نستطيع أن نقول أن الهدف الأساسي من مشروع النظام الأساسي للقضاة هو تعزيز استقلال السلطة القضائية، ما دام أن النص المذكور يأتي في إطار تنزيل أحكام الباب السابع من دستور 2011 التي تهدف في مجملها إلى إرساء دعائم سلطة قضائية مستقلة، وإلا لما كانت هناك حاجة لمراجعة ظهير 1974.
فهل استحضر واضعو الفصل 89 من مشروع قانون النظام الأساسي للقضاة الفلسفة العامة والهدف الأسمى الذي يتمحور حوله مشروع القانون المذكور؟ ألا يمكن القول أن هذا الفصل يعتبر نشازا لما تضمَّنه من فقرات تعتبر الخطأ في تطبيق قانون المسطرة والخطأ في تطبيق قانون الموضوع خطأ جسيما يوجب توقيف القاضي فورا، ما دامت هذه الفقرات تشكل تهديدا صريحا لإرادة القاضي المستقلة في البحث عن حلول عادلة للقضايا المعروضة عليه؟
تجب الإشارة بداية إلى أن الإطلاع على التجارب المقارَنة فيما يتعلق بالأخطاء التأديبية للقضاة يجعلنا نسجل بكل موضوعية أن الفصل 89 المذكور هو تفرد مغربي بامتياز، إذ لا يوجد له مثيل في مختلف الأنظمة القانونية سواء المنتمية إلى النظام اللاتيني الجرماني أو المنتمية إلى النظام الأنجلوسكسوني، بحيث إن بعضها لم يحدد لائحة للأخطاء وترَك للهيئة التأديبية صلاحية مراقبة مدى احترام القضاة لواجباتهم المهنية ( إنجلترا و بلاد الغال، الدنمارك وكندا...) وبعضها الآخر حدد لائحة للأخطاء ولكنه حصرها أساسا في الإخلال بالواجبات المهنية والمساس بهيبة القضاء والثقة المفروضة في القضاة (ألمانيا، اسبانيا وإيطاليا...)، دون أن يوجد نص قانوني في مختلف بقاع المعمور يعتبر خطأ القاضي في تطبيق قانون الموضوع خطأ جسيما موجبا للتوقيف.
ويبدو أن واضعي نص الفصل 89 المذكور قد نقلوا النص عن الفصل 43 من النظام الأساسي للقضاة بفرنسا، غير أن نقلهم لم يكن موفقا، إذ من جهة تم نقل الخطأ التأديبي بشكل منفصل عن الضمانات التي قررها النص الفرنسي لفائدة القاضي، ومن جهة أخرى تم التوسع في عملية النقل بإضافة الخطأ في تطبيق قانون الموضوع إلى الخطأ في تطبيق قواعد المسطرة، كما أن النص الفرنسي يشترط ثبوت الخطأ بمقرر قضائي انتهائي، أي استنفاذ جميع طرق الطعن، بينما لم يتم التنصيص على هذا الشرط في النص المغربي، ليطرح السؤال حول الجهة التي تملك تقدير الخطأ الجسيم وهل يصح لجهة غير قضائية أن تراقب قرارات القضاء؟
غير أن المثير للاستغراب في عملية النقل هذه، أن النص الفرنسي يجعل خرق القانون المسطري خطأ تأديبيا دون أي وصف ودون أن يترتب عليه التوقيف، بينما مشروع النص المغربي جعله خطأ جسيما موجبا للتوقيف فورا؛ فهل يُعقل أن يكون النص الفرنسي بدقته ونطاقه الضيق وما تضمنه من ضمانات قد جعل الخطأ، خطأ تأديبيا عاديا، بينما النص المغربي المفتقر للدقة والمُفرغ من الضمانات يجعل منه خطأ جسيما موجبا لتوقيف القاضي فورا؟
إذا كان هذا رأي واضعي الفصل 89 المذكور فإرادة الأمة كان لها رأي آخر، و قد عبرت عنه بموافقتها على دستور المملكة الذي يحصر الأخطاء الجسيمة للقضاة في الإخلال بواجب الاستقلال و التجرد ( الفصل 109)، ولا يفرض على القاضي التطبيق الحرفي والميكانيكي للقانون، بل يطلب منه التطبيق العادل للقانون (الفصل 110)، ولذلك تصور واضعو الدستور احتمال الخطأ في تطبيق القانون، إذ لا مجال للتطبيق العادل للقانون دون اجتهاد ولا اجتهادَ دون هامش معقول من الخطأ، ولذلك وجد مفهوم الخطأ القضائي ( الفصل 122).
وحَسْبُنا أن نستحضر في هذا الشأن خطاب صاحب الجلالة الملك محمد السادس بمناسبة افتتاح الدورة الأولى من السنة الثانية من الولاية التشريعية السابعة للبرلمان بتاريخ 10 أكتوبر 2003 الذي أكد بخصوص مدونة الأسرة: "...أن هذه المدونة مهما تضمنت من عناصر الإصلاح، فإن تفعيلها يظل رهينا بإيجاد قضاء أسري عادل، وعصري وفعال...". وحَسْبنا أن نستحضر قرار المجلس الأعلى (محكمة النقض حاليا) في قراره الصادر بتاريخ 07 أبريل 1999 الذي قضى بأن: "عدم ذكر القاعدة أو النص القانونيين لا يؤدي للنقض لأن العبرة بصدور الأحكام مطابقة لروح القانون"( ).
إن تعارض الفصل 89 المذكور مع مبدأ استقلال القضاء ومع فلسفة التطبيق العادل للقانون المستوحاة من المرجعية الدستورية ومن التوجيهات الملكية السامية، وما استقر عليه قضاء محكمة النقض، هو ما يجعل هذا النص غير ممكن التطبيق إلا مع كثير من الأسئلة المحرجة، فمن جهة كيف يمكن الحديث عن استقلال القضاء وأحكام القضاة تخضع لرقابة غير قضائية فيما يتعلق بحسن تطبيق القانون بالنظر إلى تشكيلة المجلس الأعلى للسلطة القضائية؟
ومن جهة أخرى في حالة إصدار حكم عن هيئة جماعية هل يتم توقيف جميع أعضاء الهيئة، بما في ذلك القاضي المعارض لرأي الأغلبية، ما دام أنه ملزم بسرية المداولات تحت طائلة المساءلة؟ وإذا حدث وأن تم توقيف قاض لخرقه للقانون، وتم تأييد قراره في باقي درجات التقاضي، هل سيكون مقبولا أن نبرِّئ القاضي، بعد الضرر المادي والمعنوي الذي لحقه وكأنَّ شيئا لم يقع، أم يتم توقيف جميع القضاة الذين أيدوا حكمه القضائي؟!
وماذا عسى القاضي أن يفعل عندما تبتُّ محكمة النقض في نقطة قانونية على نحو مخالف لحرفية النص القانوني، هل يلتزم بهذه النقطة القانونية إعمالا للفصل 369 من قانون المسطرة المدنية، فيكون مشاركا في خرق القانون، وعرضة للمساءلة وفق منطق نص الفصل 89 من المشروع، أم يخالف النقطة القانونية التي بتَّت فيها محكمة النقض و يخرق القاعدة المسطرية التي تضمنها الفصل 369، فيكون في نفس الآن عرضة للمساءلة طبقا لذات الفصل 89؟!
يمكن القول إن واضع الفصل 89 المذكور، بجعله من الخطأ في تطبيق القانون خطأ جسيما موجبا لتوقيف القاضي، يعتقد أن القانون هو عبارة عن لائحة طويلة ولا متناهية من القواعد القانونية تقابلها بالتوازي والتلازم لائحة مماثلة من الوقائع، ودور القاضي ينحصر في ربط كل قاعدة قانونية بالواقعة التي تقابلها.
ليْتَ البت في القضايا كان بهذه البساطة، فنكفيكم ونكفي أنفسنا عناء دق ناقوس الخطر حول ما تضمنه الفصل 89 المذكور، ولكن وكما قال كاربونييه "فالقانون صغير جدا مقارنة مع العلاقات بين الأفراد"( )، ولذلك فإن القاضي تارة يطبق القانون بشكل مباشر وحَرْفي و تارة يكون ملزما بتفسير النص وملاءمته مع الواقعة المعروضة عليه، وفي أحيان كثيرة يكون مضطرا لتكملة التشريع إما بتفويض ضمني أو صريح من المشرع، أو نتيجة غياب قاعدة قانونية ووجود مصلحة حيوية تتطلب الحماية، فيجتهد القاضي ليخلق قاعدة قانونية مستجدة استنادا لنظرية الضرورة، والأمثلة هنا كثيرة، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر ما يتعلق بالشرط الجزائي وسكنى الحاضنة وحق مضيفة الطيران في الزواج وأهلية الزوجة القاصر في التقاضي بخصوص حقها في النفقة، وغيرها من الحقوق و المصالح التي أبدع القضاء لها حلولا تخالف إلى حد ما حرفية النص القانوني ولكنها حلول عادلة استحقت تنويه الفقه والمنظمات الدولية واعترافا رسميا من المشرّع الذي صاغها في نصوص قانونية، دون أن يساءَل القضاة المجتهدون عن مخالفة حرفية النصوص؛ فهل نريد مزيدا من القضاة المجتهدين المجددين، أم نريد أزمة قانون وأزمة عدالة، ستنتج لا محالة عن إرهاب القضاة بنص الفصل 89 من مشروع قانون النظام الأساسي للقضاة.
1 - قرار رقم 1606/1/3/2005، منشور بالنشرة الإخبارية للمجلس الأعلى، عدد7، سنة 2000، ص:10. وانظر في نفس الاتجاه قرار المجلس الأعلى رقم 2270، صادر بتاريخ12/07/2006 في الملف عدد 1966/1/3/2005، منشور بالنشرة الإخبارية للمجلس الأعلى عدد 18، سنة 2007، ص:15.
2- G. Nicolau, G. Pignarre et R. Lafargue : « Ethnologie Juridique », Dalloz, Paris, 2007, p :128