لا بد من الاشارة في بداية هذا المقال إلى الخرق الدستوري الحاصل بمناسبة استمرار اشراف السلطة التنفيذية على مشاريع القوانين التنظيمية المتعلقة بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية والنظام الأساسي للقضاة و علاقة ذلك بمبدأ فصل السلطات , الذي يقتضي عدم تدخل أي سلطة في الشؤون الداخلية لسلطة أخرى, علما أن القوانين التنظيمية هي من صميم الشأن الداخلي للقضاة, و هم من يجب عليهم الاشراف على صياغتها و تدبير مسألة اشراك باقي الفاعلين الممثلين لجميع فئات الشعب المغربي بما يتيح لهم الاستقلال في اتخاذ القرار, ومن تم عرضها على السلطة التنفيذية في أفق عرضها على البرلمان, فالفقرة الأولى من الفصل 78 من الدستور تنص على أنه "لرئيس الحكومة ولأعضاء البرلمان على السواء حق التقدم باقتراح القوانين"، فهنا يتعلق الأمر فقط بحق التقدم بمشاريع القوانين وليس الاشراف عليها و صياغتها, واذا كان الأمر منطقيا وقانونيا بخصوص المجالات التابعة للسلطة التنفيذية, فان الأمر لا يتعلق هنا بقطاع من القطاعات التابعة لها, و انما يتعلق بسلطة قضائية مستقلة عن السلطتين التشريعية والتنفيذية طبقا للفصل 107 من الدستور, ويتعلق كما سلف بالشأن الداخلي للسلطة القضائية, الا أنه مع الأسف فالسلطة التنفيذية في بلدنا لا زالت تتغول على باقي السلطات, حتى وان تعلق الأمر بالسلطة القضائية , ومنهجية عملها على هذا النحو تبعث بإشارات سيئة و طنيا ودوليا، على وجود أزمة ثقة وعدم اعتراف ضمني بمكانة السلطة القضائية.
ان جميع القوانين يجب أن تقدم بشكل يلائم الاتفاقيات الدولية المصادق عليها من طرف المغرب ودستور المملكة, و القوانين التنظيمية هي من ضمن هاته القوانين , لذلك جاءت مذكرة نادي قضاة المغرب حول مشاريع قوانين السلطة القضائية, لشرح الخروقات الواضحة للمرجعيات المذكورة أعلاه , والتي غلبت عليها مع الأسف الطابع الأمني ومحاولة تطويق الثورة الاصلاحية للقضاة الشباب والتي يمثلها نادي قضاة المغرب في أفق القضاء عليها, و كأن مشاريع الحكومة قد تمت صياغتها من طرف مهندسي وزارة الداخلية . ففي الوقت الذي كان على الحكومة أن تقوم بالتنزيل الحقيقي والسليم لدستور 2011 عبر العمل على الاستقلال الفعلي والحقيقي للسلطة القضائية , اجتهدت على وجوب اخضاع القضاة وإرغامهم على العمل مستقبلا في جو يسوده عدم الاطمئنان و الثقة أكثر من السابق.
فاذا عرجنا على مسودة وزارة العدل لمشروع النظام الأساسي للقضاة تطالعنا بعبقرية فذة يروج لها السيد وزير العدل، و هي آلية "القاضي النائب" التي ما أنزل الله بها من سلطان , فهو قاض سيلج المعهد اعتمادا على دبلوم الدراسات العليا أو الماستر و هو ما تخرج بناء عليه أغلب القضاة في السنوات الأخيرة, و يقضي بالمعهد بعد ذلك ثلاث سنوات ليتخرج بعدها قاضي نائب, يقضي بهذه الصفة سنتين بالمحاكم مثله مثل باقي السادة القضاة, و بعد استكمال السنتين يحرر مسؤوله المباشر سواء رئيس المحكمة أو وكيل الملك تقريرا عنه، يعتمد في منح صفة قاضي لهذا القاضي النائب , والا في حالة سلبية التقرير يمكن أن يرجع الى ادارته الأصلية اذا كان موظفا في السابق أو يعين منتدبا قضائيا , مع العلم أنه قضى ثلاث سنوات في التكوين و سنتين داخل المحاكم و هو يفصل في حقوق العباد .
و بعدما أقر الدستور أن قضاة الأحكام لا ينقلون الا بقانون نجد أن مشروع وزارة العدل منح حق الانتداب الى رؤساء محكمة النقض ومحاكم الاستئناف وهو ما يشكل تهديدا خطيرا لاستقلال القضاة خصوصا منهم من لا يسايرون التعليمات, أو بهدف تصفية قضايا معينة و التي تضرب في العمق مبدأ استقلالية و حيادية القضاء .
و يهدف مشروع الوزارة كذلك الى حرمان القضاة من حقهم في الاضراب طبقا لدستور المملكة الذي كفله للجميع ومن ضمنهم القضاة في انتظار صدور قانون تنظيمي له إسوة بباقي الأنظمة القضائية العالمية ومنها القضاء الفرنسي . مرورا بمسألة خضوع القضاة الممارسين المرتبين في الدرجة الثالثة الى ظهير 1974 في حين أن القضاة الجدد سيخضعون الى القانون التنظيمي الجديد فيما يتعلق بالترقية, و لم يسبق لي أن تشرفت بهذه التجربة في أي نظام قضائي في العالم حتى ولو في أكثر الدول تخلفا, يقضي بخضوع قضاة في نفس الدرجة لنظام قانوني مزدوج . و هذه الأمثلة تبقى غيض من فيض مما هو مضمن في مشاريع وزارة العدل و التي عرفت ارتباكا تشريعيا, و لم تستسغ بعد على ما يبدو مسألة استقلالية القضاء و التي هي استقلالية القضاة.
وبالرجوع الى مذكرة نادي قضاة المغرب والمتعلقة بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية والتي تعتبر رائدة في بلادنا, أشار فيها الى الخطوط العريضة التي يجب أن يتضمنها هذا القانون اذا ما اردنا أن نتحدث عن اصلاح حقيقي للقضاء و ليس اصلاح تجميلي وترقيعي, والتي يمكن تلخيص البعض منها كما وردت بمقترحاته , في ضرورة إقرار مبدأ الانتخاب كأسلوب لاختيار الرئيس الأول بمحكمة النقض والوكيل العام للملك لديها من طرف القضاة أنفسهم، على أن يوافق الملك بظهير على تعيينهما من قبل المجلس الأعلى للسلطة القضائية انسجاما مع الفصل 57 من الدستور, و تحديد ولاية الرئيس الأول لمحكمة النقض والوكيل العام للملك بها على غرار باقي الأعضاء من القضاة المنتخبين في المجلس الأعلى للسلطة القضائية في أربع سنوات غير قابلة للتجديد من أجل العمل على تجديد النخب القضائية , ولمحاربة الريع القضائي والتقلد في المناصب مدى الحياة، إذ لا يمكن تجسيد مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة ما لم يتم تحديد مدة ممارسة المهام. وبخصوص انتخاب القضاة لأعضاء المجلس الأعلى للسلطة القضائية الذين يمثلون محاكم الدرجة الأولى, ضرورة الإبقاء على الشرط الديمقراطي القائم على عدم اشتراط أي سن أو أقدمية معينة للترشح لعضوية المجلس ضمانا لتمثيلية القضاة الشباب و تكافؤ الفرص، و أن يتم الانتخاب وفق أسلوب الاقتراع السري المباشر وبنمط الاقتراع الفردي بالأغلبية النسبية على أساس وطني لا جهوي . ويؤكد في هذا الصدد على عدم امكانية تعيين الأعضاء المعينين من ضمن شخصيات تنتمي إلى السلطة التنفيذية أو التشريعية في المجلس الأعلى للسلطة القضائية, واعتبار الانتماء إلى إحدى السلطتين بمثابة حالة للتنافي, كما يتعين النص على حالات تضارب المصالح التي تتعارض مع تعيين هذه الشخصيات أو استمرار عملهم بالمجلس . والعمل على تعزيز ضمان الاستقلال المالي للمجلس الأعلى للسلطة القضائية و ذلك من خلال مشاركة المجلس في اعداد ميزانية السلطة القضائية, و توفير جميع الامكانيات والموارد لتطلع السلطة القضائية و أعضائها بدورهم في حماية الحقوق الفردية و الجماعية للمواطنين . اضافة الى التأكيد على جعل صلاحية البت في الوضعية الفردية للقضاة من اختصاص الأعضاء المنتخبين بالمجلس فقط دون المعينين . اضافة الى اقتراح إنشاء مجلس الدولة ـ بوصفه أعلى هيأة إدارية بالمملكة ـ للفصل في الطعون المتعلقة بالوضعيات الفردية للقضاة وفقا للمستجدات الدستورية, باعتبار إنشاء المحكمة المذكورة هو الضمان الأساسي لعدم خضوع الجهة المكلفة بالنظر في الطعون المتعلقة بالوضعية الفردية للقضاة لنفوذ و سلطة القضاة الأعضاء المعينين في المجلس بقوة القانون.
من هنا يمكن أن نؤكد على صوابية قرار نادي قضاة المغرب بمقاطعة الحوار الوطني وذلك بعد اقصائه من الهيئة العليا لإصلاح منظومة العدالة, و دلالة فشل هذا الاصلاح هو صدور مسودة مشاريع تفتقر الى الملائمة مع المقتضيات الدستورية الأخيرة, والتي سطرت من أجل التنظير لسلطة قضائية حقيقية, و مرد ذلك اغراق هاته الهيئة بشخصيات من السلطة التنفيذية، لا علاقة لها بالنظام القضائي, و عدم تركيز محطات الحوار الوطني على المشاكل الحقيقية التي تعرفها منظومة العدالة و سبل معالجتها, والاكتفاء بمناقشات سطحية باعتراف المشاركين فيها. من هنا جاءت مذكرة نادي قضاة المغرب لدق ناقوس الخطر, لكون مسودة مشاريع وزارة العدل تروم الالتفاف على المكتسبات الدستورية التي أتى بها دستور 2011 و محاولة ابقاء القضاء والقضاة في وضعية قانونية و مادية هشة. لذلك فان نادي قضاة المغرب سيتحمل مسؤوليته التاريخية للدفاع عن الاستقلال الفعلي والحقيقي للسلطة القضائية ليس فقط في علاقتها بالسلطة التنفيذية , لكن حتى في علاقة القاضي بمسؤوله الاداري درأ لأي تعسف , وهو مبدأ من بين ما قام عليه منذ نشأته تحت أشعة الشمس الحارقة في شهر رمضان المبارك من سنة 2011 , وسيكون مضطرا لاتخاذ كافة الخطوات اذا ما تمت صياغة قوانين تنظيمية تهدم مبدأ استقلالية القاضي و القضاء التي قام عليها الدستور المغربي عبر ضمانات صورية .
ان القضاء يبقى هو الحصن المنيع لضمان حقوق المواطنين اذا ما انتهكت , فجل الأنظمة القضائية المتقدمة في عصرنا والنظام القضائي الذي بني على عهد الخلافة الاسلامية, أسس على منح كافة الضمانات للقضاة للعمل في جو تسوده الطمأنينة وعدم الخوف, لضمان عدم الانتقام من القضاة نتيجة أحكام صدرت باسم العدل ولا تساير المصالح الشخصية لفئة أو سلطة معينة, و لعل التاريخ القضائي لبلدنا و تقارير هيئة الانصاف والمصالحة لخير دليل على ذلك, لهذا كله فالكل يتحمل المسؤولية التاريخية بسعيه من أجل اخراج سلطة قضائية ضعيفة الضمانات و الصلاحيات, أو يقف موقفا محايدا في حين أن المرحلة تتطلب العمل و الجهر بالحق, وما لذلك من أثر على مستقبل بلدنا والأجيال القادمة.