المقدمة:
إن عيش الانسان في نسيج الجماعة, إطار تتضارب فيه الحقوق و الالتزامات و تتصادم فيه الغايات و المصالح, و مخافة ضياع الحق أو سلبه, عمدت التشريعات الوضعية إلى إقرار أحكام الضمان, و المشرع المغربي لم يكن في منأى عن ذلك.
فإلى جانب الضمانات الشخصية كالكفالة[1], نظم المشرع المغربي مؤسسة الضمانات العينية, التي يعتبر الرهن الحيازي أحد أبرز صورها, هذا الأخير الذي قد يقع على المنقول كما قد يقع على العقار, و لعل هذا الأخير – و هو موضوع دراستنا- يحتل أهمية بارزة على مستوى الواقع العملي, نظرا لما تعرفه المعاملات العقارية من تطور و سرعة في الانتشار, الشئ الذي جعل المشرع المغربي ينظمه ابتداء في قانون الالتزامات و العقود من خلال الفصول 1170 إلى 1240, و كذا في إطار القانون 39.08 بمثابة مدونة الحقوق العينية, من خلال المواد من 145 إلى 164. و نظرا لأهمية موضوع الرهن كضمانة عينية فقد دعت إليه الشريعة الإسلامية في غير ما مناسبة, و حسبنا في هذا المقام قوله جل في علاه: " و إن كنتم على سفر و لم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة"[2].
و عموما يمكن تعريف الرهن الحيازي للعقار,بأنه حق عيني يقع على عقار يضعه مالكه في حيازة الدائن أو الغير المتفق عليه ضمانا لالتزام واقع عليه أو على غيره, و يخول الدائن حق حبس العقار حتى الوفاء بالدين و بيعه و استيفاء دينيه بالأولوية[3].
و بناء على التعريف أعلاه, فإن من خصائص الرهن الحيازي للعقار, كونه حقا عينيا و حقا تبعيا, إلى جانب كونه حقا غير قابل للتجزئة[4].
من خلال ما سبق يتضح أن الرهن الحيازي العقاري يحمل أهمية بالغة تتجلى أساسا في قيمته القانونية كضمان عيني في يد الدائن لأجل استيفاء دينه في ذمة مدينه.
و يحاول الموضوع تبني طرح فريد مفاده البحث في القيمة القانونية لعقد الرهن الحيازي العقاري من خلال دراسة آثاره, تتفرع عنه مجموعة من الأسئلة من قبيل؛ كيف يمكن الحديث عن الرهن الحيازي للعقار كضمانة عينية؟ ما هي مختلف الآثار الناجمة عن عقد الرهن الحيازي العقاري؟ و ما هي مختلف الحقوق و الالتزامات التي يلقيها هذا الرهن على عاتق كل من المدين الراهن و الدائن المرتهن؟
و حتى نحيط قدر الإمكان بمقتضيات الموضوع, و نضيف إليه سلامة الشكل وضبط المنهج, فقد ارتأينا تقسيمه إلى مطلبين, نتناول في الأول منهما الضمانات التي يخولها عقد الرهن للدائن المرتهن, على أساس أن نكرس الثاني لمختلف صور الضمان المتعلقة بشخص المدين الراهن.
و بهذا يكون تقسيم موضوعنا وفقا للنسق الآتي:
المطلب الأول: الضمانات المتصلة بشخص الدائن المرتهن
المطلب الثاني: الضمانات المتصلة بشخص المدين الراهن
المطلب الأول: الضمانات المتصلة بشخص الدائن المرتهن
الفقرة الأولى: حقوق الدائن المرتهن
يخول الرهن الحيازي للعقار شخص الدائن المرتهن مجموعة من الحقوق, هذه الأخيرة التي تعتبر في كنهها و جورها نوعا من ضمان الحق في استيفاء الدين, فصاحب الدين المشمول بالرهن يكون أكثر اطمئنانا في استرداد دينه, و من أبرز الحقوق التي يخولها عقد الرهن الحيازي للعقار نسرد الآتي:
- حق حبس العقار المشمول بالرهن
و هذا الحق نصت عليه المادة 155 من م ح ع, حيث جاء فيها مايلي: " يتمتع الدائن المرتهن رهنا حيازيا بحق حبس الملك المرهون...".
و انطلاقا من نص المادة أعلاه فالدائن المرتهن يبقى حائزا للعقار المرهون حتى وفاء المدين الراهن بالدين المضمون بالعقار, و حق الحبس هذا لا يقتصر على أصل الدين فقط, بل يتجاوزه إلى كل ما قد يترتب في ذمة المدين الراهن من التزامات قد يضطر الدائن لصرفها أو انفاقها على العقار الذي يحوز[5].
- الحق في جني الثمار
و يستفاد من نص المادة المذكورة, أن للدائن المرتهن الحق في الاستفادة من الثمار المتولدة عن العقار المشمول بالرهن, كيفما كانت طبيعة هذه الثمار (طبيعية, صناعية, مدنية) و من منظورنا فهذا حق بديهي, فمادام الدائن حائزا للعقار فله الحق في الاستفادة من ثماره, خصوصا و أن المشرع ألزمه بضرورة خصم قيمة هذه الثمار من رأسمال الدين, أي أن الدائن المرتهن ملزم باقتطاع قيمة الثمار التي استفاد منها من أصل الدين الذي في ذمة مدينه الراهن.
- الحق في بيع العقار المشمول بالرهن
و من جهتنا نرى بأن حق الدائن المرتهن في بيع العقار المرهون يشكل ضمانة غاية في الحماية, إذ يحقق الفلسفة المرجوة من تقرير أحكام الرهن الحيازي عامة, فهو ضمانة للوفاء بالدين, و تقرير حق بيع العقار المشمول بالرهن فيه تكريس لهذه الضمانة و زيادة في فعاليتها.
و بيع العقار و الحالة هاته, يكون بالمزاد العلني عن طريق مؤسسة القضاء وفق أحكام قانون المسطرة المدنية, و تجدر الإشارة إلى أنه يمتنع على المرتهن اشتراط تملك العقار المرهون من غير الالتجاء إلى البيع[6].
ونصت صراحة على أحكام البيع الوارد أعلاه المادة 158, حيث جاء فيها ما يلي: " لا يصبح الدائن مالكا للمرهون بمجرد عدم الوفاء في الأجل المتفق عليه, و كل شرط يقضي بغير ذلك يكون باطلا, و في هذه الحالة يمكنه ان يطالب بالطرق القانونية بالبيع الجبري للملك المرهون.".
- حق الأفضلية في استيفاء الدين
و حق الأسبقية هذا يتجاوز الدين الأصلي الى كافة التعويضات التي قد تترتب على هلاك العقار المرهون أو تعيبه, و هذا ما نص عليه عليه الفصل 1181 من ق ل ع[7], بالإضافة إلى ذلك فحق الأسبقية يمتد حتى بالنسبة للمصروفات النافعة و الضرورية لصيانة العقار المرهون[8], و هذا ما كرسته المادة 160 من المدونة, حيث جاء فيها: " يجب على المدين ان يؤدي للدائن المرتهن المصروفات الضرورية التي انفقها على الملك المرهون لديه.".
الفقرة الثانية: التزامات المدين الراهن
- عدم انقاص ضمانات الرهن
و ترجع الغاية الأساس من تقرير هذا الالتزام على عاتق المدين, في كون الرهن الحيازي العقاري, قررت أحكامه ابتداء لضمان الوفاء بالدين, و بالتالي فهو بمثابة الضمانة العينية الموضوعة رهن إشارة الدائن المرتهن, التي تخوله من جهة ضمان استيفاء حقه, كما تشكل من جهة اخرى و سيلة أساسا في ضمان استقرار المعاملات و تحقيق التوازن العقدي, و بالتالي فالمدين الراهن يبقى ملتزما في إطار عقد الرهن بعدم اتيان أي عمل من شأنه أن ينقص من قيمة الضمان الممنوح بموجب الرهن.
- إرجاع نفقات الدائن المرتهن
و هذا التزام بديهي, فإذا حدث و أن أدى الدائن نفقات معينة بموجب صيانته و حفظه للعقار المرهون, فإن المدين ملزم بردها, و إلا دخل في حكم المثري بدون سبب مشروع على حساب الغير.
المطلب الثاني: الضمانات المتصلة بشخص المدين الراهن
الفقرة الأولى: حقوق المدين الراهن
إن دراسة حقوق المدين الراهن, تحتمل اعتبارها آثارا لعقد الرهن, كما تحتمل النظر إليها كضمانات يخولها عقد الرهن نفسه لطرفيه, و سنعمد من خلال هذه الفقرة إلى دراسة هذه الحقوق باعتبارها وجها من أوجه الضمان.
- ملكية ثمار العقار المرهون
و انطلاقا من مقتضيات المادة أعلاه, فإن ثمار العقار المرهون تكون للدائن المرتهن إذا نص صراحة على ذلك عقد الرهن, و بمفهوم المخالفة فإذا لم ينص العقد على هذا الشرط فإن الثمار تبقى في ملكية المدين الراهن.
- حق المدين في استرجاع العقار قبل تاريخ الاستحقاق
فاذا لم يقبل الدائن هذا الوفاء فان للراهن ان يقوم بعرض الدين عرضا عينيا حقيقيا ثم ايداعه بصندوق المحكمة, و تحكم المحكمة برد الملك لمالكه و بانقضاء الرهن بعد التحقق من أداء الدين بكامله. ".
الفقرة الثانية: التزامات الدائن المرتهن
في مقابل الحقوق التي يخولها عقد الرهن الحيازي للعقار لشخص الدائن المرتهن, فإنه في المقابل يلقي على عاتقه مجموعة من الالتزامات, و التي تشكل إذا نظرنا إليها من جانب المدين, ترسانة من الضمانات المقررة لفائدته.
- حفظ العقار المرهون و صيانته
و يدخل في حكم الحفظ و الصيانة أداء جميع التكاليف و التحملات السنوية المتعلقة بالعقار موضوع الرهن, و يجد هذا الالتزام سنده القانوني في المادة 157 من م ح ع التي نصت على الآتي: " ان الدائن ملزم بأداء التكاليف و التحملات السنوية الخاصة بالعقار الذي بيده على وجه الرهن الحيازي ما لم يقع الاتفاق على خلاف ذلك.
و يجب عليه ايضا ان يقوم بالترميمات و الاصلاحات النافعة و الضرورية للعقار, مع بقاء الحق له في ان يقتطع من الثمار جميع المصروفات المتعلقة بما ذكر و إلا كان مسؤولا عن تعويض الضرر.".
- رد العقار المرهون
و بالتالي فإذا استوفى المرتهن حقوقه ألزم برد العقار المرهون حيازيا الى المدين الراهن, واذا امتنع عن ذلك, كان من حق الراهن أن يقاضيه مع حفظ حقه في التعويض عن أي ضرر قد ينجم جراء التأخر في الرد[10].
- خصم الثمار من أصل الدين
الخاتمة:
حاول الموضوع دراسة مؤسسة الرهن الحيازي العقاري, انطلاقا من اعتباره ضمانة عينية, تخول كلا طرفيها مجموعة من الضمانات التي تحقق التوازن العقدي و تضبط أساليب استقرار المعاملات العقارية, و ذلك من خلال التركيز على جملة من الآثار التي يرتبها عقد الرهن الصحيح القائم مكتمل الأركان و الشروط, و التي لا تخرج في عموميتها عن حقوق كل و من الدائن المرتهن و المدين الراهن, و كذا الالتزامات الواقعة على عاتق كليهما.
و من خلال ما سبق سجلنا مجموعة من الملاحظات لعل أبرزها:
- أن الرهن الحيازي على العقار آلية فعالة في ضمان الحقوق وأداء الديون، فوضع العقار تحت يد الدائن وتخويله امكانية بيعه يجعل المدين ملزما بأداء الدين داخل أجله خوفا من خروج عقاره من ملكه بشكل تام.
- أن الدائن المرتهن يقوم مقام الشخص الحارس للعقار المرهون، فمادام هذا الأخير في حيازته فهو مسؤول عن حفظه وصيانته حفظ الرجل الحريص المتبصر كما أنه ملزم بأداء كل النفقات والأعباء السنوية المترتبة عن هذا العقار، حتى لو كان هذا الأخير مجرد وسيلة للضمان فقط.
- أنه وعيا من المشرع المغربي بأهمية مؤسسة الرهن الحيازي في ضمان الحقوق وضمان استقرار المعاملات، فقد أفرد ترسانة متينة من النصوص القانونية لتنظيمها، ونجده بذلك نظم الرهن الحيازي في الفصول من 1170 الى 1240 من ق.ل.ع الى جانب افراد المواد من 145 الى 164 من م.ح.ع، وبهذا يكون قد وضع اطارا قانونيا محكما لتنظيم
مقتضيات هذه المؤسسة وجعلها فعالة بالشكل المرمي من وراء تفعيلها.
لائحة المراجع:
- مأمون الكزبري،التحفيظ العقاري و الحقوق العينية الأصلية و التبعية في ضوء التشريع المغربي, الجزء الثاني, الحقوق العينية الأصلية و التبعية, الطبعة الثانية, العربية للطباعة و النشر, الرباط, 1987
- محمادي المعكشاوي ، المختصر في شرح مدونة الحقوق العينية الجديدة، الطبعة الاولى, مطبعة النجاح الجديدة الدار البيضاء 2013
- المختار بن أحمد العطار، التحفيظ العقاري في ضوء القانوني المغربي، الطبعة الأولى، مطبعة النجاح الجديدة الدار البيضاء، 2008
- إدريس الفاخوري, الحقوق العينية وفق القانون رقم 39.08,طبعة 2014 مطبعة المعارف الجديدة, الرباط
- إبراهيم فكري, المدخل لدراسة القانون " نظريتا القانون و الحق" الطبعة الأولى, مطبعة النجاح الجديدة, الدار البيضاء, 2001
[1] نظمها المشرع المغربي في القسم العاشر من الكتاب الثاني: في مختلف العقود المسماة و في أشباه العقود التي ترتبط بها, من قانون الالتزامات و العقود, بحث أفرد لها الفصول من 1117 إلى 1169.
[2] سورة البقرة, الآية 283.
[3] مأمون الكزبري, التحفيظ العقاري و الحقوق العينية الأصلية و التبعية في ضوء التشريع المغربي, الجزء الثاني, الحقوق العينية الأصلية و التبعية, الطبعة الثانية, العربية للطباعة و النشر, 1987, ص 307.
[4] للمزيد من التفصيل حول خصائص الرهن الحيازي العقاري, ينظر الكزبري, مرجع سابق, ص 307 و مابعدها. إدريس الفاخوري, الحقوق العينية وفق القانون رقم 39.08,طبعة 2014 مطبعة المعارف الجديدة, الرباط ص 187 و ما بعدها, و إبراهيم فكري, المدخل لدراسة القانون " نظريتا القانون و الحق" الطبعة الأولى, مطبعة النجاح الجديدة, الدار البيضاء, 2001, ص 219 و ما بعدها.
[5] المختار بن أحمد العطار، التحفيظ العقاري في ضوء القانوني المغربي، الطبعة الأولى، مطبعة النجاح الجديدة الدار البيضاء، 2008, ص 196.
[6] الكزبري, مرجع سابق, ص 315.
[7] جاء في الفصل 1181 مايلي: " يمتد الرهن الحيازي بقوة القانون الى التعويضات المستحقة على الغير بسبب هلاك المرهون او تعيبه او بسبب نزع ملكيته للمنفعة العامة. و للدائن ان يتخذ كل الاجراءات التحفظية لحفظ حقه في مقدار التعويضات."
[8] العطار, مرجع سابق, ص 197.
[9] محمادي المعكشاوي ، المختصر في شرح مدونة الحقوق العينية الجديدة، الطبعة الاولى, مطبعة النجاح الجديدة الدار البيضاء 2013, ص 287.
[10] العطار, مرجع سابق, ص 198.
[11] الكزبري, مرجع سابق, ص 317.