إن أهم ما يؤكد قوة الدول و ارتكازها على حكم المؤسسات هو وجود تنظيم يفصل بين سلطاتها الثلاث و المتمثلة في السلطة التنفيذية و السلطة التشريعية و السلطة القضائية، و قد ثارت العديد من النقاشات بعد المصادقة علىالدستور المغربيلفاتح يوليوز 2011 بشأن موضوع استقلال السلطة القضائية، خاصة ان هذا الموضوع يعتبر من المواضيع التي أولى لها الجميع العناية اللازمة على اعتبار ضرورة الانخراط الفعلي و الجدي في مشروع طال العمل عليه و هو إصلاح منظومة العدالة، و لعل أهم المحاور التي شغلت بال الجميع المحور المتعلق باستقلال النيابة العامة.
فإذا كان الدستور المغربي الجديد قد حسم في مسألة استقلال السلطة القضائية عن السلطتين التشريعية و التنفيذية فإن البعض لا زال يعتبر أن نفس الدستور لم ينعم للنيابة العامة باستقلالها عن السلطة التنفيذية، و مهما كان من أمر فإن هذا التوجه يبقى متجاوزا لعدة اعتبارات و مبررات تؤكد بأن الدستور المغربي قد حسم نهائيا و بما لا يدع مجالا للشك في موضوع استقلال القضاء بما فيه جهاز النيابة العامة و الاعتراف به كسطلة، و هو ما سيتم بسطه و التطرق له في محاور هذا الموضوع من أجل الوصول إلى هذه النتيجة الحتمية،و ذلك بالتركيز على تكريس دستور فاتح يوليوز لسنة 2011 للاستقلال الكامل للسلطة القضائية، ثم التأكيد على ان النيابة العامة جزء لا يتجزأ من السلطة القضائية، على ان تتم مناقشة الضمانة الملكية لاستقلال السلطة القضائية بما فيها جهاز النيابة العامة في محور أخير، و ذلك للجواب على الإشكال المتمثل في مدى إمكانية مساءلة السلطة القضائية إن هي استقلت عن باقي السلط.
تكريس الدستور الجديد لاستقلال السلطة القضائية عن باقي السلط:
لقد كان الدستور المغربي لسنة 1996 ينظم السلطة القضائية في الباب السابع تحت عنوان "القضاء"، و كانت التسمية غير مقرونة بلفظ سلطة و اعتبر ذلك دليلا على ان القضاء لم يكن سلطة بالمعنى الحقيقي، و هو ما ظهر على مستوى الواقع بأخذ السلطة التنفيذية ممثلة في وزارة العدل بزمام أمور جهاز القضاء، حتى اصبح القضاء تابعا للسلطة التنفيذية، إلا أن كثرة المطالبات و المناشدات بضرورة تكريس استقلال حقيقي و فعلي للقضاء عن السلطتين التشريعية و التنفيذية و الاعتراف به كسلطة موازية لهما أسفرت بعدتعديل الدستور في فاتح يوليوز 2011 عن تنظيم السلطة القضائية في باب مستقل و هو الباب السابع، و أفرد لتنظيمها 23 فصلا دستوريا. وقد كان الخطاب الملكي السامي ليوم 17يونيو 2011 بمناسبة الدستور الجديد لحظة فارقة في مسلسل بناء سلطة قضائية مستقلة طالما تمت المناداة بها، و من أهم ما جاء في ذات الخطاب قول جلالة الملك فيه: {.. ترسيخ سلطة قضائية مستقلة عن السلطتين التنفيذية والتشريعية، تكريسا لاستقلال القضاء، الذي نحن له ضامنون؛ و ذلك بالنص صراحة في مشروع الدستور الجديد على ان النطق بالحكم إن كان يتم باسم الملك، فإنه يتعين ان يصدر بناء على القانون.
و صيانة لحرمة القضاء، فقد تمت دسترة تجريم كل تدخل للسلطة او المال، أو أي شكل من أشكال التأثير في شؤون القضاء.
كما تم إحداث "المجلس الاعلى للسلطة القضائية" كمؤسسة دستورية يرأسها الملك لتحل محل المجلس الأعلى للقضاء، و تمكينها من الاستقلال الإداري و المالي، و تخويل رئيس محكمة النقض، مهام الرئيس – المنتدب بدل وزير العدل تجسيدا لفصل السلط} انتهى مقتطف الخطاب الملكي.
و لعل اللفظ الأخير و المتمثل في رغبة جلالته في تخويل رئيس محكمة النقض مهام الرئيس المنتدب بدل وزير العدل لدليل على رغبته الأكيدة في تجسيد استقلال حقيقي غير صوري لاستقلال السلطة القضائية عن السلطة التنفيذية،هذا دون الخوض في كون القضاء ينقسم إلى قضاء للحكم و آخر للاتهام متمثل في النيابة العامة، و ذلك لكون الامر بديهيا في كونهما سلطة واحدة غير منفصلة، و هو الأمر الذي يبرر أن الفصل 107 من الدستور الجديد جاء ليؤكد على أن" السلطة القضائية مستقلة عن السلطة التشريعية و عن السلطة التنفيذية".
النيابة العامة جزء لا يتجزأ من السلطة القضائية:
إن القراءة المتأنية لدستور فاتح يوليوز 2011 في بابه السابع المتعلق باستقلال السلطة القضائية لتؤكد أن القضاء نوعان، قضاء للحكم و قضاء للنيابة العامة، و أن الدستور لم يميز بينهما، اللهم في الشق المتعلق بآليات اشتغال كل منهما، على اعتبار أن للنيابة العامة خصوصيات تميزها عن قضاء الحكم، و أهم ما يجب التركيز عليه في هذا الشأن أن جل الأنظمة القضائية العالمية تقسم الجهازالقضائي إلى قضاة للحكم و قضاة للنيابة العامة، كما ان تنظيم الدستور المغربي لهما معا في باب مستقل لدليل على انهما جزء لا يتجزأ، فلا سلطة قضائية بدون نيابة عامة مستقلة باعتبارها القلب النابض لهذه السلطة. و ما يؤكد هذا التوجه أيضا إشارة الفصل 110 من الدستور إلى انه "لا يلزم قضاة الاحكام إلا بتطبيق القانون، و لا تصدر احكام القضاء إلا على أساس التطبيق العادل للقانون.
يجب على قضاة النيابة العامة تطبيق القانون، كما يتعين عليهم الالتزام بالتعليمات الكتابية القانونية الصادرة عن السلطة التي يتبعون لها"
و إذا كان هذا الفصل دليلا قاطعا على أن قضاة الحكم و قضاة النيابة العامة هما المكونان الأساسيان للسلطة القضائية، فإن الرأي القائل بان النيابة العامة غير ملزمة إلا بتطبيق التعليمات الكتابية القانونية الصادرة عن السلطة التي يتبعون لها، و ان هذا الوصف دليل على ضرورة تبعيتهم لسلطة وزير العدل ما هو إلا قراءة غير موضوعية للشق الثاني من الفصل المذكور وذلك لعدة اعتبارات نجملها في الآتي:
أولا: إن الفقرة الأولى من هذا الفصل لا تخلق كبير إشكال،فالدستور ألزم قضاة الأحكام بإصدار أحكامهم على أساس التطبيق العادل للقانون، فأي نص قانوني قد لا يكون عادلا عند تطبيقه بصفة مجردة على النوازل المعروضة على القضاء، و أن عمل القاضي هو الذي يبعث الروح فيه و يجعله عادلا عند تنزيله.
ثانيا:إن الفصل المذكور قد ألقى على قضاة النيابة العامة التزاما دستوريا على غرار قضاة الاحكام وفق الفقرة الأولى من ذات الفصل و هو الالتزام المتعلق بالتطبيق العادل للقانون، و هذا أمر بديهي ما دامت السلطة القضائية بها مكونان أساسيان يطبقان القانون و المتمثلان في قضاة الحكم و النيابة العامة معا.
ثالثا: إن على قضاة النيابة العامةالتزام إضافي و هو تطبيق التعليمات الكتابية القانونية الصادرة عن السلطة التي يتبعون لها، و قبل تطبيقها فهم ملزمون بالبحث عن مدى قانونيتها و إلا فلا مجال لتطبيقها.
رابعا: إن السلطة التي يتبع لها قضاة النيابة العامة في ضل الحديث عن استقلال السلطة القضائية لن تكون غير هذه السلطة القضائية،فهم تابعون في عملهم للتسلسل الإداري الذي يحكم عمل النيابة العامة، فوكيل الملك و الوكيل العام للملك و الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض هم من يصدرون تعليماته بالطريقة المذكورة سلفا إلى قضاة النيابة العامة و ذلك حسب تسلسلهم القانوني المعروف دون ان ينصرف الأمر إلى تفسيرات أخرى خارج نطاق استقلالهم عن السلطة القضائية، و إلا كان الفصل 107 من الدستور و الذي يعتبر قطب الرحى في استقلال السلطةالقضائية مجرد فصل وضع عبثا و تم ضربه في الصميم.
الملك هو الضامن لاستقلال السلطة القضائية:
يرى بعض المدافعين عن ضرورة إبقاء النيابة العامة في كنف وزير العدل أو السلطة التنفيذية أن هذا الاستقلال قد يجعل السلطة القضائية عصية عن المساءلة، و رآى البعض أن المؤسسة الملكية ستبقى في مواجهة مباشرة مع الشعب من منطلق هذه المساءلة، و هو تفسير لا أساس له لا منطقا و لا قانونا، فحتى تبعية النيابة العامة لوزير العدل لن تحل هذا الإشكال الذي يدور في ذهن واضعيه فقط، فبقاء النيابة العامة تابعة للسلطة التنفيذية لن يعني بالضرورة تبعية القضاء للسلطة التنفيذية، خاصة امام وجود المجلس الأعلى للسلطة القضائية، فكيف إذن ستتم محاسبة السلطة القضائية بهذه الطريقة؟و هل المحاسبة تكون بالتبعية؟ إنأكثر ما غاب عن ذهن من يدافع عن تبعية النيابة العامة للسلطة التنفيذية للمبررات أعلاه هو أن الملك بنص الفصل 107 من الدستور هو الضامن لاستقلال السلطة القضائية برمتها، فهل هذا يعني أن مساءلة السلطة القضائية تعني مباشرة مساءلة الملك؟
و الجواب عن هذا التساؤل يجد أساسه في ان الملك هو صمام امان السلطة القضائية على اعتبار خطورتها و كونها من اهم مقومات الدولة، و لذلك نجد أن الملك حسب الفصل 115 من الدستور هو من يرأس المجلس الاعلى للسلطة القضائية، لذا سيبقى من غير المعقول استقلال القضاء و تبعيته للمجلس الأعلى للسلطة القضائية برآسةجلالة الملك على ان تبقى النيابة العامة تابعة للسلطة التنفيذية ممثلة في وزارة العدل!
و خلاصة القول انه ليس من المنطق جعل قضاة النيابة العامة باعتبارهم قضاة تابعين للسلطة التنفيذية، فإن كانت هذه التبعية مقبولة في ضل دستور سنة 1996 على اعتبار كون وزير العدل هو الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للقضاء، فإنها لم تعد مقبولة دستوريا بعد فاتح يوليوز 2011 لكون وزير العدل قد تم إخراجه من تشكيلة المجلس الاعلى للسلطة القضائية، كما أنه لا يمكن تفسير فصول الدستور بمعزل عن الإرادة منها و عن السياق الذي جاءت فيهأودون ربط الفصول بعضها ببعض، فالفقرة الأولى من الفصل 107 و الذي يعتبر الموجه العام لباب استقلال السلطة القضائية نص على انه "السلطة القضائية مستقلة عن السلطة التشريعية وعن السلطة التنفيذية" و هذا دليل على أن الإرادة الدستورية توجهت نحو فك الارتباط نهائيا بين السلطة القضائية و باقي السلط، هذا مع استحضار ما سبق التأكيد عليه من أن القضاة في النظام الدستوري المغربي هم قضاة احكام و قضاة نيابة عامة، فنفس ما يستفيد منه النوع الأول من الضمانات سيستفيد منه النوع الثاني وعليهم نفس الالتزامات مع بعض التمييزات البسيطة التي ترتبط بخصوصية كل منهما.فكيف يعقل أن يكون نوع من القضاء مستقلا و النوع الآخر لا يزال تابعا للسلطة التنفيذية؟ أكيد أن الأمر لن يكون إلا نوعا من العبث التشريعي، فأي تنظيم قانوني قد يغير من هذه المراكز فهو محكوم بعدم دستوريته و يضرب صميم مبادئ استقلال السلطة القضائية.