MarocDroit  -  موقع العلوم القانونية
plateforme des décideurs juridiques - Platform of Legal Decision-Makers



المؤيدات الدستورية لوجوب استقلال النيابة العامة عن وزير العدل"مساهمة في النقاش الدائر بمجلس الحكومة بقلم الأستاذ عبد الله الكرجي

     



المؤيدات الدستورية لوجوب استقلال النيابة العامة عن وزير العدل"مساهمة في النقاش الدائر بمجلس الحكومة بقلم الأستاذ عبد الله الكرجي
 إذا كان استقلال القضاء من أهم مظاهر الدولة المدنية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر فإن اعتبار "القضاء سلطة" يعد من أهم معايير الدولة الحديثة في القرن الحالي، ولعل الحديث كثيرا عن مطلب استقلال السلطة القضائية عن باقي السلط دون الحديث عن استقلال السلطة التنفيذية يرجع لكون هذه الأخيرة هي الأصل تاريخيا ؛ إذ الحاكم كان يجمع بين يديه كافة السلط ، فالتاريخ يخبرنا أنه بفرنسا "قبل الثورة الفرنسية" وغيرها من الدول في تلك الحقبة الزمنية كان الوضع السائد هو مبدأ تركيز السلطات كأساس لنظام الحكم ، فكان هناك ما يسمى بـ "الحكومة الشخصية"؛ حيث تختلط الدولة بشخص الحاكم الذي كان مشرعاً ومنفذاً وقاضياً في آن واحد .

وبالمغرب؛ فإذا كان دستور 2011 قد جاء بباب سابع معنون بـ "السلطة القضائية" ونص في مستهله (الفصل 107) على أن: "السلطة القضائية مستقلة عن السلطة التشريعية وعن السلطة التنفيذية" ، إلا أنه نص في الفصل 110 على أنه: "يجب على قضاة النيابة العامة تطبيق القانون، كما يتعين عليهم الالتزام بالتعليمات الكتابية القانونية الصادرة عن السلطة التي يتبعون لها " دون توضيح لهذه السلطة.
اختلفت آراء وتوجهات مفسري السلطة المقصودة، فكانت تنبع أحيانا عن قراءات علمية محايدة، وفي أحايين غالبة عبرت عن التوجهات الفكرية وحتى الفئوية لبعض الشارحين؛ لذلك ارتأيت اعتماد مقاربة موضوعية تروم تفسير الدستور بباقي نصوصه؛ طارحا سؤال المؤيدات الدستورية لوجوب استقلال النيابة العامة عن وزير العدل؟

تنص الفقرة الثانية من الفصل الأول من الدستور المغربي على أنه: "يقوم النظام الدستوري للمملكة على أساس فصل بين السلط ، وتوازنها وتعاونها ... وربط المسؤولية بالمحاسبة" .

فماذا يقصد المشرع الدستوري بمعنى فصل السلط "وتوازنها وتعاونها؟ (أولا) ؛
وماذا قصد واضعي هذا الدستور بـ " ربط المسؤولية بالمحاسبة"؟ (ثانيا).

أولا ــ معنى فصل السلط:

يعني هذا المبدأ أن كل سلطة من السلطات الثلاث في الدولة تستقل في مباشرة وظائفها الدستورية ؛ ونستخلص معنين لذلك :
ــ الاستقلال العضوي: ويعني تمتع كل سلطة باستقلال ذاتي، وبالتالي عدم تدخل باقي السلط في وظائفها الدستورية.
ــ الاستقلال الوظيفي: ويقصد به أن تختص السلطة التنفيذية بمهة تنفيذ القوانين والسلطة التشريعية بسنها أما السلطة القضائية فتطبقها.
وقد أنتجت التجارب عبر التاريخ شكلين في تطبيق هذا المبدأ وهما:
الأنظمة الرئاسية وبعض دول القانون العام:
أخذت بنظام "الفصل التام بين السلطات"، وتعد الولايات المتحدة الأمريكية نموذجا لهذا النظام؛ وقد صور ودافع "الكزاندر هاملتون" ، وهو أحد واضعي دستور الولايات المتحدة الأمريكية، عن ذلك بقوله: "لا وجود للحرية دون فصل السلطة القضائية عن السلطتين التشريعية والتنفيذية ؛ وما على الحرية أن تخشى أي أمر يتعلق بالنظام القضائي بمفرده؛ ولكن عليها أن تخشى كل أمر إذا ما اتحد القضاء مع أي من السلطتين الأخرتين" .
الأنظمة البرلمانية:
أخذت بنظام التعاون والتوازن بين السلط؛ وهو ما سمي بــ "الفصل المرن" .
فيكون المغرب، بذلك؛ قد أخذ بنظام الفصل المرن بين السلط بتنصيصه على عبارة "وتوازنها وتعاونها".

ثانيا ــ معنى "ربط المسؤولية بالمحاسبة" :

تعد المحاسبة وسيلة لمعرفة نتيجة أعمال مؤسسة ما اعتمادا على مستندات مبررة لها؛ مما يجعلها وسيلة بعدية لا قبلية أو معاصرة لعمل أو أعمال المؤسسة طالما تتعلق بالنتيجة، ناهيك عن كون الذي له سلطة المحاسبة لا يتدخل في التسيير .
فيتعين بذلك تفسير مبدأي التوازن والتعاون وربط المسؤولية بالمحاسبة (الذي أسس عليه أصحاب أطروحة تبعية النيابة العامة لوزير العدل)، وفق معنيي الاستقلال العضوي والوظيفي أعلاه، ووفق مفهوم ربط المسؤولية بالمحاسبة كما شرحناه .
ويتمظهر مبدأ ربط مسؤولية السلطة القضائية بالمحاسبة من خلال الدستور المغربي على مستويين:

1 ــــ تجليات مبدأ ربط مسؤولية السلطة القضائية بالمحاسبة من خلال تركيبة المجلس الأعلى للسلطة القضائية:
وتتأتى المحاسبة وفق المذكور أعلاه من خلال ما أصبح يضمه المجلس الأعلى للسلطة القضائية في تشكيلته من هيآت وشخصيات غير قضائية طبقا للفصل 115 من الدستور؛ كالوسيط ورئيس المجلس الوطني لحقوق الإنسان، ناهيك عمن يمكن تعيينهم من قبل الملك من شخصيات مشهود لها بالكفاءة والتجرد والنزاهة (والذين يمكن أن يكون من بينهم أشخاص غير تابعين للسلطة القضائية) ؛ وهو مظهر من مظاهر الرقابة على أعمال السلطة القضائية من داخل أجهزتها التي تضمنت متدخلين خارجين عن جسمها؛ أليست المحاسبة بعينها ؟؟؟

2 ــ تجليات مبدأ ربط مسؤولية السلطة القضائية بالمحاسبة من خلال المهام الجديدة للمجلس الأعلى للسلطة القضائية:
أضحى المجلس الأعلى للسلطة القضائية يتمتع بوظائف جديدة طبقا للفصل 113 ؛ وعلى الخصوص تلك المتعلقة بإعداد تقارير حول وضعية القضاء ومنظومة العدالة ومعالجتها، ويصدر التوصيات الملائمة ، كما أضاف الفصل المذكور: "يصدر.. ، بطلب من الملك أو الحكومة أو البرلمان، رأيه حول كل مسألة تتعلق بسير القضاء مع مراعاة مبدأ الفصل بين السلط" .

والملاحظ أن هذا الفصل ختم بعبارة مع: "مراعاة مبدأ الفصل بين السلط"؛ فيكون هذا المبدأ حاضرا حتى في حال التعاون بين السلط أو تطبيق مبدأ "ربط المسؤولية بالمحاسبة"، إذ يجب استحضار الاستقلال العضوي والوظيفي الذي شرحناه سلفا .

ولا بد لنا هنا أن نؤكد على أن السلطة التنفيذية بدورها خاضعة لهذا المبدأ، فإذا مارسته بحقها السلطة القضائية فلا يعني البتة تدخل هذه الأخيرة في عملها؛ طالما أن رقابتها أو إعمال محاسبتها سيكون لاحقا لعملها لا معاصرا له.

ولعل هذه الأدوار الجديدة للمجلس الأعلى للسلطة القضائية تخوله وضع التوجهات الكبرى للسياسة القضائية بصفة عامة بما فيها السياسة الزجرية مع إسناد تنفيذها إلى السيد الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض ، باعتباره عضوا في المجلس المذكور، وله سلطة رئاسية على أعضاء النيابة العامة.

كما يقترح نادي قضاة المغرب بعض الضمانات لتحصين عمل الوكيل العام لمحكمة النقض الذي سيشرف على النيابة العامة ؛ وذلك بانتخابه بدل تعيينه .

وقمين بالذكر؛ أن استقلال السلطة القضائية ، وخاصة النيابة العامة ، باعتبارها تمثل الحق العام يعد مصححا لما يعتري اللعبة الديمقراطية الحالية من اختلالات ؛ فإذا كان دور البرلمان هو مراقبة الحكومة إلا أنه وبالنظر لكون هذه الأخيرة منبثقة عنه وتتوفر على أغلبية به فإن هذا الدور الرقابي يضعف (بل وينعدم على مستوى التنفيذ )، لذلك وجب أن تنهض السلطة القضائية وخاصة النيابة العامة بهذه الرقابة مما يستوجب استقلالها .

واعتبارا لما جاء به الفصل 47 من الدستور من كون الملك يعين رئيس الحكومة من الحزب الذي فاز بأغلبية الأصوات، مما يجعل وزير العدل" سياسي متحزب" فتضعف بالتالي مكنة مراقبة الحكومة إن بقيت النيابة العامة تحت سلطته، فقد عزز واضعي هذا الدستور استقلالية القضاء بل وكرسوها، وذلك بتحرير النيابة العامة من رقابة السلطة التنفيذية وفق ما يلي:

ـــ أكد الدستور المغربي ما هو معمول به في القضاء الدستوري بمختلف دول الاتحاد الأوربي وهو "وحدة الجسد القضائي" (قضاة حكم وقضاة نيابة عامة)؛ إذ الباب السابع عنون بـ "السلطة القضائية"، وهو ينظم حقوق وواجبات قضاة الأحكام وقضاة النيابة العامة، ومستهل بالفصل 107 الذي يقعد مبدأ دستوريا جديدا وهو جعل "القضاء سلطة مستقلة" بنصه على أن: "السلطة القضائية مستقلة عن السلطة التشريعية وعن السلطة التنفيذية"

ــــ تتجسد وحدة السد القضائي ، كذلك ؛ من خلال عضوية المجلس الأعلى للسلطة القضائية إذ نجد تمثيلية لقضاة الأحكام (الرئيس الأول لمحكمة النقض) وتمثيلية لقضاة النيابة العامة (الوكيل العام لمحكمة النقض)، فلو هدف واضعي الدستور إلى الفصل بين القضاء الجالس باعتباره تابعا للمجلس الأعلى للسلطة القضائية، والقضاء الواقف باعتباره تابعا لوزارة العدل؛ لما تم تمثيل النيابة العامة بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية، ذلك أن العكس هو الذي تم إقراره إذ أخرج وزير العدل من تركيبة هذا المجلس بعدما كان ينوب عن الملك ؛
ـــ تعد الدعوة إلى جعل النيابة العامة تابعة لوزارة العدل من الناحية الوظيفية، وللمجلس الأعلى للسلطة القضائية من الناحية العضوية ؛ دعوة لازدواجية الإطار القانوني لهذه الفئة من القضاة، وهو أمر غير محبب وتنفر منه التقنيات التشريعية الحديثة .

من خلال ما تقدم من تفسيرنا الدستوري لمبدأي الفصل بين السلطات "عضويا ووظيفيا" وجعل القضاء "سلطة ومستقلة" يكون جعل النيابة العامة تابعة لوزير العدل غير دستوري.

خاتمــة:

وفي الختام لا بد أن أشير بأن استقلال السلطة القضائية (لا فرق بين قضاة الأحكام وقضاة النيابة العامة؛ باعتبارهما وجهان لعملة واحدة) هو مقياس لمدى اعتبار الدولة دولة مؤسسات، ومدى استشراء الفساد في هذه الأخيرة ؛ إذ ثبت أن الدول التي يسود مؤسساتها التحكم تكون أكثر نفورا من استقلال القضاء؛ مبررة ذلك بمبررات عديدة من قبيل مصلحة الدولة أو الخصوصية الوطنية (la notion d’Etat ) .

وأمام ما تقدم يبقى إصلاح العدالة أولى أولويات الإصلاح ولا بد له من تضحيات ولو بالكرسي؛ إذ المغرب الآن أصبح في حاجة إلى سياسي يحب وطنه وينضبط إلى قناعاته مدركا أن الضمير هو أفضل وسادة للراحة، بل وفي حاجة إلى سياسي مواطن قادر على التضحية بالسلطة في سبيل الإصلاح .



الاثنين 15 سبتمبر 2014
MarocDroit منصة مغرب القانون "الأصلية"

تعليق جديد
Twitter