروفة في الفقه الإسلامي، كالوكالة والحوالة والضمان والإرادة المنفردة والاشتراط لمصلحة الغير. ومن جهة أخرى لصعوبة تكييفها وفق أي من هذه العقود أو التصرفات تكييفا يشمل جميع أطرافها وكل مراحلها والالتزامات الناشئة عنها، ويخضعها جملة لأحكام ذلك العقد وحده، و سنتطرق لهذه التخريجات كما يلي:
أولا: التخريج على أساس عقود مسماة:
يستند هذا التخريج على أساس النظر إلى المراحل التي تمر بها عملية الاعتماد المستندي، حيث إنها تعكس عقودا معروفة في الفقه الإسلامي، ويتعلق الأمر بكل من الوكالة والكفالة والحوالة منفردة ومجتمعة.
أ: التخريج على أساس الوكالة.
يرجع تخريج عملية الاعتماد المستندي على أساس الوكالة اعتبارا لعلاقة العميل (الآمر) بالبنك المنشئ، وتكيف هذه العلاقة على أن العميل يوكل البنك للنيابة عنه في اتخاذ كافة الإجراءات اللازمة للحصول على البضاعة محل الصفقة بينه وبين البائع (المستفيد)، بداية من الاتصال بالبنك المراسل في دولة البائع، مرورا بتسلم المستندات وفحصها، والتأكد من مطابقتها لشروط الاعتماد إلى أن يسلمها للعميل، أو يقوم بتخليص البضاعة جمركيا متى تضمن الاعتماد ذلك.
ويعتبر من يذهب هذا الاتجاه “أن الخطاب الذي يوجهه العميل إلى البنك ما هو إلا توكيل بدفع قيمة الاعتماد متى تحققت شروطه” ([23]).
ب: التخريج على أساس الضمان.
تتمثل علاقة الضمان بالاعتماد المستندي فيما يقدمه المصرف من ضمانات بفعل يساره وملاءته لكل من العميل الآمر والمستفيد، فالمصرف يكفل للمستفيد الحصول على ما يرتبه عقد البيع السابق للاعتماد من ديون تجاه العميل الآمر، كما يكفل للآمر الحصول على البضاعة موضوع عقد البيع كاملة سالمة، ويكفل التعويض عند حصول التلف أو العيب فيها.
وهذا ينطبق عليه بعض من ضمان الدين والعين والدرك، وهي من صور الضمان في الفقه الإسلامي.
ومعلوم أن الضمان يقوم على أساس بعث الثقة بين المتعاملين، وتقوية التزاماتهم لما يبعثه التزام الضامن من ثقة وطمأنينة في استيفاء الحقوق. وهذا عين ما تقوم به المصارف في الاعتماد المستندي، “فالبنك بذمته المالية المعروفة بيسارها، يضمن طرفي العملية ويضفي الثقة والطمأنينة في اقتضاء كل طرف حقه، وهذه الكفالة من البنك للعميل المشتري والمستفيد البائع هي القناة الموصلة بين الطرفين، فينعقد العقد وتتم الصفقة اعتمادا على ضمان البنك”([24]).
ج: التخريج على أساس الحوالة
يقوم تكييف الاعتماد المستندي على أنه حوالة، على اعتبار المصرف محالا عليه من قبل العميل المستورد الذي يعتبر محيلا والمحال هو البائع (المستفيد)، ذلك أن هذا الأخير -وهو صاحب البضاعة- “لم يقبل التخلي عنها لمشتر لا يعرفه ولا يطمئن إليه، والذمة المالية للبنك يطمئن إليها كلا الطرفين -البائع والمشتري- فأحال المشتري بائع البضاعة باستيفاء ثمنها من البنك الذي تحددت العلاقة بينه وبين المشتري، وبقبول بائع البضاعة ينتقل الثمن من ذمة المشتري إلى ذمة البنك” ([25]).
ويوضح الأستاذ الجندي هذا التكييف أكثر بقوله: “تبرز الحوالة في عملية الاعتماد المستندي في أن العميل المستورد يحيل المستفيد المصدر، باستيفاء ثمن البضاعة من البنك، وهو صاحب الذمة الميسورة، فهو مليء بالتعبير الشرعي، فالعميل هو المحال عليه، والثمن هو المحال به، ولاشك أن المستفيد يقبل هذه الحوالة، فيترتب عليه انتقال الثمن من ذمة العميل إلى ذمة البنك” ([26]).
هذا التكييف يعتمد أساسا من الناحية الشرعية على مذهب الحنفية في صحة الحوالة ولو لم يكن المحال عليه مدينا للمحيل، وهو خلاف ما عليه الجمهور، إذ إن طبيعة فتح الاعتماد “تتفق وما قالوه [أي الحنفية] في الحوالة، حيث إن البنك (المحال عليه) رضي بشغل ذمته تجاه المستفيد (المحال) ولم يكن البنك في الأصل مدينا لمعطي الأمر (المحيل)” ([27]).
ثانيا: التخريج على أساس عقود مختلطة
يستند هذا التخريج على المزج بين عقدين فأكثر لتفسير طبيعة الاعتماد المستندي، و يتعلق الأمر التخريج على أساس الوكالة والكفالة و التخريج على أساس الوكالة والحوالة.
أ-التخريج على أساس الوكالة والكفالة
يقوم هذا التخريج على تقطيع عملية الاعتماد المستندي واجتزاء مراحلها، فيكون المصرف وكيلا عن العميل في فحص المستندات وأداء الثمن، ويكون كفيلا عنه في تعزيز ثقة المستفيد للإقدام على إرسال البضاعة، وكفيلا له في الحصول على البضاعة كاملة سالمة من أي نقص أو عيب، فنكون حينئذ أمام الوكالة والكفالة في عقد واحد.
ب-التخريج على أساس الوكالة والحوالة
يقوم هذا التخريج على أساس تقطيع عقد الحوالة وجعله عقدين: عقد بيع، وعقد استيفاء
. ومرد هذا التخريج العمل على تبرير العمولة التي يأخذها البنك في الاعتماد المستندي، فإذا كانت محرمة على ضوء أحكام الحوالة، وهي مستثناة من بيع الدين بالدين، لأن ذلك يفضي إلى زيادة أحد الدينين على الآخر، وهو عين الربا، فإنه “على معنى الاستيفاء يذكر التوكيل، وبناء على هذا فأخذ العمولة "الأجر" ليس على اعتبار انتقال الدين والمطالبة به من معطي الأمر إلى البنك (...) وإنما أخذت العمولة على اعتبار التوكيل واستيفاء الحقوق، وإطلاق لفظ الحوالة ليس على الحقيقة” ([28]).
ثالثا: التخريج على أساس تصرفات مستفادة من الشرع
يتعلق الأمر بالتخريج على أساس الإرادة المنفردة والتخريج على أساس الاشتراط لمصلحة الغير، وهي تصرفات و إن لم يتناولها الفقهاء المتقدمين بالتنظيم إلا أنها مستفادة من الأحكام و القواعد الشرعية، وهذه التخاريج تأثر أصحابها -على ما يبدو- بالدراسات والنظريات القانونية في تكييف الاعتماد المستندي.
أ: التخريج على أساس الإرادة المنفردة
يقوم هذا التخريج على تفسير التزام البنك في الاعتماد المستندي بدفع قيمة مبلغ الاعتماد للمستفيد بأنه التزام نابع من إرادته المنفردة، ومستقل عن التزام العميل قبل المستفيد.
يقول الأستاذ محمد الشحات الجندي: “ودلالة الفقه الشرعي على اعتبار الإرادة المنفردة مصدرا لإنشاء الالتزامات يفيد بتكييف الاعتماد المستندي في جانب إلزام البنك نفسه استقلالا عن العميل والمستفيد بالقيام بالتزامه في دفع الثمن وفحص المستندات، وفقا لمصدر الإرادة المنفردة المعتبرة كدليل على إنشاء الالتزامات في الفقه الإسلامي” ([29]).
ب: التخريج على أساس الاشتراط لمصلحة الغير
يقوم هذا التخريج على تفسير علاقة البنك بالمستفيد المستندي وانتفاع هذا الأخير من عقد لم يكن طرفا في إنشائه، على أساس الاشتراط لمصلحة الغير، أي اشتراط العميل على البنك لفائدة المستفيد، ومن ثم ينسحب هذا التخريج على سائر علاقات الاعتماد المستندي وأطرافه والالتزامات الناشئة عنه، حيث إن علاقات أطراف الاشتراط لمصلحة الغير وهم المشترط، والمنتفع، والمتعهد، تلائم علاقات أطراف الاعتماد المستندي على اعتبار أن المشترط يبرم عقد الاشتراط مع المتعهد على أداء التزام معين نحو شخص ثالث هو المنتفع، فالمشترط في الاشتراط لمصلحة الغير يقابله الآمر في الاعتماد المستندي والمتعهد يمثله البنك المنشئ، في حين يمثل المنتفع من الاشتراط المستفيد من الاعتماد.
رابعا: التخريج على أساس كون الاعتماد المستندي معاملة مستحدثة
باستعراض التخاريج المعتمدة على العقود والتصرفات المعروفة في الشرع، يتضح قصور هذه التخاريج عن الإحاطة بجميع جوانب الاعتماد المستندي، غاية الأمر أنها تفسر مرحلة من مراحله أو بعض علاقاته أو التزاما ناشئا عنه، فلا يشمل أي منها كل الأطراف ولا سائر العلاقات ولا جميع الالتزامات الناشئة عنه.
لذلك لا نجد باحثا يرجع تكييف الاعتماد المستندي بشكل قاطع إلى أحد هذه العقود كيفما كانت درجة ميوله واطمئنانه إليه.كما أن أغلب آراء الباحثين في تجويز هذه العملية وتكييفها تتجه إلى استنادها إلى عقود شرعية عديدة تأخذ في كل منها بجانب، وحيث إن هذه العقود جائزة في الشرع، فالنتيجة جواز هذه العملية التي تعكسها مجتمعة.
هذا إنما هو تأكيد على أن عملية الاعتماد المستندي “لا تخضع في تكييفها الشرعي لأي عقد مسمى بعينه من العقود الفقهية (...) فإذا تعمقنا في تحليل طبيعة فتح الاعتماد لوجدنا أنها تختلف بحق عن طبيعة العقود المعروفة” ([30]).
يبقى السؤال المطروح في هذا الشأن: هل كل تعامل مستجد يتوجب إرجاعه إلى أحد العقود أو التصرفات المعروفة في الفقه الإسلامي؟
الحقيقة أن الذي يهم في مثل هذه المعاملات المستجدة هو الجواب عن حكم الشرع فيها إباحة أو منعا. ومادامت العملية من بدايتها إلى نهايتها لا تنطوي على محظور شرعي من ربا أو غرر فاحش، ولا هي من قبيل أكل أموال الناس بالباطل، ولا تخرج عن إطار نظرية العقد في الشرع الإسلامي، وتحقق المقصد الشرعي في التيسير في المعاملات بين الناس، فلا يهم للحكم بالجواز إرجاعها إلى عقد معروف، كما لا يهم أن تكون تحت هذا المسمى أو ذاك مادامت العبرة بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني.
ولما كان الاعتماد المستندي المغطى كليا -في الصورة التي أسلفنا- غير مصادم للشرع ولا مخالف لأصل من أصوله، وبعيدا عن الربا والغرر الفاحش وأكل أموال الناس بالباطل وغيرها من محاذير الشرع في المعاملات، مما يجعله عقدا صحيحا من الناحية الشرعية، وحيث عجزت أيا من العقود المسماة والتصرفات المعروفة في الشرع عن استيعابه وتكييفه وفق أحكامها في جميع مراحله وسائر علاقاته، فإنه يسوغ لنا أن نصنفه على أساس عقد شرعي مستحدث بناء على أن الأصل في العقود الإباحة حتى يرد دليل المنع، ولا يمنع من ذلك كونه عقدا لم يعرفه الفقهاء من قبل، لأن “ما ذكره الفقهاء من العقود المسماة إنما هي العقود التي يغلب أن يقع بها التعامل في زمنهم، فإذا استحدثت الحضارة عقودا أخرى توافرت فيها الشروط المقررة فقها، كانت مشروعة” ([31]).
وهذا هو الرأي الذي نطمئن إليه ونرجحه، لأن الواقع يقول باستقلالية الاعتماد المستندي عن غيره من العقود والتصرفات المنصوص عليها فقها، منفردة كانت أو مختلطة، والتي عجزت عن التعبير عن طبيعته التي ينفرد بها عن غيره من العقود والتصرفات.
المبحث الثاني: التخريج الشرعي للاعتماد غير المغطى كليا
يكون الاعتماد المستندي غير مغطى متى فتح “على المكشوف”، أي دون تقديم أي مبلغ من العميل ضمانا للصفقة، هنا يتدخل المصرف بصفته ممولا للعملية بجانب دوره الخدماتي، مما يعرضه لمخاطر استعمال أمواله إلى غاية إتمام الصفقة واستردادها من عميله.
ويقوم البنك بتمويل الصفقة كاملة دون أي غطاء ولو جزئي اعتبارا لملاءة عميله وسمعته، وكذا نوع الصفقة موضوع العقد، ويتقاضى نظير ذلك -إضافة إلى العمولة- فوائد مهمة مرتبطة بعامل الزمن الفاصل بين أدائه الفعلي لمبلغ الصفقة واسترداده من العميل، تحتسب على مبلغ الصفقة.
و لكي نتعرف على الصيغ الشرعية المناسبة لتطبيق هذه العملية في المصرف الإسلامي، لابد من معرفة الأسباب الداعية إلى لجوء التاجر إلى مثل هذه العملية.
معلوم أن الداعي إلى استعمال الطرق الشرعية راجع إلى الدور الائتماني الذي يطبع دور البنك في العملية نتيجة عدم تقديم العميل التاجر لغطاء الاعتماد. وعدم تقديم العميل التاجر للغطاء لا يعدو أن يكون بسبب أمرين:
الأول: إما أنه تاجر خبير في سلعة معينة ولا يملك ثمنها، فيضطر للجوء إلى المصرف رغبة في عمله الائتماني عن طريق الاعتماد المستندي.
الثاني: التاجر خبير في السلعة موضوع الصفقة، ويملك من المال ما يكفي لتغطية العملية، لكنه يفضل عدم تقديم أي مبلغ وتجميده لغاية تسلم البضاعة.
وإذا حللنا المسألة بهذا الشكل سهل التنظير الفقهي لها، بحيث يكون التناول الشرعي لكل حالة على حدتها، كأن نخلص إلى تطبيق المضاربة في هذه الحالة، والمرابحة في هذه، والمشاركة في تلك، ومن ثم تسمو العملية الفقهية عن ضغوطات الواقع المصرفي ومصالح كل من المصرف أو العميل وما تقتضيه من تطبيق هذه الصيغة دون تلك.
ففي الحالة الأولى، أي التي لا يملك فيها التاجر قيمة الصفقة، نرى أن الصيغة الملائمة والممكن تدخل المصرف الإسلامي بها هي المضاربة، لأن المضاربة عقد بمال من جانب والعمل من جانب، وهو ما ينطبق على العملية هنا. أما المرابحة والمشاركة فلا مجال لتطبيقها لعدم توافر المال لدى العميل، وحتى إن أمكن تطبيق المرابحة على أساس السداد المؤجل فإن ذلك ينطوي على مخاطرة من قبل البنك، لأن العميل التاجر لا يتوافر على ضمانات يقدمها للمصرف، ولأن صيغة المرابحة تجعل المصرف أجنبيا عن إدارة الصفقة ومراقبة العميل.
وفي أحسن الأحوال التي يحتاط فيها المصرف الذي يطبق المرابحة في هذه العمليات، يكون احتياطه بعدم الموافقة على طلب العميل بفتح الاعتماد لعدم توافر الضمانات، وفي ذلك خسارة كبرى لعائدات قد تكون مهمة إذا ما أثبتت دراسة الصفقة مردوديتها و نجاعتها، وفيه تعطيل لمشروع قد يفيد منه عدد لا بأس به من الأشخاص، فضلا عن اقتصاد الأمة أجمع.
أما الحالة الثانية، أي التي يملك فيها التاجر ما يكفي من المال لتغطية الصفقة، فإن الصيغة المناسبة هي صيغة المرابحة للآمر بالشراء، لأن العميل لديه أموال، فلا يحتاج إلى أموال يضارب بها، كما أنه لا يرغب في مشاركة أحد، لأن هدفه من اللجوء إلى الاعتماد المستندي هو ألا يدفع المال إلا بعد قبض السلعة، فيكون شراء المصرف للسلعة وبيعها للعميل أمثل طريق لبلوغ ذلك الهدف دون مشاركة أحد، مع استفادة المصرف من هامش الربح، واتقاء الجميع للتعامل الربوي.
وإذا خلصنا إلى أن المرابحة مستبعدة في الحالة الأولى، فإن المشاركة مستبعدة في الحالتين معا؛ لما ذكر من الأسباب. لذلك فإن اكتفاء بعض المصارف([32]) باعتماد صيغة المرابحة باعتبارها صيغة وحيدة لتنفيذ عمليات الاعتماد المستندي، واكتفاء بعضها([33]) باعتماد صيغة المشاركة فقط يعتريه نوع من القصور من جانب التنظير الفقهي، وأخذ حيثيات كل حالة على حدة بعين الاعتبار، وهو ما نلحظه أيضا عند أغلب الباحثين في هذا المجال، بحيث يطلقون في اعتماد صيغ التمويل الشرعية لتنفيذ عمليات الاعتماد المستندي المنطوية على ائتمان المصرف، دون تفصيل وتحليل لكل حالة على حدة.
وسنتناول هذا المبحث بحول الله في نقطتين:
الأولى: نخصصها لتخريج العملية على أساس المضاربة. والثانية: نخصصها لتخريج العملية على أساس المرابحة.
أولا: تطبيق الاعتماد المستندي على أساس المضاربة
يكون تطبيق الاعتماد المستندي على أساس المضاربة بتقديم العميل للمصرف دراسة وافية للجوانب الاقتصادية والمالية للصفقة موضوع البضاعة المراد استيرادها، فيقوم المصرف من جانبه بتقويمها، وعند اطمئنانه لأهمية الصفقة ومردوديتها يقدم المال في حساب يفتحه لديه لفائدة العميل على أساس اجتماع طرفين: المال من أحدهما (وهو المصرف)، والعمل من الآخر (وهو العميل) في عقد يكون موضوعه إنجاز عملية تجارية، على أن يكون الربح الناتج عنها بينهما على ما يتفقان عليه.
بعد ذلك يقوم المصرف بفتح الاعتماد المستندي لديه في حساب مستقل، ومباشرة العمل المصرفي الذي يقتضيه بشكل مستقل، وعند عقد المضاربة تسلم المستندات من الخارج يقوم بتسليمها للتاجر المضارب الذي يقوم بدوره باستخلاص البضاعة، ومباشرة الإجراءات والأعمال اللازمة لتسويقها.
وبعد أن يتم تفويت البضاعة وبيعها من قبل التاجر، يقوم المصرف بأخذ مستحقاته من عمولة ومصاريف نظير قيامه بالأعمال المصرفية اللازمة لتنفيذ الاعتماد المستندي، وما تبقى بعد ذلك من أرباح يقتسمها بينه وبين التاجر المضارب على ما اتفقا عليه من نسبة أثناء العقد.
وتفاديا لما قد ينتج عن تطبيق هذه الصيغة من مشاكل وما قد يلحق المصرف من أضرار وخسائر جراء ما قد يكون من خيانة المضارب أو عدم أمانته، أو عن قلة تجربته المهنية، أو عن كساد السوق، يتعين على الهيئات المختصة في المصرف تقويم مشروع الصفقة الذي يتقدم به العميل المضارب بدقة متناهية، مع التركيز على شخص هذا العميل وأمانته وسمعته وخبرته في تسويق البضاعة موضوع العقد.
إضافة إلى ذلك يمكن للمصرف أن يقيد هذا المضارب بشروط يضمنها عقد المضاربة تمكنه من تتبع عمليات الصفقة من بدايتها إلى تمامها عملا بقواعد المضاربة المقيدة.
بتطبيق هذه الصيغة نتفادي تنفيذ الاعتماد المستندي وفق المعايير الربوية، إضافة إلى ما ينتج عنها من فوائد عديدة، أهمها:
-الدخول في عمليات الاستيراد والتصدير، والاستفادة من أرباحها وعدم تركها لمن لا يبالي بالحلال والحرام.
-تمكين التاجر الخبير الغير المتوفر على المال من الاتجار وإبرام الصفقات دون تمويل من جانبه، فيتفادى بذلك عائق التمويل.
-اعتماد هذا التاجر على شريك مليء يقوي تعاملاته في السوق ويسنده في معاملاته مع الغير.
-تمكين ذوي الأموال ممن لا خبرة لهم من استثمار أموالهم بما يعود عليهم بربح شرعي.
-تجنب الصفقات غير المضمونة النجاح، وذلك عبر إعادة دراستها وتقويمها من قبل المصرف، ومن ثم تتجنب إهدار الطاقات المالية والمعنوية دون طائل.
ومع هذه الفوائد كلها فإنني لم أجد -حسب ما اطلعت عليه- أن ثمة مصرفا يقوم بتطبيق الاعتماد المستندي عن طريق المضاربة، بل إن صيغة المضاربة من الصيغ القليلة، إن لم نقل النادرة في التطبيقات الاستثمارية للبنوك الإسلامية في شتى تعاملاتها، مع كونها الصيغة الأساسية التي تميز الاستثمار في النظام الاقتصادي الإسلامي.
ثانيا: تطبيق الاعتماد المستندي غير المغطى كليا على أساس المرابحة
يبدأ تطبيق هذه الصيغة بتقديم العميل طلبا إلى المصرف من أجل استيراد البضاعة موضوع التعاقد، مرفقا إياه بالفاتورة المبدئية Proformat المحددة لهذه البضاعة بكامل أوصافها وكميتها وأسعارها، فيقوم المصرف بعد ذلك بدراسة العملية في شتى جوانبها الاقتصادية والتقنية والمالية، والتأكد من مقدرة العميل على الوفاء والسؤال عن مركزه وسمعته في السوق.
وعند موافقة المصرف على العملية، يوقع العميل عقدا بشراء البضاعة عند ورودها مطابقة للمواصفات التي طلبها، مع احتفاظه بحق رفضها متى وردت مخالفة للمواصفات المطلوبة.
وبمجرد توقيع العقد يباشر المصرف عملية الاستيراد على حسابه الشخصي وتحت مسؤوليته الكاملة إلى حين ورود المستندات الممثلة للبضاعة، وتخليصها من الجمارك حيث يتم بيعها للعميل مرابحة بعد إضافة جميع ما أنفق على العملية من مصاريف التأمين والجمارك والنقل والتخزين وغيرها.
هذه الصيغة هي الأكثر استعمالا لدى أغلب المصارف الإسلامية، إلا أن أهم ما يؤخذ عليها أنها لا تمكن من عمليات الاستيراد سوى التجار ذوي الذمم المالية المليئة، أما التجار ذوو الخبرات دون رؤوس الأموال فلا تمكنهم هذه الصيغة من الدخول في مثل هذه العمليات إلا نادرا، لعدم توفر الضمانات الكافية لموافقة المصرف على طلباتهم.
هذه الصيغة تطبق في بنك دبي الإسلامي على الشكل الآتي([34]):
1-يحضر العميل إلى البنك ويتقدم بطلب يوضح فيه رغبته في شراء بضائع من الخارج، ويرفق بطلبه فاتورة مبدئية يحدد فيها نوع البضاعة وأوصافها كاملة.
2-يعرض الطلب على إدارة البنك للموافقة عليه بعد التأكد من جدية الطلب والوقوف على مركز العميل المالي.
3-بعد الموافقة على الطلب يوقع العميل مع البنك وعدًا بالشراء يحدد فيه المواصفات الكاملة للبضاعة التي يرغب في شرائها من البنك، ويبين فيه أيضا كيفية وطريقة الشحن والاستلام، كما يحدد في الوعد أيضا السعر الذي سيشتري به البضاعة من البنك.
4-يقوم البنك بفتح الاعتماد لصالحه (أي باسم بنك دبي الإسلامي)، ويرسل الاعتماد إلى المراسل الذي يسلمه إلى المصدر، ويحتفظ بصورة طرفه.
5-يقوم المصدر بتحضير البضاعة المطابقة للمواصفات وشحنها، ويقدم مستندات الشحن للبنك المراسل لمطابقتها مع شروط الاعتماد، وفي حالة المطابقة تدفع له القيمة، ويخطر المراسل البنك ويرسل له مستندات الشحن.
6-بعد تملك بنك دبي الإسلامي للبضاعة بطريقة شرعية، يقوم بتوقيع عقد البيع مع عميله طبقا للشروط المتفق عليها في عقد الوعد بالشراء، ويتسلم المتعامل مع البنك البضائع المطلوبة.
المطلب الثالث: التخريج الفقهي للاعتماد المستندي المغطى جزئيا
يكون الاعتماد مغطى جزئيا متى كانت المبالغ المرصودة للاعتماد لا تغطي سوى جزء من قيمة البضاعة موضوع العقد، مما يجعل معه دور البنك ائتمانيا فيما يتعلق بالجزء غير المغطى، بحيث يتولى تغطيته باستخدام أمواله الخاصة مقابل فائدة يتقاضاها جراء ذلك، إضافة إلى العمولة المقررة نظير الخدمة.
وهذا النوع من الاعتماد المستندي يجمع بين خصائص كل من النوعين السابقين، بحيث يضطلع المصرف فيه بدور مزدوج: الأول خدماتي فيما يتعلق بالجزء المغطى، والثاني ائتماني فيما يخص الجزء غير المغطى.
وتقوم البنوك التقليدية بتمويل هذا الاعتماد نظير فائدة، وهو ما لا يمكن للمصرف الإسلامي الإقدام عليه لعلة الربا. والمخرج في تنفيذ هذه العملية أن يتم عبر صيغ التمويل الشرعية التي تطبقها المصارف الإسلامية.
ولمعرفة الصيغة الشرعية الملائمة لتنفيذ هذا النوع من الاعتماد المستندي، يتعين معرفة الأسباب الداعية إليه، وهو ما سنتطرق له في نقطة أولى قبل الحديث عن تخريجه الفقهي في نقطة ثانية.
أولا: واقع الاعتماد المغطى جزئيا.
بتحليل واقع هذه المعاملة يتبين أن العميل -وهو يقدم على هذا الاعتماد- لا يعدو أن يكون أمره على إحدى حالتين:
الأولى: أن تكون لديه الأموال الكافية لتنفيذ عقد الاعتماد، ولكنه ارتأى أن لا يجمد أمواله طيلة المدة الفاصلة بين فتح الاعتماد وتسلم البضاعة، فيعمل على فتح الاعتماد بتقديم جزء يسير من قيمة البضاعة، والباقي يدفعه بمجرد تسليم البنك إياه لمستندات البضاعة.
الثانية: أن يكون لديه خصاص في الأموال اللازمة لتنفيذ العقد، فيضطر للجوء إلى الائتمان المصرفي عبر هذا النوع من الاعتمادات المستندية.
في الحالة الأولى، لكي نتعرف على الصيغة الشرعية الملائمة، لابد كذلك من التمييز بين حالتين:
الأولى: تكون فيها المدة الفاصلة بين أداء البنك لقيمة البضاعة للمصدر، وبين فترة تسلم البضاعة مدة قصيرة.
الثانية: تكون فيها تلك المدة متوسطة وطويلة.
ففي الأولى نرى أن الصيغة المثلى هي صيغة القرض الحسن، أي القرض دون فائدة، وذلك بتقديم المصرف لقيمة الجزء غير المغطى من حسابه لتغطية قيمة البضاعة المراد استيرادها دونما مقابل، وذلك للاعتبارات الآتية:
1-أن المصرف لا يعطل أمواله مدة طويلة.
2-أن المصرف قد استفاد من العملية من خلال العمولة في فتح الاعتماد وفي الجزء المغطى.
3-أن في ذلك إبراز للجانب الأخلاقي والاجتماعي في عمل المصرف الإسلامي.
على أنه قبل الإقدام على العملية وإقراض العميل قرضا حسنا، يتعين على المصرف القيام بدراسة متكاملة للشروع، مع التركيز على شخص العميل وسمعته وقدرته على سداد القرض عند ورود المستندات.
أما في الثانية والتي تكون فيها المدة الفاصلة بين أداء المصرف لثمن البضاعة وتسلم المستندات مدة طويلة، مما يؤدي إلى تعطيل أموال مهمة للمصرف، فنرى أن الصيغة المواتية هي المرابحة للآمر بالشراء في الجزء غير المغطى كما هو الحال في الاعتماد المستندي غير المغطى كليا، بحيث يتجنب المصرف تعطيل جزء مهم من أمواله دون عائد استثماري، كما تمكن العميل من الانتفاع بالدور الائتماني للمصرف.
أما الحالة الثانية والتي يكون فيها خصاص في الأموال لدى العميل، مما يضطره إلى اللجوء إلى هذا النوع من الاعتماد ، فإن صيغة المشاركة هي الصيغة الملائمة لتنفيذ العقد، بحيث يدخل العميل شريكا بذلك الجزء المغطى والمصرف بالجزء الباقي.
وحيث إن القرض الحسن لا يحتاج هنا إلى دراسة، وحيث إن المرابحة سبق ودرسناها في المبحث السابق، فإننا سنكتفي في هذا المبحث بدراسة تخريج الاعتماد المستندي المغطى جزئيا على أساس المشاركة.
ثانيا: تطبيق الاعتماد المستندي المغطى جزئيا على أساس المشاركة
يتم تطبيق الاعتماد المستندي المغطى جزئيا على أساس المشاركة عبر تقديم العميل دراسة وافية للعملية موضوع الصفقة، فيقوم المصرف بدراستها بغرض الاطمئنان إلى نجاعة الصفقة ومردوديتها، وكذا المركز المالي للعميل.
بعد قبول الدراسة، يتم توقيع عقد تمويل بالمشاركة يتضمن التكلفة الإجمالية للصفقة تكون مساهمة العميل فيه بمبلغ الجزء المغطى، والباقي يسهم به المصرف، ويتضمن العقد طريقة توزيع الربح.
بعد ذلك يتولى المصرف فتح الاعتماد المستندي، ويقوم بالإجراءات المصرفية اللازمة لتنفيذه، وبمجرد تخليص البضاعة من الجمارك يقوم بتفويض الشريك تسويق البضاعة وتفويتها.
وبعد تمام الصفقة يأخذ المصرف مستحقاته على فتح الاعتماد المستندي، ويأخذ الشريك مستحقاته نظير قيامه بإدارة العملية التجارية إلى حين تفويت البضاعة وما تبقى من الأرباح يوزع بين الطرفين حسب ما اتفق عليه في عقد المشاركة.
هذا إذا كانت المشاركة ثابتة، وقد يفضل الشريك العميل الاستفراد بالشركة بعد مدة من قيامها حين تتوافر له الأموال اللازمة لذلك، وبخاصة إذا كانت الشركة قد تدوم مدة من قيامها حين تتوافر له الأموال اللازمة لذلك، وبخاصة إذا كانت الشركة قد تدوم مدة أطول، حينها يمكن تطبيق المشاركة المتناقصة بحيث يمكن المصرف الشريك العميل من شراء أسهمه إلى أن تنتهي الشركة في ملكه.
ويطبق بنك ماليزيا هذا الأسلوب على النحو الآتي([35]):
يُطلب من العميل إبلاغ البنك بمتطلبات خطاب الاعتماد الخاص به، ويتفاوض حول بنود عملية التمويل بالمشاركة، فيضع العميل لدى البنك إيداعا بنصيبه في تكلفة السلع المستوردة التي يوافق البنك عليها بمقتضى مبدإ الوديعة، ثم يصدر البنك خطاب الاعتماد، ويدفع العائدات إلى البنك المراسل مستخدما وديعة العميل وأموال البنك الخاصة، ومن ثم يسلم الأوراق للعميل بعد ذلك.ويحصل العميل على السلع،ويتصرف فيها بالأسلوب المذكور في العقد،وتقسم الأرباح الناتجة عن هذه العملية حسب الاتفاق.
خلاصة
من خلال ما سبق بسطه يمكن الخروج بالخلاصات التالية:
-نظرية الاشتراط لمصلحة الغير راجحة في الطبيعة القانونية للاعتماد المستندي، لقرب تفسيرها لالتزام البنك تجاه المستفيد ومطابقتها لصورة الاعتماد المستندي، غير أنه لا ينبغي اعتمادها مستقلة دون إحاطتها بالعرف التجاري لاعتبارين أساسيين:
الأول: أن فكرة الاشتراط قابلة للاهتزاز في الاعتماد المستندي من ناحيتين:
أولاهما: كون المشترط -وهو الآمر- يستطيع نقض الحق الناشئ للمستفيد.
ثانيهما: كون المتعهد يستطيع أن يدفع في مواجهة المنتفع -وهو المستفيد- بالدفوع الناشئة عن علاقته بالآمر المشترط، أو عن علاقة هذا الأخير بالمستفيد.
الثاني: أنه لا الكفالة ولا الوكالة ولا غيرها كانت القصد من فتح الاعتماد المستندي، كذلك الاشتراط لمصلحة الغير ليس أساس هذا العقد، وإنما أساسه توفير عنصر الثقة اللازم بين التجار وبخاصة في التجارة الدولية، الذي يعتبر الباعث الرئيس والدافع الأساس وراء استحداث هذا النوع من التعامل المصرفي.
-فتح الاعتماد الذي يكيفه فقهاء القانون على أساس الوعد بالقرض، جائز من الناحية الشرعية، بناء على قول الفقهاء بلزوم الوعد إذا دخل الموعود بسببه في كلفة والتزام.
- يجوز فتح الاعتماد المستندي المغطى بالكامل لعدم مصادمته لقواعد الشرع وعدم مخالفته لأي أصل من أصوله، ويكيف شرعا على أنه معاملة مستحدثة.
- تكييف الاعتماد المستندي المغطى بالكامل وفق العقود الشرعية المسماة منفردة ومجتمعة، أو على أساس بعض التصرفات المستفادة من الشرع، لا يسلم من القصور لعدم شمول أي منها كل علاقاته وجميع الالتزامات الناتجة عنه.
- لا يجوز فتح الاعتماد المستندي المغطى جزئيا وغير المغطى كليا، لعلة الفوائد الناتجة عن الدور الائتماني للمصرف فيه، إلا عن طريق صيغ التمويل الشرعية.
- ينبغي تطبيق الاعتماد المستندي المغطى جزئيا وغير المغطى كليا، وفق الظروف المحيطة بالعملية، عكس الإطلاق فيها، وذلك كما يأتي:
+ تطبيق المضاربة في الاعتماد المستندي غير المغطى كليا، في الحالة التي لا يتوفر فيها العميل على أي مبلغ من قيمة الصفقة موضوع الاعتماد، حيث يكون قصده الاستفادة من تمويل المصرف.
+ تطبيق المرابحة في الاعتماد المستندي غير المغطى كليا في الحالة التي يتوفر فيها العميل على قيمة الصفقة، ويكون قصده من اللجوء إلى المصرف ضمان حصوله على السلعة على الوجه المطلوب، وعدم تعطيل أمواله ما بين فترة الأداء والحصول على السلعة.
+ تطبيق المشاركة في الاعتماد المستندي المغطى جزئيا، بحيث يكون العميل شريكا بنصيبه المتمثل في الجزء المغطى، والمصرف شريكا في الجزء المتبقى.
تم بحمد الله الذي بنعمته تتم الصالحات
الهوامش
يعتبر الاعتماد المستندي الوسيلة المصرفية الأكثر ذيوعا في تسهيل عمليات بيوعات التجارة الخارجية المعاصرة. يلتجئ إليه التجار لحل مشكل انعدام الثقة الذي تتسم به عمليات الاستيراد والتصدير، لبعد كل من المصدر عن المستورد جغرافيا، مما يجعل التاجر المستورد غير مطمئن لدفع الثمن قبل وصول السلعة إليه كاملة سالمة، ويجعل البائع المصدر غير مطمئن لإرسال السلعة قبل قبض ثمنها.
إضافة إلى أن هذا الاعتماد يمكن التجار المستوردين من تجنب تجميد قيمة مبلغ العملية طوال المدة الفاصلة بين إبرام العقد وتسلم البضاعة التي تتسم غالبا بالطول والتعقيد. فيتدخل البنك عبر الاعتماد المستندي لحل هذه الإشكالات، لما يعرف عنه من ثقة وملاءة.
وقد أثير جدل قانوني حول طبيعته القانونية لدى فقهاء القانون، كما هو الحال بشأن تكييفه الشرعي في الفقه المصرفي الإسلامي، و سنعرف بهذا الاعتماد بشكل وجيز و نعرض لصورته العملية، قبل بسط هذا الجدل في محورين نخصص الأول للطبيعة القانونية للاعتماد المستندي، والثاني لتكييفه الشرعي في الفقه المصرفي الإسلامي.
أ: تعريف الاعتماد المستندي:
الاعتماد المستندي اعتماد يفتحه المصرف، متعهدا بالوفاء بأمر من عميله لفائدة مستفيد وفق شروط معينة في أجل محدد مقابل ضمان حيازي على المستندات الممثلة للبضاعة موضوع المعاملة بين الآمر والمستفيد([1]).
فقد ورد في المرشد العملي الذي وضعته غرفة التجارة الدولية في شأن الاعتماد المستندي سنة 1978 ما يلي: “الاعتماد المستندي في عبارة وجيزة هو تعهد مصرفي مشروط بالوفاء. وبعبارة أوسع هو تعهد مكتوب من بنك (يسمى الْمُصْدِر) يسلَّم للبائع (المستفيد)، وذلك بناء على طلب المشتري (مقدم الطلب أو الآمر) وبالمطابقة لتعليماته، يستهدف القيام بالوفاء (أي بوفاء نقدي أو قبول كمبيالة أو خصمها) وفي حدود مبلغ محدد خلال فترة معينة وفي نظير مستندات مشترطة”([2]).
ويعتبر تعريف الأستاذ البارودي من أبرز التعاريف وأوضحها في هذا الباب، حيث يعرف الاعتماد المستندي بأنه: “تعهد صادر من البنك بناء على طلب العميل (يسمى الآمر، أو معطي الأمر) لصالح الغير المصدر (ويسمى المستفيد)، يلتزم البنك بمقتضاه بدفع أو بقبول كمبيالات مسحوبة عليه من هذا المستفيد، وذلك بشروط معينة واردة في هذا التعهد، ومضمون برهن حيازي على المستندات الممثلة للبضائع المصدرة” ([3]).
ب: الصورة العملية للاعتماد المستندي
بعد إتمام الصفقة وإبرام العقد بين المستورد والمصدر، يُلتجأ إلى المؤسسة المصرفية لفتح الاعتماد بغية تنفيذ العقد الذي يتضمن عادة نصا على فتح اعتماد مستندي، ومن فتح الاعتماد إلى غاية تنفيذ العقد موضوعه تتم العملية عبر المراحل الآتية([4]):
1-يتقدم التاجر المستورد إلى المصرف المحلي الذي يتعامل معه، يطلب منه فتح اعتماد بقيمة عقد البيع، وأن يقوم بتوجيه الاعتماد لصالح البائع المصدر، شريطة تقديمه مستندات يحدد المستورد مواصفتها بدقة تكون مضمنة في عقد فتح الاعتماد.
2-بعد موافقة المصرف على طلب العميل، يقوم بفتح اعتماد مستندي لفائدة البائع المصدر، ويشعره بذلك بإرسال خطاب يسمى "خطاب اعتماد" يتعهد فيه بدفع أو قبول كمبيالة بقيمة البضاعة موضوع الاعتماد إذا تقدم داخل أجل محدد بالمستندات المنصوص عليها في هذا الخطاب.
ويرى بعض الباحثين أن إصدار خطاب الاعتماد هو الخطوة العملية الأولى في فتح الاعتماد المستندي([5]).
3-بعد تلقي البائع المصدر لخطاب الاعتماد يقوم بإعداد البضاعة المطلوبة وبتحرير المستندات المتعلقة بها، ثم يسلمها لفرع البنك فاتح الاعتماد أو مراسله ببلده، وإذا كان تعهد البنك قاصرا على قبول كمبيالة يقوم البائع بسحب كمبيالة يرفقها بالمستندات مطالبا بالوفاء.
4-يقوم المصرف بعد تلقي المستندات بفحصها بغية التأكد من مطابقتها للشروط والمواصفات التي حددها التاجر المستورد (الآمر)، فإذا اطمأن إليها دفع قيمة البضاعة إن كان تعهد بالدفع، وإن كان تعهد بقبول كمبيالة أو بخصمها فعل، لتنتهي بذلك علاقة المصرف بالغير، وتنحصر آثار العملية بين البنك والعميل الآمر الذي يحصل على المستندات من البنك بعد الوفاء بالتزاماته تجاهه، ليتسنى له بعد ذلك تسلم البضاعة أو مبلغ التأمين إذا كانت قد هلكت قبل الوصول، وقد يحدث أن يتكلف المصرف باستلام البضاعة وتخليصها جمركيا على أساس المستندات المسلمة إليه.
المحور الأول: الطبيعة القانونية للاعتماد المستندي
أثير جدل كبير في الفقه القانوني حول الطبيعة القانونية للاعتماد المستندي، ومرد ذلك التزام البنك في هذا الاعتماد في مواجهة المستفيد دون أي علاقة قانونية بينهما، فتعددت بذلك النظريات الفقهية المكيفة لهذا الالتزام، فقيل بنظرية الكفالة، وقيل بالإنابة، وقيل بالإرادة المنفردة، وبالاشتراط لمصلحة الغير، وقيل بغيرها، وسنعرض لهذه النظريات بشكل وجيز على النحو الآتي.
أولا: نظرية الكفالة
مؤدى هذه النظرية أن البنك الذي يفتح اعتمادا قطعيا لصالح البائع يصير كفيلا للمشتري، ويؤكد ذلك دفع قيمة البضاعة بشرط أن يكون البائع قد نفذ التزامه صحيحا([6]).
وقد وجه الكثير من النقد لهذه الفكرة وأبرز ما ينقضها أن الكفالة عقد تابع للالتزام الأصلي موضوع الكفالة، أما الاعتماد المستندي فهو عقد مستقل عن عقد البيع موضوع فتح الاعتماد.
ثانيا: نظرية الإنابة
مفاد هذه النظرية أن أساس التزام البنك مرده إنابة الآمر إياه في الوفاء للمستفيد نيابة قاصرة يمكن معها للبنك الرجوع على الآمر إذا لم يقع الوفاء من البنك.
غير أن هذه الفكرة لم تسلم هي أيضا من نقد، ومما قيل في حقها أن الإنابة لا تنعقد إلا بتوافر رضا الأطراف الثلاثة، أما الاعتماد المستندي فالمستفيد ليس طرفا مباشرا فيه، بحيث لا يلزم لانعقاده رضاه وإن كان يفيد منه.
وفي نقد هاتين النظريتين تقول الأستاذة سميحة القليوبي: “لا يعتبر البنك الذي يقوم بفتح اعتماد للوفاء بقيمة البضاعة وكيلا عن المشتري أو كفيلا له، فالبنك ملتزم التزاما مستقلا عن العقد القائم بين البائع والمشتري، وأساس التزام البنك هو خطاب الاعتماد الموجه منه إلى المستفيد، فإذا قام هذا الأخير بتقديم المستندات الموضحة لشروط الاعتماد كان له حق مباشر في مواجهة البنك” ([7]).
ثالثا: نظرية الإرادة المنفردة
مؤدى هذه النظرية أن مركـز البنك في الاعتماد المستندي مركز الواعد بالجائزة يتعهد كلاهما مستقلا بأداء عمل معين إذا نفذ شخص عملا معينا هو في الاعتماد تقديم المستندات، وهو في الوعد بجائزة العمل الذي تستحق به الجائزة ([8]).
ومما ينقض هذه الفكرة أن الوعد بالجائزة يوجه للجمهور عن طريق علني، أما إذا كان المعني شخصا معينا فإنها تخرج عن دائرة الوعد بجائزة، وتسري عليها قواعد الإيجاب المقترن بالقبول، مما ينفي فكرة الإرادة المنفردة.
وقيل كذلك بفكرة القبول المصرفي كما قيل بحوالة الحق، ولم يسلم أي منها من نقد، كما قيل بأن الاعتماد المستندي عقد ذو طبيعة خاصة، وعيب على هذا القول أنه يقرر الواقع ولا يفسره.
رابعا: نظرية الاشتراط لمصلحة الغير
ذهب بعض الباحثين إلى أن جميع النظريات في هذا الباب عجزت عن تفسير استقلال التزام البنك، ويرى بعضهم أن التزام البنك في الاعتماد المستندي “يرد مصدره في كونه تصرفا قانونيا مجردا، مستندا فيه إلى الأعراف التجارية” ([9]).
ويرد الأستاذ محيي الدين علم الدين على هذا الاتجاه بأن العرف آخر ما يلتجأ إليه لتفسير المستجدات القانونية، بينما يذهب إلى ترجيح فكرة الاشتراط لمصلحة الغير، وذلك لأن صورة عملية الاعتماد المستندي “لا ينطبق عليها إلا وصف واحد هو الاشتراط لمصلحة الغير، فهو الشكل القانوني الذي ينعقد بإرادة طرفين ويرتب حقا لغيرها دون أن يشترك هذا الغير في إبرام التصرف، ولكن يكون له رفض الحق الناشئ منه احتراما لحريته الشخصية، فلا تدخل ذمته حقوق رغما عنه، وبتطبيق فكرة الاشتراط لمصلحة الغير على الاعتماد المستندي نجد أن الآمر (المشترط) يشترط على البنك المنشئ (المتعهد) حقا للمستفيد (المنتفع)، فالآمر المشترط يتعاقد باسمه هـو لا باسـم المستفيـد، ويشترط على البنك حقا مباشرا للمستفيد يتلقاه هـذا الأخير من عقـد الاشتراط ذاتـه دون أن يمر هـذا الحـق بذمـة المشترط أو المتعهد، ويحقـق المشترط بهذا العقد مصلحة مادية ظاهـرة هي الوفاء بدينه، وتسهيـل حصوله على بضاعتـه”([10]).
ويعاب على هذا الرأي أن التزام البنك تجاه المستفيد لا ينشأ عن عقد فتح الاعتماد مع العميل المشتري، بل عن خطاب الاعتماد الصادر عن البنك، وفضلا عن استقلال هذا الالتزام في مصدره، فإنه لا يعلق على قبول المستفيد له، كما أنه لا يتأثر بالعلاقة بين البنك والعميل، وهذا بخلاف القواعد العامة في الاشتراط لمصلحة الغير([11]).
ونحن وإن كنا نميل إلى نظرية الاشتراط لمصلحة الغير لقرب تفسيرها لالتزام البنك تجاه المستفيد ومطابقتها لصورة الاعتماد المستندي، نرى أنه لا ينبغي اعتمادها مستقلة دون إحاطتها بالعرف التجاري لاعتبارين أساسيين:
- الأول: أن فكرة الاشتراط قابلة للاهتزاز في الاعتماد المستندي من ناحيتين:
أولاهما: كون المشترط -وهو الآمر- يستطيع نقض الحق الناشئ للمستفيد.
ثانيهما: كون المتعهد يستطيع أن يدفع في مواجهة المنتفع -وهو المستفيد- بالدفوع الناشئة عن علاقته بالآمر المشترط، أو عن علاقة هذا الأخير بالمستفيد.
ولا يمكن تلافي هذا الاهتزاز إلا بالرجوع إلى العرف المصرفي، وهو ما أقره الأستاذ علم الدين نفسه حين قال وهو يتحدث عن هذا الإشكال: “ولكن العرف المصرفي -استجابة لاحتياجات التجارة- قد عالج هذه الثغرة ومنع الآثار السيئة التي يمكن أن تترتب عليها خصوصا في معاملة تقع بين بلاد مختلفة، كالاعتماد المستندي” ([12]).
- الثاني: أنه لا الكفالة ولا الوكالة ولا غيرها كانت القصد من فتح الاعتماد المستندي، كذلك الاشتراط لمصلحة الغير ليس أساس هذا العقد، وإنما أساسه توفير عنصر الثقة اللازم بين التجار وبخاصة في التجارة الدولية، الذي يعتبر الباعث الرئيس والدافع الأساس وراء استحداث هذا النوع من التعامل المصرفي.
المحور الثاني: التكييف الفقهي للاعتماد المستندي.
الاعتماد المستندي ، كما سبق، وسيلة من وسائل تسهيل البيوعات في التجارة الخارجية، وهذه الوسيلة إما أن تكون وسيلة دفع دون ائتمان، وإما أن تكون وسيلة دفع يصحبها ائتمان.
ففي الأولى تكون قيمة الاعتماد مغطاة بالكامل، فيكون عمل البنك مجرد خدمة يقدمها للعميل.
وفي الثانية تكون قيمة الاعتماد غير مغطاة أو مغطاة جزئيا، حيث يظهر الدور الائتماني للمصرف من خلال تسخير بعض أمواله لتنفيذ العملية([13]).
وبناء على هذا التقسيم، سنتناول الدراسة الفقهية للاعتماد المستندي حكما وتخريجا، وذلك في مبحثين، نخصص الأول للتكييف الشرعي للاعتماد المغطى بالكامل، والثاني للصيغ الشرعية لتطبيق الاعتماد غير المغطى كليا والمغطى جزئيا، و قبل ذلك سنعرض لفتح هذا الاعتماد و حكمه من الناحية الشرعية.
فتح الاعتماد المستندي من الناحية الشرعية
يكيف فقهاء القانون فتح الاعتماد على أنه وعد بالقرض([14])، وهذا معروف في الفقه الإسلامي([15])، وإن اختلف الفقهاء حول لزوم هذا الوعد، وهم في ذلك على مذاهب ثلاثة:
الأول: الوعد ملزم ديانة لا قضاء، وهو مذهب الجمهور.
الثاني: أن الوعد كله لازم، ويقضى به على الواعد، ويجبر عليه، وهو مذهب ابن شبرمة وأصبغ من المالكية، قال ابن حزم في محلاه: “وقال ابن شبرمة: الوعد كله لازم، ويقضى به على الواعد ويجبر” ([16]).
الثالث: أن الوعد غير ملزم إلا إذا دخل الموعود بسببه في كلفة، قال الشيخ عليش: “وقيل: يقضى بها إن كانت على سبب ودخل الموعود بسبب العدة في شيء، وهذا هو المشهور”، وهو مذهب ابن القاسم؛ ففي المدونة: “لو أن رجلا اشترى عبدا من رجل على أن يعينه فلان بألف درهم، فقال له فلان: أنا أعينك بألف درهم فاشتر العبد، أن ذلك لازم لفلان” ([17]).
وهذا القول الثالث هو الذي يرجحه أكثر الفقهاء المعاصرين، وبه أخذت مجلة الأحكام العدلية؛ فقد نصت المادة 84 على أن “المواعيد إذا اكتست بصور التعاليق تكون لازمة، مثلا لو قال رجل لآخر: بع هذا الشيء لفلان وإن لم يعطك ثمنه، فأنا أعطيه لك، فلم يعط المشتري الثمن، لزم على الرجل أداء الثمن المذكور بناء على وعده المعلق” ([18]).
والاعتماد المستندي بما أنه مقترن بعقد يضع على عاتق العميل التزامات يرتب عليه عدم الوفاء بها تبعات تجعله في كلفة من أمره، فإن ذلك يدخله في صميم القول الثالث من أقوال الفقهاء في لزوم الوعد بالعقد، فيكون بذلك فتح الاعتماد المستندي عملا مشروعا، خاصة وأن هذه العملية في صورتها المجردة “عملية لا تخرج عن الشروط التي اشترطها الفقهاء في العقود، كما أنها -عملية الاعتماد- تحقق المقاصد الشرعية للعقود، من التيسير في التعامل وتلبية احتياجات الأفراد، بالإضافة إلى أنها لا تنطوي على محظور شرعي كالربا أو الغبن أو الاستغلال أو الغرر، وهي من قبل ومن بعد، مسألة اجتهادية تندرج في عموم قول الرسول صلى الله عليه وسلم: “أنتم أعلم بأمور دنياكم”([19]).
ونشير إلى أننا في هذه الدراسة الفقهية التي سيوجهها غطاء الاعتماد أو عدمه، سنعتمد الاعتماد المستندي الموصوف بالقطعية، أي الاعتماد المستندي غير القابل للإلغاء، وهو الذي يكون فيه التزام المصرف باتا ونهائيا، اعتبارا لكون أغلب الاعتمادات المستندية قطعية، واعتبارا لندرة الاعتمادات المستندية غير القطعية (أي القابلة للإلغاء) من الناحية العملية. ([20])
المبحث الأول: التكييف الشرعي للاعتماد المغطى بالكامل
يكون الاعتماد المستندي مغطى بالكامل متى كانت قيمة المبلغ المرصود لأجله من قبل العميل تغطي قيمة البضاعة موضوع العقد، وبصيغة أخرى يكون الاعتماد مغطى متى وُفِّر له عند إنشائه “غطاءً نقديا من جانب العميل يتمثل في وجود أموال يقوم هذا العميل بإيداعها في حساب خاص، أو يقوم بتجنيبها من حسابه الجاري، وتكون مخصصة للوفاء للمصدّر الأجنبي” ([21])
وهذا الغطاء الكلي يجنب المصرف مخاطر استعمال أمواله الخاصة، وينحصر دوره في تقديم خدمة يحصل على عمولة مقابلها، مما يجعل العملية تخرج عن إطار الائتمان البنكي، وتتخذ شكل الخدمة البنكية الصرفة الخالية من نظام الفائدة.
الغطاء كما سبق نوعان: نقدي وعيني، وحديثنا في هذا المبحث ينحصر في الغطاء النقدي، لأن الغطاء العيني ليس سوى ضمان للتسهيل الممنوح من المصرف للآمر مقابل فتح الاعتماد، فلا يؤثر في الدور الائتماني للمصرف، في حين أن الغطاء النقدي يجعل دور المصرف خدماتيا بالأساس مما يجعله غير مصادم للشرع ولا مخالف لأي أصل من أصوله، فهو خال من الربا، بعيد من أكل أموال الناس بالباطل، ولا أثر لأي غرر فاحش به، إضافة إلى أنه يحقق المقاصد الشرعية للعقود “من التيسير في التعامل وتلبية حاجات الأفراد” ([22])، مما يجعله عقدا صحيحا من الناحية الشرعية.
لكن ما محل هذا التعامل من الشرع وتحت أي من العقود أو التصرفات المعروفة في الفقه الإسلامي يمكن إدراجه وتكييفه وفْقها؟.
يتراوح التخريج الفقهي لعملية الاعتماد المستندي المغطى بالكامل بين تكييفها وفق عقود مسماة وتصرفات معروفة في الفقه الإسلامي وبين القول بأنها معاملة مستحدثة تشكل عقدا مستجدا قائما بذاته.
والسبب راجع إلى أن هذه العملية من جهة تجد لنفسها أساسا في العديد من العقود والتصرفات المعروفة في الفقه الإسلامي، كالوكالة والحوالة والضمان والإرادة المنفردة والاشتراط لمصلحة الغير. ومن جهة أخرى لصعوبة تكييفها وفق أي من هذه العقود أو التصرفات تكييفا يشمل جميع أطرافها وكل مراحلها والالتزامات الناشئة عنها، ويخضعها جملة لأحكام ذلك العقد وحده، و سنتطرق لهذه التخريجات كما يلي:
أولا: التخريج على أساس عقود مسماة:
يستند هذا التخريج على أساس النظر إلى المراحل التي تمر بها عملية الاعتماد المستندي، حيث إنها تعكس عقودا معروفة في الفقه الإسلامي، ويتعلق الأمر بكل من الوكالة والكفالة والحوالة منفردة ومجتمعة.
أ: التخريج على أساس الوكالة.
يرجع تخريج عملية الاعتماد المستندي على أساس الوكالة اعتبارا لعلاقة العميل (الآمر) بالبنك المنشئ، وتكيف هذه العلاقة على أن العميل يوكل البنك للنيابة عنه في اتخاذ كافة الإجراءات اللازمة للحصول على البضاعة محل الصفقة بينه وبين البائع (المستفيد)، بداية من الاتصال بالبنك المراسل في دولة البائع، مرورا بتسلم المستندات وفحصها، والتأكد من مطابقتها لشروط الاعتماد إلى أن يسلمها للعميل، أو يقوم بتخليص البضاعة جمركيا متى تضمن الاعتماد ذلك.
ويعتبر من يذهب هذا الاتجاه “أن الخطاب الذي يوجهه العميل إلى البنك ما هو إلا توكيل بدفع قيمة الاعتماد متى تحققت شروطه” ([23]).
ب: التخريج على أساس الضمان.
تتمثل علاقة الضمان بالاعتماد المستندي فيما يقدمه المصرف من ضمانات بفعل يساره وملاءته لكل من العميل الآمر والمستفيد، فالمصرف يكفل للمستفيد الحصول على ما يرتبه عقد البيع السابق للاعتماد من ديون تجاه العميل الآمر، كما يكفل للآمر الحصول على البضاعة موضوع عقد البيع كاملة سالمة، ويكفل التعويض عند حصول التلف أو العيب فيها.
وهذا ينطبق عليه بعض من ضمان الدين والعين والدرك، وهي من صور الضمان في الفقه الإسلامي.
ومعلوم أن الضمان يقوم على أساس بعث الثقة بين المتعاملين، وتقوية التزاماتهم لما يبعثه التزام الضامن من ثقة وطمأنينة في استيفاء الحقوق. وهذا عين ما تقوم به المصارف في الاعتماد المستندي، “فالبنك بذمته المالية المعروفة بيسارها، يضمن طرفي العملية ويضفي الثقة والطمأنينة في اقتضاء كل طرف حقه، وهذه الكفالة من البنك للعميل المشتري والمستفيد البائع هي القناة الموصلة بين الطرفين، فينعقد العقد وتتم الصفقة اعتمادا على ضمان البنك”([24]).
ج: التخريج على أساس الحوالة
يقوم تكييف الاعتماد المستندي على أنه حوالة، على اعتبار المصرف محالا عليه من قبل العميل المستورد الذي يعتبر محيلا والمحال هو البائع (المستفيد)، ذلك أن هذا الأخير -وهو صاحب البضاعة- “لم يقبل التخلي عنها لمشتر لا يعرفه ولا يطمئن إليه، والذمة المالية للبنك يطمئن إليها كلا الطرفين -البائع والمشتري- فأحال المشتري بائع البضاعة باستيفاء ثمنها من البنك الذي تحددت العلاقة بينه وبين المشتري، وبقبول بائع البضاعة ينتقل الثمن من ذمة المشتري إلى ذمة البنك” ([25]).
ويوضح الأستاذ الجندي هذا التكييف أكثر بقوله: “تبرز الحوالة في عملية الاعتماد المستندي في أن العميل المستورد يحيل المستفيد المصدر، باستيفاء ثمن البضاعة من البنك، وهو صاحب الذمة الميسورة، فهو مليء بالتعبير الشرعي، فالعميل هو المحال عليه، والثمن هو المحال به، ولاشك أن المستفيد يقبل هذه الحوالة، فيترتب عليه انتقال الثمن من ذمة العميل إلى ذمة البنك” ([26]).
هذا التكييف يعتمد أساسا من الناحية الشرعية على مذهب الحنفية في صحة الحوالة ولو لم يكن المحال عليه مدينا للمحيل، وهو خلاف ما عليه الجمهور، إذ إن طبيعة فتح الاعتماد “تتفق وما قالوه [أي الحنفية] في الحوالة، حيث إن البنك (المحال عليه) رضي بشغل ذمته تجاه المستفيد (المحال) ولم يكن البنك في الأصل مدينا لمعطي الأمر (المحيل)” ([27]).
ثانيا: التخريج على أساس عقود مختلطة
يستند هذا التخريج على المزج بين عقدين فأكثر لتفسير طبيعة الاعتماد المستندي، و يتعلق الأمر التخريج على أساس الوكالة والكفالة و التخريج على أساس الوكالة والحوالة.
أ-التخريج على أساس الوكالة والكفالة
يقوم هذا التخريج على تقطيع عملية الاعتماد المستندي واجتزاء مراحلها، فيكون المصرف وكيلا عن العميل في فحص المستندات وأداء الثمن، ويكون كفيلا عنه في تعزيز ثقة المستفيد للإقدام على إرسال البضاعة، وكفيلا له في الحصول على البضاعة كاملة سالمة من أي نقص أو عيب، فنكون حينئذ أمام الوكالة والكفالة في عقد واحد.
ب-التخريج على أساس الوكالة والحوالة
يقوم هذا التخريج على أساس تقطيع عقد الحوالة وجعله عقدين: عقد بيع، وعقد استيفاء
. ومرد هذا التخريج العمل على تبرير العمولة التي يأخذها البنك في الاعتماد المستندي، فإذا كانت محرمة على ضوء أحكام الحوالة، وهي مستثناة من بيع الدين بالدين، لأن ذلك يفضي إلى زيادة أحد الدينين على الآخر، وهو عين الربا، فإنه “على معنى الاستيفاء يذكر التوكيل، وبناء على هذا فأخذ العمولة "الأجر" ليس على اعتبار انتقال الدين والمطالبة به من معطي الأمر إلى البنك (...) وإنما أخذت العمولة على اعتبار التوكيل واستيفاء الحقوق، وإطلاق لفظ الحوالة ليس على الحقيقة” ([28]).
ثالثا: التخريج على أساس تصرفات مستفادة من الشرع
يتعلق الأمر بالتخريج على أساس الإرادة المنفردة والتخريج على أساس الاشتراط لمصلحة الغير، وهي تصرفات و إن لم يتناولها الفقهاء المتقدمين بالتنظيم إلا أنها مستفادة من الأحكام و القواعد الشرعية، وهذه التخاريج تأثر أصحابها -على ما يبدو- بالدراسات والنظريات القانونية في تكييف الاعتماد المستندي.
أ: التخريج على أساس الإرادة المنفردة
يقوم هذا التخريج على تفسير التزام البنك في الاعتماد المستندي بدفع قيمة مبلغ الاعتماد للمستفيد بأنه التزام نابع من إرادته المنفردة، ومستقل عن التزام العميل قبل المستفيد.
يقول الأستاذ محمد الشحات الجندي: “ودلالة الفقه الشرعي على اعتبار الإرادة المنفردة مصدرا لإنشاء الالتزامات يفيد بتكييف الاعتماد المستندي في جانب إلزام البنك نفسه استقلالا عن العميل والمستفيد بالقيام بالتزامه في دفع الثمن وفحص المستندات، وفقا لمصدر الإرادة المنفردة المعتبرة كدليل على إنشاء الالتزامات في الفقه الإسلامي” ([29]).
ب: التخريج على أساس الاشتراط لمصلحة الغير
يقوم هذا التخريج على تفسير علاقة البنك بالمستفيد المستندي وانتفاع هذا الأخير من عقد لم يكن طرفا في إنشائه، على أساس الاشتراط لمصلحة الغير، أي اشتراط العميل على البنك لفائدة المستفيد، ومن ثم ينسحب هذا التخريج على سائر علاقات الاعتماد المستندي وأطرافه والالتزامات الناشئة عنه، حيث إن علاقات أطراف الاشتراط لمصلحة الغير وهم المشترط، والمنتفع، والمتعهد، تلائم علاقات أطراف الاعتماد المستندي على اعتبار أن المشترط يبرم عقد الاشتراط مع المتعهد على أداء التزام معين نحو شخص ثالث هو المنتفع، فالمشترط في الاشتراط لمصلحة الغير يقابله الآمر في الاعتماد المستندي والمتعهد يمثله البنك المنشئ، في حين يمثل المنتفع من الاشتراط المستفيد من الاعتماد.
رابعا: التخريج على أساس كون الاعتماد المستندي معاملة مستحدثة
باستعراض التخاريج المعتمدة على العقود والتصرفات المعروفة في الشرع، يتضح قصور هذه التخاريج عن الإحاطة بجميع جوانب الاعتماد المستندي، غاية الأمر أنها تفسر مرحلة من مراحله أو بعض علاقاته أو التزاما ناشئا عنه، فلا يشمل أي منها كل الأطراف ولا سائر العلاقات ولا جميع الالتزامات الناشئة عنه.
لذلك لا نجد باحثا يرجع تكييف الاعتماد المستندي بشكل قاطع إلى أحد هذه العقود كيفما كانت درجة ميوله واطمئنانه إليه.كما أن أغلب آراء الباحثين في تجويز هذه العملية وتكييفها تتجه إلى استنادها إلى عقود شرعية عديدة تأخذ في كل منها بجانب، وحيث إن هذه العقود جائزة في الشرع، فالنتيجة جواز هذه العملية التي تعكسها مجتمعة.
هذا إنما هو تأكيد على أن عملية الاعتماد المستندي “لا تخضع في تكييفها الشرعي لأي عقد مسمى بعينه من العقود الفقهية (...) فإذا تعمقنا في تحليل طبيعة فتح الاعتماد لوجدنا أنها تختلف بحق عن طبيعة العقود المعروفة” ([30]).
يبقى السؤال المطروح في هذا الشأن: هل كل تعامل مستجد يتوجب إرجاعه إلى أحد العقود أو التصرفات المعروفة في الفقه الإسلامي؟
الحقيقة أن الذي يهم في مثل هذه المعاملات المستجدة هو الجواب عن حكم الشرع فيها إباحة أو منعا. ومادامت العملية من بدايتها إلى نهايتها لا تنطوي على محظور شرعي من ربا أو غرر فاحش، ولا هي من قبيل أكل أموال الناس بالباطل، ولا تخرج عن إطار نظرية العقد في الشرع الإسلامي، وتحقق المقصد الشرعي في التيسير في المعاملات بين الناس، فلا يهم للحكم بالجواز إرجاعها إلى عقد معروف، كما لا يهم أن تكون تحت هذا المسمى أو ذاك مادامت العبرة بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني.
ولما كان الاعتماد المستندي المغطى كليا -في الصورة التي أسلفنا- غير مصادم للشرع ولا مخالف لأصل من أصوله، وبعيدا عن الربا والغرر الفاحش وأكل أموال الناس بالباطل وغيرها من محاذير الشرع في المعاملات، مما يجعله عقدا صحيحا من الناحية الشرعية، وحيث عجزت أيا من العقود المسماة والتصرفات المعروفة في الشرع عن استيعابه وتكييفه وفق أحكامها في جميع مراحله وسائر علاقاته، فإنه يسوغ لنا أن نصنفه على أساس عقد شرعي مستحدث بناء على أن الأصل في العقود الإباحة حتى يرد دليل المنع، ولا يمنع من ذلك كونه عقدا لم يعرفه الفقهاء من قبل، لأن “ما ذكره الفقهاء من العقود المسماة إنما هي العقود التي يغلب أن يقع بها التعامل في زمنهم، فإذا استحدثت الحضارة عقودا أخرى توافرت فيها الشروط المقررة فقها، كانت مشروعة” ([31]).
وهذا هو الرأي الذي نطمئن إليه ونرجحه، لأن الواقع يقول باستقلالية الاعتماد المستندي عن غيره من العقود والتصرفات المنصوص عليها فقها، منفردة كانت أو مختلطة، والتي عجزت عن التعبير عن طبيعته التي ينفرد بها عن غيره من العقود والتصرفات.
المبحث الثاني: التخريج الشرعي للاعتماد غير المغطى كليا
يكون الاعتماد المستندي غير مغطى متى فتح “على المكشوف”، أي دون تقديم أي مبلغ من العميل ضمانا للصفقة، هنا يتدخل المصرف بصفته ممولا للعملية بجانب دوره الخدماتي، مما يعرضه لمخاطر استعمال أمواله إلى غاية إتمام الصفقة واستردادها من عميله.
ويقوم البنك بتمويل الصفقة كاملة دون أي غطاء ولو جزئي اعتبارا لملاءة عميله وسمعته، وكذا نوع الصفقة موضوع العقد، ويتقاضى نظير ذلك -إضافة إلى العمولة- فوائد مهمة مرتبطة بعامل الزمن الفاصل بين أدائه الفعلي لمبلغ الصفقة واسترداده من العميل، تحتسب على مبلغ الصفقة.
و لكي نتعرف على الصيغ الشرعية المناسبة لتطبيق هذه العملية في المصرف الإسلامي، لابد من معرفة الأسباب الداعية إلى لجوء التاجر إلى مثل هذه العملية.
معلوم أن الداعي إلى استعمال الطرق الشرعية راجع إلى الدور الائتماني الذي يطبع دور البنك في العملية نتيجة عدم تقديم العميل التاجر لغطاء الاعتماد. وعدم تقديم العميل التاجر للغطاء لا يعدو أن يكون بسبب أمرين:
الأول: إما أنه تاجر خبير في سلعة معينة ولا يملك ثمنها، فيضطر للجوء إلى المصرف رغبة في عمله الائتماني عن طريق الاعتماد المستندي.
الثاني: التاجر خبير في السلعة موضوع الصفقة، ويملك من المال ما يكفي لتغطية العملية، لكنه يفضل عدم تقديم أي مبلغ وتجميده لغاية تسلم البضاعة.
وإذا حللنا المسألة بهذا الشكل سهل التنظير الفقهي لها، بحيث يكون التناول الشرعي لكل حالة على حدتها، كأن نخلص إلى تطبيق المضاربة في هذه الحالة، والمرابحة في هذه، والمشاركة في تلك، ومن ثم تسمو العملية الفقهية عن ضغوطات الواقع المصرفي ومصالح كل من المصرف أو العميل وما تقتضيه من تطبيق هذه الصيغة دون تلك.
ففي الحالة الأولى، أي التي لا يملك فيها التاجر قيمة الصفقة، نرى أن الصيغة الملائمة والممكن تدخل المصرف الإسلامي بها هي المضاربة، لأن المضاربة عقد بمال من جانب والعمل من جانب، وهو ما ينطبق على العملية هنا. أما المرابحة والمشاركة فلا مجال لتطبيقها لعدم توافر المال لدى العميل، وحتى إن أمكن تطبيق المرابحة على أساس السداد المؤجل فإن ذلك ينطوي على مخاطرة من قبل البنك، لأن العميل التاجر لا يتوافر على ضمانات يقدمها للمصرف، ولأن صيغة المرابحة تجعل المصرف أجنبيا عن إدارة الصفقة ومراقبة العميل.
وفي أحسن الأحوال التي يحتاط فيها المصرف الذي يطبق المرابحة في هذه العمليات، يكون احتياطه بعدم الموافقة على طلب العميل بفتح الاعتماد لعدم توافر الضمانات، وفي ذلك خسارة كبرى لعائدات قد تكون مهمة إذا ما أثبتت دراسة الصفقة مردوديتها و نجاعتها، وفيه تعطيل لمشروع قد يفيد منه عدد لا بأس به من الأشخاص، فضلا عن اقتصاد الأمة أجمع.
أما الحالة الثانية، أي التي يملك فيها التاجر ما يكفي من المال لتغطية الصفقة، فإن الصيغة المناسبة هي صيغة المرابحة للآمر بالشراء، لأن العميل لديه أموال، فلا يحتاج إلى أموال يضارب بها، كما أنه لا يرغب في مشاركة أحد، لأن هدفه من اللجوء إلى الاعتماد المستندي هو ألا يدفع المال إلا بعد قبض السلعة، فيكون شراء المصرف للسلعة وبيعها للعميل أمثل طريق لبلوغ ذلك الهدف دون مشاركة أحد، مع استفادة المصرف من هامش الربح، واتقاء الجميع للتعامل الربوي.
وإذا خلصنا إلى أن المرابحة مستبعدة في الحالة الأولى، فإن المشاركة مستبعدة في الحالتين معا؛ لما ذكر من الأسباب. لذلك فإن اكتفاء بعض المصارف([32]) باعتماد صيغة المرابحة باعتبارها صيغة وحيدة لتنفيذ عمليات الاعتماد المستندي، واكتفاء بعضها([33]) باعتماد صيغة المشاركة فقط يعتريه نوع من القصور من جانب التنظير الفقهي، وأخذ حيثيات كل حالة على حدة بعين الاعتبار، وهو ما نلحظه أيضا عند أغلب الباحثين في هذا المجال، بحيث يطلقون في اعتماد صيغ التمويل الشرعية لتنفيذ عمليات الاعتماد المستندي المنطوية على ائتمان المصرف، دون تفصيل وتحليل لكل حالة على حدة.
وسنتناول هذا المبحث بحول الله في نقطتين:
الأولى: نخصصها لتخريج العملية على أساس المضاربة. والثانية: نخصصها لتخريج العملية على أساس المرابحة.
أولا: تطبيق الاعتماد المستندي على أساس المضاربة
يكون تطبيق الاعتماد المستندي على أساس المضاربة بتقديم العميل للمصرف دراسة وافية للجوانب الاقتصادية والمالية للصفقة موضوع البضاعة المراد استيرادها، فيقوم المصرف من جانبه بتقويمها، وعند اطمئنانه لأهمية الصفقة ومردوديتها يقدم المال في حساب يفتحه لديه لفائدة العميل على أساس اجتماع طرفين: المال من أحدهما (وهو المصرف)، والعمل من الآخر (وهو العميل) في عقد يكون موضوعه إنجاز عملية تجارية، على أن يكون الربح الناتج عنها بينهما على ما يتفقان عليه.
بعد ذلك يقوم المصرف بفتح الاعتماد المستندي لديه في حساب مستقل، ومباشرة العمل المصرفي الذي يقتضيه بشكل مستقل، وعند عقد المضاربة تسلم المستندات من الخارج يقوم بتسليمها للتاجر المضارب الذي يقوم بدوره باستخلاص البضاعة، ومباشرة الإجراءات والأعمال اللازمة لتسويقها.
وبعد أن يتم تفويت البضاعة وبيعها من قبل التاجر، يقوم المصرف بأخذ مستحقاته من عمولة ومصاريف نظير قيامه بالأعمال المصرفية اللازمة لتنفيذ الاعتماد المستندي، وما تبقى بعد ذلك من أرباح يقتسمها بينه وبين التاجر المضارب على ما اتفقا عليه من نسبة أثناء العقد.
وتفاديا لما قد ينتج عن تطبيق هذه الصيغة من مشاكل وما قد يلحق المصرف من أضرار وخسائر جراء ما قد يكون من خيانة المضارب أو عدم أمانته، أو عن قلة تجربته المهنية، أو عن كساد السوق، يتعين على الهيئات المختصة في المصرف تقويم مشروع الصفقة الذي يتقدم به العميل المضارب بدقة متناهية، مع التركيز على شخص هذا العميل وأمانته وسمعته وخبرته في تسويق البضاعة موضوع العقد.
إضافة إلى ذلك يمكن للمصرف أن يقيد هذا المضارب بشروط يضمنها عقد المضاربة تمكنه من تتبع عمليات الصفقة من بدايتها إلى تمامها عملا بقواعد المضاربة المقيدة.
بتطبيق هذه الصيغة نتفادي تنفيذ الاعتماد المستندي وفق المعايير الربوية، إضافة إلى ما ينتج عنها من فوائد عديدة، أهمها:
-الدخول في عمليات الاستيراد والتصدير، والاستفادة من أرباحها وعدم تركها لمن لا يبالي بالحلال والحرام.
-تمكين التاجر الخبير الغير المتوفر على المال من الاتجار وإبرام الصفقات دون تمويل من جانبه، فيتفادى بذلك عائق التمويل.
-اعتماد هذا التاجر على شريك مليء يقوي تعاملاته في السوق ويسنده في معاملاته مع الغير.
-تمكين ذوي الأموال ممن لا خبرة لهم من استثمار أموالهم بما يعود عليهم بربح شرعي.
-تجنب الصفقات غير المضمونة النجاح، وذلك عبر إعادة دراستها وتقويمها من قبل المصرف، ومن ثم تتجنب إهدار الطاقات المالية والمعنوية دون طائل.
ومع هذه الفوائد كلها فإنني لم أجد -حسب ما اطلعت عليه- أن ثمة مصرفا يقوم بتطبيق الاعتماد المستندي عن طريق المضاربة، بل إن صيغة المضاربة من الصيغ القليلة، إن لم نقل النادرة في التطبيقات الاستثمارية للبنوك الإسلامية في شتى تعاملاتها، مع كونها الصيغة الأساسية التي تميز الاستثمار في النظام الاقتصادي الإسلامي.
ثانيا: تطبيق الاعتماد المستندي غير المغطى كليا على أساس المرابحة
يبدأ تطبيق هذه الصيغة بتقديم العميل طلبا إلى المصرف من أجل استيراد البضاعة موضوع التعاقد، مرفقا إياه بالفاتورة المبدئية Proformat المحددة لهذه البضاعة بكامل أوصافها وكميتها وأسعارها، فيقوم المصرف بعد ذلك بدراسة العملية في شتى جوانبها الاقتصادية والتقنية والمالية، والتأكد من مقدرة العميل على الوفاء والسؤال عن مركزه وسمعته في السوق.
وعند موافقة المصرف على العملية، يوقع العميل عقدا بشراء البضاعة عند ورودها مطابقة للمواصفات التي طلبها، مع احتفاظه بحق رفضها متى وردت مخالفة للمواصفات المطلوبة.
وبمجرد توقيع العقد يباشر المصرف عملية الاستيراد على حسابه الشخصي وتحت مسؤوليته الكاملة إلى حين ورود المستندات الممثلة للبضاعة، وتخليصها من الجمارك حيث يتم بيعها للعميل مرابحة بعد إضافة جميع ما أنفق على العملية من مصاريف التأمين والجمارك والنقل والتخزين وغيرها.
هذه الصيغة هي الأكثر استعمالا لدى أغلب المصارف الإسلامية، إلا أن أهم ما يؤخذ عليها أنها لا تمكن من عمليات الاستيراد سوى التجار ذوي الذمم المالية المليئة، أما التجار ذوو الخبرات دون رؤوس الأموال فلا تمكنهم هذه الصيغة من الدخول في مثل هذه العمليات إلا نادرا، لعدم توفر الضمانات الكافية لموافقة المصرف على طلباتهم.
هذه الصيغة تطبق في بنك دبي الإسلامي على الشكل الآتي([34]):
1-يحضر العميل إلى البنك ويتقدم بطلب يوضح فيه رغبته في شراء بضائع من الخارج، ويرفق بطلبه فاتورة مبدئية يحدد فيها نوع البضاعة وأوصافها كاملة.
2-يعرض الطلب على إدارة البنك للموافقة عليه بعد التأكد من جدية الطلب والوقوف على مركز العميل المالي.
3-بعد الموافقة على الطلب يوقع العميل مع البنك وعدًا بالشراء يحدد فيه المواصفات الكاملة للبضاعة التي يرغب في شرائها من البنك، ويبين فيه أيضا كيفية وطريقة الشحن والاستلام، كما يحدد في الوعد أيضا السعر الذي سيشتري به البضاعة من البنك.
4-يقوم البنك بفتح الاعتماد لصالحه (أي باسم بنك دبي الإسلامي)، ويرسل الاعتماد إلى المراسل الذي يسلمه إلى المصدر، ويحتفظ بصورة طرفه.
5-يقوم المصدر بتحضير البضاعة المطابقة للمواصفات وشحنها، ويقدم مستندات الشحن للبنك المراسل لمطابقتها مع شروط الاعتماد، وفي حالة المطابقة تدفع له القيمة، ويخطر المراسل البنك ويرسل له مستندات الشحن.
6-بعد تملك بنك دبي الإسلامي للبضاعة بطريقة شرعية، يقوم بتوقيع عقد البيع مع عميله طبقا للشروط المتفق عليها في عقد الوعد بالشراء، ويتسلم المتعامل مع البنك البضائع المطلوبة.
المطلب الثالث: التخريج الفقهي للاعتماد المستندي المغطى جزئيا
يكون الاعتماد مغطى جزئيا متى كانت المبالغ المرصودة للاعتماد لا تغطي سوى جزء من قيمة البضاعة موضوع العقد، مما يجعل معه دور البنك ائتمانيا فيما يتعلق بالجزء غير المغطى، بحيث يتولى تغطيته باستخدام أمواله الخاصة مقابل فائدة يتقاضاها جراء ذلك، إضافة إلى العمولة المقررة نظير الخدمة.
وهذا النوع من الاعتماد المستندي يجمع بين خصائص كل من النوعين السابقين، بحيث يضطلع المصرف فيه بدور مزدوج: الأول خدماتي فيما يتعلق بالجزء المغطى، والثاني ائتماني فيما يخص الجزء غير المغطى.
وتقوم البنوك التقليدية بتمويل هذا الاعتماد نظير فائدة، وهو ما لا يمكن للمصرف الإسلامي الإقدام عليه لعلة الربا. والمخرج في تنفيذ هذه العملية أن يتم عبر صيغ التمويل الشرعية التي تطبقها المصارف الإسلامية.
ولمعرفة الصيغة الشرعية الملائمة لتنفيذ هذا النوع من الاعتماد المستندي، يتعين معرفة الأسباب الداعية إليه، وهو ما سنتطرق له في نقطة أولى قبل الحديث عن تخريجه الفقهي في نقطة ثانية.
أولا: واقع الاعتماد المغطى جزئيا.
بتحليل واقع هذه المعاملة يتبين أن العميل -وهو يقدم على هذا الاعتماد- لا يعدو أن يكون أمره على إحدى حالتين:
الأولى: أن تكون لديه الأموال الكافية لتنفيذ عقد الاعتماد، ولكنه ارتأى أن لا يجمد أمواله طيلة المدة الفاصلة بين فتح الاعتماد وتسلم البضاعة، فيعمل على فتح الاعتماد بتقديم جزء يسير من قيمة البضاعة، والباقي يدفعه بمجرد تسليم البنك إياه لمستندات البضاعة.
الثانية: أن يكون لديه خصاص في الأموال اللازمة لتنفيذ العقد، فيضطر للجوء إلى الائتمان المصرفي عبر هذا النوع من الاعتمادات المستندية.
في الحالة الأولى، لكي نتعرف على الصيغة الشرعية الملائمة، لابد كذلك من التمييز بين حالتين:
الأولى: تكون فيها المدة الفاصلة بين أداء البنك لقيمة البضاعة للمصدر، وبين فترة تسلم البضاعة مدة قصيرة.
الثانية: تكون فيها تلك المدة متوسطة وطويلة.
ففي الأولى نرى أن الصيغة المثلى هي صيغة القرض الحسن، أي القرض دون فائدة، وذلك بتقديم المصرف لقيمة الجزء غير المغطى من حسابه لتغطية قيمة البضاعة المراد استيرادها دونما مقابل، وذلك للاعتبارات الآتية:
1-أن المصرف لا يعطل أمواله مدة طويلة.
2-أن المصرف قد استفاد من العملية من خلال العمولة في فتح الاعتماد وفي الجزء المغطى.
3-أن في ذلك إبراز للجانب الأخلاقي والاجتماعي في عمل المصرف الإسلامي.
على أنه قبل الإقدام على العملية وإقراض العميل قرضا حسنا، يتعين على المصرف القيام بدراسة متكاملة للشروع، مع التركيز على شخص العميل وسمعته وقدرته على سداد القرض عند ورود المستندات.
أما في الثانية والتي تكون فيها المدة الفاصلة بين أداء المصرف لثمن البضاعة وتسلم المستندات مدة طويلة، مما يؤدي إلى تعطيل أموال مهمة للمصرف، فنرى أن الصيغة المواتية هي المرابحة للآمر بالشراء في الجزء غير المغطى كما هو الحال في الاعتماد المستندي غير المغطى كليا، بحيث يتجنب المصرف تعطيل جزء مهم من أمواله دون عائد استثماري، كما تمكن العميل من الانتفاع بالدور الائتماني للمصرف.
أما الحالة الثانية والتي يكون فيها خصاص في الأموال لدى العميل، مما يضطره إلى اللجوء إلى هذا النوع من الاعتماد ، فإن صيغة المشاركة هي الصيغة الملائمة لتنفيذ العقد، بحيث يدخل العميل شريكا بذلك الجزء المغطى والمصرف بالجزء الباقي.
وحيث إن القرض الحسن لا يحتاج هنا إلى دراسة، وحيث إن المرابحة سبق ودرسناها في المبحث السابق، فإننا سنكتفي في هذا المبحث بدراسة تخريج الاعتماد المستندي المغطى جزئيا على أساس المشاركة.
ثانيا: تطبيق الاعتماد المستندي المغطى جزئيا على أساس المشاركة
يتم تطبيق الاعتماد المستندي المغطى جزئيا على أساس المشاركة عبر تقديم العميل دراسة وافية للعملية موضوع الصفقة، فيقوم المصرف بدراستها بغرض الاطمئنان إلى نجاعة الصفقة ومردوديتها، وكذا المركز المالي للعميل.
بعد قبول الدراسة، يتم توقيع عقد تمويل بالمشاركة يتضمن التكلفة الإجمالية للصفقة تكون مساهمة العميل فيه بمبلغ الجزء المغطى، والباقي يسهم به المصرف، ويتضمن العقد طريقة توزيع الربح.
بعد ذلك يتولى المصرف فتح الاعتماد المستندي، ويقوم بالإجراءات المصرفية اللازمة لتنفيذه، وبمجرد تخليص البضاعة من الجمارك يقوم بتفويض الشريك تسويق البضاعة وتفويتها.
وبعد تمام الصفقة يأخذ المصرف مستحقاته على فتح الاعتماد المستندي، ويأخذ الشريك مستحقاته نظير قيامه بإدارة العملية التجارية إلى حين تفويت البضاعة وما تبقى من الأرباح يوزع بين الطرفين حسب ما اتفق عليه في عقد المشاركة.
هذا إذا كانت المشاركة ثابتة، وقد يفضل الشريك العميل الاستفراد بالشركة بعد مدة من قيامها حين تتوافر له الأموال اللازمة لذلك، وبخاصة إذا كانت الشركة قد تدوم مدة من قيامها حين تتوافر له الأموال اللازمة لذلك، وبخاصة إذا كانت الشركة قد تدوم مدة أطول، حينها يمكن تطبيق المشاركة المتناقصة بحيث يمكن المصرف الشريك العميل من شراء أسهمه إلى أن تنتهي الشركة في ملكه.
ويطبق بنك ماليزيا هذا الأسلوب على النحو الآتي([35]):
يُطلب من العميل إبلاغ البنك بمتطلبات خطاب الاعتماد الخاص به، ويتفاوض حول بنود عملية التمويل بالمشاركة، فيضع العميل لدى البنك إيداعا بنصيبه في تكلفة السلع المستوردة التي يوافق البنك عليها بمقتضى مبدإ الوديعة، ثم يصدر البنك خطاب الاعتماد، ويدفع العائدات إلى البنك المراسل مستخدما وديعة العميل وأموال البنك الخاصة، ومن ثم يسلم الأوراق للعميل بعد ذلك.ويحصل العميل على السلع،ويتصرف فيها بالأسلوب المذكور في العقد،وتقسم الأرباح الناتجة عن هذه العملية حسب الاتفاق.
خلاصة
من خلال ما سبق بسطه يمكن الخروج بالخلاصات التالية:
-نظرية الاشتراط لمصلحة الغير راجحة في الطبيعة القانونية للاعتماد المستندي، لقرب تفسيرها لالتزام البنك تجاه المستفيد ومطابقتها لصورة الاعتماد المستندي، غير أنه لا ينبغي اعتمادها مستقلة دون إحاطتها بالعرف التجاري لاعتبارين أساسيين:
الأول: أن فكرة الاشتراط قابلة للاهتزاز في الاعتماد المستندي من ناحيتين:
أولاهما: كون المشترط -وهو الآمر- يستطيع نقض الحق الناشئ للمستفيد.
ثانيهما: كون المتعهد يستطيع أن يدفع في مواجهة المنتفع -وهو المستفيد- بالدفوع الناشئة عن علاقته بالآمر المشترط، أو عن علاقة هذا الأخير بالمستفيد.
الثاني: أنه لا الكفالة ولا الوكالة ولا غيرها كانت القصد من فتح الاعتماد المستندي، كذلك الاشتراط لمصلحة الغير ليس أساس هذا العقد، وإنما أساسه توفير عنصر الثقة اللازم بين التجار وبخاصة في التجارة الدولية، الذي يعتبر الباعث الرئيس والدافع الأساس وراء استحداث هذا النوع من التعامل المصرفي.
-فتح الاعتماد الذي يكيفه فقهاء القانون على أساس الوعد بالقرض، جائز من الناحية الشرعية، بناء على قول الفقهاء بلزوم الوعد إذا دخل الموعود بسببه في كلفة والتزام.
- يجوز فتح الاعتماد المستندي المغطى بالكامل لعدم مصادمته لقواعد الشرع وعدم مخالفته لأي أصل من أصوله، ويكيف شرعا على أنه معاملة مستحدثة.
- تكييف الاعتماد المستندي المغطى بالكامل وفق العقود الشرعية المسماة منفردة ومجتمعة، أو على أساس بعض التصرفات المستفادة من الشرع، لا يسلم من القصور لعدم شمول أي منها كل علاقاته وجميع الالتزامات الناتجة عنه.
- لا يجوز فتح الاعتماد المستندي المغطى جزئيا وغير المغطى كليا، لعلة الفوائد الناتجة عن الدور الائتماني للمصرف فيه، إلا عن طريق صيغ التمويل الشرعية.
- ينبغي تطبيق الاعتماد المستندي المغطى جزئيا وغير المغطى كليا، وفق الظروف المحيطة بالعملية، عكس الإطلاق فيها، وذلك كما يأتي:
+ تطبيق المضاربة في الاعتماد المستندي غير المغطى كليا، في الحالة التي لا يتوفر فيها العميل على أي مبلغ من قيمة الصفقة موضوع الاعتماد، حيث يكون قصده الاستفادة من تمويل المصرف.
+ تطبيق المرابحة في الاعتماد المستندي غير المغطى كليا في الحالة التي يتوفر فيها العميل على قيمة الصفقة، ويكون قصده من اللجوء إلى المصرف ضمان حصوله على السلعة على الوجه المطلوب، وعدم تعطيل أمواله ما بين فترة الأداء والحصول على السلعة.
+ تطبيق المشاركة في الاعتماد المستندي المغطى جزئيا، بحيث يكون العميل شريكا بنصيبه المتمثل في الجزء المغطى، والمصرف شريكا في الجزء المتبقى.
تم بحمد الله الذي بنعمته تتم الصالحات
الهوامش
([1])يسمى هذا الغعتماد بالمستندي، تمييزا له عن الاعتماد البسيط لما يتعلق به من مستندات واجبة التقديم من قبل المستفيد.
([2]) الاعتمادات المستندية: دراسة قانونية للأعراف الدولية والقضاء المقارن،د علي جمال الدين عوض،هامش ص: 7. هذا التعريف في عبارته الواسعة يعد من التعاريف الجامعة المانعة، التي يتبين من خلالها قصور العديد من التعاريف الموضوعة في هذا الباب عن إعطاء تصوير دقيق لهذه العملية، ومنها تعريف الأستاذ بوتيلي بلوكاي للاعتماد المستندي بأنه: “تعهد بنكي بأداء مبلغ محدد لشخص معين عند تقديم مستندات محددة في تاريخ محدد” Droit du crédit, Boutelet Blocaille, p. 264..
([3]) العقود وعمليات البنوك، م.س.، ص: 372. ولا يؤخذ على هذا التعريف سوى ربطه الاعتماد المستندي بالتجارة الخارجية (وإن كان هذا ما يجعله أكثر وضوحا)، لأن هذا الاعتماد يمكن فتحه في المعاملات التجارية داخل بلد واحد وإن كانت أغلب استعمالاته في التجارة الخارجية، لذلك نجد الأستاذ علي جمال الدين عوض يعرفه بعيدا عن المجال الجغرافي للعملية موضوع الاعتماد بقوله: “الاعتماد الذي يفتحه البنك بناء على طلب شخص يسمى الآمر، أيا كانت طريقة تنفيذه، أي سواء كان بقبول الكمبيالات أو بالوفاء، لصالح عميل لهذا الآمر، ومضمون بحيازة المستندات الممثلة لبضاعة في الطريق أو معدة للإرسال” الاعتمادات المستندية، م س، ص: 11-12..
([4]) العقـود وعمليـات البنـوك، م.س.، ص: 375، الاعتمادات المستندية، د. علي جمال الدين عوض، ص: 7، موسوعة أعمال البنوك من الناحيتين القانونية والعملية، د. محيي الدين إسماعيل علم الدين: 2/749.
([5]) Le crédit documentaire: étude comparative, Ligia Maura Costa, p. 15.
([6]) الاعتمادات المستندية، د علي جمال الدين عوض، م.س.، ص: 78.
([7]) الأسس القانونية لعمليات البنوك، دة. سميحة القليوبي، ص: 112.
([8]) الاعتمادات المستندية، د علي جمال الدين عوض، م.س. ص: 81.
([9]) أعمال البنوك في القانون المصري، د. أحمد محمد محرز، ص: 240-241.
([10]) موسوعة أعمال البنوك، د علم الدين م.س.: 2/958.
([11]) القانون التجاري: العقود التجارية وعمليات البنوك، د. مراد منير فهيم، ص: 309.
([12]) الاعتمادات المستندية، د. علي جمال الدين عوض، ، م.س. ص: 83.
([13])الغطاء -كما يعرفه الأستاذ علم الدين- هو “ما يقتضيه البنك من الآمر كضمان للحصول على ما يدفعه البنك للمستفيد” موسوعة أعمال البنوك: 2/910-911..
والغطاء إما أن يكون كليا بحيث يغطي قيمة البضاعة كاملة، وإما جزئيا وهو الغالب، وقد لا يحتاج إليه إذا كان العميل ذا سمعة وملاءة جيدة. وهذا الغطاء إما أن يكون نقديا، وإما عينيا على شكل أوراق مالية أو تجارية.
والغطاء إما أن يكون كليا بحيث يغطي قيمة البضاعة كاملة، وإما جزئيا وهو الغالب، وقد لا يحتاج إليه إذا كان العميل ذا سمعة وملاءة جيدة. وهذا الغطاء إما أن يكون نقديا، وإما عينيا على شكل أوراق مالية أو تجارية.
([14]) العقود وعمليات البنوك، د. علي البارودي، م.س، ص: 370.
([15]) مصادر الحق في الفقه الإسلامي، د. عبد الرزاق السنهوري: 2/35.
([16]) المحلى للإمام ابن حزم: 8/28، المسألة: 1125.
([17]) فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب الإمام مالك للشيخ عليش: 1/255.
([18]) شرح مجلة الأحكام العدلية للمرحوم سليم رستم باز اللبناني، ص: 56.
([19]) فقه التعامل المالي والمصرفي الحديث، د. محمد الشحات الجندي، ص: 141.
([20])تعرف الاعتمادات المستندية تنوعا كثيرا في أقسامها حسب ما يفرضه الواقع العملي والشروط المعتبرة في العقود المنشئة لها. انظر في هذا الشأن: موسوعة أعمال البنوك، د. علم الدين، م.س.: 2/755.
و أغلب تقسيمات الاعتماد المستندي تقسيمات شكلية تعتمد على الوصف من زاوية معينة، بحيث يمكن أن تسري هذه التقسيمات باعتبارها أوصافا على نوع واحد، ومثال ذلك أن يكون الاعتماد المستندي قابلا للنقض ومؤيدا في الوقت نفسه، ويكون كذلك محليا وقابلا للتحويل وغير قابل للتجزئة، ومؤجلا ودائريا ومغطى...
ولا يؤثر في الحكم الشرعي كون الاعتماد المستندي ينقسم إلى أقسام متعددة، لأن الأصل والأساس واحد، وإنما تختلف باختلاف ما ترمي إليه من أهداف وما تتضمنه من شروط حسب محل كل منها، ومتى كان محلها مشروعا كان التعامل مشروعا لقوله صلى الله عليه وسلم: “المسلمون عند شروطهم إلا شرطا حرم حلالا أو أحل حراما” رواه الترمذي في السنن، وقال: حديث حسن صحيح، باب: ما ذكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلح بين المسلمين، حديث رقم 1352. ولعموم القاعدة القرآنية: {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} سورة المائدة، الآية: 1 ، ولأن القاعدة عند جمهور الفقهاء أن الأصل في المعاملات الإباحة.
و أغلب تقسيمات الاعتماد المستندي تقسيمات شكلية تعتمد على الوصف من زاوية معينة، بحيث يمكن أن تسري هذه التقسيمات باعتبارها أوصافا على نوع واحد، ومثال ذلك أن يكون الاعتماد المستندي قابلا للنقض ومؤيدا في الوقت نفسه، ويكون كذلك محليا وقابلا للتحويل وغير قابل للتجزئة، ومؤجلا ودائريا ومغطى...
ولا يؤثر في الحكم الشرعي كون الاعتماد المستندي ينقسم إلى أقسام متعددة، لأن الأصل والأساس واحد، وإنما تختلف باختلاف ما ترمي إليه من أهداف وما تتضمنه من شروط حسب محل كل منها، ومتى كان محلها مشروعا كان التعامل مشروعا لقوله صلى الله عليه وسلم: “المسلمون عند شروطهم إلا شرطا حرم حلالا أو أحل حراما” رواه الترمذي في السنن، وقال: حديث حسن صحيح، باب: ما ذكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلح بين المسلمين، حديث رقم 1352. ولعموم القاعدة القرآنية: {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} سورة المائدة، الآية: 1 ، ولأن القاعدة عند جمهور الفقهاء أن الأصل في المعاملات الإباحة.
([21])النظام القانوني للعمليات المصرفية الدولية، م.س.، ص: 139.
([22]) فقه التعامل المالي والمصرفي الحديث، م.س.، ص: 141.
([23]) الأعمال المصرفية والإسلام، د. مصطفى عبد الله الهمشيري، ص: 212.
([24]) فقه التعامل المالي، م.س.، ص: 142.
([25]) البنوك الإسلامية بين النظرية والتطبيق، م.س.، ص: 148.
([26]) فقه التعامل المالي والمصرفي الحديث، م.س.، ص: 146.
([27]) الأعمال المصرفية والإسلام، م.س.، ص: 214.
([28]) الأعمال المصرفية والإسلام، م.س.، ص: 215.
([29]) فقه التعامل المالي والمصرفي الحديث، م.س.، ص: 152.
([30]) فقه التعامل المالي والمصرفي الحديث، م.س.، ص: 153.
([31]) مصادر الحق في الفقه الإسلامي، م.س.: 1/81.
([32]) بنك دبي الإسلامي.
([33]) بنك ماليزيا الإسلامي.
([34]) التعريف ببنك دبي الإسلامي، من كتاب: المصارف الإسلامية ضرورة حتمية، م.س.، ص: 390.
([35]) الممارسات المعاصرة لأساليب التمويل الإسلامية، د. أوصاف أحمد، بحث منشور في مجلة دراسات اقتصادية إسلامية، المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب.