توطئة
يعد مفهوم المجتمع المدني مفهوما متطورا معرفيا وفكريا ووظيفيا، وقد تجسد هذا التطور عبر المسارات التاريخية المختلفة التي واكبته وهي المسارات التي أكدت دائما زئبقيته وضبابيته وعدم انحصاره في وجهة نظر واحدة وموحدة.
وتظل المقاربة المفاهيمية للمجتمع المدني دون أهمية تذكر إن لم ترتبط بالحديث عن المسارات الفكرية لهذا المفهوم والتوجهات التي حاولت أن تحيط به عبر الصيرورة التاريخية على صعيد الفكر الفلسفي الغربي سواء لدى الفكر الإغريقي او الفكر الديني ومن خلال الأسس الأخلاقية المؤطرة له أوعبر تواجده في فلسفة رواد العقد الاجتماعي وكذا بعض المنظرين الأولين لهذا المفهوم من غرامشيودوتكفيل. وكذا على صعيد التواجد في الوطن العربي مع ما يفرضه ذلك من صعوبات وعوائق على مستوى هذا التواجد في حد ذاته وعموما شكل المفهوم الغربي للمجتمع المدني منطلقا حقيقيا لانبثاق إرهاصات تطورية لمفهوم متميز بحيويته وديناميته وهو ما سيبرز من خلال معالجتنا لهذا المفهوم على مستوى الوطن العربي.
الفرع الاول: الملامح الكبرى لانبثاق وتبلور المجتمع المدني في الوطن العربي:
من المفاهيم الرائجة في خطابنا العربي الراهن مفهوم "المجتمع المدني". وقبل التفكير فيما يعنيه هذا المفهوم في أصل معناه من جهة وفي الخطاب العربي اليوم من جهة أخرى، يجدر بنا أن ننبه إلى أن تاريخ خطابنا العربي في القرنيين الماضيين يشير بوضوح إلى أن رواج مفهوم من المفاهيم في شعاراتنا وأدبياتنا لا يعني بالضرورة أن ذلك المفهوم يجد ما يسنده أو يؤسسه في واقعنا ومعطيات حياتنا اليومية، فالمطلوب هو التوجه مباشرة إلى الواقع العربي لنلتمس منه تعريف المجتمع المدني، مع الاستعانة في ذلك باستحضار الظروف والملابسات التي جعلتنا نطرح هذا الشعار كمطلب، بعد أن كان غائبا في مجال التفكير في العقود الماضية، على الرغم من أنه كان موجودا منذ قرون كمقولة من مقولات الفكر الأوروبي. إن طرح التساؤل التالي: ما الذي جعلنا في الوقت من الأوقات ننتبه إلى ضرورة الاهتمام بالمجتمع المدني" والمطالبة بالعمل على فسح المجال له لينشأ وينمو، هو ربط مباشر إلى ربط ظهور الحاجة عندنا إلى هذا الشعار بفشل النموذج المجتمعي الذي يشيد على الأرض العربية، من خلال دولة الحزب الوحيد، ودولة الضباط الأحرار ودولة الملكيات المطلقة والرئاسات القبلية والفردية. من هنا سنجد أن مضمون المجتمع المدني في الحقل العربي يرتبط بتصفية "مجتمع العسكر" و"مجتمع القبيلة"، و"مجتمع الحزب الرائد القائد" وبالتالي فسح المجال لقيام مجتمع المؤسسات القائمة على التعبير الديمقراطي الحر. وبناء على ذلك فالبحث في المجتمع المدني يجـب أن لا يتقيد بنفس البداية بالنسبة لجميع الأقطار العربية. إن تفاوت التطور واختلاف التجارب في العالم العربي تقضي أن ننظر إلى مضمون "المجتمع المدني" من مؤشرات متعددة، وأن تكون نظرتنا هذه قابلة للارتداد، مع اعتبار الخصوصية في هذا المجال محددا ابيستيميا لا محيد عنه . ومن مظاهر الخصوصية في أقطار عالمنا
العربي أن الطريق إلى المجتمع المدني قد مر ويمر عبر الانتقال – مثلا – من القبيلة إلى الطريقة الصوفية (المهدية، السنوسية، القادرية، الشاذلية...) وقد يتم الانتقال مباشرة من الطائفة إلى الحزب والنقابة والجمعيات المهنية وغيرها من مؤسسات المجتمع المدني على الطريقة الأوروبية. كما قد يحدث أن تتزامن تلك الأطر الاجتماعية العربية وتتعايش مع بعضها ومع قيام الحزب والنقابة دون أن يكون ذلك بديلا عنها. إن عدم الأخذ بهذا المسار في فهم الواقع العربي قد ينتج عنه، وهذا ما حصل فعلا، انفصال خطير بين "المجتمع المدني" كما نتصوره وتريده النخبة العربية وبين "المجتمع المدني" كما هو بالفعل في واقع الحياة العملية-1-.
لقد بدت تتجلى ملامح المجتمع المدني في المجتمعات العربية من خلال عمل المنظمات والجمعيات وغيرها، حتى وان بدا هذا المفهوم دخيلا على التراث الفكري والسياسي العربي – الإسلامي، باعتبار أن ولادته ونشأته كانت في بيئة مغايرة تماما هي الغرب الأوروبي في مرحلة شهدت صراعا اجتماعيا وسياسيا برز من خلاله مفكرون كبار نحتوا مفاهيم جديدة مثل الوطن والدولة والمجتمع المدني.. وغيرها من المفاهيم التي ارتبطت بمتطلبات الطبقة الاجتماعية الناشئة في البداية.. ليحتل حيزا بارزا لأنصار تياران متعارضان، تيار ليبرالي وتيار اشتراكي لكل رؤيته الخاصة لطبيعة "المجتمع المدني"، ومهما يكن من أمر هذا الاختلاف فان المجتمع العربي الإسلامي لم يستعمل هذا المفهوم إلا حديثا-2-، مع العلم أن الحضارة العربية الإسلامية قد عرفت منذ العصر الوسيط تنظيمات حرفية ومهنية يمكن اعتبارها نوعا من أنواع التنظيم المجتمعي، وقد تزامنت فـي الواقع مع ظهور تيارات سياسية – دينية معبرة عن تحولات مجتمعية معارضة للسلطة، ولا يمكن أن تكون حينئذ إلا ذات صبغة دينية-3-.وبالرغم من أن الجمعيات والمنظمات الأهلية "العصرية" قـد انتشرت في العالم العربي الإسلامي منذ دخول الاستعمار وقبل ذلك بقليل، اثر الاحتكاك بالغرب بصفة عامة، إلا أن تداول هذا المفهوم لم نجد له أثرا بالنظر لارتباط عمل هذه المنظمات المختلفة الاتجاهات والمشارب بالعمل السياسي المباشر ضد الاستعمار، وكانت المعبر الأساسي عن مطامح فئات الشعب قاطبة الهادفة إلى التحرر والانعتاق.
ولم ينتشر هذا المفهوم في أدبيات الفكر السياسي العربي إلا مع مطلع السبعينات ومع ذلك بقي محدودا وانحصر بشكل خاص في البلدان التي تتبنى مشروع تحول ديمقراطي تحمست مـن خلاله النخبة للمفهوم باعتباره حجر الزاوية في كل تحول ديمقراطي-4-.
من هذا المنطلق هل يمكن الحديث أصلا عن مجتمع مدني في العالم العربي بعد سقوط الدولة الوطنية، وتفكك البنى الاجتماعية وبروز ظاهرة العنف المهددة بلا شك لنظام الدولة والمجتمع ككل؟ -5-
لقد بدأ مفهوم المجتمع المدني ينتشر في أدبيات الفكر السياسي العربي المعاصر منذ مطلع السبعينات من القرن المنصرم بصفة خاصة، متأثرا بعودته في المجتمعات الأوروبية، وعرف رواجا بصورة واضحة في البلدان العربية التي رفع فيها الخطاب الرسمي مشاريع التحول الديمقراطي وآثاره الايجابية على مجمل الحياة السياسية الاقتصادية والاجتماعية رغم أن هناك بلدان عربية لم يصلها بعد خبر "المجتمع المدني" فلا نجد له أثرا لا في الخطاب الرسمي ولا في خطاب فئات النخبة-6-.
فالدولة العربية الحديثة منذ محمد علي باشا في مصر لم تقم إلا عبر التدمير المنظـم للمجتمع ومؤسساته وممثليه وقواه، باسم الحداثة ومطلب القوة، من أجل إخضاع المجتمع وإلحاقه بمصالحها.
ولهذا كثيرا ما اصبحنا نرى أن العرب لا يتقدمون إنسانيا وثقافيا واقتصاديا إلا في القطاعات التي تقع خارج رقابة الدولة.
إن المجتمع العربي مافتئ يتسم بالتراتب العمودي سواء بالولاء أو بالانتماء، فالفرد مضطر إلى ترتيب انتمائه وولائه إلى سلسلة متصاعدة تبدأ بالعائلة وتنتهي بالدولة، مرورا بالطائفة والحرفة والقبيلة، وكما هو معروف تكون درجة قوة الولاء أو الانتماء متناسبة عكسيا مع هرمية هذا التراتب العمودي-7-.
وهنا تبرز علاقة عكسية بين السلطة والحرية، على ضوءها تنعدم او تقل شروط قيام المجتمع المدني في حالة قوة السلطة. فالمجتمعات العربية – الإسلامية عرفت طاعة الحاكم خشية منه أكثر مما عرفت الحرية وحق الاختلاف. لذلك أي تقديس وإطلاق للسلطة يعني تضييق مساحة الحرية، حيث ضرورة تقييد السلطـة السياسية ونسبيتها وعدم إعطائها أي صبغة أو مضمون ديني لكي لا نجعلها سلطة مطلقة تحكم بالحكم الإلهي ولا يمكن الاعتراض عليها لأنها تحكم باسم الله وليس باسم الشعب باعتبار أن الحاكمية لله، فالمطلوب تأكيد إنسانية السلطة السياسية ونسبيتها.
وقد كانت هناك بدايات أولية لمجتمع مدني قائم على العدل والمساواة والقانون في العصر الذهبي للدولة العربية الإسلامية الأولى-8-.
وعندما نعود إلى تجربة التاريخ العربي لصياغة حدود مفهوم مثل مفهوم المجتمع المدني، فإن المسألة لا علاقة لها أبدا بشبهة التغريب القائم على مبدأ التماهي الكلي مع الآخر، الغرب الأوروبي الحديث والمعاصر. إن المسألة في أساسها هي مسألة اعتراف بأن المفهوم تبلور في سياق تاريخي موضوعي محدد-9-.
إن مفهوم النشاط الأهلي ليس مقابلا لمفهوم المجتمع المدني، بل هو أقرب إلى المؤسسات والممارسات التي كانت تميز المجتمع الإقطاعي في أوروبا في عصرها الوسيط، وقد جاء مفهـوم المجتمع المدني ليشكل رفضا لها ومحاولة لتجاوزها-10-.
هكذا ،فمحاولة تأمل العلاقة بين الدولة والمجتمع المدني في تاريخ المجتمعات العربية بصفة عامـة، تبرز أن جذور هذه العلاقة سابقة على انتشار الإسلام واللغة العربية بين بلدان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وربما كانت هناك درجة من الاستمرارية في هذه العلاقة منذ التاريخ القديم لهذه المجتمعات حتى تاريخها الحديث. وسوف يؤدي توسيع مجال البحث التاريخي لهذه العلاقة على هذا النحو إلى اكتشاف خصوصية لهذه المجتمعات، تعود إلى خصوصية الدور الذي قامت به الدولة فـي معظمها.
إن الأبحاث التطبيقية عن المجتمع المدني في الأقطار العربية، انتهت إلى أنه ليس هناك مجتمع مدني بالمعنى القائم في الدول القومية العربية، حتى في الأقطار العربية التي انتهجت منهجا تغريبيا.
إن المجتمع المدني نشأ في غمار الدولة العربية. وإذا كان أبسط تعريفات الدولة أنها شعب وحكومة وإقليم، فمعنى ذلك أنه في مرحلة ما قبل الدولة القومية كانت هناك شعوب وأقاليم. وبناء على التطور الاجتماعي نشأت عبر عملية تفاعل، وليس من خلال مراحل، بلورة الإرادة العامة، والاتفاق على العقد الاجتماعي. ومن ثم تعيين حدود الدولة القومية- أوليا – بحدود الجماعة القومية. وهكذا نشأت الدولة القومية ونشأت الإرادة العامة التي حصنت نفسها بمؤسسات المجتمع المدني ونظرا لأنها عملية تفاعل فقد اختلفت من دولة إلى أخرى وان كان الجوهر واحدا، والذي يركز على وظيفتها في التعبير عن الإرادة العامة وتحصينها ضد السلطة.
إن المجتمع المدني يجد أساسه الإيديولوجي في تفاعل ثلاثة نظم من القيم والمعتقدات: أولها: الليبرالية وثانيها: الرأسمالية وثالثها العلمانية .وهذه القيم والمعتقدات الثلاثة – بجوانبها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، لا تتفق مع القيم الإسلامية السائدة في الأقطار العربية.
حيث ان المجتمع المدني نشأ منذ البداية من خلال النضال الذي خاضته طلائع البورجوازية الأوروبية للفصل بين "المدني "والكنيسي" وخاصة تحت وطأة الجمع بينهما في عديد من الحالات حيث كانت السلطة الزمنية والسلطة الدينية تتركزان في يد واحدة. وهذا هو المعنى الدقيق لنقيض كلمة "المدني" وهو المعنى المتداول نفسه عن فصل الدين عن الدولة. وهذا المبدأ لا وجود له في الإسلام. فالإسلام – في حقيقته العقيدية – نظام كلي شامل، لا يفصل الدين عن الدولة، وليس ثمة ناحية في حياة المسلم لا ينظمها بالتشريع أو بالتوجيه-11-.
وبخصوص الوطن العربي الإسلامي يتضح جليا أن وراء هذا المفهوم تبرز سلسلة من التساؤلات وهي مركزة حول اهتمامات مختلفة ومشتتة: غرابة الدولة عن المجتمع والسعي إلى إعادة تأسيس شرعية الدول من جديد، وهي تشمل صيغا عديدة من الإشكاليات الراهنة للدولة: الدولة المانحة التـي تحتضن المجموعات الاجتماعية المختلفة وترضعها وتغذيها عبر سيرورات متنوعة للإدماج والاحتواء، وهو احتواء ينتج منه طرد ونفي واستبعاد مجموعات وفئات أخرى، إذ تطرح قضيــة الطوائف ضد المواطنة والتعددية الحالية ضد تعددية أخرى يؤمل الوصول إليها، كما تطرح مسألـة سياسات سد الرمق والمحافظة على البقاء وأنواع معينة من الاستراتيجيات المشتركة بين نخبات الدولة والجماهير من أجل الاستمرار-12-.
في هذا الصدد، يلاحظ في الوطن العربي، أن الاستعمال الشائع للمفهوم يطرح في شكل مجموعة حواجز-13- تحد من سلطة الدولة، ومجموعة كوابح تكبح تدخليةأجهزاتها الإدارية والأمنية، وتقوم ضد نفوذها، الممتد إلى مجالات متعددة. وينزع المفهوم في الوقت نفسه إلى توسيع حقل الحريات-14-.
إن مؤشرات المجتمع المدني في الوطن العربي تحيل قبل كل شيء إلى رهان مرتبط بالارتقاء إلى حالة مدنية في الوقت الذي تضع فيه شكل نظام سياسي معين موضوع تساؤل-15-.
فالبحثالمضني عن تعامل الفكر الحقوقي العربي مع خريطة الأشكال الدستورية القانونية الأساسيـة الموجودة في الوطن العربي، وما يتضمن ذلك من رؤى وتقييمات من شأنه أن يكشف عن ملامح المجتمع المدني في الواقع العربي. ويمكن الاعتماد على تصنيفات مختلفة لتحديد طبيعة ودور ومكانة المجتمع المدني الذي بلوره الفكر الحقوقي العربي مثل: التمييز بين الأنظمة التقليدية والأنظمـة الحديثة والأنظمة التي توصلت إلى مزج معين لمؤسساتها الحديثة، والتمييز بين الأنظمة التي تعتمد التعددية والأنظمة التي تعتمد الحزب الوحيد، وبين الأنظمة التي تتبنى الديمقراطية والأنظمة السلطوية.. وهنا نجد أن مشكل هذه التمايزاتيبرزفي كونها، كثيرا ماتتقاطع لتطرح إشكالية المشاركة في قالب يتشابه إلى حد بعيد.
إن جمع عناصر التمثلات القانونية للمجتمع المدني، بما فيها النصوص التشريعية أو القانونيـة، عمل أساسي في دراسة الفكر الحقوقي، لكون هذه النصوص موجودة فعلا وجزءا من الواقـع، ومرجعية حية فيه، بل سلاحا يؤدي وظيفته بين أيدي العديد من الفاعلين.
فالنظام العربي الرسمي في مجمله لم يصل بعد إلى مفهوم الدولة القانونية المعاصرة ، فالأقطار العربية تحكم بنظم حكم عشائرية أو عائلية أو بنظم فردية أو بنظم حكم حزبية وحيدة ماسكة للسلطة و هيئات دستورية أو قانونية شكلية لأنها غير منتخبة انتخابا حرا و حقيقيا ،و بالتالي فإنها لا تمثل إرادة شعبية ، كما أن نظم الحكم العربية نفسها لا تملك الصفة الشرعية لأنها غير منتخبة شعبيا في الأساس .
هكذا نجد أن الوضع العربي المعاصر لا يساعد على إقامة مجتمع مدني بالمعنى المعروف بسبب تدخل الدولة في نشاط الأفراد و تقييد حرياتهم.
فالدولة تعارض كليا قيام مجتمع مدني متحضر، علما أن الدساتير العربية تنص على حرية تنظيم الجمعيات والنقابات و حق النشر و التأليف و مع ذلك تبقى نصوصا بلا تطبيق .
كما أن البيروقراطية الإدارية والمركزية و السياسية السائدة بشكل عام ، إضافة إلى عزوف المواطنين بسبب عدم مشاركتهم في السلطة السياسية ، كلها تشكل معوقات لقيام مجتمع مدني حقيقي ،فاعل و دينامي.
و مع ذلك، يمكن القول إن هناك تحولات و ظروفا إيجابية زادت من قدر الحرية و انفتاح السلطة في هذا النظام العربي أو ذاك بسبب التغيرات الدولية التي جرت على الساحة العالمية ، والتي أدت إلى قيام نظم ديمقراطية و تبني حقوق الإنسان ، مما يؤثر في تزايد نشاط الأفراد و اتساع رقعة المجتمع المدني . وهو ما تبلور بشكل أساسي في فترة الحراك العربي وتبعاتها على مستوى المسارات الديمقراطية للدول العربية.
كما أن اتساع نطاق المؤسسات القومية على المستوى العربي ذات الأهداف الاقتصادية أو الاجتماعية أو الثقافية أو السياسية أو المهنية ... شكل قاعدة أساسية لتكامل اقتصادي و سياسي وثقافي عربي ، وهي في مجملها يفترض أن تكون شكلا من أشكال المؤسسات التي تصب في طريق الوحدة العربية على أساس ديمقراطية متعارف عليها، التي قد تكون في مستقبل الأيام مؤسسات ثابتة لمجتمع مدني عربي موحد .
إن المجتمع المدني ليس هياكل فقط بل هو قيم قبل كل شيء ، فالكثير من المؤسسات "المدنية" في الوطن العربي لا تمت بصلة إلى المجتمع المدني ، بل هي أقرب إلى الدولة والمؤسسات المعيقة لتطور الفكر المدني .
وعموما يمكن أن نستخلص أن مفهوم " المجتمع المدني " حديث العهد، وقد مر بالدول العربية من ثلاث مراحل تاريخية :
المرحلة الأولى: انتفاء وجود المجتمع المدني .
إنها المرحلة الأطول و لقد امتدت ثلاثة عشر قرنا من فجر الإسلام إلى فجر الحركات الاستقلالية في القرن العشرين ، وقد سادت فيها مجموعة من المفاهيم :
مفهوم الشورى بدل الديمقراطية.
مفهوم الإنصاف بدل الحرية.
مفهوم الطاعة للسلطان باسم الدين.
وباستثناء عهد الرسول والخلفاء الراشدين و بعض الحالات النادرة ، فإن السمة الطاغية على هذه المرحلة هي نشوء النظام السلطوي و الاستبدادي الذي استند إلى الدين و القوة والمال و اغفل حقوق الإنسان في الحرية أو حقوق الشعوب في العدالة ، ووقف معظم العلماء و الفقهاء في معظم الأوقات إلى جانب السلطان في مواجهة الحركات الشعبية و الاجتماعية التي غابت في أكثر الأحيان إلا في بعض الحالات الظرفية مثل الخوارج والقرامطة ، ومن خلال هذه المرحلة الطويلة لم تكن الديمقراطية مطروحة كمطلب اجتماعي .
المرحلة الثانية: بروز المجتمع المدني مع حركات التحرر و الاستقلال .
وهي مرحلة بدأت مع بروز الحركات الاستقلالية في الوطن العربي و قد تبلورت في قيام الأحزاب والنقابات و جماعات الضغط ووسائل الإعلام و أعمال المعارضة الجماعية و سادت في هذه المرحلة مفاهيم:
الاستقلال قبل الديمقراطية ؛
العدالة قبل الحرية ؛
النظام الاشتراكي بدل النظام الديمقراطي ؛
لقد تبدل الخطاب السياسي برفع الشعار الديمقراطي و لم يتبدل واقع النظام السياسي و الذي استمر سلطويا استبداديا و فرديا عن طريق حكم العائلة و الملكية أو الإماراتية أو حكم الحزب الواحد أو الجيش.
وفي هذه المرحلة برزت طروحات حول الديمقراطية ، لكنها بقيت مجرد طروحات و لم تتحول إلى مطلب اجتماعي .
المرحلة الثالثة :
قيام المجتمع المدني و مطلب الديمقراطية
إنها مرحلة ما بعد الاستقلال وقد برزت معالمها في السبعينيات و بالتحديد بعد 1967 حيث ارتفع مطلب الديمقراطية داخل كل الأقطار العربية، ولو بأشكال مختلفة و متفاوتة، وازداد إلحاحا بعد حرب الخليج-16-.
إن النموذج السائد في هذه المرحلة هو براديغم الطاعة، بحيث تأتي الديمقراطية بقرار السلطان فتكون "ديمقراطية مفروضة " بوسائل غير ديمقراطية أو ديمقراطية فوقية " دون مشاركة شعبية حقيقية و دون وعي جماهيري كاف لحقه الطبيعي في نظام ديمقراطي"-17- وبالتالي لا تكون هناك إمكانية لبناء مجتمع مدني متطور.
إن المشروع المطروح للديمقراطية، باعتباره يستند في أسسه إلى الفلسفة الغربية مرفوض إلى حد بعيد من قبل القوى العربية التي تمثل الإسلام السياسي التي ترى أن مشروعها يتحقق في ظل دولة الشورى الإسلامية وليس في الديمقراطية الليبرالية التي ترفضها أيضا القوى العربية الاشتراكية ، والحقيقة أن الديمقراطية هي الأساس لقيام مجتمع مدني عربي يضمن الحرية والمساواة، مما يساعد على إقامة مؤسسات اجتماعية واقتصادية و ثقافية مستقلة عن سلطة الدولة وتدخلها، فالمشروع الديمقراطي المطروح كفلسفة لسلطة الحكم في المجتمع العربي إذا قدر له التطبيق، فإنه سوف يساعد على إقامة مجتمع عربي متحضر يسوده الإبداع وبروز المواهب، وتقدم التنمية في المجتمع العربي ،مما يمكن من قيام مؤسسات و شراكات و هيئات جديدة، الشيء الذي يزيد من فعالية المجتمع المدني العربي الجديد-18- .
وتجدر الإشارة في هذا الصدد، وعند الحديث عن المجتمع العربي بما في ذلك المجتمع المدني العربي، أنه كثيرا مايتم إغفال اختلاف المراحل و التجارب والخصوصيات، وقد يكون هذا موروثا عن رؤية إيديولوجية اختزالية لم ترق إلى جدلية الخاص والعام وإلى جدلية الوطني والقومي إلى حد أن بعض التجارب المتقدمة تم الاحتراز منها خوفا من خصوصيتها-19- .
وهنا، نجد أن المتتبع لتاريخ الدولة القطرية العربية في علاقتها بمؤسسات المجتمع المدني يصل إلى استنتاج ملموس تؤكده وقائع ثابتة و كثيرة، وهو أن هذه الدولة عززت مواقعها ودورها و بناها القطرية على حساب المجتمع المدني و بناه الوحدوية القومية و بالتالي ، فالعلاقة عكسية أو تناقضية ما بين زيادة فاعلية الدولة القطرية و أدائها القطري بواسطة القمع و الإرهاب ، ومابين البنى الشمولية الوحدودية لمؤسسات المجتمع المدني على امتداد الوطن العربي .
ومع توطد بناء الدولة القطرية ،منذ الحرب العالمية الأولى إلى مرحلة متأخرة من القرن العشرين، تحت إشراف الانتداب الخارجي أو القوى القطرية التي ورثت عنه هذه الدولة ، فإن المجتمع المدني الموحد في المشرق العربي خاصة ،قد تفسخ بحدة ، وتحول إلى مجتمعات مدنية قطرية تختزن من عناصر التجزئة و التفكك أكثر مما تختزن من عناصر التوحيد الوطني و الانصهار القومي .
لقد حولت الدولة القطرية المجتمع المدني الموحد في المشرق العربي إلى مجتمعات مدنية قطرية هشة و مفككة من الداخل، و متناحرة فيما بينها عبر نزاعات لا تنقطع-20- .
هكذا، لم يشهد المشرق العربي بعد الاستقلال مفهوم الدولة، وإنما كانت هناك وحدات سياسية، أما مفهوم المجتمع المدني فله بناء يوازي بناء الدولة.
إن إرساء المجتمع المدني لابد أن يعتمد على مؤسسات اقتصادية واجتماعية وثقافية وسياسية متعددة النشاطات مستوعبة كل الأهداف بإطار يربط بعلاقة "وظيفية" بين الديمقراطية والتنمية، وينقل بمنهج حركي الواقع التنموي إلى واقع آخر متقدم عنه بعناصره الكمية والكيفية ، فلا مقايضة لمحور على حساب محور آخر، و إنما ينتظم الكل فكرا وممارسة في منهج للتعددية السياسية و التعددية الاقتصادية تستوعب كل النشاطات-21-.
المجتمع المدني بذلك، هو مجموعة المؤسسات السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية التي تعمل في ميادين مختلفة في استقلال عن سلطة الدولة ،وعكس ذلك ففي وطننا العربي لا نرى و جودا لأي مؤسسة من المؤسسات المذكورة دون أن يكون لوجودها صك شرعي أو قرار رسمي من قبل الدولة-22-.
إن غياب الدولة يجعل مؤسسات المجتمع المدني تلعب دورا أساسيا على مختلف الأصعدة الاقتصادية والاجتماعية و المعيشية و غيرها-23-.
وقد تاكد كل ذلك بشكل جلي ،من خلال نموذج دولة الاستقلال التي أضحت غير قادرة بمواردها المادية و الرمزية على تأطير العلاقات الاجتماعية في كل الميادين ، وبالتالي أصبحت علاقتها بالمجتمع المدني مضطربة بوجود حركات اجتماعية انبثقت من صلب المجتمع المدني المتجدد في هياكله و ثقافته و رموزه ، و نتج في هذه الحركية و من رفض أجهزة الدولة ، قبول مبدأ المشاركة الحرة والمنظمة -24-.
وعموما ، يصعب الحديث عن مجتمع مدني واقعي أو نموذجي في أي قطر عربي، و ذلك بسبب ارتباط هذا المفهوم بالدولة الحديثة او "الدولة القومية، Nation-state" التي ظهرت بالفعل حديثا في القرنين السابع عشر و الثامن عشر-25-.
إن المجتمع المدني ملازم لوجود الدولة الحديثة و تطورها، التي قامت أساسا على حق المواطنة و المساواة القانونية للمواطنين و شرعية الحكم، و بالتالي تحديد طريقة اختيار الحاكمين و الممثلين للشعب في السلطة السياسية، ومهامهم، ومدة انتهاء التفويض.
وضمن مثل هذه العلاقة ينشأ و يتطور المجتمع المدني لأنه مشروط بوجود المشاركة السياسية وتقنينها في حقوق تحكم الطرفين وواجباتهما بصورة ملزمة من خلال الدساتير المكتوبة و الأعراف .
ومن البديهي القول ،ان وجود المجتمع المدني غير ممكن من دون فضاء ديمقراطي حقيقي تنتشر فيه مؤسسات و تنظيمات شعبية تراقب و تبدع و تكمل سبل تطور المواطنين و تقدمهم، و تضمن مشاركتهم في السلطة السياسية، وفي كل الموارد المادية وغير المادية.
حسب هذا الفهم للعلاقة بين الدولة و المجتمع المدني ، يصبح من الممكن دراسة كل الأقطار العربية كوحدة، رغم بعض الاختلافات التاريخية الخصوصية الموجودة في كل قطر ، لأنها تشترك في مضمون الدولة القائمة ، و في تحديد دور المواطنين و مدى مشاركتهم و الاعتراف بحقوقهم ، ويصبح الاختلاف في الدرجة وليس في النوع بمعنى و جود حدود ، لا يمكن تجاوزها ، مسموح به للمجتمع المدني وأن يمارس قدرا من الحركة و الفعل .
إن المجتمع المدني بذلك، يتبلور من خلال مؤسسات أهلية مستقلة و طوعية تعمل على تأكيد حق المواطنين في المشاركة السياسية بحيث لا تتنامى تسلطية الدولة حتى تقضي على الحقوق الأساسية للإنسان ، مما يعني في الوقت نفسه تناقص شرعية سلطة الدولة ، و يجعل الدولة معزولة واقعيا عن أي سند شعبي حقيقي ، ومن ازدياد الفجوة بين الدولة و المجتمع المدني ، تأتي كل التوترات والصراعات و عجز الدولة و لا مبالاة الجماهير.
إن ذلك يجعل تطور المجتمع المدني يرتبط بعملية التحديث ، ومن ثم تعبر عنه و تمثله على الدوام مؤسسات و تنظيمات غير تقليدية ، و لكن الملاحظ بطء هذا التمايز في الوطن العربي رغم الدور الذي قامت به الأحزاب في إطار النضال الوطني من أجل الاستقلال السياسي .
هكذا نجد ان مستقبل الوطن العربي كثيرا ما ارتهن بقدرته على وجود مجتمع مدني حقيقي ، لأن هذا يعني بلغة أخرى وجود الديمقراطية الصحيحة ببعديها السياسي والاجتماعي. حيث لا يؤدي المجتمع المدني في الوطن العربي وظيفة سياسية فقط، ولكنه أداة للتنمية تعتمل من خلال المشاركة التي تشمل السلطة و الثروة ، وليس المقصود لذلك التوزيع العادل فقط بل تعظيم وتطوير الإنتاج أيضا، والإحساس بالانتماء و الولاء إلى وطن واحد ،يمكن أن يتنامى بوجود مجتمع مدني تربط مؤسساته وتنظيماته المواطنين وتملكهم حقائق الأوضاع الاقتصادية وكشف الفساد أو التبذير مثلا . كل هذا لا يتم إلا بتوسيع قاعدة المجتمع المدني و تغلغله في أعماق القرى و ضم الفئات المهملة والمهمشة إلى تنظيمات المجتمع المدني ليكون بديلا عن التكوينات التي تفرق وتقسم المواطنين على أسس لا تقوم على حقوق المواطنة المتساوية .
وفي قراءة للواقع الحال ،يصعب الحديث هنا عن ما يسمى المجتمع المدني بمفهومه الغربي أو حتى بمفهومه الغرامشي ذي الالتقاء في بعض جوانبه مع المجتمعات الشرق الأوسطية ، فالحديث عن المجتمع المدني بما يتضمن من مؤسسات و تنظيمات اجتماعية وسياسية و مهنية وعمالية غير مكتمل أو بالأحرى غير متسق في كل الأحوال مع ما هو قائم مثلا في مجتمعات الخليج العربي -26-.
إن الحديث عن التنظيمات الأهلية في منطقة الخليج و الجزيرة العربية ليس في الحقيقة حديثا عن مؤسسات وانساق مستقلة عن حركة المجتمع، بقدر ما هي كيانات اجتماعية تأسست في رحم المجتمع المدني الذي منه تستقي شرعيتها ... ثم إن أفول نجم المؤسسات الأهلية ذات الخطاب القومي، وتواري دورها المجتمعي، ليس في الواقع نتاج لقصور في النشاط أو عدم إمكانية الإتيان به أو لقلة التمويل أو كما يطرح البعض مشكل اندماجها ضمن مؤسسات الدولة ، إنما هو في الواقع نتاج لنخبوية الخطاب و عجزه عن طرح البديل الممثل لنبض المجتمع و تحسس طاقاته-27-.
في هذا الصدد ،انبثقت إرهاصات مجتمع مدني في بعض البلدان العربية، وهي على وجه التحديد تلك التي قطعت شوطا مهما على طريق التعددية السياسية ، إلا أن هذا التطور هو في مرحلة متواضعة ، وهو جنيني في البلدان العربية الأخرى-28-.حيث هناك هيكلا لما يسمى المجتمع المدني ينهض على مستوى الوطن العربي، يشمل مباشرة بورجوازية و طبقة عاملة عربيتين تعملان على مستوى الوطن العربي ككل، مع غيرهم من أبناء البلدان العربية الأخرى -29-في إطار منظمات عربية غير رسمية تغطي بنشاطها مجالات عديدة ، وفضلا عن وجود مؤسسات أخرى تتوجه بخطابها أساسا إلى كل المواطنين العرب، مثل الصحافة العربية المهاجرة، و شبكات اذاعية وتلفيزيونية تسعى إلى أن تغطي بإرسالها كل الوطن العربي ، ومن ناحية أخرى، توجد الدولة العربية عن هذا المستوى من خلال المنظمات الرسمية المشتركة بين الحكومات التي تنضوي في معظمها في إطار الجامعة العربية .هذا دون اغفال سياقات المجتمع المدني الذي كان له الفضل في تحريك الراكد و المساهمة في الرجات او الهزات الثورية التي عرفته دول الربيع العربي.
الفرع الثاني: المحاذيرالكبرى لاستعمال وتطور المجتمع المدني في الوطن العربي:
ثمة مجموعة من الصعوبات و المشكلات تواجه الباحث عند تعامله مع مفهوم المجتمع المدني، سواء على مستوى الكتابات العربية الراهنة التي تناولت المفهوم بشكل أو بآخر، وبدرجة أو بأخرى، أو على مستوى الواقع المجتمعي، في الوطن العربي-30-.
أولا: الصعوبات والمشكلات على المستوى الفكري والمفاهيمي:
تبدو مسألة الضبط المفاهيمي إشكالية عميقة صعب الوقوف على مختلف جوانبها ضمن سياقات معرفية تتسم بالتشرذم الفكري ،الذي يصيغ نوع من الضبابية على مفهوم المجتمع المدني في المحيط العربي .ويمكن رصد جملة من الصعوبات في هذا الصدد من قبيل:
* غموض التأصيل النظري والمفاهيمي؛
*
غياب السياق المفاهيمي الصحيح؛
أ-غموض التأصيل النظري والمفاهيمي لمفهوم المجتمع المدني:
وذلك على الرغم من شيوع استخدامه. ففي الآونة الأخيرة تزايد استخدام المفهوم بصورة ملفتة للنظر وذلك على إطلاقيته-31-، بل أصبح من لزوميات الحديث والكتابة في قضايا عديدة مثل مشكل الديمقراطية ، وطبيعة الدولة ، ودور الأحزاب وجماعات المصالح ، وظاهرة الانتقال نحو القطاع الخاص في الوطن العربي ، وعلى الرغم من ذلك فإنه لم يحدث تأصيل نظري رصين للمفهوم من حيث تعريفه و ضبطه و تحديد متغيراته وشروط ظهور المجتمع المدني و تطوره-32-، مما يجعله مفهوما نسبيا-33- من جهة ومن جهة أخرى مفهوما نظريا إجرائيا-43-. إن الحديث عن مجتمع مدني عربي هو حديث محفوف بالمخاطر و المزالق النظرية، فإذا حسمنا في وجوده كان لزاما علينا تحديد أصوله المعرفية التاريخية، وتجلياته في السلوك الاجتماعي و السياسي، وما يزيد الأمر صعوبة هو حداثة مفهوم المجتمع المدني في الكتابات السياسية العربية المعاصرة قياسا إلى غيره من المفاهيم الأخرى .
إن الاستعمال الرائج و المكثف لهذا المفهوم، خصوصا في السنوات الأخيرة، أدى إلى تباين و اختلاف استعمالاته من مثقف لاخر ومن جهة لاخرى ،و بالتالي عدم الإحاطة النظرية الشمولية لمحتوى المفهوم و دلالاته و تشكلاته المعرفية التي تمثلها عبر صيرورته التاريخية-35- .
إن الحديث عن المجتمع المدني في الكتابات العربية ، خلال السنوات الأخيرة ، يمثل نوعا من الصرعة الفكرية ، وكأنه اكتشاف لشيء جديد كان غائبا بشكل كلي عن الوطن العربي ، و الأمر في حقيقته ، لا يخرج عن الحديث عن إحياء المجتمع المدني ، أو بالأحرى إعادة الاعتبار إلى المجتمع المدني الذي تم تغييبه وتهميشه بدرجات مختلفة في معظم البلدان العربية، خلال حقبة السبعينيات والثمانينيات .هكذا ،ونظرا للنشأة الغربية لمفهوم المجتمع المدني ،لم يلتفت معظم الباحثين العرب حول قضايا ومشاكل المجتمع المدني ،وإلى انه لا يوجد في مجتمعنا العربي مجتمع مدني واحد بل عدة مجتمعات-36- .
ب- السياق المفاهيمي الصحيح لمفهوم المجتمع المدني:
يثير ترجمة المصطلح société civile إشكالا مفاهيميا في اللغة العربية ، ففي حين تجد اللغات الأوربية تطابقا و تدرجا في الاشتقاق اللغوي و المفاهيمي معا بين مصطلحات " citoyen, cité civil ,civique " فإننا وإن كنا نجد في قلب اللغة العربية و التراث مصطلح "المدينة" و"المدنية"، فإن تعبير "المواطنة" الذي شاع استخدامه لترجمة citoyenneté يخرج عن " المدنية " و"المدني" و يستعير تعبير الوطن كأساس للاشتقاق، وهذا أمر لا يعكس فحسب إشكالا لغويا، و إنما أيضا إشكالا مفاهيميا في المصطلح، ذلك أن المواطنة والمواطن تعبيران ارتبطا بنشأة الدولة القطرية الوطنية المرتبطة بدورها بحدود قطر أوإقليم أو منطقة ، وبجماعة سكانية تأطرت و انتسبت إلى الدولة ونشأت في لحظة من لحظات العلاقات الدولية في النظام العالمي بعد الحرب العالمية الأولى أو الثانية-37-.
إن جذور المجتمع المدني، بما هو حالة استقلال أو توازن مع الدولة، موجودة بكثافة في العمق التاريخي للوعي العربي، هذا العمق الذي يمثله الدين و الثقافة التراثية ووعي التاريخ بما هو حالة معروفة متجددة و نقدية للماضي.
وإن ما بقي من تراث المجتمع الأهلي القديم لا يعدو أشكال من التماسك الاجتماعي التقليدي الذي اخترقته علاقات الإنتاج الجديدة وأنماط الاستهلاك الحديثة. فطائفة الحرفة أخلت مكانها للنقابة الحديثة، وتعددية الطرق والمذاهب أخلت مكانها للأحزاب وتعددية البرامج السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
لقد أضحت الديمقراطية – ومدخلها الأساسي تداول الحكم عبر الانتخابات المحلية والتشريعية – هي الإطار المستوعب لهذه التعددية الاجتماعية، وهي الشرط لقيام المجتمع المدني الحديث في أقطار الوطن العربي ،كحالة استمرار وتطوير وتجاوز حالة المجتمع الأهلي الذي شهدته المجتمعات العربية في مرحلة الدولة السلطانية.
إن استعادة مظاهر المجتمع الأهلي في التاريخ العربي، لا يستهدف "التبشير" بنموذج تاريخي ناجز للمجتمع المدني الحديث في الوطن العربي، وإنما ملاحظة الأصول و دراستها في ضوء حاجة مشروع النهوض العربي إلى الاستمرارية والنقد و التجاوز .
ولا تهدف العودة التاريخية لمؤسسات المجتمع الأهلي في التاريخ العربي الإسلامي إلى تقديم صورة سجالية في حمى الجدل الذي ارتفع في عدة مراحل تاريخية بين ثنائيات العقل العربي المشطور بين "الديني" و" المدني" أوبين "الإسلامي" و"العلماني" وإنما تطرح العودة التاريخية منهجا آخر في فهم المصطلح و المفهوم و طبيعة علاقة الماضي بالحاضر و تأثيره في المستقبل .
إن التنبه إلى قراءة تاريخية عربية ل"المجتمع المدني" يحمل ضمنيا هموما تراوح بين هاجس البحث عن "الأصيل" أو هم التواصل و الاستمرارية في "هوية ثقافية". ومع ذلك، تبقى المشكلة كامنة في عقل أهل الدولة العربية المعاصرة الذي يأبى فكرة التداول، وفي عقل المعارضة العربية على اختلاف اتجاهاتها التي تستعجل أمر الاستيلاء على السلطة. وبين نزعة التأييد من جهة و الرغبة الجامحة في الاستيلاء من جهة أخرى، ستطول محنة الديمقراطية و تتعثر نشأة المجتمع المدني العربي.
وبشكل عام ،وعلى مستوى طبيعة مفهوم المجتمع المدني يستخدم الباحثون المجتمع المدني و ما يرتبط به من مؤسسات اجتماعية كمقابل للدولة وما يرتبط بها من مؤسسات اجتماعية عامة ، فالدولة تجد نفسها محدودة بالمجتمع المدني، فهذا الأخير يحمي الأفراد من تسلطها... و البعض يستعمل المفهوم كمقابل للدين، أي العلمانية بفصل الدين عن الدولة كمدخل لبناء المجتمع المدني ، فالقانون المدني مستقل عن الدين-38- .
هكذا نجد ان مفهوم المجتمع المدني حمال أوجه، فهو تارة يستخدم في سياق الدولة و المجتمع السياسي، وتارة أخرى في سياق الدين ، وتارة ثالثة في سياق النظم العسكرية و تارة رابعة في سياق الحكم السلطوي الاستبدادي . وهو الأمر الذي يخلق قدرا من الغموض عند التعامل معه ، خاصة أن الكيانات العربية لا تكشف عن حقيقة العلاقات بين الاستخدامات المختلفة للمفهوم، وحدود الاتفاق والتعارض بينها ، ويجسد هذا الوضع ظاهرة ارتباط استخدام المفهوم بالانحيازات القيمية والإيديولوجية لبعض الباحثين ، ويثير ذلك العديد من القضايا الشائكة التي يمكن أن تكون مثارا للجدل و الخلاف مثل : الإطار المرجعي لمفهوم المجتمع المدني على مستوى الفكر والممارسة و حدود تطبيق المفهوم كما تطور من خبرة أو خبرات المجتمعات الغربية على الواقع العربي وموقع الدين الإسلامي في إطار عملية لبناء المجتمع المدني في الوطن العربي.
و تجدر الإشارة هنا إلى أن وجود المجتمع المدني في الوطن العربي لم يكن أبدا مجالا للاتفاق بل اختلفت الآراء حول وجوده من عدمه، حيث أكد بعض المهتمين بهذا المفهوم أنه لا مجال للوجود له في مجتمعات العالم الثالث أو على الأقل لا يمكن أن تجد له مجالا للتطبيق في الواقع العربي مما جعلهم يتحدثون عن المجتمع المدني في الوطن العربي بشكل تقريبي من خلال بعض جوانبه39 -.
إن إحدى الصعوبات الكبرى في التوصل إلى مواقف مشتركة في موضوع المجتمع المدني ، كما هو الحال في كل المواضيع السياسية و الاجتماعية التي تتعلق بالوطن العربي اليوم ينبع من عدم التأكد من أمور ثلاثة رئيسة-40-:
*من جدة استخدام هذه المصطلحات المنقولة عن ثقافة سياسية ، وعدم إلمام مستخدميها أنفسهم بمعرفة جميع المعاني و السياقات التي ارتبطت بها.
* من التبدل السريع في المضمون النظري للمصطلح الناجم عن تبدل التجربة العلمية.
* من السياق الجديد الذي يستخدم فيه، و الذي يرتبط ارتباطا كبيرا في مجتمعاتنا الراهنة بالسجال السياسي، الديني و العملي.
و لهذا، لن يكون من الممكن استخدام المفهوم بصورة علمية و الاستفادة منه في التحليل النظري للمجتمع العربي من دون تحريره من اختلاطات شتى، أولها أن المجتمع المدني يجمع رصيد قيم الحرية و التحرر و يضعه في موضع النقيض من السلطة و الدولة ، وبالتالي فهو لم يتحول في فلسفة السياسة المدنية إلى مفهوم علمي، إلا انه قام على تعيين مجال مميز للممارسات الاجتماعية و تحديد نوع من النشاط مختلف عن السياسات .أما الاختلاط الثاني : فهو نابع من مطابقة مفهوم المجتمع المدني مع مفهوم الشأن الخاص المتعلق بالفرد وحياته الشخصية مقابل الشأن العام و الدولة التي تهتم بالأمور الوطنية، ومن ثم يصبح التحرر والتقدم في اتجاه الديمقراطية رهين الفردية و سيطرة المصلحة الشخصية.
أما الاختلاط الثالث، فهو نابع من محاولة جديدة لوضع مفهوم المجتمع المدني في مقابل مفهوم المجتمع الأهلي ، بتوظيف هذا المفهوم توظيفا سياسيا في وجه التيارات والحركات التي ينظر إليها كتيارات أوحركات حاملة للقيم التقليدية ، ومن ثم يكون المجتمع المدني مطابقا للتنظيمات و البنى الحديثة من حزبية و نقابية وتنظيمات نسائية.
إن ربط مفهوم المجتمع المدني بالديمقراطية ليس له في الواقع إلا وظيفة واحدة هي إعطاء نوع من المشروعية السياسية لمشروع الحداثة الذي تمثله الدولة.
وعلى ضوء ذلك، فإن المجتمع المدني لا يتميز عن السياسة في أنه سياسة ديمقراطية أخرى، ولكن في أنه نمط من التنظيم الاجتماعي يتعلق بعلاقات الأفراد فيما بينهم لا بوصفهم مواطنين أو أعضاء في وطن، أي من حيث خلق رابطة وطنية شاملة ( الأمة و الدولة ) ،و لكن من حيث هم منتجون لحياتهم المادية وعقائدهم وأفكارهم ومقدساتهم و رموزهم .
ومن الصعب فهم الحد الفاصل بين المجتمع المدني و المجتمع السياسي من دون فهم طبيعة السلطة والسياسة، فحدود المجتمع المدني تختلف أيضا مع تغيير النظم الاجتماعية ، وما كان يعتبر في حقبة ما من شؤون المجتمع المدني يمكن أن يصبح من شؤون المجتمع السياسي و العكس صحيح.
كما أن المجتمع المدني يمكن أن يكون مصدرا لقيم المحافظة و الرجعية ،مثلما يمكن أن يكون مصدرا لقيم الحرية و التقدم .إن ما يميز التنظيمات المدنية عن السياسة إذن عنصران :
التنظيمات السياسية مركزية، أي تختص بتكوين السلطة المركزية وحمايتها ،بينما تقوم التنظيمات المدنية على الخصوصية و الاستقلالية الذاتية وتنمية التضامنات الجزئية، أي أنها تنطبق على نشاطات لا تتدخل السلطة المركزية في تنظيمها المباشر .
إن التنظيمات السياسية رسمية، تبنى فيها العلاقات على أساس قانون ثابت وعام و مجرد وموضوعي، في حين أن التنظيمات المدنية تخضع لقواعد غير رسمية رهينة بصورة أكبر لتبدل ميزان القوى أو العادات أوالأخلاق أو المصلحة.
إن التنظيم المدني بذلك، ينطوي ككل تنظيم بشري ، على عناصر سلطة داخلية تتضمن استخدام وسيلتي القمع و الإقناع في سبيل ضبط نشاط الأفراد المنخرطين فيه و سلوكهم ، ولكن في جميع ذلك يتميز نشاط السلطة في التنظيمات المدنية بأنه أكثر مرونة و تعددية ، و يرتبط بعوامل عديدة متغيرة ، مثل الظروف التي تمارس فيها التقديرات الشخصية للقادة و قوة العلاقات الشخصية و جاذبية المصالح المادية .فالتنظيمات المدنية، هي شديدة المرونة وقابلة للتأقلم بشكل أفضل مع الظروف والأوضاع المتجددة، في الزمان والمكان ، ولذلك لا يمكن الاستغناء عنها ، حيث يشكل الثبات و التجريد و العمومية وعدم التميز في التطبيق شروطا تعريفية من شروط السلطة السياسية .
لكن المهم في كل ذلك، هو إدراك حقيقة أساسية وجوهرية هي أن الدولة و المجتمع المدني ليس أمرين مستقلين، و لكنهما مترابطان كليا.
إن لكل دولة و كل نظام سياسي المجتمع المدني الذي يتماشى معه، بل إن المجتمع المدني هو جزء من السياسة بمعناها الواسع و العميق، أي أن من غير الممكن فهم مصير المجتمع المدني في الوطن العربي و تأثير العوامل الداخلية والخارجية فيه، من دون فهم مصير تطور الدولة الحديثة وعلاقاتها بالمجتمع، فالمجتمع المدني هنا يتبلوركعلاقة تكرسها سلطة معنوية أو سياسية تضبط سلوك الأفراد و الجماعات -41-.
ثانيا: الصعوبات و المشكلات على المستوى التطبيقي في الوطن العربي:
إن عملية طرح مؤشرات كمية و كيفية لبناء المجتمع المدني في الوطن العربي تستهدف واقعا اجتماعيا وسياسيا و ثقافيا قائما في الأقطار العربية ، و يطرح هدا الواقع العديد من الصعوبات أمام الممارسة البحثية الهادفة إلى بناء و تطوير هذه المؤشرات ، ويمكن بلورة أهمها فيما يلي :
الاختلافات بين الأقطار العربية من حيث أوضاعها المجتمعية.
الازدواجية داخل المجتمعات العربية.
إن للدين الإسلامي دورا محوريا في منظومة العلاقات و التفاعلات الاجتماعية في الوطن العربي.
مشكلة الدولة في الوطن العربي من حيث ضعف و هشاشة الدولة و عدم تأسيس شرعية ثابتة ومستقرة للدولة، كما أنه ثمة شبه اتفاق عام أن الدولة القطرية تعثرت في إنجاز الأهداف والطموحات الكبرى للعرب وزيادة تبعية الدولة العربية للخارج .
إن الدولة الشمولية المتسلطة لم تشكل أي حل لما يعانيه المجتمع المدني العربي الهجين-42-، فخطاب المجتمع المدني في الفكر السياسي العربي الراهن يعيد تجديد عقائدية الحداثة التي فقدت الكثير من مشروعيتها ومصداقيتها بعد ماأصاب المشاريع اليسارية و القيم الاشتراكية عامة من إخفاق، فجميع هذه الاختلاطات تجنح في الواقع إلى تحويل مفهوم المجتمع المدني إلى محول لعقائدية اجتماعية حديثة مناهضة للعقائدية الإسلامية، وتؤسس للتحالف الجديد بين النخبات الحديثة الخائفة على وضعها السياسي و مواقعها وبين الدولة أو السلطة الشمولية أو الاحتكارية ، التي ينظر إليها في هذا المنظار كضمانة أساسية لاستمرار حركة التحديث و العقلنة الاجتماعية .
إن ربط مفهوم المجتمع المدني بالديمقراطية ليس له في الواقع إلا وظيفة واحدة ،هي إعطاء نوع من المشروعية السياسية لمشروع الحداثة الذي تمثله الدولة، أي لمشروع التحويل البيروقراطي المدني أو العسكري للمجتمعات العربية ، وهو التحويل الذي فقد منذ فترة الأهداف الواضحة والمقنعة . و ليس للاستخدام الواسع اليوم لهذا المفهوم إذن أي محتوى علمي، ولا يقصد على الإطلاق إلى تعميق فهم آلية تحول المجتمعات العربية ودور العناصر أو البنى المدنية و السياسية في ذلك-43-.
إن إصلاح العمل بهذا المصطلح و جعله من جديد مفهوما إجرائيا علميا و ليس محورا لتجديد عقيدة سياسية و شعارا في الحرب العقائدية و السياسية الراهنة في المجتمعات العربية ، يقتضي إذن توضيح المضمون العلمي لهذا المفهوم من جهة، وإبراز الفائدة الفعلية التي يمكن أن تنجم عن استخدامه في تحليل التحول الاجتماعي والسياسي و المدني في المجتمعات العربية المعاصرة .كما ان تدعيم المجتمع المدني لا يرتبط بالقضاء على الدولة أو حتى بالضرورة بإضعافها كمقر للسلطة المركزية، فالمشكلة الكبرى لا تكمن في الدولة. و لكن أيضا و في البداية في بنية المجتمع المدني، والنقد الرئيسي الذي يمكن توجيهه للدولة الاستبدادية و الشمولية التي بررت نفسها دائما و برر المجتمع المدني والرأي العام وجودها بضرورة استخدام القوة لمعالجة تناقضات المجتمع المدني ،هو أنها لم تستطع بالضبط تحقيق هذه المهمة . والكسب السياسي الرئيسي للوعي السياسي العربي، هو إدراك أن القهر و القمع لا يشكلان وسيلة ناجعة لمواجهة حاجات و تطوير المجتمع المدني و تنظيمه .هكذا ،فإن استراتيجية بناء المجتمع المدني في الوطن العربي لم تعد ممكنة على أساس بناء بعض الجمعيات الصغيرة هنا وهناك، فقد تجاوزت مستلزمات هذا البناء ما يمكن هذه الجمعيات أن تقدمه، كما أن الأوضاع السياسية و الأزمة العميقة التي تعيشها الدولة الوطنية تحتم الإعداد لاستراتيجيات كبرى تتعلق مباشرة بالسياسة وهو ما برهنت عليه احداث الربيع العربي .
انه اذا كان من الصحيح القول أنه لا مجتمع مدني اليوم من دون نظام سياسي قادر على حماية هذا المجتمع من التخريب و الاحتواء الخارجي الجدي و الفعلي ، فمن الصحيح أكثر أن لا سياسة اليوم في إطار التنافس الراهن من دون تجاوز الدولة كما هي قائمة، و التفكير الجدي في التكتلات الجيوسياسية أي في تكوين الكيانات الجماعية المتعددة الدول و الأقاليم .
وعموما يمكن الوقوف بصدد المجتمع المدني في الوطن العربي على جملة من الملاحظات:
أولا: لم يعرف المجتمع العربي الإسلامي التفريق بين المجتمع و الدولة حتى القرن التاسع عشر، عندما ظهرت في النصف الثاني منه ملامح جنينية لبعض التنظيمات المستقلة عن الدولة ، مثل الدوريات ،والجمعيات، و الصالونات السياسية الفكرية، و اشتد عودها في العقود الأولى من القرن العشرين ، وهي كلها متأثرة بالنموذج الغربي .
ثانيا: مفهوم المجتمع و الدولة حديثان في أدبيات الفكر السياسي العربي، فكلمة الدولة وردت في النصوص القديمة و لكن بمفهوم لا علاقة له بمفهوم الدولة الحديثة، فمن المعروف أن النظم الإسلامية فقد أطلقت عليها مفاهيم أخرى مثل الخلافة، و الإمامة ، والإمارة و السلطة .أما مفهوم المجتمع ، فإنه لم يستعمل إلا حديثا، ولكن المدينة العربية الإسلامية قد عرفت مند العصر الوسيط تنظيمات حرفية ومهنية ، يمكن أن تعد نوعا من أنواع التنظيم المجتمعي، و قد تزامنت مع ظهور تيارات سياسية – دينية معبرة عن تحولات مجتمعية و معارضة للسلطة، ولا يمكن أن تكون عندئذ إلا ذات صبغة دينية . ويزداد العمق الإشكالي في ارتباطه بمشكلة علاقة الدولة بالمجتمع المدني من خلال الوقوف على مضامين خطاب المثقف العربي الذي لا يكاد يخلو من القول في المجتمع المدني كلما عرض للموضوعات ترجع إلى الوجود السياسي أو الاجتماعي أو تتعلق بقضايا الحضارة والتاريخ-44-.
ومن بين الإشكاليات التي تطرح على هذا المستوى نجد أخيرا ضعف الطبقة المثقفة حيث يبرز الفرق الكبير بين دور المثقف في المجتمعات الغربية الديمقراطية ودوره في الوطن العربي، فقوة المجتمع المدني هناك تجعل دوره مؤثرا، وتقرأ له السلطة ألف حساب.
أما في الأقطار العربية فدوره في جل الحالات مهمش، و صوته مقموع بسبب ضعف قوى المجتمع المدني ، فنظام الحزب الواحد من جهة ، و كذا المؤسسة العسكرية من جهة أخرى قد أمما المجتمع في كثير من الحالات، ولم يسمحا بظهور أي قوة مستقلة تؤمن بالتعددية السياسية و الفكرية وتنادي باحترام الرأي الآخر.ولم تتطورادوار المثقف العربي الا مؤخرا في اطار سيرورة التدفق الشبكي و المعلوماتي المعاصر .
وعموما تمثل النخبة المثقفة دعامة صلبة ضمن قوى المجتمع المدني، إذ أن رسالتها تبرز أساسا في تجذير الوعي المدني ، وغرس روح العمل السياسي و الاهتمام بالشأن العام ، و قد استطاعت أن تؤدي هذه الرسالة في المجتمعات الليبرالية عن طريق الإعلام الحر ، و عبر حرية وسائل النشر و التعبير-45-.
إن ظهور الانقسامات بين قوى المجتمع المدني في الوطن العربي عملية تخضع لتقلبات الأوضاع الداخلية والخارجية... إنه عملية تحصيل وتراكم في مستويين: الخبرة و الوقت من أجل بلورة مجتمع مدني قادر على المساهمة وبكفاءة وفعالية في التنمية البشرية عربيا ، فعملية إنشاء المجتمع المدني دائمة ما دامت تستهدف التنمية البشرية التي بدورها يجب أن تكون مستدامة ، لأن حاجيات البشر غير قابلة للإشباع وبالتالي فبناء المجتمع المدني يحتاج إلى الوقت ، فيجب أولا وضع الأسس البسيطة (ثقافة ، حريات ... ) و تحقيق الأهداف الأولية ، وفي مرحلة ثانية التأثير على البنى الاقتصادية، الاجتماعية والسياسية (عبر السيطرة على التكوينات التقليدية وتفكيكها و فق نسق متكامل ) وتدعيم التراكم المعرفي بالواقع الاجتماعي العربي عبر الاهتمام بالدراسات الميدانية لتحليل الأسس الاجتماعية ، الاقتصادية و الثقافية ، أي عملية التوحيد و التنسيق بين الأطر الفكرية من أجل التعاون لبناء المجتمع المدني و بالتالي لبناء الدولة ، بمعنى عملية تجميع الشتات لبناء السياسات الاقتصادية ، الاجتماعية و السياسية، إنها صيرورة تستلزم التنشئة داخل البنيات الاجتماعية التقليدية داخل المؤسسات الحديثة قصد ترسيخ المجتمع المدني كثقافة و ممارسة لتأطير المواطن و توفير مطالبه .
كما ينبغي الأخذ بالضوابط المنهجية و الموضوعية للنظر في مسألة بناء المجتمع المدني في الوطن العربي والتي تتمثل في ما يلي:
تجاوز النظرة إلى واقع المجتمع المدني في الوطن العربي ، فالمسألة ليست في وجود المجتمع المدني و عدمه و لكن في خصوصية هذا المجتمع المدني في الواقع العربي ، ففي العديد من الأقطار العربية هناك مظاهر لتنظيمات المجتمع المدني، لكنها تظل محدودة الفاعلية نظرا لسيطرة الدول على قوى و مؤسسات المجتمع المدني و تقليص هامش حرية الحركة أمامها من ناحية ، ونظرا إلى بعض المشكلات المرتبطة بهذه القوى و تلك المؤسسات من ناحية ثانية.
تجاوز منطق التفكير بالأماني المفرطة، وهو السمة الغالبة على الكثير من الكتابات العربية .
أخد عنصر الزمن بعين الاعتبار ، فعملية بناء المجتمع المدني ليست مجرد مرحلة يمكن إنجازها في وقت زمني محدد و لكنها عملية مستمرة .
خاتمة :اجمالا، ان عملية بناء المجتمع المدني في الوطن العربي يمكن أن تتم في إطار تصورين كبيرين. الأول تصور ثوري ، يقوم أساسا على إحداث التحولات المطلوبة من أجل بناء المجتمع المدني استنادا إلى عملية تغيير ثوري جذري، تهدم أسس المجتمع القائم، وتبني مجتمعا جديدا، وهذا التصور لا تترجمه الدراسات على الأقل في الأجلين القصير و المتوسط على الرغم من وجود مصادر للتغيير الثوري في الواقع العربي، وذلك نظرا لنجاح النظم القائمة في إحكام قبضتها على مختلف قوى وديناميات المجتمع من ناحية و نظرا إلى ضخامة أجهزة القمع و القهر التي تحمي هذه النظم من ناحية ثانية ، ونظرا إلى تشتت وضعف قوى المعارضة و عدم امتلاكها برامج سياسية بديلة من ناحية ثالثة ، كما أن بعض القوى السياسية و الاجتماعية القادرة على رفع راية الرفض والتحدي في وجه النظم القائمة و ذلك من خلال ممارسة الاحتجاج الاجتماعي والعنف السياسي، لا تملك القدرة على طرح بديل لهذه النظم. أما التصور الثاني فهو بناء المجتمع المدني و تدعيمه طبقا لعملية إصلاحية تدريجية يغلب عليها الطابع السلمي، و يتضمن هدا التصور ممارسة الضغوط على النظم القائمة لإدخال بعض الإصلاحات التي من شأنها إحياء و تنشيط المجتمع المدني ، دون أن يعني ذلك الإطاحة بهذه النظم وهي إصلاحات تستهدف تحسين طرق الحكم و أساليب الإدارة و ترشيد عملية صنع القرارات و السياسات وإقامة التوازن بين الدولة و المجتمع.
وقد أبرزت حركات الربيع العربي مدى أهمية التصورين معا في بناء مجتمع مدني حيوي بل وفي بناء مسار ديمقراطي دينامي.
ومن بين المهام التي يمكن القيام بها من الأجلين القصير والمتوسط لبناء المجتمع المدني في الوطن العربي ما يلي:
إزالة مظاهر الاختلال السياسي بين الحكم و المعارضة في الأقطار العربية و ذلك بطرح تصورات عملية لحل بعض قضايا الصراع و المواجهة بين الجانبين .
العمل من اجل تثبيت و تدعيم عمليات الانتقال نحو التعددية السياسية التي تمت في بعض الأقطار العربية ، حتى لا يتم التراجع عنها .
قيام قوى ومؤسسات المجتمع المدني في الأقطار العربية بإعادة بناء تنظيماتها و مؤسساتها على أسس جديدة .
البحث عن حلول لمشكلة التهميش الاجتماعي .
إعادة النظر بصورة جادة في السياسات العامة في الأقطار العربية .
إعادة النظر في الأطر القانونية و المؤسساتية في الأقطار العربية .
الأخذ بمبادئ الحكامة القادرة لوحدها على تأهيل و الرفع من مكانة المجتمع المدني العربي .
واجمالا، يمكن القول أن هناك تحولات و ظروفا إيجابية زادت من قدر الحرية وانفتاح السلطة في هذا الأنظمة العربية ، والتي أدت إلى قيام نظم ديمقراطية و تبني حقوق الإنسان مما يؤثر في المجتمع المدني ويساهم في اتساع نطاق المؤسسات المدنية على المستوى العربي ذات الأهداف الاقتصادية أو الاجتماعية أو الثقافية أوالسياسية أو المهنية، وهي كلها مؤسسات يمكن أن تشكل قاعدة راسخة لتكامل اقتصادي أو سياسي أوثقافي عربي ، و في مجملها يفترض أن تكون شكلا من أشكال المؤسسات التي تصب في طريق الوحدة العربية على أسس ديمقراطية متعارف عليها ، التي قد تكون في مستقبل الأيام مؤسسات ثابتة لمجتمع مدني عربي موحد متطور دينامي وفعال
الهوامش*
جون اهرنبرغ"المجتمع المدني:التاريخ النقدي للفكرة"
،ترجمة علي حاكم صالح،حسن ناظم.مراجعة فالح عبد الجبار،المنظمة العربية للترجمة،توزيع مركز دراسات الوحدة العربية،الطبعة الاولى ،بيروت،فبراير2008))،ص13.
-2-*عبد اللطيف كداي"العمل الجمعوي و الوساطة الاجتماعية :نحور تطور جديد لدور الجتمع المدني"،المجلة المغربية للسياساتالعموميةREMAPPالعدد4،ربيع2009،ص194.
.-3*-الحبيب الجنحاني" المجتمع المدني بين النظرية و الممارسة"،مجلة عالم الفكر، المجلس الوطني للثقافة و الفنون و الاداب ،الكويت ،العدد الثالث ،يناير/مارس1994،ص39.
*:.-4-عبد اللطيف كداي،مرجعسابق،ص196.
.-5*-محمد احمد بنيس"المجتمع المدني و التباسات التاصيل"،مجلة وجهة نظر،العدد7،ربيع2000،ص14.
*.-6-خالد زيادة ضمن" المجتمع المدني في الوطن العربي و دوره في تحقيق الديمقراطية"-تعقيبات-مركز دراسات الوحدة العربية،بيروت1992،ص137.
.-7-هادي حسن"المجتمع المدني في الوطن العربي و دوره في تحقيق الديمقراطية"-مناقشات-،نفس المرجع،ص139
:.-8-حيدر ابراهيم علي،نفسالمرجع،ص140
-9-مندر الويس ، نفس المرجع ،ص141.
-10-كمال عبد اللطيف،نفسالمرجع،ص143
.-11-مجدي حماد،نفسالمرجع،ص146.
-12-مصطفى كامل السيد"التحولات السياسية الحديثة في الوطن العربي"،(مركز البحوث و الدراسات السياسية ،القاهرة،1989)،ص265 .*.-13-دلال البزري"مقترحات اولية لا ستخدام مفهوم المجتمع المدني في العالم المعاصر"،ندوة القاهرة،الطريق،شباط1989،ص213
-14-*عبد الله ساعف"المجتمع المدني في الفكر الحقوقي العربي" ضمن"المجتمع المدني في الوطن العربي و دوره في تحقيق الديمقراطية"،مرجع سابق،ص229.
-15-نادية رمسيس فرح"المثقفون و الدولة و المجتمع المدني"،ندوة القاهرة،مرجعسابق،ص246
-16-*كريم بقرادوني ،ضمن "المجتمع المدني في الوطن العربي و دوره في تحقيق الديمقراطية"،مرجع سابق،ص369
-17-نفس المرجع،ص371
.-18- مندر الويس، مرجع سابق،ص390
-19-الطاهر لبيب،ضمن"المجتمع المدني في الوطن العربي و دوره في تحقيق الديمقراطية"،مرجع سابق ،ص394
-20-مسعود ظاهر"المجتمع المدني و الدولة في المشرق العربي"،ضمن "المجتمع المدني في الوطن العربي..."نفس المرجع،ص409 .
.-21-صفوح الاخرس،ضمن "المجتمع المدني في الوطن العربي..."،نفس المرجع،ص416.
-22-مسعود ظاهر،مرجع سابق ص429.23*-فريد العلاقي،ضمن"المجتمع المدني في الوطن العربي..."،مرجع سابق،ص428
24-عبد القادر الزغل"المجتمع المدني و الصراع من اجل الهيمنة الايديولوجية في المغرب العربي"،ضمن"المجتمع المدني في الوطن العربي..."،نفس المرجع،ص432
25-حيدر ابراهيم علي،"المجتمع المدني في مصر و السودان"،ضمن"المجتمع المدني في الوطن العربي..."،نفس المرجع،ص503
-26*-باقر النجار"المجتمع المدني في الخليج و الجزيرة العربية"،ضمن "المجتمع المدني في الوطن العربي..."،نفس المرجع،ص565
27*-نفس المرجع،ص586
-28*-مسعود ظاهر،مرجع سابق ،ص:429
-29*-مصطفى كامل السيد،"مؤسسات المجتمع المدني على المستوى القومي"،ضمن"المجتمع المدني في الوطن العربي..."،مرجع سابق،ص:649
-30*-حسين توفيق ابراهيم"بناء المجتمع المدني:المؤشرات الكمية و الكيفية "ضمن "المجتمع المدني في الوطن العربي..."نفس المرجع،ص684.
-31*-نفس المرجعالسابق
-32*-هناك بعض المحاولات لتاصيل المفهوم على المستوى النظري .انظر مثلا،عزمي بشارة "المجتمع المدني دراسة نقدية.مع اشارة للمجتمع المدني العربي"(مركز دراسات الوحدة العربية،الطبعةالثالثة،بيروت2008)من ص29الى ص74،وايضا عبد العزيز لبيب"مفهوم المجتمع المدني:الواقع و الوهم الايديولوجي"،الوحدة،العدد8،يونيو1991،من ص60الى ص66
33*-برهان غليون،ضمن"المجتمع المدني في الوطن العربي..."مرجع سابق،ص:735
-34*-جان و لياملايبار"السلطة السياسية"،ترجمة الياس خياط ،(منشورات عويدات،بيروت1983)،ص59
-35*-محمد احمد بنيس،مرجعسابق،ص14
.-36*-محمود عبد الفضيل،ضمن"المجتمع المدني في الوطن العربي..."،مرجع سابق،ص802
37*-وهبي كوثراني،"المجتمع المدني و الدولة في التاريخ العربي"،نفس المرجع،ص120
-38*-بنعيسى الدمني"بحثا عن المجتمع المدني المنشود"،مجلة مستقبل العالم الاسلامي ،العدد4،السنة الاولى،1991،ص237
-39*-احمد ثابت"التعددية السياسية في الوطن العربي"(الهيئة المصرية العامة للكتاب1990))،ص20
-40*-برهان غليون ضمن "جدلية الدولة و المجتمع بالمغرب"(مجموعة من المؤلفين،دار افريقيا الشرق،الدارالبيضاء،الطبعة الثانية1994)،ص239
-41*- وهو المعنى الذي مافتئت تؤكد عليه مجمل النظريات الحديثة للمجتمع المدني
-42*-برهان غليون "بناء الدولة و المجتمع العربي،دور العوامل الداخلية و الخارجية"،ضمن "المجتمع المدني في الوطن العربي..."مرجع سابق،ص744
-43*-نفس المرجع،ص734
-44*-سعيد بنسعيد العلوي"،نفس المرجع،ص9
-45*-الحبيب الجنحاني"المجتمع المدني و التحول الديمقراطي في الوطن العربي"(منشورات الزمن،مطبعة النجاح الجديدة ،الدار البيضاء2006) )،ص13 .
يعد مفهوم المجتمع المدني مفهوما متطورا معرفيا وفكريا ووظيفيا، وقد تجسد هذا التطور عبر المسارات التاريخية المختلفة التي واكبته وهي المسارات التي أكدت دائما زئبقيته وضبابيته وعدم انحصاره في وجهة نظر واحدة وموحدة.
وتظل المقاربة المفاهيمية للمجتمع المدني دون أهمية تذكر إن لم ترتبط بالحديث عن المسارات الفكرية لهذا المفهوم والتوجهات التي حاولت أن تحيط به عبر الصيرورة التاريخية على صعيد الفكر الفلسفي الغربي سواء لدى الفكر الإغريقي او الفكر الديني ومن خلال الأسس الأخلاقية المؤطرة له أوعبر تواجده في فلسفة رواد العقد الاجتماعي وكذا بعض المنظرين الأولين لهذا المفهوم من غرامشيودوتكفيل. وكذا على صعيد التواجد في الوطن العربي مع ما يفرضه ذلك من صعوبات وعوائق على مستوى هذا التواجد في حد ذاته وعموما شكل المفهوم الغربي للمجتمع المدني منطلقا حقيقيا لانبثاق إرهاصات تطورية لمفهوم متميز بحيويته وديناميته وهو ما سيبرز من خلال معالجتنا لهذا المفهوم على مستوى الوطن العربي.
الفرع الاول: الملامح الكبرى لانبثاق وتبلور المجتمع المدني في الوطن العربي:
من المفاهيم الرائجة في خطابنا العربي الراهن مفهوم "المجتمع المدني". وقبل التفكير فيما يعنيه هذا المفهوم في أصل معناه من جهة وفي الخطاب العربي اليوم من جهة أخرى، يجدر بنا أن ننبه إلى أن تاريخ خطابنا العربي في القرنيين الماضيين يشير بوضوح إلى أن رواج مفهوم من المفاهيم في شعاراتنا وأدبياتنا لا يعني بالضرورة أن ذلك المفهوم يجد ما يسنده أو يؤسسه في واقعنا ومعطيات حياتنا اليومية، فالمطلوب هو التوجه مباشرة إلى الواقع العربي لنلتمس منه تعريف المجتمع المدني، مع الاستعانة في ذلك باستحضار الظروف والملابسات التي جعلتنا نطرح هذا الشعار كمطلب، بعد أن كان غائبا في مجال التفكير في العقود الماضية، على الرغم من أنه كان موجودا منذ قرون كمقولة من مقولات الفكر الأوروبي. إن طرح التساؤل التالي: ما الذي جعلنا في الوقت من الأوقات ننتبه إلى ضرورة الاهتمام بالمجتمع المدني" والمطالبة بالعمل على فسح المجال له لينشأ وينمو، هو ربط مباشر إلى ربط ظهور الحاجة عندنا إلى هذا الشعار بفشل النموذج المجتمعي الذي يشيد على الأرض العربية، من خلال دولة الحزب الوحيد، ودولة الضباط الأحرار ودولة الملكيات المطلقة والرئاسات القبلية والفردية. من هنا سنجد أن مضمون المجتمع المدني في الحقل العربي يرتبط بتصفية "مجتمع العسكر" و"مجتمع القبيلة"، و"مجتمع الحزب الرائد القائد" وبالتالي فسح المجال لقيام مجتمع المؤسسات القائمة على التعبير الديمقراطي الحر. وبناء على ذلك فالبحث في المجتمع المدني يجـب أن لا يتقيد بنفس البداية بالنسبة لجميع الأقطار العربية. إن تفاوت التطور واختلاف التجارب في العالم العربي تقضي أن ننظر إلى مضمون "المجتمع المدني" من مؤشرات متعددة، وأن تكون نظرتنا هذه قابلة للارتداد، مع اعتبار الخصوصية في هذا المجال محددا ابيستيميا لا محيد عنه . ومن مظاهر الخصوصية في أقطار عالمنا
العربي أن الطريق إلى المجتمع المدني قد مر ويمر عبر الانتقال – مثلا – من القبيلة إلى الطريقة الصوفية (المهدية، السنوسية، القادرية، الشاذلية...) وقد يتم الانتقال مباشرة من الطائفة إلى الحزب والنقابة والجمعيات المهنية وغيرها من مؤسسات المجتمع المدني على الطريقة الأوروبية. كما قد يحدث أن تتزامن تلك الأطر الاجتماعية العربية وتتعايش مع بعضها ومع قيام الحزب والنقابة دون أن يكون ذلك بديلا عنها. إن عدم الأخذ بهذا المسار في فهم الواقع العربي قد ينتج عنه، وهذا ما حصل فعلا، انفصال خطير بين "المجتمع المدني" كما نتصوره وتريده النخبة العربية وبين "المجتمع المدني" كما هو بالفعل في واقع الحياة العملية-1-.
لقد بدت تتجلى ملامح المجتمع المدني في المجتمعات العربية من خلال عمل المنظمات والجمعيات وغيرها، حتى وان بدا هذا المفهوم دخيلا على التراث الفكري والسياسي العربي – الإسلامي، باعتبار أن ولادته ونشأته كانت في بيئة مغايرة تماما هي الغرب الأوروبي في مرحلة شهدت صراعا اجتماعيا وسياسيا برز من خلاله مفكرون كبار نحتوا مفاهيم جديدة مثل الوطن والدولة والمجتمع المدني.. وغيرها من المفاهيم التي ارتبطت بمتطلبات الطبقة الاجتماعية الناشئة في البداية.. ليحتل حيزا بارزا لأنصار تياران متعارضان، تيار ليبرالي وتيار اشتراكي لكل رؤيته الخاصة لطبيعة "المجتمع المدني"، ومهما يكن من أمر هذا الاختلاف فان المجتمع العربي الإسلامي لم يستعمل هذا المفهوم إلا حديثا-2-، مع العلم أن الحضارة العربية الإسلامية قد عرفت منذ العصر الوسيط تنظيمات حرفية ومهنية يمكن اعتبارها نوعا من أنواع التنظيم المجتمعي، وقد تزامنت فـي الواقع مع ظهور تيارات سياسية – دينية معبرة عن تحولات مجتمعية معارضة للسلطة، ولا يمكن أن تكون حينئذ إلا ذات صبغة دينية-3-.وبالرغم من أن الجمعيات والمنظمات الأهلية "العصرية" قـد انتشرت في العالم العربي الإسلامي منذ دخول الاستعمار وقبل ذلك بقليل، اثر الاحتكاك بالغرب بصفة عامة، إلا أن تداول هذا المفهوم لم نجد له أثرا بالنظر لارتباط عمل هذه المنظمات المختلفة الاتجاهات والمشارب بالعمل السياسي المباشر ضد الاستعمار، وكانت المعبر الأساسي عن مطامح فئات الشعب قاطبة الهادفة إلى التحرر والانعتاق.
ولم ينتشر هذا المفهوم في أدبيات الفكر السياسي العربي إلا مع مطلع السبعينات ومع ذلك بقي محدودا وانحصر بشكل خاص في البلدان التي تتبنى مشروع تحول ديمقراطي تحمست مـن خلاله النخبة للمفهوم باعتباره حجر الزاوية في كل تحول ديمقراطي-4-.
من هذا المنطلق هل يمكن الحديث أصلا عن مجتمع مدني في العالم العربي بعد سقوط الدولة الوطنية، وتفكك البنى الاجتماعية وبروز ظاهرة العنف المهددة بلا شك لنظام الدولة والمجتمع ككل؟ -5-
لقد بدأ مفهوم المجتمع المدني ينتشر في أدبيات الفكر السياسي العربي المعاصر منذ مطلع السبعينات من القرن المنصرم بصفة خاصة، متأثرا بعودته في المجتمعات الأوروبية، وعرف رواجا بصورة واضحة في البلدان العربية التي رفع فيها الخطاب الرسمي مشاريع التحول الديمقراطي وآثاره الايجابية على مجمل الحياة السياسية الاقتصادية والاجتماعية رغم أن هناك بلدان عربية لم يصلها بعد خبر "المجتمع المدني" فلا نجد له أثرا لا في الخطاب الرسمي ولا في خطاب فئات النخبة-6-.
فالدولة العربية الحديثة منذ محمد علي باشا في مصر لم تقم إلا عبر التدمير المنظـم للمجتمع ومؤسساته وممثليه وقواه، باسم الحداثة ومطلب القوة، من أجل إخضاع المجتمع وإلحاقه بمصالحها.
ولهذا كثيرا ما اصبحنا نرى أن العرب لا يتقدمون إنسانيا وثقافيا واقتصاديا إلا في القطاعات التي تقع خارج رقابة الدولة.
إن المجتمع العربي مافتئ يتسم بالتراتب العمودي سواء بالولاء أو بالانتماء، فالفرد مضطر إلى ترتيب انتمائه وولائه إلى سلسلة متصاعدة تبدأ بالعائلة وتنتهي بالدولة، مرورا بالطائفة والحرفة والقبيلة، وكما هو معروف تكون درجة قوة الولاء أو الانتماء متناسبة عكسيا مع هرمية هذا التراتب العمودي-7-.
وهنا تبرز علاقة عكسية بين السلطة والحرية، على ضوءها تنعدم او تقل شروط قيام المجتمع المدني في حالة قوة السلطة. فالمجتمعات العربية – الإسلامية عرفت طاعة الحاكم خشية منه أكثر مما عرفت الحرية وحق الاختلاف. لذلك أي تقديس وإطلاق للسلطة يعني تضييق مساحة الحرية، حيث ضرورة تقييد السلطـة السياسية ونسبيتها وعدم إعطائها أي صبغة أو مضمون ديني لكي لا نجعلها سلطة مطلقة تحكم بالحكم الإلهي ولا يمكن الاعتراض عليها لأنها تحكم باسم الله وليس باسم الشعب باعتبار أن الحاكمية لله، فالمطلوب تأكيد إنسانية السلطة السياسية ونسبيتها.
وقد كانت هناك بدايات أولية لمجتمع مدني قائم على العدل والمساواة والقانون في العصر الذهبي للدولة العربية الإسلامية الأولى-8-.
وعندما نعود إلى تجربة التاريخ العربي لصياغة حدود مفهوم مثل مفهوم المجتمع المدني، فإن المسألة لا علاقة لها أبدا بشبهة التغريب القائم على مبدأ التماهي الكلي مع الآخر، الغرب الأوروبي الحديث والمعاصر. إن المسألة في أساسها هي مسألة اعتراف بأن المفهوم تبلور في سياق تاريخي موضوعي محدد-9-.
إن مفهوم النشاط الأهلي ليس مقابلا لمفهوم المجتمع المدني، بل هو أقرب إلى المؤسسات والممارسات التي كانت تميز المجتمع الإقطاعي في أوروبا في عصرها الوسيط، وقد جاء مفهـوم المجتمع المدني ليشكل رفضا لها ومحاولة لتجاوزها-10-.
هكذا ،فمحاولة تأمل العلاقة بين الدولة والمجتمع المدني في تاريخ المجتمعات العربية بصفة عامـة، تبرز أن جذور هذه العلاقة سابقة على انتشار الإسلام واللغة العربية بين بلدان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وربما كانت هناك درجة من الاستمرارية في هذه العلاقة منذ التاريخ القديم لهذه المجتمعات حتى تاريخها الحديث. وسوف يؤدي توسيع مجال البحث التاريخي لهذه العلاقة على هذا النحو إلى اكتشاف خصوصية لهذه المجتمعات، تعود إلى خصوصية الدور الذي قامت به الدولة فـي معظمها.
إن الأبحاث التطبيقية عن المجتمع المدني في الأقطار العربية، انتهت إلى أنه ليس هناك مجتمع مدني بالمعنى القائم في الدول القومية العربية، حتى في الأقطار العربية التي انتهجت منهجا تغريبيا.
إن المجتمع المدني نشأ في غمار الدولة العربية. وإذا كان أبسط تعريفات الدولة أنها شعب وحكومة وإقليم، فمعنى ذلك أنه في مرحلة ما قبل الدولة القومية كانت هناك شعوب وأقاليم. وبناء على التطور الاجتماعي نشأت عبر عملية تفاعل، وليس من خلال مراحل، بلورة الإرادة العامة، والاتفاق على العقد الاجتماعي. ومن ثم تعيين حدود الدولة القومية- أوليا – بحدود الجماعة القومية. وهكذا نشأت الدولة القومية ونشأت الإرادة العامة التي حصنت نفسها بمؤسسات المجتمع المدني ونظرا لأنها عملية تفاعل فقد اختلفت من دولة إلى أخرى وان كان الجوهر واحدا، والذي يركز على وظيفتها في التعبير عن الإرادة العامة وتحصينها ضد السلطة.
إن المجتمع المدني يجد أساسه الإيديولوجي في تفاعل ثلاثة نظم من القيم والمعتقدات: أولها: الليبرالية وثانيها: الرأسمالية وثالثها العلمانية .وهذه القيم والمعتقدات الثلاثة – بجوانبها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، لا تتفق مع القيم الإسلامية السائدة في الأقطار العربية.
حيث ان المجتمع المدني نشأ منذ البداية من خلال النضال الذي خاضته طلائع البورجوازية الأوروبية للفصل بين "المدني "والكنيسي" وخاصة تحت وطأة الجمع بينهما في عديد من الحالات حيث كانت السلطة الزمنية والسلطة الدينية تتركزان في يد واحدة. وهذا هو المعنى الدقيق لنقيض كلمة "المدني" وهو المعنى المتداول نفسه عن فصل الدين عن الدولة. وهذا المبدأ لا وجود له في الإسلام. فالإسلام – في حقيقته العقيدية – نظام كلي شامل، لا يفصل الدين عن الدولة، وليس ثمة ناحية في حياة المسلم لا ينظمها بالتشريع أو بالتوجيه-11-.
وبخصوص الوطن العربي الإسلامي يتضح جليا أن وراء هذا المفهوم تبرز سلسلة من التساؤلات وهي مركزة حول اهتمامات مختلفة ومشتتة: غرابة الدولة عن المجتمع والسعي إلى إعادة تأسيس شرعية الدول من جديد، وهي تشمل صيغا عديدة من الإشكاليات الراهنة للدولة: الدولة المانحة التـي تحتضن المجموعات الاجتماعية المختلفة وترضعها وتغذيها عبر سيرورات متنوعة للإدماج والاحتواء، وهو احتواء ينتج منه طرد ونفي واستبعاد مجموعات وفئات أخرى، إذ تطرح قضيــة الطوائف ضد المواطنة والتعددية الحالية ضد تعددية أخرى يؤمل الوصول إليها، كما تطرح مسألـة سياسات سد الرمق والمحافظة على البقاء وأنواع معينة من الاستراتيجيات المشتركة بين نخبات الدولة والجماهير من أجل الاستمرار-12-.
في هذا الصدد، يلاحظ في الوطن العربي، أن الاستعمال الشائع للمفهوم يطرح في شكل مجموعة حواجز-13- تحد من سلطة الدولة، ومجموعة كوابح تكبح تدخليةأجهزاتها الإدارية والأمنية، وتقوم ضد نفوذها، الممتد إلى مجالات متعددة. وينزع المفهوم في الوقت نفسه إلى توسيع حقل الحريات-14-.
إن مؤشرات المجتمع المدني في الوطن العربي تحيل قبل كل شيء إلى رهان مرتبط بالارتقاء إلى حالة مدنية في الوقت الذي تضع فيه شكل نظام سياسي معين موضوع تساؤل-15-.
فالبحثالمضني عن تعامل الفكر الحقوقي العربي مع خريطة الأشكال الدستورية القانونية الأساسيـة الموجودة في الوطن العربي، وما يتضمن ذلك من رؤى وتقييمات من شأنه أن يكشف عن ملامح المجتمع المدني في الواقع العربي. ويمكن الاعتماد على تصنيفات مختلفة لتحديد طبيعة ودور ومكانة المجتمع المدني الذي بلوره الفكر الحقوقي العربي مثل: التمييز بين الأنظمة التقليدية والأنظمـة الحديثة والأنظمة التي توصلت إلى مزج معين لمؤسساتها الحديثة، والتمييز بين الأنظمة التي تعتمد التعددية والأنظمة التي تعتمد الحزب الوحيد، وبين الأنظمة التي تتبنى الديمقراطية والأنظمة السلطوية.. وهنا نجد أن مشكل هذه التمايزاتيبرزفي كونها، كثيرا ماتتقاطع لتطرح إشكالية المشاركة في قالب يتشابه إلى حد بعيد.
إن جمع عناصر التمثلات القانونية للمجتمع المدني، بما فيها النصوص التشريعية أو القانونيـة، عمل أساسي في دراسة الفكر الحقوقي، لكون هذه النصوص موجودة فعلا وجزءا من الواقـع، ومرجعية حية فيه، بل سلاحا يؤدي وظيفته بين أيدي العديد من الفاعلين.
فالنظام العربي الرسمي في مجمله لم يصل بعد إلى مفهوم الدولة القانونية المعاصرة ، فالأقطار العربية تحكم بنظم حكم عشائرية أو عائلية أو بنظم فردية أو بنظم حكم حزبية وحيدة ماسكة للسلطة و هيئات دستورية أو قانونية شكلية لأنها غير منتخبة انتخابا حرا و حقيقيا ،و بالتالي فإنها لا تمثل إرادة شعبية ، كما أن نظم الحكم العربية نفسها لا تملك الصفة الشرعية لأنها غير منتخبة شعبيا في الأساس .
هكذا نجد أن الوضع العربي المعاصر لا يساعد على إقامة مجتمع مدني بالمعنى المعروف بسبب تدخل الدولة في نشاط الأفراد و تقييد حرياتهم.
فالدولة تعارض كليا قيام مجتمع مدني متحضر، علما أن الدساتير العربية تنص على حرية تنظيم الجمعيات والنقابات و حق النشر و التأليف و مع ذلك تبقى نصوصا بلا تطبيق .
كما أن البيروقراطية الإدارية والمركزية و السياسية السائدة بشكل عام ، إضافة إلى عزوف المواطنين بسبب عدم مشاركتهم في السلطة السياسية ، كلها تشكل معوقات لقيام مجتمع مدني حقيقي ،فاعل و دينامي.
و مع ذلك، يمكن القول إن هناك تحولات و ظروفا إيجابية زادت من قدر الحرية و انفتاح السلطة في هذا النظام العربي أو ذاك بسبب التغيرات الدولية التي جرت على الساحة العالمية ، والتي أدت إلى قيام نظم ديمقراطية و تبني حقوق الإنسان ، مما يؤثر في تزايد نشاط الأفراد و اتساع رقعة المجتمع المدني . وهو ما تبلور بشكل أساسي في فترة الحراك العربي وتبعاتها على مستوى المسارات الديمقراطية للدول العربية.
كما أن اتساع نطاق المؤسسات القومية على المستوى العربي ذات الأهداف الاقتصادية أو الاجتماعية أو الثقافية أو السياسية أو المهنية ... شكل قاعدة أساسية لتكامل اقتصادي و سياسي وثقافي عربي ، وهي في مجملها يفترض أن تكون شكلا من أشكال المؤسسات التي تصب في طريق الوحدة العربية على أساس ديمقراطية متعارف عليها، التي قد تكون في مستقبل الأيام مؤسسات ثابتة لمجتمع مدني عربي موحد .
إن المجتمع المدني ليس هياكل فقط بل هو قيم قبل كل شيء ، فالكثير من المؤسسات "المدنية" في الوطن العربي لا تمت بصلة إلى المجتمع المدني ، بل هي أقرب إلى الدولة والمؤسسات المعيقة لتطور الفكر المدني .
وعموما يمكن أن نستخلص أن مفهوم " المجتمع المدني " حديث العهد، وقد مر بالدول العربية من ثلاث مراحل تاريخية :
المرحلة الأولى: انتفاء وجود المجتمع المدني .
إنها المرحلة الأطول و لقد امتدت ثلاثة عشر قرنا من فجر الإسلام إلى فجر الحركات الاستقلالية في القرن العشرين ، وقد سادت فيها مجموعة من المفاهيم :
مفهوم الشورى بدل الديمقراطية.
مفهوم الإنصاف بدل الحرية.
مفهوم الطاعة للسلطان باسم الدين.
وباستثناء عهد الرسول والخلفاء الراشدين و بعض الحالات النادرة ، فإن السمة الطاغية على هذه المرحلة هي نشوء النظام السلطوي و الاستبدادي الذي استند إلى الدين و القوة والمال و اغفل حقوق الإنسان في الحرية أو حقوق الشعوب في العدالة ، ووقف معظم العلماء و الفقهاء في معظم الأوقات إلى جانب السلطان في مواجهة الحركات الشعبية و الاجتماعية التي غابت في أكثر الأحيان إلا في بعض الحالات الظرفية مثل الخوارج والقرامطة ، ومن خلال هذه المرحلة الطويلة لم تكن الديمقراطية مطروحة كمطلب اجتماعي .
المرحلة الثانية: بروز المجتمع المدني مع حركات التحرر و الاستقلال .
وهي مرحلة بدأت مع بروز الحركات الاستقلالية في الوطن العربي و قد تبلورت في قيام الأحزاب والنقابات و جماعات الضغط ووسائل الإعلام و أعمال المعارضة الجماعية و سادت في هذه المرحلة مفاهيم:
الاستقلال قبل الديمقراطية ؛
العدالة قبل الحرية ؛
النظام الاشتراكي بدل النظام الديمقراطي ؛
لقد تبدل الخطاب السياسي برفع الشعار الديمقراطي و لم يتبدل واقع النظام السياسي و الذي استمر سلطويا استبداديا و فرديا عن طريق حكم العائلة و الملكية أو الإماراتية أو حكم الحزب الواحد أو الجيش.
وفي هذه المرحلة برزت طروحات حول الديمقراطية ، لكنها بقيت مجرد طروحات و لم تتحول إلى مطلب اجتماعي .
المرحلة الثالثة :
قيام المجتمع المدني و مطلب الديمقراطية
إنها مرحلة ما بعد الاستقلال وقد برزت معالمها في السبعينيات و بالتحديد بعد 1967 حيث ارتفع مطلب الديمقراطية داخل كل الأقطار العربية، ولو بأشكال مختلفة و متفاوتة، وازداد إلحاحا بعد حرب الخليج-16-.
إن النموذج السائد في هذه المرحلة هو براديغم الطاعة، بحيث تأتي الديمقراطية بقرار السلطان فتكون "ديمقراطية مفروضة " بوسائل غير ديمقراطية أو ديمقراطية فوقية " دون مشاركة شعبية حقيقية و دون وعي جماهيري كاف لحقه الطبيعي في نظام ديمقراطي"-17- وبالتالي لا تكون هناك إمكانية لبناء مجتمع مدني متطور.
إن المشروع المطروح للديمقراطية، باعتباره يستند في أسسه إلى الفلسفة الغربية مرفوض إلى حد بعيد من قبل القوى العربية التي تمثل الإسلام السياسي التي ترى أن مشروعها يتحقق في ظل دولة الشورى الإسلامية وليس في الديمقراطية الليبرالية التي ترفضها أيضا القوى العربية الاشتراكية ، والحقيقة أن الديمقراطية هي الأساس لقيام مجتمع مدني عربي يضمن الحرية والمساواة، مما يساعد على إقامة مؤسسات اجتماعية واقتصادية و ثقافية مستقلة عن سلطة الدولة وتدخلها، فالمشروع الديمقراطي المطروح كفلسفة لسلطة الحكم في المجتمع العربي إذا قدر له التطبيق، فإنه سوف يساعد على إقامة مجتمع عربي متحضر يسوده الإبداع وبروز المواهب، وتقدم التنمية في المجتمع العربي ،مما يمكن من قيام مؤسسات و شراكات و هيئات جديدة، الشيء الذي يزيد من فعالية المجتمع المدني العربي الجديد-18- .
وتجدر الإشارة في هذا الصدد، وعند الحديث عن المجتمع العربي بما في ذلك المجتمع المدني العربي، أنه كثيرا مايتم إغفال اختلاف المراحل و التجارب والخصوصيات، وقد يكون هذا موروثا عن رؤية إيديولوجية اختزالية لم ترق إلى جدلية الخاص والعام وإلى جدلية الوطني والقومي إلى حد أن بعض التجارب المتقدمة تم الاحتراز منها خوفا من خصوصيتها-19- .
وهنا، نجد أن المتتبع لتاريخ الدولة القطرية العربية في علاقتها بمؤسسات المجتمع المدني يصل إلى استنتاج ملموس تؤكده وقائع ثابتة و كثيرة، وهو أن هذه الدولة عززت مواقعها ودورها و بناها القطرية على حساب المجتمع المدني و بناه الوحدوية القومية و بالتالي ، فالعلاقة عكسية أو تناقضية ما بين زيادة فاعلية الدولة القطرية و أدائها القطري بواسطة القمع و الإرهاب ، ومابين البنى الشمولية الوحدودية لمؤسسات المجتمع المدني على امتداد الوطن العربي .
ومع توطد بناء الدولة القطرية ،منذ الحرب العالمية الأولى إلى مرحلة متأخرة من القرن العشرين، تحت إشراف الانتداب الخارجي أو القوى القطرية التي ورثت عنه هذه الدولة ، فإن المجتمع المدني الموحد في المشرق العربي خاصة ،قد تفسخ بحدة ، وتحول إلى مجتمعات مدنية قطرية تختزن من عناصر التجزئة و التفكك أكثر مما تختزن من عناصر التوحيد الوطني و الانصهار القومي .
لقد حولت الدولة القطرية المجتمع المدني الموحد في المشرق العربي إلى مجتمعات مدنية قطرية هشة و مفككة من الداخل، و متناحرة فيما بينها عبر نزاعات لا تنقطع-20- .
هكذا، لم يشهد المشرق العربي بعد الاستقلال مفهوم الدولة، وإنما كانت هناك وحدات سياسية، أما مفهوم المجتمع المدني فله بناء يوازي بناء الدولة.
إن إرساء المجتمع المدني لابد أن يعتمد على مؤسسات اقتصادية واجتماعية وثقافية وسياسية متعددة النشاطات مستوعبة كل الأهداف بإطار يربط بعلاقة "وظيفية" بين الديمقراطية والتنمية، وينقل بمنهج حركي الواقع التنموي إلى واقع آخر متقدم عنه بعناصره الكمية والكيفية ، فلا مقايضة لمحور على حساب محور آخر، و إنما ينتظم الكل فكرا وممارسة في منهج للتعددية السياسية و التعددية الاقتصادية تستوعب كل النشاطات-21-.
المجتمع المدني بذلك، هو مجموعة المؤسسات السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية التي تعمل في ميادين مختلفة في استقلال عن سلطة الدولة ،وعكس ذلك ففي وطننا العربي لا نرى و جودا لأي مؤسسة من المؤسسات المذكورة دون أن يكون لوجودها صك شرعي أو قرار رسمي من قبل الدولة-22-.
إن غياب الدولة يجعل مؤسسات المجتمع المدني تلعب دورا أساسيا على مختلف الأصعدة الاقتصادية والاجتماعية و المعيشية و غيرها-23-.
وقد تاكد كل ذلك بشكل جلي ،من خلال نموذج دولة الاستقلال التي أضحت غير قادرة بمواردها المادية و الرمزية على تأطير العلاقات الاجتماعية في كل الميادين ، وبالتالي أصبحت علاقتها بالمجتمع المدني مضطربة بوجود حركات اجتماعية انبثقت من صلب المجتمع المدني المتجدد في هياكله و ثقافته و رموزه ، و نتج في هذه الحركية و من رفض أجهزة الدولة ، قبول مبدأ المشاركة الحرة والمنظمة -24-.
وعموما ، يصعب الحديث عن مجتمع مدني واقعي أو نموذجي في أي قطر عربي، و ذلك بسبب ارتباط هذا المفهوم بالدولة الحديثة او "الدولة القومية، Nation-state" التي ظهرت بالفعل حديثا في القرنين السابع عشر و الثامن عشر-25-.
إن المجتمع المدني ملازم لوجود الدولة الحديثة و تطورها، التي قامت أساسا على حق المواطنة و المساواة القانونية للمواطنين و شرعية الحكم، و بالتالي تحديد طريقة اختيار الحاكمين و الممثلين للشعب في السلطة السياسية، ومهامهم، ومدة انتهاء التفويض.
وضمن مثل هذه العلاقة ينشأ و يتطور المجتمع المدني لأنه مشروط بوجود المشاركة السياسية وتقنينها في حقوق تحكم الطرفين وواجباتهما بصورة ملزمة من خلال الدساتير المكتوبة و الأعراف .
ومن البديهي القول ،ان وجود المجتمع المدني غير ممكن من دون فضاء ديمقراطي حقيقي تنتشر فيه مؤسسات و تنظيمات شعبية تراقب و تبدع و تكمل سبل تطور المواطنين و تقدمهم، و تضمن مشاركتهم في السلطة السياسية، وفي كل الموارد المادية وغير المادية.
حسب هذا الفهم للعلاقة بين الدولة و المجتمع المدني ، يصبح من الممكن دراسة كل الأقطار العربية كوحدة، رغم بعض الاختلافات التاريخية الخصوصية الموجودة في كل قطر ، لأنها تشترك في مضمون الدولة القائمة ، و في تحديد دور المواطنين و مدى مشاركتهم و الاعتراف بحقوقهم ، ويصبح الاختلاف في الدرجة وليس في النوع بمعنى و جود حدود ، لا يمكن تجاوزها ، مسموح به للمجتمع المدني وأن يمارس قدرا من الحركة و الفعل .
إن المجتمع المدني بذلك، يتبلور من خلال مؤسسات أهلية مستقلة و طوعية تعمل على تأكيد حق المواطنين في المشاركة السياسية بحيث لا تتنامى تسلطية الدولة حتى تقضي على الحقوق الأساسية للإنسان ، مما يعني في الوقت نفسه تناقص شرعية سلطة الدولة ، و يجعل الدولة معزولة واقعيا عن أي سند شعبي حقيقي ، ومن ازدياد الفجوة بين الدولة و المجتمع المدني ، تأتي كل التوترات والصراعات و عجز الدولة و لا مبالاة الجماهير.
إن ذلك يجعل تطور المجتمع المدني يرتبط بعملية التحديث ، ومن ثم تعبر عنه و تمثله على الدوام مؤسسات و تنظيمات غير تقليدية ، و لكن الملاحظ بطء هذا التمايز في الوطن العربي رغم الدور الذي قامت به الأحزاب في إطار النضال الوطني من أجل الاستقلال السياسي .
هكذا نجد ان مستقبل الوطن العربي كثيرا ما ارتهن بقدرته على وجود مجتمع مدني حقيقي ، لأن هذا يعني بلغة أخرى وجود الديمقراطية الصحيحة ببعديها السياسي والاجتماعي. حيث لا يؤدي المجتمع المدني في الوطن العربي وظيفة سياسية فقط، ولكنه أداة للتنمية تعتمل من خلال المشاركة التي تشمل السلطة و الثروة ، وليس المقصود لذلك التوزيع العادل فقط بل تعظيم وتطوير الإنتاج أيضا، والإحساس بالانتماء و الولاء إلى وطن واحد ،يمكن أن يتنامى بوجود مجتمع مدني تربط مؤسساته وتنظيماته المواطنين وتملكهم حقائق الأوضاع الاقتصادية وكشف الفساد أو التبذير مثلا . كل هذا لا يتم إلا بتوسيع قاعدة المجتمع المدني و تغلغله في أعماق القرى و ضم الفئات المهملة والمهمشة إلى تنظيمات المجتمع المدني ليكون بديلا عن التكوينات التي تفرق وتقسم المواطنين على أسس لا تقوم على حقوق المواطنة المتساوية .
وفي قراءة للواقع الحال ،يصعب الحديث هنا عن ما يسمى المجتمع المدني بمفهومه الغربي أو حتى بمفهومه الغرامشي ذي الالتقاء في بعض جوانبه مع المجتمعات الشرق الأوسطية ، فالحديث عن المجتمع المدني بما يتضمن من مؤسسات و تنظيمات اجتماعية وسياسية و مهنية وعمالية غير مكتمل أو بالأحرى غير متسق في كل الأحوال مع ما هو قائم مثلا في مجتمعات الخليج العربي -26-.
إن الحديث عن التنظيمات الأهلية في منطقة الخليج و الجزيرة العربية ليس في الحقيقة حديثا عن مؤسسات وانساق مستقلة عن حركة المجتمع، بقدر ما هي كيانات اجتماعية تأسست في رحم المجتمع المدني الذي منه تستقي شرعيتها ... ثم إن أفول نجم المؤسسات الأهلية ذات الخطاب القومي، وتواري دورها المجتمعي، ليس في الواقع نتاج لقصور في النشاط أو عدم إمكانية الإتيان به أو لقلة التمويل أو كما يطرح البعض مشكل اندماجها ضمن مؤسسات الدولة ، إنما هو في الواقع نتاج لنخبوية الخطاب و عجزه عن طرح البديل الممثل لنبض المجتمع و تحسس طاقاته-27-.
في هذا الصدد ،انبثقت إرهاصات مجتمع مدني في بعض البلدان العربية، وهي على وجه التحديد تلك التي قطعت شوطا مهما على طريق التعددية السياسية ، إلا أن هذا التطور هو في مرحلة متواضعة ، وهو جنيني في البلدان العربية الأخرى-28-.حيث هناك هيكلا لما يسمى المجتمع المدني ينهض على مستوى الوطن العربي، يشمل مباشرة بورجوازية و طبقة عاملة عربيتين تعملان على مستوى الوطن العربي ككل، مع غيرهم من أبناء البلدان العربية الأخرى -29-في إطار منظمات عربية غير رسمية تغطي بنشاطها مجالات عديدة ، وفضلا عن وجود مؤسسات أخرى تتوجه بخطابها أساسا إلى كل المواطنين العرب، مثل الصحافة العربية المهاجرة، و شبكات اذاعية وتلفيزيونية تسعى إلى أن تغطي بإرسالها كل الوطن العربي ، ومن ناحية أخرى، توجد الدولة العربية عن هذا المستوى من خلال المنظمات الرسمية المشتركة بين الحكومات التي تنضوي في معظمها في إطار الجامعة العربية .هذا دون اغفال سياقات المجتمع المدني الذي كان له الفضل في تحريك الراكد و المساهمة في الرجات او الهزات الثورية التي عرفته دول الربيع العربي.
الفرع الثاني: المحاذيرالكبرى لاستعمال وتطور المجتمع المدني في الوطن العربي:
ثمة مجموعة من الصعوبات و المشكلات تواجه الباحث عند تعامله مع مفهوم المجتمع المدني، سواء على مستوى الكتابات العربية الراهنة التي تناولت المفهوم بشكل أو بآخر، وبدرجة أو بأخرى، أو على مستوى الواقع المجتمعي، في الوطن العربي-30-.
أولا: الصعوبات والمشكلات على المستوى الفكري والمفاهيمي:
تبدو مسألة الضبط المفاهيمي إشكالية عميقة صعب الوقوف على مختلف جوانبها ضمن سياقات معرفية تتسم بالتشرذم الفكري ،الذي يصيغ نوع من الضبابية على مفهوم المجتمع المدني في المحيط العربي .ويمكن رصد جملة من الصعوبات في هذا الصدد من قبيل:
* غموض التأصيل النظري والمفاهيمي؛
*
غياب السياق المفاهيمي الصحيح؛
أ-غموض التأصيل النظري والمفاهيمي لمفهوم المجتمع المدني:
وذلك على الرغم من شيوع استخدامه. ففي الآونة الأخيرة تزايد استخدام المفهوم بصورة ملفتة للنظر وذلك على إطلاقيته-31-، بل أصبح من لزوميات الحديث والكتابة في قضايا عديدة مثل مشكل الديمقراطية ، وطبيعة الدولة ، ودور الأحزاب وجماعات المصالح ، وظاهرة الانتقال نحو القطاع الخاص في الوطن العربي ، وعلى الرغم من ذلك فإنه لم يحدث تأصيل نظري رصين للمفهوم من حيث تعريفه و ضبطه و تحديد متغيراته وشروط ظهور المجتمع المدني و تطوره-32-، مما يجعله مفهوما نسبيا-33- من جهة ومن جهة أخرى مفهوما نظريا إجرائيا-43-. إن الحديث عن مجتمع مدني عربي هو حديث محفوف بالمخاطر و المزالق النظرية، فإذا حسمنا في وجوده كان لزاما علينا تحديد أصوله المعرفية التاريخية، وتجلياته في السلوك الاجتماعي و السياسي، وما يزيد الأمر صعوبة هو حداثة مفهوم المجتمع المدني في الكتابات السياسية العربية المعاصرة قياسا إلى غيره من المفاهيم الأخرى .
إن الاستعمال الرائج و المكثف لهذا المفهوم، خصوصا في السنوات الأخيرة، أدى إلى تباين و اختلاف استعمالاته من مثقف لاخر ومن جهة لاخرى ،و بالتالي عدم الإحاطة النظرية الشمولية لمحتوى المفهوم و دلالاته و تشكلاته المعرفية التي تمثلها عبر صيرورته التاريخية-35- .
إن الحديث عن المجتمع المدني في الكتابات العربية ، خلال السنوات الأخيرة ، يمثل نوعا من الصرعة الفكرية ، وكأنه اكتشاف لشيء جديد كان غائبا بشكل كلي عن الوطن العربي ، و الأمر في حقيقته ، لا يخرج عن الحديث عن إحياء المجتمع المدني ، أو بالأحرى إعادة الاعتبار إلى المجتمع المدني الذي تم تغييبه وتهميشه بدرجات مختلفة في معظم البلدان العربية، خلال حقبة السبعينيات والثمانينيات .هكذا ،ونظرا للنشأة الغربية لمفهوم المجتمع المدني ،لم يلتفت معظم الباحثين العرب حول قضايا ومشاكل المجتمع المدني ،وإلى انه لا يوجد في مجتمعنا العربي مجتمع مدني واحد بل عدة مجتمعات-36- .
ب- السياق المفاهيمي الصحيح لمفهوم المجتمع المدني:
يثير ترجمة المصطلح société civile إشكالا مفاهيميا في اللغة العربية ، ففي حين تجد اللغات الأوربية تطابقا و تدرجا في الاشتقاق اللغوي و المفاهيمي معا بين مصطلحات " citoyen, cité civil ,civique " فإننا وإن كنا نجد في قلب اللغة العربية و التراث مصطلح "المدينة" و"المدنية"، فإن تعبير "المواطنة" الذي شاع استخدامه لترجمة citoyenneté يخرج عن " المدنية " و"المدني" و يستعير تعبير الوطن كأساس للاشتقاق، وهذا أمر لا يعكس فحسب إشكالا لغويا، و إنما أيضا إشكالا مفاهيميا في المصطلح، ذلك أن المواطنة والمواطن تعبيران ارتبطا بنشأة الدولة القطرية الوطنية المرتبطة بدورها بحدود قطر أوإقليم أو منطقة ، وبجماعة سكانية تأطرت و انتسبت إلى الدولة ونشأت في لحظة من لحظات العلاقات الدولية في النظام العالمي بعد الحرب العالمية الأولى أو الثانية-37-.
إن جذور المجتمع المدني، بما هو حالة استقلال أو توازن مع الدولة، موجودة بكثافة في العمق التاريخي للوعي العربي، هذا العمق الذي يمثله الدين و الثقافة التراثية ووعي التاريخ بما هو حالة معروفة متجددة و نقدية للماضي.
وإن ما بقي من تراث المجتمع الأهلي القديم لا يعدو أشكال من التماسك الاجتماعي التقليدي الذي اخترقته علاقات الإنتاج الجديدة وأنماط الاستهلاك الحديثة. فطائفة الحرفة أخلت مكانها للنقابة الحديثة، وتعددية الطرق والمذاهب أخلت مكانها للأحزاب وتعددية البرامج السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
لقد أضحت الديمقراطية – ومدخلها الأساسي تداول الحكم عبر الانتخابات المحلية والتشريعية – هي الإطار المستوعب لهذه التعددية الاجتماعية، وهي الشرط لقيام المجتمع المدني الحديث في أقطار الوطن العربي ،كحالة استمرار وتطوير وتجاوز حالة المجتمع الأهلي الذي شهدته المجتمعات العربية في مرحلة الدولة السلطانية.
إن استعادة مظاهر المجتمع الأهلي في التاريخ العربي، لا يستهدف "التبشير" بنموذج تاريخي ناجز للمجتمع المدني الحديث في الوطن العربي، وإنما ملاحظة الأصول و دراستها في ضوء حاجة مشروع النهوض العربي إلى الاستمرارية والنقد و التجاوز .
ولا تهدف العودة التاريخية لمؤسسات المجتمع الأهلي في التاريخ العربي الإسلامي إلى تقديم صورة سجالية في حمى الجدل الذي ارتفع في عدة مراحل تاريخية بين ثنائيات العقل العربي المشطور بين "الديني" و" المدني" أوبين "الإسلامي" و"العلماني" وإنما تطرح العودة التاريخية منهجا آخر في فهم المصطلح و المفهوم و طبيعة علاقة الماضي بالحاضر و تأثيره في المستقبل .
إن التنبه إلى قراءة تاريخية عربية ل"المجتمع المدني" يحمل ضمنيا هموما تراوح بين هاجس البحث عن "الأصيل" أو هم التواصل و الاستمرارية في "هوية ثقافية". ومع ذلك، تبقى المشكلة كامنة في عقل أهل الدولة العربية المعاصرة الذي يأبى فكرة التداول، وفي عقل المعارضة العربية على اختلاف اتجاهاتها التي تستعجل أمر الاستيلاء على السلطة. وبين نزعة التأييد من جهة و الرغبة الجامحة في الاستيلاء من جهة أخرى، ستطول محنة الديمقراطية و تتعثر نشأة المجتمع المدني العربي.
وبشكل عام ،وعلى مستوى طبيعة مفهوم المجتمع المدني يستخدم الباحثون المجتمع المدني و ما يرتبط به من مؤسسات اجتماعية كمقابل للدولة وما يرتبط بها من مؤسسات اجتماعية عامة ، فالدولة تجد نفسها محدودة بالمجتمع المدني، فهذا الأخير يحمي الأفراد من تسلطها... و البعض يستعمل المفهوم كمقابل للدين، أي العلمانية بفصل الدين عن الدولة كمدخل لبناء المجتمع المدني ، فالقانون المدني مستقل عن الدين-38- .
هكذا نجد ان مفهوم المجتمع المدني حمال أوجه، فهو تارة يستخدم في سياق الدولة و المجتمع السياسي، وتارة أخرى في سياق الدين ، وتارة ثالثة في سياق النظم العسكرية و تارة رابعة في سياق الحكم السلطوي الاستبدادي . وهو الأمر الذي يخلق قدرا من الغموض عند التعامل معه ، خاصة أن الكيانات العربية لا تكشف عن حقيقة العلاقات بين الاستخدامات المختلفة للمفهوم، وحدود الاتفاق والتعارض بينها ، ويجسد هذا الوضع ظاهرة ارتباط استخدام المفهوم بالانحيازات القيمية والإيديولوجية لبعض الباحثين ، ويثير ذلك العديد من القضايا الشائكة التي يمكن أن تكون مثارا للجدل و الخلاف مثل : الإطار المرجعي لمفهوم المجتمع المدني على مستوى الفكر والممارسة و حدود تطبيق المفهوم كما تطور من خبرة أو خبرات المجتمعات الغربية على الواقع العربي وموقع الدين الإسلامي في إطار عملية لبناء المجتمع المدني في الوطن العربي.
و تجدر الإشارة هنا إلى أن وجود المجتمع المدني في الوطن العربي لم يكن أبدا مجالا للاتفاق بل اختلفت الآراء حول وجوده من عدمه، حيث أكد بعض المهتمين بهذا المفهوم أنه لا مجال للوجود له في مجتمعات العالم الثالث أو على الأقل لا يمكن أن تجد له مجالا للتطبيق في الواقع العربي مما جعلهم يتحدثون عن المجتمع المدني في الوطن العربي بشكل تقريبي من خلال بعض جوانبه39 -.
إن إحدى الصعوبات الكبرى في التوصل إلى مواقف مشتركة في موضوع المجتمع المدني ، كما هو الحال في كل المواضيع السياسية و الاجتماعية التي تتعلق بالوطن العربي اليوم ينبع من عدم التأكد من أمور ثلاثة رئيسة-40-:
*من جدة استخدام هذه المصطلحات المنقولة عن ثقافة سياسية ، وعدم إلمام مستخدميها أنفسهم بمعرفة جميع المعاني و السياقات التي ارتبطت بها.
* من التبدل السريع في المضمون النظري للمصطلح الناجم عن تبدل التجربة العلمية.
* من السياق الجديد الذي يستخدم فيه، و الذي يرتبط ارتباطا كبيرا في مجتمعاتنا الراهنة بالسجال السياسي، الديني و العملي.
و لهذا، لن يكون من الممكن استخدام المفهوم بصورة علمية و الاستفادة منه في التحليل النظري للمجتمع العربي من دون تحريره من اختلاطات شتى، أولها أن المجتمع المدني يجمع رصيد قيم الحرية و التحرر و يضعه في موضع النقيض من السلطة و الدولة ، وبالتالي فهو لم يتحول في فلسفة السياسة المدنية إلى مفهوم علمي، إلا انه قام على تعيين مجال مميز للممارسات الاجتماعية و تحديد نوع من النشاط مختلف عن السياسات .أما الاختلاط الثاني : فهو نابع من مطابقة مفهوم المجتمع المدني مع مفهوم الشأن الخاص المتعلق بالفرد وحياته الشخصية مقابل الشأن العام و الدولة التي تهتم بالأمور الوطنية، ومن ثم يصبح التحرر والتقدم في اتجاه الديمقراطية رهين الفردية و سيطرة المصلحة الشخصية.
أما الاختلاط الثالث، فهو نابع من محاولة جديدة لوضع مفهوم المجتمع المدني في مقابل مفهوم المجتمع الأهلي ، بتوظيف هذا المفهوم توظيفا سياسيا في وجه التيارات والحركات التي ينظر إليها كتيارات أوحركات حاملة للقيم التقليدية ، ومن ثم يكون المجتمع المدني مطابقا للتنظيمات و البنى الحديثة من حزبية و نقابية وتنظيمات نسائية.
إن ربط مفهوم المجتمع المدني بالديمقراطية ليس له في الواقع إلا وظيفة واحدة هي إعطاء نوع من المشروعية السياسية لمشروع الحداثة الذي تمثله الدولة.
وعلى ضوء ذلك، فإن المجتمع المدني لا يتميز عن السياسة في أنه سياسة ديمقراطية أخرى، ولكن في أنه نمط من التنظيم الاجتماعي يتعلق بعلاقات الأفراد فيما بينهم لا بوصفهم مواطنين أو أعضاء في وطن، أي من حيث خلق رابطة وطنية شاملة ( الأمة و الدولة ) ،و لكن من حيث هم منتجون لحياتهم المادية وعقائدهم وأفكارهم ومقدساتهم و رموزهم .
ومن الصعب فهم الحد الفاصل بين المجتمع المدني و المجتمع السياسي من دون فهم طبيعة السلطة والسياسة، فحدود المجتمع المدني تختلف أيضا مع تغيير النظم الاجتماعية ، وما كان يعتبر في حقبة ما من شؤون المجتمع المدني يمكن أن يصبح من شؤون المجتمع السياسي و العكس صحيح.
كما أن المجتمع المدني يمكن أن يكون مصدرا لقيم المحافظة و الرجعية ،مثلما يمكن أن يكون مصدرا لقيم الحرية و التقدم .إن ما يميز التنظيمات المدنية عن السياسة إذن عنصران :
التنظيمات السياسية مركزية، أي تختص بتكوين السلطة المركزية وحمايتها ،بينما تقوم التنظيمات المدنية على الخصوصية و الاستقلالية الذاتية وتنمية التضامنات الجزئية، أي أنها تنطبق على نشاطات لا تتدخل السلطة المركزية في تنظيمها المباشر .
إن التنظيمات السياسية رسمية، تبنى فيها العلاقات على أساس قانون ثابت وعام و مجرد وموضوعي، في حين أن التنظيمات المدنية تخضع لقواعد غير رسمية رهينة بصورة أكبر لتبدل ميزان القوى أو العادات أوالأخلاق أو المصلحة.
إن التنظيم المدني بذلك، ينطوي ككل تنظيم بشري ، على عناصر سلطة داخلية تتضمن استخدام وسيلتي القمع و الإقناع في سبيل ضبط نشاط الأفراد المنخرطين فيه و سلوكهم ، ولكن في جميع ذلك يتميز نشاط السلطة في التنظيمات المدنية بأنه أكثر مرونة و تعددية ، و يرتبط بعوامل عديدة متغيرة ، مثل الظروف التي تمارس فيها التقديرات الشخصية للقادة و قوة العلاقات الشخصية و جاذبية المصالح المادية .فالتنظيمات المدنية، هي شديدة المرونة وقابلة للتأقلم بشكل أفضل مع الظروف والأوضاع المتجددة، في الزمان والمكان ، ولذلك لا يمكن الاستغناء عنها ، حيث يشكل الثبات و التجريد و العمومية وعدم التميز في التطبيق شروطا تعريفية من شروط السلطة السياسية .
لكن المهم في كل ذلك، هو إدراك حقيقة أساسية وجوهرية هي أن الدولة و المجتمع المدني ليس أمرين مستقلين، و لكنهما مترابطان كليا.
إن لكل دولة و كل نظام سياسي المجتمع المدني الذي يتماشى معه، بل إن المجتمع المدني هو جزء من السياسة بمعناها الواسع و العميق، أي أن من غير الممكن فهم مصير المجتمع المدني في الوطن العربي و تأثير العوامل الداخلية والخارجية فيه، من دون فهم مصير تطور الدولة الحديثة وعلاقاتها بالمجتمع، فالمجتمع المدني هنا يتبلوركعلاقة تكرسها سلطة معنوية أو سياسية تضبط سلوك الأفراد و الجماعات -41-.
ثانيا: الصعوبات و المشكلات على المستوى التطبيقي في الوطن العربي:
إن عملية طرح مؤشرات كمية و كيفية لبناء المجتمع المدني في الوطن العربي تستهدف واقعا اجتماعيا وسياسيا و ثقافيا قائما في الأقطار العربية ، و يطرح هدا الواقع العديد من الصعوبات أمام الممارسة البحثية الهادفة إلى بناء و تطوير هذه المؤشرات ، ويمكن بلورة أهمها فيما يلي :
الاختلافات بين الأقطار العربية من حيث أوضاعها المجتمعية.
الازدواجية داخل المجتمعات العربية.
إن للدين الإسلامي دورا محوريا في منظومة العلاقات و التفاعلات الاجتماعية في الوطن العربي.
مشكلة الدولة في الوطن العربي من حيث ضعف و هشاشة الدولة و عدم تأسيس شرعية ثابتة ومستقرة للدولة، كما أنه ثمة شبه اتفاق عام أن الدولة القطرية تعثرت في إنجاز الأهداف والطموحات الكبرى للعرب وزيادة تبعية الدولة العربية للخارج .
إن الدولة الشمولية المتسلطة لم تشكل أي حل لما يعانيه المجتمع المدني العربي الهجين-42-، فخطاب المجتمع المدني في الفكر السياسي العربي الراهن يعيد تجديد عقائدية الحداثة التي فقدت الكثير من مشروعيتها ومصداقيتها بعد ماأصاب المشاريع اليسارية و القيم الاشتراكية عامة من إخفاق، فجميع هذه الاختلاطات تجنح في الواقع إلى تحويل مفهوم المجتمع المدني إلى محول لعقائدية اجتماعية حديثة مناهضة للعقائدية الإسلامية، وتؤسس للتحالف الجديد بين النخبات الحديثة الخائفة على وضعها السياسي و مواقعها وبين الدولة أو السلطة الشمولية أو الاحتكارية ، التي ينظر إليها في هذا المنظار كضمانة أساسية لاستمرار حركة التحديث و العقلنة الاجتماعية .
إن ربط مفهوم المجتمع المدني بالديمقراطية ليس له في الواقع إلا وظيفة واحدة ،هي إعطاء نوع من المشروعية السياسية لمشروع الحداثة الذي تمثله الدولة، أي لمشروع التحويل البيروقراطي المدني أو العسكري للمجتمعات العربية ، وهو التحويل الذي فقد منذ فترة الأهداف الواضحة والمقنعة . و ليس للاستخدام الواسع اليوم لهذا المفهوم إذن أي محتوى علمي، ولا يقصد على الإطلاق إلى تعميق فهم آلية تحول المجتمعات العربية ودور العناصر أو البنى المدنية و السياسية في ذلك-43-.
إن إصلاح العمل بهذا المصطلح و جعله من جديد مفهوما إجرائيا علميا و ليس محورا لتجديد عقيدة سياسية و شعارا في الحرب العقائدية و السياسية الراهنة في المجتمعات العربية ، يقتضي إذن توضيح المضمون العلمي لهذا المفهوم من جهة، وإبراز الفائدة الفعلية التي يمكن أن تنجم عن استخدامه في تحليل التحول الاجتماعي والسياسي و المدني في المجتمعات العربية المعاصرة .كما ان تدعيم المجتمع المدني لا يرتبط بالقضاء على الدولة أو حتى بالضرورة بإضعافها كمقر للسلطة المركزية، فالمشكلة الكبرى لا تكمن في الدولة. و لكن أيضا و في البداية في بنية المجتمع المدني، والنقد الرئيسي الذي يمكن توجيهه للدولة الاستبدادية و الشمولية التي بررت نفسها دائما و برر المجتمع المدني والرأي العام وجودها بضرورة استخدام القوة لمعالجة تناقضات المجتمع المدني ،هو أنها لم تستطع بالضبط تحقيق هذه المهمة . والكسب السياسي الرئيسي للوعي السياسي العربي، هو إدراك أن القهر و القمع لا يشكلان وسيلة ناجعة لمواجهة حاجات و تطوير المجتمع المدني و تنظيمه .هكذا ،فإن استراتيجية بناء المجتمع المدني في الوطن العربي لم تعد ممكنة على أساس بناء بعض الجمعيات الصغيرة هنا وهناك، فقد تجاوزت مستلزمات هذا البناء ما يمكن هذه الجمعيات أن تقدمه، كما أن الأوضاع السياسية و الأزمة العميقة التي تعيشها الدولة الوطنية تحتم الإعداد لاستراتيجيات كبرى تتعلق مباشرة بالسياسة وهو ما برهنت عليه احداث الربيع العربي .
انه اذا كان من الصحيح القول أنه لا مجتمع مدني اليوم من دون نظام سياسي قادر على حماية هذا المجتمع من التخريب و الاحتواء الخارجي الجدي و الفعلي ، فمن الصحيح أكثر أن لا سياسة اليوم في إطار التنافس الراهن من دون تجاوز الدولة كما هي قائمة، و التفكير الجدي في التكتلات الجيوسياسية أي في تكوين الكيانات الجماعية المتعددة الدول و الأقاليم .
وعموما يمكن الوقوف بصدد المجتمع المدني في الوطن العربي على جملة من الملاحظات:
أولا: لم يعرف المجتمع العربي الإسلامي التفريق بين المجتمع و الدولة حتى القرن التاسع عشر، عندما ظهرت في النصف الثاني منه ملامح جنينية لبعض التنظيمات المستقلة عن الدولة ، مثل الدوريات ،والجمعيات، و الصالونات السياسية الفكرية، و اشتد عودها في العقود الأولى من القرن العشرين ، وهي كلها متأثرة بالنموذج الغربي .
ثانيا: مفهوم المجتمع و الدولة حديثان في أدبيات الفكر السياسي العربي، فكلمة الدولة وردت في النصوص القديمة و لكن بمفهوم لا علاقة له بمفهوم الدولة الحديثة، فمن المعروف أن النظم الإسلامية فقد أطلقت عليها مفاهيم أخرى مثل الخلافة، و الإمامة ، والإمارة و السلطة .أما مفهوم المجتمع ، فإنه لم يستعمل إلا حديثا، ولكن المدينة العربية الإسلامية قد عرفت مند العصر الوسيط تنظيمات حرفية ومهنية ، يمكن أن تعد نوعا من أنواع التنظيم المجتمعي، و قد تزامنت مع ظهور تيارات سياسية – دينية معبرة عن تحولات مجتمعية و معارضة للسلطة، ولا يمكن أن تكون عندئذ إلا ذات صبغة دينية . ويزداد العمق الإشكالي في ارتباطه بمشكلة علاقة الدولة بالمجتمع المدني من خلال الوقوف على مضامين خطاب المثقف العربي الذي لا يكاد يخلو من القول في المجتمع المدني كلما عرض للموضوعات ترجع إلى الوجود السياسي أو الاجتماعي أو تتعلق بقضايا الحضارة والتاريخ-44-.
ومن بين الإشكاليات التي تطرح على هذا المستوى نجد أخيرا ضعف الطبقة المثقفة حيث يبرز الفرق الكبير بين دور المثقف في المجتمعات الغربية الديمقراطية ودوره في الوطن العربي، فقوة المجتمع المدني هناك تجعل دوره مؤثرا، وتقرأ له السلطة ألف حساب.
أما في الأقطار العربية فدوره في جل الحالات مهمش، و صوته مقموع بسبب ضعف قوى المجتمع المدني ، فنظام الحزب الواحد من جهة ، و كذا المؤسسة العسكرية من جهة أخرى قد أمما المجتمع في كثير من الحالات، ولم يسمحا بظهور أي قوة مستقلة تؤمن بالتعددية السياسية و الفكرية وتنادي باحترام الرأي الآخر.ولم تتطورادوار المثقف العربي الا مؤخرا في اطار سيرورة التدفق الشبكي و المعلوماتي المعاصر .
وعموما تمثل النخبة المثقفة دعامة صلبة ضمن قوى المجتمع المدني، إذ أن رسالتها تبرز أساسا في تجذير الوعي المدني ، وغرس روح العمل السياسي و الاهتمام بالشأن العام ، و قد استطاعت أن تؤدي هذه الرسالة في المجتمعات الليبرالية عن طريق الإعلام الحر ، و عبر حرية وسائل النشر و التعبير-45-.
إن ظهور الانقسامات بين قوى المجتمع المدني في الوطن العربي عملية تخضع لتقلبات الأوضاع الداخلية والخارجية... إنه عملية تحصيل وتراكم في مستويين: الخبرة و الوقت من أجل بلورة مجتمع مدني قادر على المساهمة وبكفاءة وفعالية في التنمية البشرية عربيا ، فعملية إنشاء المجتمع المدني دائمة ما دامت تستهدف التنمية البشرية التي بدورها يجب أن تكون مستدامة ، لأن حاجيات البشر غير قابلة للإشباع وبالتالي فبناء المجتمع المدني يحتاج إلى الوقت ، فيجب أولا وضع الأسس البسيطة (ثقافة ، حريات ... ) و تحقيق الأهداف الأولية ، وفي مرحلة ثانية التأثير على البنى الاقتصادية، الاجتماعية والسياسية (عبر السيطرة على التكوينات التقليدية وتفكيكها و فق نسق متكامل ) وتدعيم التراكم المعرفي بالواقع الاجتماعي العربي عبر الاهتمام بالدراسات الميدانية لتحليل الأسس الاجتماعية ، الاقتصادية و الثقافية ، أي عملية التوحيد و التنسيق بين الأطر الفكرية من أجل التعاون لبناء المجتمع المدني و بالتالي لبناء الدولة ، بمعنى عملية تجميع الشتات لبناء السياسات الاقتصادية ، الاجتماعية و السياسية، إنها صيرورة تستلزم التنشئة داخل البنيات الاجتماعية التقليدية داخل المؤسسات الحديثة قصد ترسيخ المجتمع المدني كثقافة و ممارسة لتأطير المواطن و توفير مطالبه .
كما ينبغي الأخذ بالضوابط المنهجية و الموضوعية للنظر في مسألة بناء المجتمع المدني في الوطن العربي والتي تتمثل في ما يلي:
تجاوز النظرة إلى واقع المجتمع المدني في الوطن العربي ، فالمسألة ليست في وجود المجتمع المدني و عدمه و لكن في خصوصية هذا المجتمع المدني في الواقع العربي ، ففي العديد من الأقطار العربية هناك مظاهر لتنظيمات المجتمع المدني، لكنها تظل محدودة الفاعلية نظرا لسيطرة الدول على قوى و مؤسسات المجتمع المدني و تقليص هامش حرية الحركة أمامها من ناحية ، ونظرا إلى بعض المشكلات المرتبطة بهذه القوى و تلك المؤسسات من ناحية ثانية.
تجاوز منطق التفكير بالأماني المفرطة، وهو السمة الغالبة على الكثير من الكتابات العربية .
أخد عنصر الزمن بعين الاعتبار ، فعملية بناء المجتمع المدني ليست مجرد مرحلة يمكن إنجازها في وقت زمني محدد و لكنها عملية مستمرة .
خاتمة :اجمالا، ان عملية بناء المجتمع المدني في الوطن العربي يمكن أن تتم في إطار تصورين كبيرين. الأول تصور ثوري ، يقوم أساسا على إحداث التحولات المطلوبة من أجل بناء المجتمع المدني استنادا إلى عملية تغيير ثوري جذري، تهدم أسس المجتمع القائم، وتبني مجتمعا جديدا، وهذا التصور لا تترجمه الدراسات على الأقل في الأجلين القصير و المتوسط على الرغم من وجود مصادر للتغيير الثوري في الواقع العربي، وذلك نظرا لنجاح النظم القائمة في إحكام قبضتها على مختلف قوى وديناميات المجتمع من ناحية و نظرا إلى ضخامة أجهزة القمع و القهر التي تحمي هذه النظم من ناحية ثانية ، ونظرا إلى تشتت وضعف قوى المعارضة و عدم امتلاكها برامج سياسية بديلة من ناحية ثالثة ، كما أن بعض القوى السياسية و الاجتماعية القادرة على رفع راية الرفض والتحدي في وجه النظم القائمة و ذلك من خلال ممارسة الاحتجاج الاجتماعي والعنف السياسي، لا تملك القدرة على طرح بديل لهذه النظم. أما التصور الثاني فهو بناء المجتمع المدني و تدعيمه طبقا لعملية إصلاحية تدريجية يغلب عليها الطابع السلمي، و يتضمن هدا التصور ممارسة الضغوط على النظم القائمة لإدخال بعض الإصلاحات التي من شأنها إحياء و تنشيط المجتمع المدني ، دون أن يعني ذلك الإطاحة بهذه النظم وهي إصلاحات تستهدف تحسين طرق الحكم و أساليب الإدارة و ترشيد عملية صنع القرارات و السياسات وإقامة التوازن بين الدولة و المجتمع.
وقد أبرزت حركات الربيع العربي مدى أهمية التصورين معا في بناء مجتمع مدني حيوي بل وفي بناء مسار ديمقراطي دينامي.
ومن بين المهام التي يمكن القيام بها من الأجلين القصير والمتوسط لبناء المجتمع المدني في الوطن العربي ما يلي:
إزالة مظاهر الاختلال السياسي بين الحكم و المعارضة في الأقطار العربية و ذلك بطرح تصورات عملية لحل بعض قضايا الصراع و المواجهة بين الجانبين .
العمل من اجل تثبيت و تدعيم عمليات الانتقال نحو التعددية السياسية التي تمت في بعض الأقطار العربية ، حتى لا يتم التراجع عنها .
قيام قوى ومؤسسات المجتمع المدني في الأقطار العربية بإعادة بناء تنظيماتها و مؤسساتها على أسس جديدة .
البحث عن حلول لمشكلة التهميش الاجتماعي .
إعادة النظر بصورة جادة في السياسات العامة في الأقطار العربية .
إعادة النظر في الأطر القانونية و المؤسساتية في الأقطار العربية .
الأخذ بمبادئ الحكامة القادرة لوحدها على تأهيل و الرفع من مكانة المجتمع المدني العربي .
واجمالا، يمكن القول أن هناك تحولات و ظروفا إيجابية زادت من قدر الحرية وانفتاح السلطة في هذا الأنظمة العربية ، والتي أدت إلى قيام نظم ديمقراطية و تبني حقوق الإنسان مما يؤثر في المجتمع المدني ويساهم في اتساع نطاق المؤسسات المدنية على المستوى العربي ذات الأهداف الاقتصادية أو الاجتماعية أو الثقافية أوالسياسية أو المهنية، وهي كلها مؤسسات يمكن أن تشكل قاعدة راسخة لتكامل اقتصادي أو سياسي أوثقافي عربي ، و في مجملها يفترض أن تكون شكلا من أشكال المؤسسات التي تصب في طريق الوحدة العربية على أسس ديمقراطية متعارف عليها ، التي قد تكون في مستقبل الأيام مؤسسات ثابتة لمجتمع مدني عربي موحد متطور دينامي وفعال
الهوامش*
جون اهرنبرغ"المجتمع المدني:التاريخ النقدي للفكرة"
،ترجمة علي حاكم صالح،حسن ناظم.مراجعة فالح عبد الجبار،المنظمة العربية للترجمة،توزيع مركز دراسات الوحدة العربية،الطبعة الاولى ،بيروت،فبراير2008))،ص13.
-2-*عبد اللطيف كداي"العمل الجمعوي و الوساطة الاجتماعية :نحور تطور جديد لدور الجتمع المدني"،المجلة المغربية للسياساتالعموميةREMAPPالعدد4،ربيع2009،ص194.
.-3*-الحبيب الجنحاني" المجتمع المدني بين النظرية و الممارسة"،مجلة عالم الفكر، المجلس الوطني للثقافة و الفنون و الاداب ،الكويت ،العدد الثالث ،يناير/مارس1994،ص39.
*:.-4-عبد اللطيف كداي،مرجعسابق،ص196.
.-5*-محمد احمد بنيس"المجتمع المدني و التباسات التاصيل"،مجلة وجهة نظر،العدد7،ربيع2000،ص14.
*.-6-خالد زيادة ضمن" المجتمع المدني في الوطن العربي و دوره في تحقيق الديمقراطية"-تعقيبات-مركز دراسات الوحدة العربية،بيروت1992،ص137.
.-7-هادي حسن"المجتمع المدني في الوطن العربي و دوره في تحقيق الديمقراطية"-مناقشات-،نفس المرجع،ص139
:.-8-حيدر ابراهيم علي،نفسالمرجع،ص140
-9-مندر الويس ، نفس المرجع ،ص141.
-10-كمال عبد اللطيف،نفسالمرجع،ص143
.-11-مجدي حماد،نفسالمرجع،ص146.
-12-مصطفى كامل السيد"التحولات السياسية الحديثة في الوطن العربي"،(مركز البحوث و الدراسات السياسية ،القاهرة،1989)،ص265 .*.-13-دلال البزري"مقترحات اولية لا ستخدام مفهوم المجتمع المدني في العالم المعاصر"،ندوة القاهرة،الطريق،شباط1989،ص213
-14-*عبد الله ساعف"المجتمع المدني في الفكر الحقوقي العربي" ضمن"المجتمع المدني في الوطن العربي و دوره في تحقيق الديمقراطية"،مرجع سابق،ص229.
-15-نادية رمسيس فرح"المثقفون و الدولة و المجتمع المدني"،ندوة القاهرة،مرجعسابق،ص246
-16-*كريم بقرادوني ،ضمن "المجتمع المدني في الوطن العربي و دوره في تحقيق الديمقراطية"،مرجع سابق،ص369
-17-نفس المرجع،ص371
.-18- مندر الويس، مرجع سابق،ص390
-19-الطاهر لبيب،ضمن"المجتمع المدني في الوطن العربي و دوره في تحقيق الديمقراطية"،مرجع سابق ،ص394
-20-مسعود ظاهر"المجتمع المدني و الدولة في المشرق العربي"،ضمن "المجتمع المدني في الوطن العربي..."نفس المرجع،ص409 .
.-21-صفوح الاخرس،ضمن "المجتمع المدني في الوطن العربي..."،نفس المرجع،ص416.
-22-مسعود ظاهر،مرجع سابق ص429.23*-فريد العلاقي،ضمن"المجتمع المدني في الوطن العربي..."،مرجع سابق،ص428
24-عبد القادر الزغل"المجتمع المدني و الصراع من اجل الهيمنة الايديولوجية في المغرب العربي"،ضمن"المجتمع المدني في الوطن العربي..."،نفس المرجع،ص432
25-حيدر ابراهيم علي،"المجتمع المدني في مصر و السودان"،ضمن"المجتمع المدني في الوطن العربي..."،نفس المرجع،ص503
-26*-باقر النجار"المجتمع المدني في الخليج و الجزيرة العربية"،ضمن "المجتمع المدني في الوطن العربي..."،نفس المرجع،ص565
27*-نفس المرجع،ص586
-28*-مسعود ظاهر،مرجع سابق ،ص:429
-29*-مصطفى كامل السيد،"مؤسسات المجتمع المدني على المستوى القومي"،ضمن"المجتمع المدني في الوطن العربي..."،مرجع سابق،ص:649
-30*-حسين توفيق ابراهيم"بناء المجتمع المدني:المؤشرات الكمية و الكيفية "ضمن "المجتمع المدني في الوطن العربي..."نفس المرجع،ص684.
-31*-نفس المرجعالسابق
-32*-هناك بعض المحاولات لتاصيل المفهوم على المستوى النظري .انظر مثلا،عزمي بشارة "المجتمع المدني دراسة نقدية.مع اشارة للمجتمع المدني العربي"(مركز دراسات الوحدة العربية،الطبعةالثالثة،بيروت2008)من ص29الى ص74،وايضا عبد العزيز لبيب"مفهوم المجتمع المدني:الواقع و الوهم الايديولوجي"،الوحدة،العدد8،يونيو1991،من ص60الى ص66
33*-برهان غليون،ضمن"المجتمع المدني في الوطن العربي..."مرجع سابق،ص:735
-34*-جان و لياملايبار"السلطة السياسية"،ترجمة الياس خياط ،(منشورات عويدات،بيروت1983)،ص59
-35*-محمد احمد بنيس،مرجعسابق،ص14
.-36*-محمود عبد الفضيل،ضمن"المجتمع المدني في الوطن العربي..."،مرجع سابق،ص802
37*-وهبي كوثراني،"المجتمع المدني و الدولة في التاريخ العربي"،نفس المرجع،ص120
-38*-بنعيسى الدمني"بحثا عن المجتمع المدني المنشود"،مجلة مستقبل العالم الاسلامي ،العدد4،السنة الاولى،1991،ص237
-39*-احمد ثابت"التعددية السياسية في الوطن العربي"(الهيئة المصرية العامة للكتاب1990))،ص20
-40*-برهان غليون ضمن "جدلية الدولة و المجتمع بالمغرب"(مجموعة من المؤلفين،دار افريقيا الشرق،الدارالبيضاء،الطبعة الثانية1994)،ص239
-41*- وهو المعنى الذي مافتئت تؤكد عليه مجمل النظريات الحديثة للمجتمع المدني
-42*-برهان غليون "بناء الدولة و المجتمع العربي،دور العوامل الداخلية و الخارجية"،ضمن "المجتمع المدني في الوطن العربي..."مرجع سابق،ص744
-43*-نفس المرجع،ص734
-44*-سعيد بنسعيد العلوي"،نفس المرجع،ص9
-45*-الحبيب الجنحاني"المجتمع المدني و التحول الديمقراطي في الوطن العربي"(منشورات الزمن،مطبعة النجاح الجديدة ،الدار البيضاء2006) )،ص13 .