تقديم:
تأخذ علاقات المغرب مع دول القارة الإفريقية المجاورة منها وغير المجاورة منحنيات متفاوتة الطابع والأهمية. فعلى سبيل المثال لا الحصر، يغلب على علاقة النظام المغربي مع جاره الجزائري منذ استقلال البلدين (المغرب والجزائر) عن المستعمر الفرنسي إلى الآن، يغلب عليها الطابع السياسي المتوتر الذي طالما انبثق عن مشاكسة الجزائر للمغرب في تدبيره لملف الصحراء المغربية على حساب التوحد والتآزر الاقتصادي والتنموي بين البلدين. وبصرف النظر عن معاداة بعض الدول الإفريقية الأخرى كنيجيريا وجنوب إفريقيا وأنغولا للمغرب، والتي ما برحت هذه الدول تتبنى مواقف سياسية مضادة للطرح المغربي في هذه القضية عبر إبقائهن على اعترافهن بجبهة البوليساريو، أخذ شكل العلاقات المغربية مع تونس ومصر مثلا أنماطا مغايرة، بحيث انصهرت هذه العلاقات في قالب التبادل التجاري والاستثماري أكثر من أي منحى آخر.
ولطالما وُصفت العلاقات المغربية الرسمية مع دول غرب إفريقيا على وجه التحديد بالعلاقات الأخوية المتجذرة، المتينة والمتميزة..، وذلك نظرا لمجموعة القواسم المشتركة التي تجمع المغرب مع هذه البلدان، من قبيل التموقع الجغرافي والعمق التاريخي والانتماء العقائدي والديني، علاوة على المصالح الاستثمارية والاقتصادية والسياسية المتقاطعة. على هذا الصعيد، إذا نظرنا إلى علاقات المغرب مع دول كالسينغال وساحل العاج والغابون..من زواياها المختلفة، فلا غرابة إن نعتناها بالعلاقات المثالية، نظرا لما ظل يجمع هذه البلدان بالمغرب من وشائج وطيدة على مستويات متعددة.
وبالتالي فإن التساؤل القائم في هذا الاتجاه، والذي يفرض نفسه كإشكال قابل للتحليل والنقاش هو: هل تعود التوجهات الجيو-استراتيجية والسياسية التي يؤسس عليها المغرب علاقاته الجديدة المشتركة مع دول وسط وغرب إفريقيا في إطار ما يسمى بعلاقات التعاون جنوب-جنوب ومنطق رابح-رابح، هل تعود بالنفع العام على شعوب القارة الإفريقية؟ أم أن الأمر لا يكاد يكون مجرد محاولات أو بالأحرى مجرد تصورات تسوقها لنا أنظمة وحكومات الدول الإفريقية في قوالب إعلامية، فيحين أن هدفها الأساسي من وراء ذلك هو خدمة أجنداتها المقتصرة فقط على ضمان استمراريتها في الإمساك بزمام السلطة والحُـكم لأطول الفترات والحقب الممكنة، وذلك في حدود مصالحها الخاصة والضيقة؟
في اتجاه مطابق، دفعت الأزمة الاقتصادية العالمية التي عصفت بالولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا منذ مطلع سنة 2008، دفعت بالمغرب إلى التوجه أكثر نحو عمقه الإفريقي من خلال فتح أسواق واستثمارات جديدة بعدد من بلدان القارة السمراء، حيث لم يمنع انسحاب المغرب من منظمة الاتحاد الإفريقي قبل أكثر من 20 سنة، لم يمنعه من العمل على سبيل التضامن والتعاون الثنائي والجماعي داخل المحور الإقليمي والقطري لإفريقيا. إلا أن الإجراءات والجهود المبذولة من طرف حكومات البلدان الإفريقية لمواجهة التحديات المطروحة في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والأمنية..لم تخرج عن نطاق التبعية للغرب والسير على نهج توصياته وسياساته المفروضة على القارة الإفريقية.
قياسا على ذلك، إذا كانت هناك من فائدة تُـرجى من إقامة علاقات التعاون وأواصر الصداقة والتواصل بين دول القارة الإفريقية سواء أكانت على مستوى علاقة المغرب مع باقي الدول الإفريقية على هامش الزيارات المتكررة لملك المغرب لدول الغرب الإفريقي مثلا، أو على مستوى علاقات دول منظمة الاتحاد الإفريقي فيما بينها، فهي في أن تقْدم حكومات هذه الدول على بلورة فكر جديد يقضي باستنهاض إرادة حقيقية للحد من هيمنة الغرب الأوروبي-الأمريكي على القارة الإفريقية والتدخل في شؤونها ونهب خيراتها وثرواتها وفرض الوصاية والتبعية عليها، ثم العمل على اتخاذ خطوات فعلية وعملية لتحقيق هذا الغرض. من هنا، يجرنا الحديث إلى الوقوف عند إشكال آخر ذو أهمية بالغة وهو: هل تتوفر لدى الحكام الأفارقة العزيمة والإرادة السياسية الجادة للتخلص من غطرسة الغرب وهيمنته على مؤهلات ومقدرات البلدان الإفريقية على مدى الحاضر والمستقبل؟
لعل الأمثلة الواقعية التي سنعرضها كما يلي لإبراز بعض صور وأشكال الهيمنة الغربية على القارة الإفريقية خلال العشرية الحالية، قد تحمل وتعكس لنا الجواب الشافي والضمني على هذه الإشكالات المطروحة:
- نماذج من أشكال الاستعمار الغربي الحديث لإفريقيا:
تتعدد أوجه وأشكال هيمنة الغرب على القارة الإفريقية وتدخله في شؤونها واستنزاف ثرواتها، كانت آخرها وأبرزها خلال السنوات الثلاث الأخيرة، حينما أقدمت القوات العسكرية الفرنسية سنة 2013 الفارطة وبدعم أمريكي على احتلال مالي بدعوى ضبط الانفلات الأمني الذي بلغ مداه معظم ربوع منطقة الشمال المالي، وذلك على إثر إعلان جماعة إقليم أزواد التمرد والعصيان على حكومة مالي المركزية بباماكو العاصمة ابتداء من مارس 2012 والانقلاب عليها. ويعرف عن مالي أنها بلد غني بالثروات الطبيعية كالذهب والنفط واليورانيوم والقطن الفاخر..مما ظل يجذب أطماع القوى الإمبريالية إليها ويسيل لعابها منذ عهود. إلا أن الواقع المرير المرصود هناك، أن الشعب المالي لا يستفيد ولا ينعم بالثروات المستـغَـلة والمستخـرَجة من أرضه، مما أفرز شعورا لدى ساكنة منطقة شمال مالي على وجه الخصوص بالسخط واليأس وعدم الإحساس بالانتماء للوطن. غير أنه ومع مرور الأيام وتفاقم الأزمات تحولت منطقة شمال مالي إلى مجال مفتوح وقابل لإيواء الجماعات المسلحة التي ساهمت في إذكاء حالة التمرد والعصيان المدني والسياسي ضد الحكومة المالية القابعة بالعاصمة باماكو، الشأن الذي حرك النعرة الإمبريالية المصلحية كالعادة عند الفرنسيين، ودفع بالرئيس الفرنسي فرونسوا هولاند للتدخل العسكري هناك عبر احتلال الأراضي المالية لحماية مصالح فرنسا الاقتصادية وتأمين طرقها التجارية الرابطة بين النيجر ومالي تحت غطاء مكافحة الإرهاب، هذا فضلا عن القوات العسكرية الفرنسية المنتشرة في النيجر وتشاد، مما أوحى في ذات السياق أن قضية مكافحة الإرهاب أضحت مطية كبرى للتدخل لحل الأزمات وإدارتها ولغزو البلدان وانتهاك حرمات شعوبها واستغلال ثرواتها أمام خرق سافـر لقواعد وأحكام القانون الدولي. كما بات من المؤكد بالدلائل المادية، أنه لم يكن للقوات العسكرية الفرنسية أن تطأ الأراضي المالية وتحتلها بتلك السرعة المتهورة والقصوى التي اتخذت فيها قرار التدخل، لولا تأييد الرئيس المالي وحكومته السابقة لها بمعية حكومات دول شمال إفريقيا ومن بينها المغرب والجزائر اللتان سمحتا للطائرات العسكرية الفرنسية أن تمر فوق محيطيهما الجويان دون أية قيود أو شروط تذكر. وقد دلت تلك الوقائع والمعطيات المرصودة، أن فرنسا ومن على شاكلتها من الدول الغربية الإمبريالية لا تزال تتعامل مع البلدان الإفريقية بالمنطق والفكر الاستعماري على أساس أن إفريقيا هي منطقة نفوذ لديها رغم مرور أكثر من 5 عقود على استقلال جل بلدان القارة الإفريقية، وهذا ما يبرر التدخل العسكري الفرنسي في مالي بتلك الطريقة التي شهدناها.
على ذات المنوال، ورغم أن فرنسا تدخلت بكامل ثقلها وإمكاناتها المادية والعسكرية لتتسيد مخطط معالجة أزمة مالي، ورغم أنها حققت لنفسها قدرا كبيرا من قائمة مقاصدها ومآربها السياسية والاقتصادية من تدخلها العسكري في مالي، إلا أن فرنسا برئاسة هولاند كما أظهرت بعض المؤشرات، علقت في مستنقع مالي كما علقت من قبلها أمريكا في عهد الرئيسين بوش الأب والابن في العراق، وبالتالي لن تستطيع فرنسا الانسحاب من مالي وسحب قواتها العسكرية بصفة نهائية بنفس السهولة التي دخلت بها هناك، ذلك إن استطاعت الانسحاب من الأساس، فما ستحمله المعطيات والمستجدات القادمة فيما يخص هذه القضية ستكون شاهدة على هذا الطرح.
ب- أزمة جمهورية إفريقيا الوسطى كإحدى صور الهيمنة الغربية على بلدان القارة الإفريقية:
بعض تقويض الوضع في مالي إلى حد معين خلال السنتين الفارطتين، اهتزت القارة الإفريقية مجددا على أزمة جمهورية إفريقيا الوسطى التي احتدم فيها الاقتتال الطائفي بين المسلمين والمسيحيين، والذي تأججت شرارته عندما أطاحت عناصر تحالف "سيليكا" المسلمين في مارس 2013 بالرئيس المسيحي "فرونسوا بوزيزي" المدعوم من طرف المليشيات المسيحية المسلحة داخل البلد. وكما هو واقع الحال في مالي الغنية بالثروات المعدنية والطبيعية، فإن إفريقيا الوسطى كذلك تعد من البلدان الزاخرة بالثروات والموارد المعدنية الهائلة باعتبارها مركزا تجاريا عالميا لاستخراج معدن الماس الثمين، زيادة على مناجم الذهب واليورانيوم وآبار النفط الخام. إلا أنه ورغم ما يتمتع به هذا البلد من خيرات وثروات، ظلت جمهورية إفريقيا الوسطى تصنف كإحدى أشد بلدان العالم فقرا وهشاشة. ولأن الواقع الهش لهذه الدولة الفقيرة ذات الخمسة ملايين نسمة يجعلها مقبلة على أية احتمالات وأية تقلبات سياسية وأمنية طارئة، فإن هذا البلد الذي أطلق عليه البرلمان الفرنسي سنة 1958 اسم جمهورية إفريقيا الوسطى، لم يكد ينعم هو الآخر بطعم الاستقرار قط منذ استقلاله عن فرنسا سنة 1960، حيث عرف عدة انقلابات وانفلاتات أمنية داخلية من جملتها الاستيلاء على السلطة بالقوة على يد الميلشيات المسلحة منذ سنوات الستينيات، وصولا إلى أن تم إسقاط الرئيس السابق "فرونسوا بوزيزي" على يد "ميشيل دجوتوديا" وهو كما تجدر الإشارة أول رئيس مسلم استطاع الوصول إلى حكم جمهورية إفريقيا الوسطى الذي لم يدم طويلا بفعل تخليه عن منصبه بضغط من فرنسا وحلفائها الإقليميين شهر يناير من العام 2014 الجاري بعدما تبين انحياز القوات الفرنسية التي كالت بمكيالين لصالح الأطراف المسيحية في البلاد، حيث أقدمت فرنسا على تجريد المجموعات المقاتلة المسلمة من أسلحتها التي كانت تشكل لها نوعا من الحماية، لتترك السكان المسلمين عرضة للتهجير والتنكيل والقتل من لدن الميلشيات المسيحية التي لم تفعل معهم فرنسا في المقابل كما فعلت مع المسلمين، مما يدل على النزعة العقائدية والدينية الخفية التي تحرك فرنسا، والتي تشكل الدافع الرئيسي لها ولمثيلاتها من القوى الإمبريالية الغربية الكبرى وراء تدخلها في شؤون شعوب القارة الإفريقية وغيرها، والتي أيضا كما أسلفنا لا زال الغرب يتعامل معها على أنها مناطق ذات نفوذ استعماري قديم-جديد، في حين أن التغيير الحاصل في صور وأشكال الاستعمار الحالي والسابق، لهو في الطرق والكيفيات ليس إلا.
ج- التدخل الغربي في أزمة ليبيا 2011 وحجية الشرعية الدولية:
بعد اندلاع الثورة الليبية التي انطلقت في أولى مراحلها على شكل احتجاجات شعبية عارمة ضد نظام العقيد معمر القذافي شهر فبراير 2011 متأثرة حينذاك بأحداث تونس ومصر، سرعان ما تبينت النوايا المبيتة للغرب عقب تدخله العسكري في ليبيا عبر حلف الناتو لحسم المعركة بين الثوار الليبيين وبين القوات الموالية للقذافي، مستخيرة في ذلك قواعد وإجراءات القانون الدولي من خلال استصدارها لقرارات أممية وما إلى ذلك من الغطاءات الشرعية. فقد اعتادت القوى الإمبريالية الغربية خصوصا بعد انهيار جدار برلين أن تستخدم ما يسمى بالشرعية الدولية تمهيدا وتبريرا لتنفيذ رغباتها ومآربها وتكييفها لصالح ذلك حسب كل حالة وحسب كل موقعة. فلكي تصطنع أوروبا وأمريكا لنفسهما واجهة دولية تسمح لهما بالتدخل العسكري في ليبيا وإسقاط القذافي إزاء تدهور الأوضاع الداخلية عندما تحولت الثورة الليبية إلى حرب أهلية بين الثوار وبين كتائب النظام، أصدر مجلس الأمن قرار رقم (19.70) يقضي بإحالة المتورطين في الأزمة الليبية إلى المحكمة الجنائية الدولية وتجميد الأصول الليبية في البلدان الغربية، ثم قرار رقم (19.73) بقضي بفرض الأجواء الليبية كمنطقة حظر جوي آمنة حتى لا يتسنى للطائرات العسكرية الليبية التحليق وقصف المتظاهرين والمدنيين، وقد هَـم الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي أواخر شهر مارس 2011 إلى الإعلان عن بدء تنفيذ قرار مجلس الأمن 19.73 من خلال استئناف عمليات التدخل العسكري لمنظمة حلف الناتو في ليبيا، إلا أنه وبعد تجاوز حلف الناتو لمهامه وأدواره المحددة له في مضامين قرارات مجلس الأمن من خلال تورطه في عمليات حربية عبر قصفه لمواقع مدنية وعسكرية ليبية، اتضح بعد ذلك للمراقبين ولجل الفاعلين السياسيين الدوليين كيف خدع الغرب العالم بتدخله العسكري في ليبيا، حيث لم يكن تدخله بغاية مساعدة الشعب الليبي وحمايته من جبروت القذافي ووضع حد لانتهاكات حقوق الإنسان في ليبيا كما قيل وكما تم تقديمه من تبريرات للرأي العام الدولي، وإنما كان تدخله تمهيدا للسيطرة على أراضي بلد غني بالنفط والغاز.
د- جماعة بوكو حرام النيجيرية: ذريعة لتدخل عسكري غربي مباشر بنيجيريا
ليس بعيدا أن نستخلص من خلال الأوضاع التي شهدتها نيجيريا منتصف العام الحالي أن تكون جماعة "بوكو حرام" النيجيرية والتي انشغلت بها وسائل الإعلام الدولية على إثر عمليات اختطاف التلميذات التي قامت بها عناصر الجماعة المزعومة، لم يكن مستبعدا أن تكون هذه الجماعة صنيعة أمريكية-فرنسية حتى يُتخذ منها مطية لتبرير التدخل العسكري الغربي في نيجيريا.
كما لم تكن أمريكا وفرنسا تحديدا ترغبان في ترك الثروات والمقدرات الطبيعية التي تعج بها نيجيريا عرضة لسيطرة بعض الجماعات الطائشة المصنفة ضمن الجماعات الإرهابية كجماعة بوكو حرام، لهذا سارعت فرنسا لاستئناف تدخلها العسكري بنيجيريا تفاديا لانفلات الأوضاع هناك من بين أيديها. كما ليس من الغرابة أن نقول أن تحالف الغرب الأمريكي الأوروبي يملك دهاء وبراعة غير مسبوقين في تلفيق الحكايات والروايات والتهم لتشويه الإسلام ضد من يشاء ولصالح من يشاء، من خلال حبك حكايات وروايات من قبيل ممارسة الإرهاب وعدم احترام حقوق الإنسان وغياب الديمقراطية...إلخ. ففي الأمس القريب نهجت الإدارة الأمريكية نفس الألاعيب والخدع عند احتلالها للعراق وأفغانستان، كما اتخذت من جماعة تنظيم القاعدة عدوة لها بعد أن كانت هي من صنعتها وهي من دعمتها بالمال والسلاح لمحاربة الروس عقب سقوط الاتحاد السوفياتي.
بالإمعان في التصريحات الرسمية للرئيس الأمريكي باراك أوباما والرئيس الفرنسي فرونسوا هولاندا بخصوص نشاطات جماعة بوكو حرام داخل نيجيريا، علاوة على تصريحات لمسؤولين بدولة الكيان الصهيوني التي دخلت على الخط حول قضية اختطاف 276 تلميذة من مدرسة ثانوية بنيجيريا من طرف جماعة بوكو حرام، ظهر أن مهندسو النظام العالمي الجديد جهزوا سريعا للتدخل العسكري الجديد في نيجيريا كما كان الشأن في مالي وجمهورية إفريقيا الوسطى..خصوصا إذا علمنا أن نيجيريا تصنف من بين البلدان المنتجة للنفط وتحتل مراتب جيدة معية الدول صاحبة أكبر احتياطي للبترول في العالم.
إن التأكيد على صحة هذا الحديث يتجلى في خبر انعقاد قمة إفريقية مصغرة بباريس يوم السبت 17 ماي 2014 بزعامة فرونسوا هولاندا وحضور رؤساء دول نيجيريا والتشاد والنيجر والكاميرون، إضافة إلى ممثلين عن بريطانيا وأمريكا والاتحاد الأوروبي، حيث تمثلت الغاية من عقد هذا اللقاء في تلقين استراتيجية غربية أمنية جديدة للحكومة النيجيرية لمواجهة جماعة بوكو حرام والتي من المفترض أن يسهر على تنفيذها الرئيس النيجيري حليف فرنسا وأمريكا "غودلاك جوناثان".
لم تخلو هذه القمة من تصريحات جوفاء ومستفزة التي جاءت على لسان الرئيس الفرنسي "فرنسوا هولاند" الذي بات منذ دخوله قصر الإليزيه يتدخل فيما لا يعنيه في سياسات وشؤون الدول الإفريقية، في مقابل تركه ما يعنيه في الشؤون الفرنسية الداخلية، حتى أن حزبه وبعلة سياسته المتذبذبة التي مارسها على مدار السنتين المنصرمتين قد تلقى هزيمة تاريخية نكراء في الانتخابات المحلية الفرنسية الأخيرة.
معروف عن الغرب أنه لا يجازف عادة في تسخير وتوظيف إمكاناته المادية واللوجيستيكية والعسكرية لإنزالها في بلد معين والتدخل في شؤونه إلا عندما يستشعر بأن مصالحه الاستراتيجية والاقتصادية الخاصة أضحت مهددة من طرف جهات معينة أو بفعل أوضاع مستجدة في ذاك البلد. فإذا استجمعنا بعض المعطيات المرصودة حول قضية جماعة بوكو حرام النيجيرية، من قبيل : أن بوكو حرام هي جماعة متطرفة تنشط في نيجيريا منذ سنة 2002؛ ثم نضيف التصريحات الأخيرة لرؤساء الدول الغربية كفرنسا وأمريكا وتظاهرهما بالقلق حول الأوضاع الداخلية في نيجيريا؛ وأخيرا عقد قمة إفريقية مصغرة بباريس لتدارس القضية..كلها معطيات أشرت على بوادر تدخل عسكري غربي مباشر في نيجيريا وتعزيز هذا التواجد الغربي العسكري، خصوصا بعدما تحولت جماعة بوكو حرام إلى مصدر حقيقي محدق بزعزعة النظام الحاكم في نيجيريا المتحالف مع الغرب، ومن ثمة تهديد المصالح الغربية هناك.
2 العوامل المؤسسة لهيمنة الغرب على بلدان القارة الإفريقية ورهانات بناء إتحاد إفريقي قوي:
إن الاستشهاد بأحداث ووقائع التدخل العسكري الفرنسي في مالي وفي جمهورية إفريقيا الوسطى وقصف حلف الناتو لليبيا سنة 2011 كإحدى النماذج لتبيان واقع الهيمنة الغربية على القارة السمراء التي طالت مداها ليس فقط على المستويات السياسية والاقتصادية والثقافية بل والعسكرية أيضا، لهي أبسط برهان للتمييز بين نمط التعامل السياسي والفكري لدول الشمال ذات الفكر الاستعماري (أوروبا) ودول الجنوب ذات الفكر التبعي (إفريقيا). ويبدو للوهلة الأولى أن التفكير في كيفية تخلص دول القارة الإفريقية من ويلات الهيمنة الغربية الاستعمارية الامبريالية لهي مجرد أماني وأحلام قد ترتقي إلى مرتبة الوهم، خصوصا إذا ما وضعنا أنفسنا أمام مقاربة واقعية في إفريقيا، وهي أن الذي يجمع بين تحالف قوى الغرب الأوروبي الأمريكي عندما يبادرون إلى إنجاز وإتمام مخططاتهم للسيطرة والهيمنة السياسية والاقتصادية على دول القارة الإفريقية، ما يجمعهم هو التنسيق والتوافق فيما بينهم لمحاصرة بعض القوى الاقتصادية الصاعدة في المنطقة كالصين مثلا، في مقابل أن ما يفرق بين أوروبا وأمريكا في ذات المنحى هو التنافس والتسابق على من يبسط سيطرته ونفوذه داخل المحيط الإفريقي أكثر من الآخر، في حين أن الذي يجمع بين أنظمة وحكومات البلدان الإفريقية هو الانصياع والخضوع للغرب، في الوقت الذي تفرقهم الخلافات والنزاعات السياسية الإقليمية. ولعل نتائج وانعكاسات هذه التبعية الإفريقية للدول الغربية والاعتماد عليها بشكل كبير عوض الاعتماد على الذات، تفرز لنا بإيجاز: قارة أوروبية وأخرى أمريكية غنية وقوية مقابل قارة إفريقية فقيرة وضعيفة.
من المعلوم أن أسباب فقر وضعف بلدان القارة الإفريقية بشمالها ووسطها وجنوبها على كثير من الأصعدة الاجتماعية منها والاقتصادية والسياسية والعلمية..لا يتمثل في عدم توفر القارة على الموارد والمؤهلات الطبيعية أو في نقصان لديها في الإمكانات البشرية، وإنما تتحدد عوامل فقر وضعف بلدان القارة الإفريقية بالأساس في غياب العلم والمعرفة، أو بشكل أوضح في غياب الاستثمار في مجالات العلم والمعرفة، ولعل ما يعكس هذا الوضع الذي تتخبط فيه القارة الإفريقية في المقام الأول، هو انعدام الإرادة السياسية للحكومات والأنظمة الحاكمة لمعظم البلدان الإفريقية في الاعتماد على العمل البناء وعلى العلم والمعرفة بجميع تفرعاتها كسبيل لمواجهة اختلال التوازن واتساع الفجوة الحضارية بين دول الشمال ودول الجنوب في العالم، على اعتبار أن قياس نسب التطور في مجالات العلم والمعرفة والتكنولوجيا في العصر الحديث هو البوصلة الحقيقية التي يمكن أن نعتمدها لإدراك مدى تطور الشعوب والاتحادات الدولية والمقارنة فيما بينها. وبالتالي فإنه رغم وجود منظمة الاتحاد الإفريقي التي تأسست سنة 2002 على أنقاض منظمة الوحدة الإفريقية سابقا، إلا أن هاته المنظمة القارية وبناء على مدى تأثير وجودها المحدود في الساحة الإقليمية والدولية، فإنها تبدو كمجرد كيان ضخم على شكل جسد بلا عقل يفكر ويخطط أو هيكل بلا روح تستشعـر وتقرر، خصوصا إذا ما شئنا مقارنة هذه المنظمة بمنظمة الاتحاد الأوروبي وبمدى تأثير هذه الأخيرة داخل الحياة الدولية، مع الوعي بشساعة الفوارق بين الاتحادين إن على مستوى النشاطات الاقتصادية المحققة لكل منهما أو على مستوى القرارات السياسية المتخذة، وشتان هنا بين الثرى والثريا.
ب- آفاق بناء اتحاد إفريقي قوي ودور الدبلوماسية المغربية:
إن الحديث عن المغرب وعن منظمة الاتحاد الإفريقي من الوجهة الدبلوماسية والسياسية وكذا الاقتصادية، يدفعنا لفتح النقاش القديم الجديد حول وضعية المغرب في القارة الإفريقية وموقفه من منظمة الاتحاد الإفريقي على وجه الخصوص، وهو جانب مرتبط بموضوع الهيمنة الغربية على الدول الإفريقية. فتأسيسا على الزيارات الملكية لبعض الدول الإفريقية خلال العامين الأخيرين (مالي، السينغال، ساحل العاج، غينيا، الغابون) والتي تداولتها وسائل الإعلام الوطنية والدولية بمواقف متباينة، يظهر وكأن الفرصة أضحت سانحة للتأمل في احتمال عودة المغرب إلى حضن الاتحاد الإفريقي. ورغم أن المغرب كان من أبرز الأعضاء المؤسسين لمنظمة الوحدة الإفريقية سنة 1963، إلا أنه سنة 1984 ونظرا لمسببات قائمة ومعروفة، اضطر للانسحاب من هذه المنظمة القارية التي تغير اسمها سنة 2002 إلى "منظمة الاتحاد الإفريقي". حيث تعود دواعي وبواعث انسحاب المغرب من المنظمة حينذاك، عندما وافقت منظمة الوحدة الإفريقية بإيعاز ومكر من الجزائر على انضمام جبهة البوليساريو باسم الجمهورية العربية الصحراوية كعضو في المنظمة، فكان انسحاب المغرب حينئذ بمثيلة رد فعل وموقف سياسي مضاد على التحول الطارئ في التفاعل المخيب لدى دول منظمة الوحدة الإفريقية، وقد ظل تواجد جبهة البوليساريو باسم الجمهورية العربية الصحراوية كعضو داخل منظمة الاتحاد الإفريقي لحد الساعة مثيرا للاستهجان نظرا للموقف السلبي الذي اتخذته هذه المنظمة القارية من قضية الوحدة الترابية المغربية من خلال تغليب التوظيف السياسي للقضية على حساب الأخذ بعين الحسبان للخلفيات والحقائق التاريخية لمغربية الصحراء، بل والأدهى من ذلك أن منظمة الاتحاد الإفريقي مع إبقائها إلى يومنا هذا على عضوية جبهة البوليساريو كطرف محسوب على المنظمة، فإنها من منظور علم العلاقات الدولية تكون قد قفزت على أبسط أبجديات القانون الدولي، حيث من المتعارف عليه أن حصول بلد معين على عضوية داخل منظمة دولية رسمية حكومية، يفترض أن يكون هذا البلد مستوفيا للمعايير القانونية الكاملة المخولة له اكتساب شكل وطابع الدولة الحديثة، وقواعد القانون الدولي في هذه الجزئية الهامة تُعرف وتحدد معايير الدولة الحديثة في الآتي: أن تتكون من سلطة سياسية وسكان ورقعة جغرافية ذات حدود معينة إضافة إلى معيار الاعتراف الدولي بها، فبناء عليه: كيف لجبهة البوليساريو التي أعلنت عن تأسيس جمهوريتها المستقلة -الوهمية- من موقعة تندوف المتواجدة خارج الحدود المغربية، أن تكون عضوا بمنظمة دولية حكومية أي منظمة الاتحاد الإفريقي! وهنا يثور الإشكال حول الأهلية القانونية الدولية لجبهة البوليساريو ومدى قدرتها السياسية والدبلوماسية على إقامة علاقات ثنائية أو جماعية مع دول أخرى.
ويبقى ملفتا للانتباه، أن المغرب على الرغم من انسحابه من منظمة الاتحاد الإفريقي منذ سنوات عديدة، إلا أن علاقاته الثنائية والجماعية مع عدد من الدول الإفريقية على المستويين السياسي والاقتصادي –كما ذكرنا سابقا- اتسمت بالمتميزة إذا ما استثنينا دولا كالجزائر ونيجيريا وجنوب إفريقيا وليبيا إبان نظام القذافي، حيث يرجع ذلك إلى حرص المغرب الدائم على إرساء علاقات جيدة وإيجابية مع أكبر عدد ممكن من البلدان الإفريقية، وكذا إلى وعي ودراية من بعض قادة دول إفريقيا الغربية بأهمية المغرب كبلد إفريقي، ويقينهم بأن بقاء المغرب خارج منظمة الاتحاد الإفريقي ليس هو الوضع العادي والطبيعي.
ورغم ما يعتري القارة الإفريقية من مخاطر وإكراهات الأوضاع وتحديات القضايا الراهنة كالفقر والتخلف المعرفي وتفشي الأمراض والأوبئة والهجرة غير الشرعية والحروب الأهلية والاقتتال الطائفي والعرقي والصراعات الإقليمية والتسيب الأمني...إلا أن الانتعاشات الطفيفة المسجلة في اقتصاديات بعض الدول الإفريقية في الآونة الأخيرة، والارتفاع النسبي لمعدلات النمو في دول كغانا وساحل العاج وبتسوانا على سبيل المثال، ينبئ من جهة بحصول تغير تدريجي في ملامح القارة الإفريقية مستقبلا على مستوى الأداء الاقتصادي لهذه البلدان، ثم من جهة أخرى يلهم بتحول نسبي في شكل التعاطي السياسي والدبلوماسي لدول منظمة الاتحاد الإفريقي، مما يستوجب على المغرب أن يتدارس سبل عودته الفعلية لمنظمة الاتحاد الإفريقي، حتى ولو سلمنا بأن هذه العودة ستبقى رهينة احتمالين أحدهما مرتبط بالآخر وهما: إلغاء عضوية جبهة البولساريو من منظمة الاتحاد الإفريقي، أو تسوية ملف الصحراء المغربية بصفة نهائية.
خاتمة واستنتاج:
إن الصورة الأزلية التي يريدها الغرب الإمبريالي صاحب النزعة الاستعمارية أن تظل القارة الإفريقية تعيش على نمطيتها، هي أن تبقى قارة فقيرة وضعيفة ومتخلفة..في مواءمة مع استمرار استغفال الشعوب الإفريقية المغلوب على أمرها، وذلك حتى يتيسر للغرب نهب ثروات القارة واستغلال مواردها وخيراتها، وبالتالي يضمن بذلك عدم اعتراض ومقاومة أية أطراف داخلية أو خارجية محتملة. من هنا يمكن استنباط الإجابة على الإشكالية الكبرى أو بالأحرى المعضلة الكبرى التي شكلت قطب الرحى لهذا الموضوع، والتي تتمحور حول فرضية تحلي حكام دول القارة الإفريقية بالإرادة السياسية الحقيقة من عدمها للتخلص من الهيمنة الغربية.
من الحقائق الحتمية في واقع القارة الإفريقية، أنه لم يكن ليسهل على التحالف الأوروبي الأمريكي توظيف إمكانات ثالث أكبر قارة في العالم لخدمة مصالحه الذاتية فقط، وفرضه الوصاية عليها بتوليه إدارة الأزمات السياسية الحاصلة في مناطق متفرقة من الساحة الإفريقية، لم يكن ليسهل عليه ذلك بالكيفية التي عرفناها وشهدناها دون توفر الاستعداد القبلي والبعدي لدى حكام البلدان الإفريقية لقبول ذلك، والذين من خلالهم يتحكم الغرب في إفريقيا بالوكالة ويفعل بها ما يشاء.
لن تتغير نظرة الأوروبيين والأمريكيين لإفريقيا رغم كل ما يرفعونه ويعبرون عنه من مواقف وشعارات فجة، والتي من جملتها أنه على الغرب الانتقال بعلاقته مع إفريقيا من علاقة إعطاء المنح وإرسال المساعدات إلى علاقة الشراكة والتبادل الثنائيان. شعارات ودعوات تم الإعلان عنها على وجه الخصوص في دورات القمم الأوروبية الإفريقية التي انعقدت أولاها في القاهرة سنة 2000 وكانت آخرها قمة بروكسيل سنة 2014 الجارية، والتي شارك فيها المغرب ممثلا بوزيره في الخارجية.
إلا أنه ومن منطلقنا نقول، أن شعوب القارة الإفريقية لن يُكتب لها التخلص من استغلال وهيمنة الغرب لهم وعليهم وتدخله في شؤونهم الداخلية كصورة من صور الاستعمار الجديد إلا بتوافر عاملين أساسيين وهما:
- أولا: تخلي الأفارقة حكاما وشعوبا عن سياسة التسول وعقلية الاتكال على الإعانات الوافدة من أطراف وجهات مختلفة، مع الاقتناع أنه لن يتأتى ذلك إلا من خلال المراهنة على الذات والاعتماد على النفس كيفما سنحت الظروف وسمحت الإمكانيات، رغم العلم أن هذا المعطى في الوقت الراهن يظل بعيدا غاية البعد عن توجه وعقليات الحكام الحاليين في القارة السمراء برمتها.
- ثانيا: يعتبر العامل الأساسي الثاني جزءا لا يتجزأ من العامل الأول، وهو إقرار وإعمال سياسات إقليمية وقارية شاملة تهدف إلى إخراج الشعوب الإفريقية من براثن الجهل والتخلف العلمي والمعرفي، وهذا هو الدور المنوط (حاضرا ومستقبلا) بالحكومات المحلية وبالقائمين على منظمة الاتحاد الإفريقي، شريطة وكما ذكرنا مرارا توفر الإرادة السياسية الحقيقية لبلوغ هذا المقصد، بالأخص لو كانت هذه الإرادة نابعة من إرادة الشعوب.
وبالتالي ليس ما أفردناه من حلول مبدئية هي عبارة عن حلول بعيدة المنال أو آمال مستعصية التحقيق على الصعيدين النظري والتطبيقي، رغم اليقين أنها صعبة التحقق على المدى القريب، وإنما يبقى الأمر مرهونا بمستوى ومنسوب الوعي لدى الشعوب والنخب السياسية والمجتمعية القادمة في بلدان القارة الإفريقية.