مقدمة
في ارتباط بسياق دولي وإقليمي متغير، عرف المغرب حراكا مجتمعيا؛ تجلت بعض مطالبه السياسية والاجتماعية في تكريس المواطنة، وتعزيز الديمقراطية، ورفض مظاهر الفساد واقتصاد الريع، والدعوة إلى إرساء نظام المسؤولية والمحاسبة والمساءلة، واعتماد نظام الشفافية والحكامة، هذا إلى جانب المطالبة بالكرامة والعدالة الاجتماعية... وفي هذا الإطار، تجلى العرض الرسمي للدولة، من أجل الاستجابة للانتظارات والمطالب المجتمعية، في الخطاب الملكي ل9 مارس 2011، وكذا في تعديل دستوري،[1] فضلا عن إحداث العديد من الهيئات الحقوقية والاستشارية، وتحديث جملة من النصوص القانونية.
ودون الخوض في النقاشات الفقهية والسياسية التي رافقت الإصلاح الدستوري، نشير إلى أنه على الرغم من أهمية العرض العمومي سواء على مستوى تجريب "منهجية جديدة" في صناعة الوثيقة الدستورية، أم على مستوى مضمون تلك الوثيقة ومستجداتها المتمثلة في توسيع اختصاصات السلطات العامة، وإعادة تحديد العلاقة فيما بينها، وتدعيم الحقوق والحريات الأساسية، ومحاولة تحسين نظام الحكامة بواسطة هيئات جديدة... فإن ذلك لا يمنعنا من الإقرار بأن مسار الإصلاح الدستوري بالمغرب يظل محكوما بمنطق الاستمرارية.
وعلى العموم، فقد حاولت الوثيقة الدستورية الجديدة الاستجابة لمنطقين: الأول سياسي يتجلى في تقوية الطابع البرلماني، والثاني تدبيري يتحدد في إيلاء أهمية خاصة لأجهزة الرقابة والتقييم، وهيئات الحكامة... الأمر الذي استدعى بالضرورة تقوية نظام الرقابة العليا على الأموال العمومية. وعلى هذا النحو، شكلت الرقابة المالية العليا موضوعا هاما في ظل ما يعرفه المغرب من إصلاحات دستورية ومؤسساتية من جهة، وكذا في ارتباط بتنامي الحاجة إلى حكامة جيدة في مجال تدبير الشؤون العامة من جهة ثانية.
وإذا كان تصنيف أشكال الرقابة العليا على الأموال العمومية، بالاعتماد على مبدأ فصل السلط، يقود عادة إلى التمييز بين ثلاثة أصناف من الرقابة: الرقابة السياسية، والرقابة الإدارية، والرقابة القضائية، فإننا سنتوقف، في هذه الدراسة، عند صنفين من أصناف الرقابة؛ يتعلق الأمر بالرقابة القضائية والرقابة السياسية. وعلى هذا، سنشتغل على مؤسستين رقابيتين دستوريتين، وذلك لدورهما الهام في الاستخدام الأمثل للموارد المالية وحماية المال العام؛ نقصد المجلس الأعلى للحسابات والبرلمان.[2]
ومن هذا المنطلق، سنحاول توصيف طبيعة العلاقة بين المجلس والبرلمان بالنظر لمهامها الرقابية الهامة في المجال المالي، وذلك في ارتباط بتحديات زمن سياسي ومؤسساتي انتقالي، يتجلى رهانه المزدوج في ضرورة تدعيم شروط الدمقرطة من خلال تكريس مبادئ التمثيلية والمحاسبة والمساءلة من جهة، وكذا محاولة تحسين أدوات التدبير العمومي من جهة ثانية. وتبعا لذلك، تتغيى هذه الدراسة تحليل العلاقة بين المجلس والبرلمان من خلال مقاربة محدداتها العامة، وأطرها النظرية والقانونية، فضلا عن أبعادها السياسية، وكذا إكراهاتها العملية.
وفي نفس الآن، فالاستعانة بالتجارب المقارنة في مجال الرقابة المالية العليا لا تبتغي "استيراد النماذج أو التجارب"، وإنما تهدف إلى الاستفادة من التطورات الفقهية والقانونية المقارنة، والاسترشاد بالنظم الرقابية المالية الدولية،[3] من أجل التفكير العميق في أسس العلاقة بين المجلس والبرلمان من منطلق إبراز مظاهر التمايز والتنافس من جهة، ومجالات المساعدة والاستشارة من جهة ثانية.
أولا: المجلس الأعلى للحسابات والبرلمان: أوجه التمايز
يشكل الاختصاص المالي الدعامة الرئيسة لنشأة المؤسسة البرلمانية، فبالإضافة إلى مسؤولية هذه المؤسسة في المجال التشريعي، تضطلع بمهمة رئيسة في ميدان مراقبة العمل الحكومي. من هنا، تعد الرقابة البرلمانية على النشاط المالي الحكومي المظهر الأول والأهم من مظاهر الرقابة المالية الخارجية، ومرد ذلك إلى أن السلطة التشريعية في الدول الديمقراطية تتولى، بوصفها الممثل الشرعي لإرادة الشعب، مراقبة تنفيذ الميزانية العامة التي وضعت لتحقيق الصالح العام للمجتمع.[4]
وتتسم الرقابة البرلمانية بالطابع الشمولي والعام، إذ تتناول جميع أوجه النشاط المالي الحكومي، فهي إما مراقبة قبلية تتجلى في دراسة ومناقشة مشروع القانون المالي، والتصويت والمصادقة عليه، أو مراقبة موازية تتمثل في مراقبة تنفيذ القانون المالي، وتجري عن طريق الأسئلة الشفوية أو الكتابية الموجهة إلى أعضاء الحكومة حول المسائل المالية، أو مراقبة بعدية على عمليات تنفيذ قانون المالية، وتتحدد في دراسة مشاريع قوانين التصفية والمصادقة عليها، كما يمكن أن تتم عرضيا عن طريق لجان تقصي الحقائق.
أما المجلس فيعتبر، حسب المشرع الدستوري، الهيئة العليا لمراقبة المالية العمومية، إذ يتولى مهمة الرقابة العليا على الأموال العمومية، كما يمارس المراقبة العليا على تنفيذ قوانين المالية.[5] وعلى هذا المستوى، تتحقق هذه المؤسسة الرقابية من سلامة العمليات المتعلقة بمداخيل ومصاريف الأجهزة الخاضعة لمراقبتها بمقتضى القانون، وتقيم كيفية تدبيرها لشؤونها، وتتخذ، عند الاقتضاء، عقوبات عن كل إخلال بالقواعد السارية على العمليات المذكورة.[6]
وإذا كان البرلمان يتوفر على سلطات تشريعية في المجال المالي، ويتولى أيضا مراقبة تدبير الأموال العمومية في إطار مراقبته للعمل الحكومي، فإنه يمارس رقابة ملاءمة أكثر منها رقابة مشروعية، لأن المجلس التشريعي مؤسسة سياسية،[7] لذا فهو يناقش الاختيارات السياسية، ويراقب السلطة التنفيذية باعتبارها سلطة سياسية. في حين، تتولى الأجهزة العليا للرقابة مهام الرقابة والتدقيق والتقييم، ولا تتدخل بأي حال من الأحوال في النقاش السياسي.[8] وتبعا لذلك، فالمحكمة المالية مكلفة بمراقبة الحكومة والإدارة والأجهزة العمومية من زاوية قانونية ومحاسبية، إذ تقرر، في المقام الأول، في القضايا المالية، بينما الرقابة البرلمانية، بطبيعتها، رقابة سياسية.[9]
وإذا كانت فعالية مهمة المحكمة المالية إزاء البرلمان تتوقف على تكاملية أفعالهما وأدوارهما الموجهة لمراقبة المالية العمومية، والعمل الحكومي في المجال المالي، فإن هذه التكاملية لا تلغي إمكانية وجود تمايز بين المحكمة المالية والبرلمان من خلال مستويات متعددة: بداية من خلال نظامهما الأساسي، فالهيئة القضائية تقدم مراقبة مختلفة عن تلك الممارسة من طرف النواب، ثانيا حسب سلطاتهما ووسائلهما، فالمحكمة المالية تتوفر على ولوج إلى المعلومة أكثر شساعة من البرلمان، لكن على خلاف المحكمة، لا يخضع البرلمان لأي مسطرة جبرية خاصة للمراقبة، بل يتوفر على العديد من الوسائل لمنح الفعالية لمراقبته.[10]
وبهذا الصدد، يمكن الإقرار بوجود منافسة للبرلمان من طرف "الأجهزة التي لها مصداقية تقنية كبيرة جدا، والتي لها استقلالية أكبر عن الحكومة"، والتي تتوفر على "قدرة كبيرة جدا على النقد"،[11] ومن بينها الأجهزة العليا للرقابة. وبناء على ذلك، فمجالات اختصاص وسلطة رقابة المحكمة المالية والبرلمان تظهر وجود شكل من أشكال التنافس بينهما،[12] لكن ذلك لا يلغي امتلاك البرلمان لوحده "الشرعية" في مجال فرض الضرائب والمحاسبة.[13]
ولا يفوتنا أن نشير إلى أن القاضي المالي المغربي يتولى مهمة الرقابة المالية البعدية على كيفية التصرف في الأموال العمومية، وكذا تقييم فعالية التدبير المالي العمومي؛ أي مراقبة جملة من القرارات التي تخص التدبير العمومي والسياسات والبرامج العمومية، وهي لا محالة تعبر عن اختيارات سياسية، كما يراقب مالية الأحزاب، وينظر في التصاريح الإجبارية للممتلكات،[14] ويفحص النفقات المتعلقة بالعمليات الانتخابية، مما يجعله في مواجهة مباشرة مع النخب السياسية المسؤولة عن تدبير الشأن العام، سواء على المستوى الوطني أو الترابي.[15]
وبشكل عام، فإذا كانت أغلب الأجهزة العليا للرقابة تخصص جزءا هاما من اهتمامها للفعالية؛ أي مراقبة نجاعة التدبير العمومي-، وليس فقط لمشروعية العمل المالي العمومي، فإن ذلك يطرح العديد من المشاكل والصعوبات المتعلقة بالتمييز الضروري بين ما يتعلق بالتقدير التقني، وما يتعلق بالتقدير السياسي.
ومن هذا المنطلق، فالقرارات المعتمدة من طرف السلطات العمومية تخضع لمراقبة التسيير، مما يعني أن مجموع التدبير المالي العمومي يجد نفسه خاضعا لهذه المراقبة التي لا تقوم على ملاءمة السياسة المتبعة، بل تركز قبل كل شيء على مراقبة النتائج من خلال مقارنة الإنجازات مع الأهداف المحددة، ومع ذلك، فهي تظهر في الواقع أكثر تعقيدا. وعلى هذا المستوى، فإذا كانت الأجهزة العليا للرقابة لا تنتقد القوانين والسياسات الحكومية، فهي تناقش بحرية الطريقة التي طبقت بها. أضف إلى ذلك، فعلى الرغم من أن تلك الأجهزة غير مختصة بالقيام بتقديرات حول مشروعية القرارات السياسية، فيعود إليها فحص ما إذا كانت الشروط التي تقوم عليها هذه القرارات موجودة حقا.[16]
هكذا، تعد مراقبة التسيير، أحيانا، مجالا للصراع مع السلطات العمومية التي تحكم بأن الأجهزة العليا للرقابة قد تجاوزت دورها. وفي هذا السياق، أثير نقاش في فرنسا حول معرفة مدى إمكانية تدخل المحكمة المالية في الإنجاز التدبيري للحكومة. ولقد برر إحداث مكتب برلماني للتقييم بأن محكمة الحسابات ليس لها كمهمة القيام بتحليل سياسي للعمل الحكومي، وأن هذا الدور يجب أن يبقى امتيازا وحكرا على البرلمان.[17] على هذا النحو، يعود التقدير السياسي إلى البرلمان، لكن هذا الأخير يجب أن يخبر بشكل كاف، وأن يتوفر على المعلومة المالية الموسعة من طرف الأجهزة العليا للرقابة، وأن تكون له الإرادة لممارسة حقيقية لرقابة الفعالية على التدبير العمومي.[18]
من هنا، فعلى الرغم من مظاهر التمايز والاختلاف بين البرلمان والمجلس، ووجود نوع من التنافس بين شرعيتي "التمثيل" و"الرقابة"، فذلك لا يلغي الاشتراك في نفس المهمة المتمثلة في المحافظة على المال العام، كما لا ينفي إمكانية التكامل في المجال الرقابي والتقييمي.
ثانيا: المجلس الأعلى للحسابات ومهمة تقديم المساعدة للبرلمان
سعت الوثيقة الدستورية إلى تقوية دور المؤسسة البرلمانية على مستوى التشريع والمراقبة والتقييم. وفي هذا الإطار، أضحى البرلمان يمارس السلطة التشريعية، وتم تدعيم صلاحياته في مجال الرقابة على العمل الحكومي، كما تولى تقييم السياسات العمومية. لكن القراءة الفاحصة للصلاحيات الممنوحة للبرلمان في المجال المالي تظهر أنها تظل متسمة بالمحدودية.[19] وعلى هذا المستوى، سنحاول، بداية، إبراز مظاهر ضعف السلطة المالية للبرلمان، وبالتالي محدودية دوره التشريعي والرقابي في المجال المالي، لنعمد ثانيا إلى توضيح أهمية اختصاص مساعدة المجلس للبرلمان، وبعض تجلياته، فضلا عن الصعوبات التي يطرحها على صعيد الممارسة.
أ- ضعف الاختصاص البرلماني في المجال المالي
إذا كان قانون المالية يصدر عن البرلمان بالتصويت طبقا لشروط ينص عليها قانون تنظيمي، فإن الممارسة البرلمانية للسلطة المالية تخضع لجملة من القيود القانونية التي تفرغها، من الناحية العملية، من مضمونها، من أبرزها الحيز الزمني الضيق المخصص من طرف الحكومة للبرلمان لدراسة قانون المالية،[20] وحرمانه من أية سلطة اقتراح لتعديل نفقات التجهيز في الوقت الذي تتمتع فيه الحكومة بكامل الصلاحية لتقديم مشاريع قوانين تستهدف إدخال تعديلات على البرنامج الذي صادق عليه البرلمان.
وفي هذا الإطار، تنص مقتضيات الفصل 75 من الدستور على تصويت البرلمان مرة واحدة على نفقات التجهيز التي قد تهم عدة سنوات، مما يعني عدم إمكانية تقديمه لأي مقترحات قوانين لتغيير ما تمت الموافقة عليه في هذا الصدد. زد على ذلك، تتوفر الحكومة على صلاحية بلورة القانون المالي، إذ يمكنها أن تفتح بمرسوم الاعتمادات اللازمة لسير المرافق العمومية، والقيام بالمهام المنوطة بها، على أساس ما هو مقترح في الميزانية المعروضة على الموافقة، إذا لم يتمكن البرلمان في نهاية السنة المالية من التصويت على قانون المالية، أو لم يصدر الأمر بتنفيذه بسبب إحالته على المجلس الدستوري للنظر في مدى دستوريته. وتبعا لذلك، يظهر أن الاختصاص البرلماني ينتقل إلى الحكومة في حال عدم التصويت على مشروع القانون المالي في الأجل المحدد.
فضلا عن ذلك، تصطدم اقتراحات البرلمان بمقتضيات الفصل 77 من الدستور الذي يعطي الحكومة صلاحية واسعة في عدم قبول المقترحات أو التعديلات المقدمة من طرف أعضاء البرلمان، على الرغم من اشتراط بيان الأسباب، إذا كان قبولها يؤدي بالنسبة للقانون المالي إما إلى تخفيض الموارد العمومية، وإما إلى إحداث تكليف عمومي، أو الزيادة في تكليف موجود، تماشيا مع كون الحكومة، من خلال وزير المالية، هي التي تتولى إعداد مشاريع قوانين المالية، والسهر على تنفيذها.[21] من هنا، تتبين محدودية السلطة المالية للمؤسسة البرلمانية،[22] وذلك على الرغم من سعي المشرع الدستوري إلى التقليص من هيمنة الحكومة في المجال المالي، وذلك بالتنصيص على دور كل من البرلمان والحكومة في السهر على الحفاظ على توازن مالية الدولة.[23]
كما يمكن للحكومة الدفع بمقتضيات الفصل 79 من الدستور الذي يمنحها الحق في عدم قبول كل اقتراح أو تعديل لا يدخل في اختصاص السلطة التشريعية، أو الدفع بمقتضيات الفصل 82 من الدستور الذي يعطي لمشاريعها ومبادراتها الأسبقية على المبادرات والمقترحات التي يتقدم بها أعضاء البرلمان. ومن جانب آخر، يظهر أن المشرع الدستوري لم ينص على تاريخ محدد للبت في مشروع القانون المالي، وأحال على القانون التنظيمي للمالية الذي وضع أجالا معينة لمناقشة القانون المالي.[24]
هكذا، فبالرجوع إلى مختلف المراحل الخاصة باعتماد وإقرار القانون المالي يتبدى طابع الضعف في الاختصاص المالي للبرلمان، إذ أن طابع "العقلنة البرلمانية" يظل يقيد الصلاحيات المالية المعترف بها مبدئيا للبرلمان. بل إن القانون المالي يظل، في الوضع الغالب، قانونا حكوميا بامتياز، لأنه يعبر عن تصور الحكومة لميزانية الدولة، في حين أن البرلمان لا يستطيع أن يخطط في المجال المالي وفقا لرغبة وأهداف من يمثله.[25] وعلى هذا، تستمر السمة الملازمة للعمل البرلماني والمتمثلة في ضعف مراقبته للأداء المالي الحكومي.
ومن جانب آخر، تعترض مراقبة البرلمان لمالية الدولة مجموعة من الصعوبات الذاتية، لعل أهمها عدم توفر أغلبية النواب على الكفاءة التعليمية والتقنية الضرورية من أجل تحليل ومناقشة الميزانية مناقشة دقيقة، ذلك أن الانتخابات التشريعية المغربية تحمل إلى البرلمان نوابا لا يتوفر معظمهم على المؤهلات العلمية الكافية التي تمكنهم من الدراسة التقنية لقانون المالية ذي الطبيعة التقنية المعقدة، الأمر الذي يؤثر بشكل كبير في قدرتهم على ممارسة صلاحياتهم الدستورية في المناقشة المالية والرقابة والمساءلة.[26]
هكذا، فضعف التكوين السياسي والتقني للموارد البشرية للبرلمان يجعلها في تبعية دائمة، وفي حالة استيلاب مطبق، أمام المبادرات الحكومية التي تبقى مشاريعها تتمتع بالسيادة المطلقة من حيث قيمتها التقنية،[27] هذا الوضع يخلق جهازا أليا للتوجيه تظهر فيه الحكومة سيدة كل المبادرات، وأعضاء البرلمان يشكلون مجتمعين غرفة للتسجيل، ومصدرا لشرعنة هذه المبادرات.[28] وعلى هذا، فقد انتقلت الصلاحيات المالية التشريعية إلى الحكومة التي أصبحت بفضل كبار خبرائها تحضر ميزانية الدولة، وتعرضها على البرلمان من أجل المصادقة عليها،[29] مما يقود إلى تفوق وهيمنة الحكومة على المجال المالي، ويخلق نوعا من عدم التوازن المؤسساتي.[30]
وضمن هذا السياق، وبما أن الرقابة البرلمانية غير قادرة على القيام بمهامها على الوجه الأكمل؛ لكون طبيعة الوظيفة البرلمانية متعددة الجوانب والمهام، وكذا لصعوبة تفرغ أعضاء البرلمان لهذه المهمة، هذا إلى جانب نقص الكفاءة والخبرة لديهم في الأمور المالية والمحاسبية، فقد اتجهت معظم البرلمانات في العالم نحو الاستعانة بأجهزة متخصصة، تتمتع بالاستقلالية عن السلطة التنفيذية، وتقوم بالرقابة على الأموال العمومية نيابة عنها، وتقدم إليها نتائج أعمالها.[31] ولعوامل تاريخية وقانونية انتقلت المساعدة المقدمة للبرلمان من التبعية إلى مجرد التعاون.[32] لذا، أضحت علاقة الأجهزة العليا للرقابة بالبرلمان تتسم بالتعاون والمشاركة والمساعدة.
ب-اختصاص مساعدة المجلس الأعلى للحسابات للبرلمان
تضطلع الأجهزة العليا للرقابة بأدوار المساعدة وإعلام السلطات العامة بإجراءات تنفيذ المالية العمومية، وبالتالي يسير أداؤها في اتجاه تحسين عمل مختلف المتدخلين في مجال التدبير المالي العمومي. على هذا، أصبحت اليوم مراقبة حسابات المحاسبين العموميين وظيفة ثانوية، بالمقابل فالمشورة وتقديم النصيحة، والقيام بالتدقيق، وتقييم السياسات العمومية، مع المصادقة على الحسابات، أصبحت مهام جوهرية.[33] وبهذا الصدد، يوضح فحص العلاقات الموجودة بين الأجهزة العليا للرقابة والسلطات العمومية وجود ترادف برلمان- أجهزة عليا للرقابة في مراقبة العمل الحكومي.[34]
وعلى خلاف معظم التجارب المقارنة، تميزت التجربة المغربية في مجال العلاقة بين المجلس والبرلمان، لمدة طويلة، بضعف التواصل والتنسيق، إذ ظل المجلس يفضل نقل المعلومة أكثر للجهاز التنفيذي منه للبرلمان والرأي العام.[35] واستنادا لذلك، يظهر الضعف الواضح لعلاقة التعاون التقني والإخباري بين المجلس والبرلمان بالنظر لغياب الوسائل الحقيقية لتفعيل هذه العلاقة، وعدم إرساء المقتضيات الدستورية والقانونية لآليات مؤسساتية للتعاون باستثناء الإشارة العامة إلى المساعدة المقدمة من طرف المجلس للبرلمان.[36]
وفي إطار المستجدات التي جاءت بها الوثيقة الدستورية المغربية، وسع المشرع الدستوري أدوار المجلس الاستشارية من خلال تدعيم وظيفة تقديم المساعدة لمحيطه الرقابي؛ خاصة السلطات العامة والهيئات القضائية. وفي هذا السياق، فقد أكدت مقتضيات الفصل 148 من الدستور على تقديم المجلس مساعدته للبرلمان في المجالات المتعلقة بمراقبة المالية العمومية، وكذا الإجابة عن الأسئلة والاستشارات المرتبطة بوظائف البرلمان في التشريع والمراقبة والتقييم المتعلقة بالمالية العامة.
وبهذا الصدد، يمكن للبرلمان، في إطار وظيفته التشريعية، الاسترشاد بخبرة وكفاءة القضاة الماليين في المجال المالي، وبالتالي استشارتهم عند إعداد القوانين والأنظمة المتعلقة بالتدبير المالي العمومي وبالإدارات العمومية. وبناء على ذلك، يمكن للمجلس المساهمة في تحسين جودة التشريعات المالية من خلال تقديم رأيه في كل المقتضيات القانونية التي لها علاقة بالتدبير المالي والمحاسبي، وبالتالي لها تأثير على المالية العمومية.
فعلى صعيد التجارب المقارنة، يتبين أن المؤسسة العليا للرقابة قد تكون مصدرا لتعديل النصوص القانونية الخاصة بالمالية العمومية. فعلى سبيل المثال، ساهمت محكمة الحسابات الفرنسية بشكل حيوي وفعال في صناعة القانون التنظيمي المنظم لقوانين المالية لعام 2001.[37] كما يمكن للمحكمة المالية، في العديد من البلدان، على سبيل المثال الجزائر واليونان، أن تستشار حول بعض النصوص القانونية أو مشاريع النصوص.[38]
لكن الممارسة المغربية لا تستجيب لهذا النهج المقارن، فتغيير النصوص القانونية المنظمة لمراقبة المالية العمومية، انطلاقا من مقتضيات متضمنة في قوانين المالية، تم دون استشارة ومشاركة المجلس.[39] كما أن إصلاح الرقابة العليا على الأموال العمومية تم بمعزل عن تعديل النصوص المنظمة لباقي الأجهزة الأخرى المكلفة بالمراقبة المالية والتي هي في حاجة إلى تحيين نصوصها ليكون إصلاح نظام المراقبة المالية نظاما متكاملا وشموليا.
وعلاوة على ذلك، يبدو أن العلاقة بين المجلس والبرلمان يمكن أن تتوطد أكثر من خلال الإصلاحات الجديدة التي جاء بها دستور 2011. فإذا كان المشرع الدستوري قد أسند ثلاث وظائف للبرلمان: التصويت على القانون، ومراقبة العمل الحكومي، وتقييم السياسات العمومية، فإن البرلمان المغربي، على غرار التجربة الفرنسية، يملك حق الاختيار بين تشكيل جهاز خاص، بين المجلسين النيابيين، مختص في تقييم السياسات العمومية، أو الاعتماد على المجلس في هذا المجال،[40] خاصة أن التقييم لن يكون أمرا جديدا كلية بالنسبة للجهاز الرقابي، بل هو خاصية تميزه، فمنهج التقييم يركز في الواقع على تحليل اقتصاد وفعالية ونجاعة تدبير الأجهزة العمومية والسياسات العمومية.[41]
ومن هذا المنظور، يمكن أن تشكل مساهمة المجلس في مهمة تقييم السياسات العمومية تدعيما لدوره ومكانته كمؤسسة دستورية للرقابة العليا على الأموال العمومية، وحلا لإشكالية الخبرة لدى الموارد البشرية للمؤسسة البرلمانية. زد على ذلك، سيتمكن المجلس من مواكبة مسارات الإنجاز، والتقدم باقتراحات وتوصيات لتقويم مختلف الاختلالات المحتملة. وبالتالي، يمكن للمجلس المساهمة في تحسين عناصر الفعل العمومي، وترشيد وتقوية نجاعة السياسات العمومية.[42]
وعلى الرغم من أهمية المقتضيات الجديدة للوثيقة الدستورية في مجال مساعدة المجلس للبرلمان، والتي ستجعل المجلس يساهم في تحسين الأداء الرقابي والتقييمي للمؤسسة البرلمانية من خلال تقديم الاستشارة والمساعدة في المجال المالي، والمشاركة في أشغال اللجان البرلمانية، فضلا عن تجويد أدوات المراقبة البرلمانية، فإن هذه المقتضيات ستطرح على المستوى النظري والعملي العديد من الإكراهات والصعوبات.
ج-صعوبات مهمة تقديم المساعدة للبرلمان
سنتوقف في هذا المستوى عند بعض الصعوبات التي تطرحها مهمة تقديم المساعدة للبرلمان على صعيد الممارسة، وسنتطرق لضمانات الاستقلالية، وقضية تبادل المعلومات والوثائق، وما يترتب عن ذلك من آجال.
1- مهمة مساعدة البرلمان وإشكالية الاستقلالية
يبدو واضحا من المقتضيات الدستورية والقانونية المنظمة لعلاقة المجلس بباقي السلطات العامة، حرص المشرع المغربي على التأكيد على استقلالية المجلس عن السلطتين التشريعية والتنفيذية، إذ نصت الوثيقة الدستورية على ضمان الدستور لاستقلالية المجلس، وخصته بباب مستقل، كما لم تدرجه أيضا في الباب الخاص بالسلطة القضائية.[43] لكن ما معنى الاستقلالية في ظل اختصاص تقديم المساعدة للمؤسسات العامة؟.
بالنسبة لإجراءات التعيين، فإذا كان تعيين رئيس الجهاز الأعلى للرقابة من طرف البرلمان يبقى أمرا أكثر تواترا في التجارب المقارنة، إذ يمارس من طرف أكثر من نصف أعضاء الأوروساي،[44] فإن تعيين الرئيس الأول في المغرب، فضلا عن الوكيل العام للملك، يبقى مجالا خاصا بالملك، حيث لا يتدخل البرلمان في هذا التعيين. ونجد نفس الأمر في التجربة الفرنسية، إذ يتم تعيين الرئيس الأول لمحكمة الحسابات من طرف رئيس الجمهورية، مما يعني أن السلطة التنفيذية تملك السلطة التقديرية للتعيين في منصب الرئيس الأول.[45] وبصفة عامة، لا يتدخل البرلمان في تعيين القضاة الماليين، إذ يتم تعيينهم في التجربة المغربية من طرف الملك.[46]
وعلى مستوى الاستقلال المالي، فيظهر نوع من التوازن بين المجلس والبرلمان في مجال تدبير ميزانيتيهما. فتنفيذ ميزانية المؤسسة البرلمانية لا يخضع لمراقبة خارجية مفروضة بحكم القانون، وذلك في ارتباط بمبدأ فصل السلط، وبدعوى أن السيادة المالية لهذه المؤسسة قد تمس في حال ما إذا سمح بممارسة بعض الأوجه الرقابية من طرف الجهاز التنفيذي، أو من طرف المحكمة المالية.[47] وتبعا لذلك، يمكن القول بأن البرلمان يستفيد من حصانة مالية، وذلك بعد الاكتفاء بمراقبة داخلية لميزانيته.[48]
ومن نفس المنطلق، تتوفر المحاكم المالية على ميزانية موحدة مدرجة بالميزانية العامة للدولة، يهيئ مشروعها، ويتولى صرفها، الرئيس الأول للمجلس باعتباره الآمر بالصرف. ولا يخضع تنفيذ هذه الميزانية لأي رقابة قبلية، وذلك بغية توفير ضمانات أكبر لاستقلالية المحاكم المالية. كما تم إعفاء ميزانية المجلس من المراقبة اللاحقة، والاكتفاء فقط بتقديم بيان عام حول تنفيذ هذه الميزانية ضمن التقرير السنوي الذي يبعث للملك.
وبالمقابل، فتوسيع مقتضيات الفصل 148 من الوثيقة الدستورية لنطاق الوظيفة الاستشارية، ومنح البرلمان صلاحية عامة في مجال طلب مساعدة المجلس في كل ما يخص ممارسة وظائفه التشريعية والرقابية والتقييمية المتعلقة بالمالية العمومية، سيكون له، في حال اعتماد البرلمان على المجلس بشكل كبير، تأثير مباشر على إعداد وتنفيذ البرنامج السنوي للمجلس، كما سيقود لا محالة إلى طرح مسألة الحدود بين الاستقلالية والتبعية. زد على ذلك، فالمجلس لا يقدم خدماته الاستشارية للبرلمان فقط، بل للحكومة والهيئات القضائية أيضا، الأمر الذي من شأنه أن يطرح، كذلك، مسألة التوازن في علاقة المجلس بباقي المؤسسات العامة.
وعلى هذا النحو، فإذا كان المشرع الدستوري قد وسع من نطاق المهام الاستشارية للمجلس من خلال طلب المساعدة، فإنه بالمقابل لم يوفر ضمانات مؤسساتية حقيقية لصيانة استقلالية المجلس. كما يظهر أن المقتضيات الدستورية الجديدة قد تغيت أساسا تجويد الأداء البرلماني، لذا نظرت للمجلس كمجرد هيئة مساعدة له في أداء مختلف وظائفه، لكنها لم تعر الاهتمام الكافي للتكامل والتنسيق بين الأجهزة العليا للرقابة على الأموال العمومية، إذ أغفلت إبراز أدوار الدعم والمساندة التي يمكن للبرلمان أن يقدمها للمجلس.
لقد سبق أن طرحت قضية استقلالية المحكمة المالية في فرنسا أيضا، إذ على الرغم من أن الخيار الفرنسي كان ينطوي نظريا على إبقاء محكمة الحسابات على نفس المسافة من البرلمان والحكومة، فإن مهمة تقديم المساعدة خاصة للبرلمان قادت إلى طرح مسألة ضمانات الاستقلالية. وفي هذا السياق، فقد قوى القاضي الدستوري علنا مبدأ استقلالية محكمة الحسابات، عن البرلمان والحكومة معا، في قراره المتعلق بالقانون التنظيمي الخاص بقوانين المالية 2001،[49] إذ منحها مجالا واسعا لحرية تأويل المساعدة التي يمكن أن تقدمها للبرلمان.[50]
إن ما تقدم يفيد أن تقديم المساعدة من طرف المحكمة المالية للبرلمان لا يدل على عدم الاستقلالية؛ فبصفتها محكمة مالية، لا يمكنها أن تخضع، في إعداد برنامج عملها، للالتزام بإبلاغه المسبق إلى رؤساء اللجان المالية، أو للرأي المتخذ من طرف هذه الأخيرة. كما أن الوضع رهن إشارة البرلمان لا يجب، بأي حال من الأحوال، أن يقودها إلى إنكار واجبها الدستوري بمساعدة الحكومة أيضا.[51]
وفي نفس الإطار، فإذا كانت محكمة الحسابات الألمانية مؤهلة لمنح توصيات للبرلمان أو الحكومة، بمبادرتها الخاصة، أو بطلب منهما، فإن طلب البرلمان أو الحكومة لا يتوفر إلا على صفة اقتراح، ولا يعرقل في أي شيء استقلال المحكمة المالية التي تقرر على قدم المساواة إذا كانت تمنح متابعة لهذا الطلب أو ذاك.[52]
وتجدر الإشارة إلى تدعيم المشرع الدستوري الفرنسي "للمهام السياسية" لمحكمة الحسابات، فمساعدة هذه الأخيرة للبرلمان تم تقويتها من طرف المراجعة الدستورية لعام 2008 التي نصت في الفصل 47-2 على مساعدة محكمة الحسابات للبرلمان في مراقبة عمل الحكومة، وتقييم السياسات العمومية، ومراقبة تنفيذ قوانين المالية، وتطبيق قوانين تمويل الضمان الاجتماعي.[53] وتبعا لذلك، تراجع التوازن؛ أي المسافة الفاصلة بين محكمة الحسابات والحكومة والبرلمان، لصالح هذا الأخير، فالمساعدة تقدم للبرلمان في مراقبة العمل الحكومي.[54]
وبالرجوع إلى التجربة المغربية، فإذا كان المشرع الدستوري قد ثمن ودعم وظيفة الاستشارة والمساعدة المقدمة من طرف المجلس للبرلمان، فإنه ترك الأمر عاما وشاسعا. ونعتقد أن جعل اختصاص المساعدة اختصاصا عاما دون تحديد مجالاته بدقة سيطرح العديد من الإشكالات، بل قد يحول المجلس إلى مجرد هيئة استشارية تابعة للبرلمان، لتصبح رقابته امتدادا للرقابة البرلمانية على نشاط الحكومة في المجال المالي.
واستنادا لما سبق بيانه، فإذا كان المجلس ملزما بالأخذ بعين الاعتبار طلبات المساعدة المحالة عليه من طرف السلطات العامة، فإننا نرى ضرورة عدم خضوع المجلس لتوجيهاتها في برمجة عمله الرقابي، حتى يكون حرا في وضع أولوياته وإعداد برنامجه السنوي. زد على ذلك، لابد من محافظة المجلس على نزاهته وحياديته في مباشرة عمله الرقابي، ويتحقق ذلك بعدم الاستجابة للرغبات السياسية، وتجنب الانخراط في التقاطبات السياسية أغلبية/معارضة.
2- إكراهات تبادل المعلومات والوثائق
تقتضي مهمة تقديم المساعدة من طرف الأجهزة العليا للرقابة للبرلمان تبادلا منتظما للوثائق والمعلومات المالية والمحاسبية. إذ قد يطلب البرلمان في التجارب المقارنة، أو أي لجنة من لجانه، بيانات أو تقارير من المؤسسة العليا للرقابة، بل قد يتعدى الأمر ذلك ليشمل مختلف المراسلات بينها وبين الإدارة. على هذا، أصبح العمل البرلماني يعتمد بشكل كبير على وثائق الأجهزة العليا للرقابة للقيام بمراقبة المالية العمومية بفعالية.
ويظهر أن النطاق الشاسع للوظيفة الاستشارية للمجلس، لن يجعل علاقته بالبرلمان مقتصرة فقط على التقارير التقليدية المرافقة لقانون التصفية،[55] بل ستمتد لمختلف الوثائق المالية والمحاسبية التي يمكن أن يطلبها البرلمان. من هنا، فمهمة تقديم المساعدة من خلال إجابة المجلس عن الأسئلة والاستشارات المرتبطة بمختلف وظائف المؤسسة البرلمانية المتعلقة بالمالية العمومية ستقود نظريا إلى تبادل العديد من الوثائق بينهما. ففي ضوء مقتضيات الدستور الجديد، يمكن للبرلمان أن يطلب رأي المجلس في أي قضية خاصة بممارسة وظائفه، أو يعرض عليه أي وثيقة تتعلق بالجوانب المالية والمحاسبية، أو بقضية من قضايا التدبير العمومي، كما يمكن أن يطلب من المجلس أي وثيقة تساعده على أداء مهامه، أو القيام بأي تحقيق أو تدقيق أو تقييم للأجهزة العمومية...[56]
وعلى المستوى الإجرائي، تطرح مسألة ما إذا كان بإمكان البرلمان الاطلاع على جميع الوثائق والمعلومات التي يتوفر عليها المجلس، وبالموازاة مدى توفر أعضاء المجلس على إمكانية الولوج الحر للبرلمان، ولجميع وثائقه وتقاريره، ولمجموع محاضر لجانه. كما تطرح قضية قابلية إحالة الوثائق والمراسلات بين المجلس والأجهزة الخاضعة لرقابته على البرلمان.
وإذا كانت مقتضيات الوثيقة الدستورية المغربية توحي بأن المجلس أضحى "مستشارا" ماليا لدى البرلمان، مما يعني إمكانية استفادة هذا الأخير من كل وثائق المجلس، فبالمقابل، ليس هناك ما يفيد إلزام البرلمان بإحالة وثائقه وأعماله على المحاكم المالية. وإذا كانت التجربة المغربية موضوعيا في حاجة إلى عمق زمني، وتراكمات عملية هامة، للإجابة عن قضايا تبادل الوثائق والمراسلات والتقارير، وإفراز آليات للتبادل المنتظم للمعلومات بين المجلس والبرلمان، فإن الاسترشاد بالتجارب المقارنة يمكننا من القول بأن الأجهزة العليا للرقابة تؤدي، حاليا، مهمة عامة للإخبار اتجاه البرلمان حول جميع الأسئلة التي لها علاقة بمجال المالية العمومية. ومن هذا المنطلق، أصبحت إحالة تقارير الأجهزة العليا للرقابة أمرا منظما واعتياديا، تعمل من خلالها تلك الأجهزة على توفير المعلومة المالية الموضوعية والحيادية للبرلمان بخصوص قضايا التدبير المالي العمومي.
لكن بالنسبة لقضية تبادل المراسلات بين الأجهزة العليا للرقابة والأجهزة الخاضعة للمراقبة، أو رؤسائهم التسلسليين، فيلاحظ، في أغلب البلدان، أنها ليست كلها قابلة للإرسال للبرلمان. فالمراسلات المحالة من طرف الأجهزة العليا للرقابة على الإدارات هي، نظريا، سرية. لكن في بعض البلدان، يمكن لأعضاء البرلمان الإطلاع عليها. ففي ألمانيا، يمكن للبرلمانيين، في بعض الظروف، الاطلاع على التبليغات التي ترسلها محكمة الحسابات الفيدرالية للإدارة. وفي بلجيكا، تبين النصوص بأنه يجب إبلاغ كل برلماني، الذي يطلب ذلك، بكل المستندات المحاسبية، كيفما كانت، الموجودة في أرشيف المحكمة المالية. وعلى الرغم من انفتاح هذه المسطرة على جميع البرلمانيين، فيظهر أنها أكثر أهمية بالنسبة لأعضاء المعارضة.[57]
وتجدر الإشارة إلى أن إبلاغ البرلمانيين ترد عليه بعض الاستثناءات المنصوص عليها قانونا. وتهم، على الخصوص، الوثائق التي من شأن تبليغها التعرض لمخاطر تمس أسرار الإدارة الأكثر أهمية؛ مداولات الحكومة، الدفاع الوطني، السياسة الخارجية، النقد والقرض العام، فضلا عن أمن الدولة والأمن العمومي. كما يستثني القاضي الإداري، أيضا، من الإعلام المنصوص عليه قانونا، الوثائق غير التامة، والوثائق الداخلية للمصالح؛ كالبرنامج السنوي للتفتيش، والوثائق التحضيرية والتمهيدية.[58]
وفي نفس الإطار، تطرح قضية تبادل الوثائق والمعلومات مسألة الآجال الضرورية للأجهزة العليا للرقابة من أجل الرد على طلبات البرلمان، إذ تشكل قضية الآجال عاملا للنزاع بينهما. فإذا كانت محكمة الحسابات الفرنسية تعتبر أن التحريات التي تنجزها بطلب من لجنة المالية تساهم في توسيع إعلام البرلمانيين حيث تقدم لهم ضمانة موضوعية للمحكمة، ولشساعة مصادر معلوماتها، فالبرلمانيون لهم بالمقابل الانطباع بأن "الآجال التي تتطلب من طرف أعمال محكمة الحسابات تفوق بكثير جدا وقت وجود لجان التقصي".[59]
كما أن احترام الأجهزة العليا للرقابة للمسطرة التواجهية يشكل عنصرا يطيل الآجال التي في إطارها يمكن أن يتحقق إخبار البرلمان، وذلك على الرغم من المجهودات التي تبدلها تلك الأجهزة لتقدم جوابا لطلباته في آجال قابلة للاستجابة لحاجاته. ولا تتعلق قضية الآجال فقط بالتحقيقات المنجزة من أجل البرلمان، ولكن بمجموع أعمال تلك الأجهزة، بسبب أن النفع الذي يجب أن تقدمه للبرلمان يرتبط كثيرا بمدى تحيين أعمالها.[60]
ومن أجل تجاوز الصعوبات التي قد تعترض التعاون بين الأجهزة العليا للرقابة والبرلمان في التجارب المقارنة، فقد تطلب الأمر إحداث هيئات برلمانية متخصصة من أجل تسيير عملية تبادل المعلومات. وضمن هذا السياق، يعد وجود جهاز للتعاون بين الأجهزة العليا للرقابة والبرلمان في بعض البلدان أمرا تقليديا. ففي النمسا، تنص الوثيقة الدستورية على أن المجلس الوطني يحدث لجنة لدراسة تقارير محكمة الحسابات. أما في بلجيكا، فهذه اللجنة الفرعية لها طابع غير منظم، وغير مهيكل، إذ تتدخل "كجهاز للتشاور، للاطلاع على المعلومات من طرف محكمة الحسابات وتخصها بالفحص".[61]
أضف إلى ذلك، فمن أجل تجاوز الصعوبات التي تخص الآجال، فقد ربطت المحكمة المالية الفرنسية علاقات وطيدة مع البرلمان سمحت لها ببرمجة قبلية لطلباته للتحقيق، وإنجازها في الوقت المحدد. زد على ذلك، أنه خارج المواعيد السنوية تستجيب محكمة الحسابات، أيضا، لدعوات المجالس النيابية عندما ترغب في معرفة رأيها في وضعية تقدم الإصلاحات، والصعوبات المواجهة، وكذا الوسائل المساعدة على الخروج منها.[62]
على سبيل الختم
إن الاشتغال على موضوع العلاقة بين المجلس والبرلمان يندرج في إطار الاهتمام بمؤسستين دستوريتين لهما دور بالغ الأهمية في مجال مراقبة العمل الحكومي في المجال المالي. وإذا كنا لا ندعي في هذه الدراسة تقديم جواب نهائي وقطعي عن تلك العلاقة، فإننا حاولنا فقط استعراض بعض العناصر النظرية والقانونية التي تمكننا من التفكير في أسسها العامة على ضوء المقتضيات الجديدة للوثيقة الدستورية المغربية والتجارب المقارنة.
واستنادا لما سبق بيانه، يمكننا إبداء بعض الملاحظات بخصوص العلاقة بين المجلس والبرلمان، تتجلى الأولى في أن القراءة الفاحصة للوثيقة الدستورية، تظهر بصفة عامة حرص المشرع الدستوري على التوفيق بين تقوية سلطة نواب البرلمان، وتحديث التدبير العمومي، أو بمعنى آخر إدماج منطقين معا: المنطق السياسي من جهة الذي يمنح الأسبقية لنواب البرلمان في ارتباط بالتمثيلية، والمنطق التدبيري من جهة ثانية الذي يتعلق بالضرورات الاقتصادية والذي يمنح، في الواقع، الامتياز للفعالية وللخبرة التقنية. مما يعني محاولة التوفيق بين تقوية الطابع البرلماني، ومتطلبات التدبير العمومي الذي يحتاج إلى الخبرة، الأمر الذي قاد إلى توسيع نطاق مهمة المساعدة المقدمة من طرف المجلس للبرلمان.
لكن على الرغم من الإصلاحات البالغة الأهمية التي جاءت بها الوثيقة الدستورية من أجل تقوية المؤسسة البرلمانية، لاسيما من خلال المقتضيات الخاصة بالتنصيب البرلماني للحكومة، وتقييم السياسات العمومية، فيتضح استمرارية "العقلنة البرلمانية"، وبالتالي تكريس هيمنة السلطة التنفيذية، وضعف الاختصاص البرلماني في المجال المالي. وعلى هذا أضحت الحاجة ملحة اليوم إلى علاقة تكامل وتعاون بين المجلس والبرلمان في مجال مراقبة الأموال العمومية، وذلك في إطار توفير ضمانات الاستقلالية، والمحافظة على نوع من التوازن المؤسساتي، إذ يقدم المجلس مساعدته أيضا للحكومة والهيئات القضائية.
وتتعلق الملاحظة الثانية بأن المستجدات الدستورية تفرض تغييرا شاملا لمختلف النصوص المنظمة للأجهزة العليا للرقابة على الأموال العمومية. وبهذا الصدد، يلزم إصلاح مدونة المحاكم المالية من أجل إعادة النظر في الأطر القانونية والمسطرية، والبنيات التنظيمية للمجلس. فمهمة مساعدة المجلس للبرلمان في مجال تقييم السياسات العمومية، على سبيل المثال، تحتاج إلى مناهج ومقتربات جديدة، وتعديل للمساطر، وتعاون بين المجلس والمجالس الجهوية للحسابات من أجل القيام بتحقيقات شاملة. وتبعا لذلك، يمكن أن تقود المهام الجديدة إلى تحول في ماهية الفعل الرقابي للمجلس، وتغيير في بنائه التنظيمي، وأدوات اشتغاله...
وبالموازاة مع ذلك، لابد من تحديد آليات قانونية واضحة لتنظيم العلاقة بين المجلس والبرلمان؛ أي آليات للتنسيق والتعاون، وكيفيات تبادل المعلومات، وتنظيم الآجال. وفي هذا الإطار، يجب أن تهتم الأنظمة الداخلية لمجلسي البرلمان بتأطير مسألة طلب المساعدة من المجلس، وكيفية التعامل مع تقاريره، وطرائق الاستفادة من حضور أعضائه...
كما يلزم مراجعة العديد من مقتضيات مدونة المحاكم المالية، ومن بينها حذف المادة 52 من المدونة التي تستثني الوزراء والبرلمانيين من مراقبة المجلس، وجعل اختصاصه شاملا من خلال إخضاع كل الأشخاص الممارسين للمسؤولية العمومية للرقابة، وذلك لمسايرة ما نص عليه الدستور في مجال ربط المسؤولية بالمحاسبة.
وتتأسس الملاحظة الثالثة على مفارقة مفادها أن حرص المشرع الدستوري على تقوية الرقابة والتقييم، وتدعيم شروط الحكامة المالية، يقابله في الواقع تنامي ظاهرة الفساد المالي، وتفشي الرشوة واقتصاد الريع، وتفاقم المشاكل الهيكلية لتدبير المالية العمومية، وأزمة في التمويل العمومي، واختلالات كبرى في تدبير الإدارات العمومية للشأن العام...
وفضلا عن ذلك، يلاحظ عدم اقتناع النخب السياسية بتبريرات وجود التدقيق الداخلي على الرغم من محدوديته، كما أن المحاسبة والمساءلة غائبتان عن سلوك المسؤولين وثقافتهم السياسية. بل يمكن القول أن الإحساس بالإفلات من العقاب شجع على التلاعب بالمال العام، بل منح مكافأة غير مستحقة للعديد من الأشخاص المفتقرين للكفاءة، الأمر الذي قاد إلى تشكل فئات مناهضة لكل تحرك محتمل نحو الدمقرطة.
مما يعني أن المدخل الحقيقي للتحديث السياسي لا يجب أن يقتصر على تغيير النصوص، بل يفترض تغيير البنيات الثقافية والاجتماعية والسياسية، وإعطاء إشارات واضحة وقوية في مجال محاربة الفساد، وفرض سلطة القانون على كل المتدخلين في مجال التدبير المالي العمومي، وتكريس قيم الشفافية والمحاسبة والمساءلة باعتبارها جوهر العمل الديمقراطي.
الهوامش
في ارتباط بسياق دولي وإقليمي متغير، عرف المغرب حراكا مجتمعيا؛ تجلت بعض مطالبه السياسية والاجتماعية في تكريس المواطنة، وتعزيز الديمقراطية، ورفض مظاهر الفساد واقتصاد الريع، والدعوة إلى إرساء نظام المسؤولية والمحاسبة والمساءلة، واعتماد نظام الشفافية والحكامة، هذا إلى جانب المطالبة بالكرامة والعدالة الاجتماعية... وفي هذا الإطار، تجلى العرض الرسمي للدولة، من أجل الاستجابة للانتظارات والمطالب المجتمعية، في الخطاب الملكي ل9 مارس 2011، وكذا في تعديل دستوري،[1] فضلا عن إحداث العديد من الهيئات الحقوقية والاستشارية، وتحديث جملة من النصوص القانونية.
ودون الخوض في النقاشات الفقهية والسياسية التي رافقت الإصلاح الدستوري، نشير إلى أنه على الرغم من أهمية العرض العمومي سواء على مستوى تجريب "منهجية جديدة" في صناعة الوثيقة الدستورية، أم على مستوى مضمون تلك الوثيقة ومستجداتها المتمثلة في توسيع اختصاصات السلطات العامة، وإعادة تحديد العلاقة فيما بينها، وتدعيم الحقوق والحريات الأساسية، ومحاولة تحسين نظام الحكامة بواسطة هيئات جديدة... فإن ذلك لا يمنعنا من الإقرار بأن مسار الإصلاح الدستوري بالمغرب يظل محكوما بمنطق الاستمرارية.
وعلى العموم، فقد حاولت الوثيقة الدستورية الجديدة الاستجابة لمنطقين: الأول سياسي يتجلى في تقوية الطابع البرلماني، والثاني تدبيري يتحدد في إيلاء أهمية خاصة لأجهزة الرقابة والتقييم، وهيئات الحكامة... الأمر الذي استدعى بالضرورة تقوية نظام الرقابة العليا على الأموال العمومية. وعلى هذا النحو، شكلت الرقابة المالية العليا موضوعا هاما في ظل ما يعرفه المغرب من إصلاحات دستورية ومؤسساتية من جهة، وكذا في ارتباط بتنامي الحاجة إلى حكامة جيدة في مجال تدبير الشؤون العامة من جهة ثانية.
وإذا كان تصنيف أشكال الرقابة العليا على الأموال العمومية، بالاعتماد على مبدأ فصل السلط، يقود عادة إلى التمييز بين ثلاثة أصناف من الرقابة: الرقابة السياسية، والرقابة الإدارية، والرقابة القضائية، فإننا سنتوقف، في هذه الدراسة، عند صنفين من أصناف الرقابة؛ يتعلق الأمر بالرقابة القضائية والرقابة السياسية. وعلى هذا، سنشتغل على مؤسستين رقابيتين دستوريتين، وذلك لدورهما الهام في الاستخدام الأمثل للموارد المالية وحماية المال العام؛ نقصد المجلس الأعلى للحسابات والبرلمان.[2]
ومن هذا المنطلق، سنحاول توصيف طبيعة العلاقة بين المجلس والبرلمان بالنظر لمهامها الرقابية الهامة في المجال المالي، وذلك في ارتباط بتحديات زمن سياسي ومؤسساتي انتقالي، يتجلى رهانه المزدوج في ضرورة تدعيم شروط الدمقرطة من خلال تكريس مبادئ التمثيلية والمحاسبة والمساءلة من جهة، وكذا محاولة تحسين أدوات التدبير العمومي من جهة ثانية. وتبعا لذلك، تتغيى هذه الدراسة تحليل العلاقة بين المجلس والبرلمان من خلال مقاربة محدداتها العامة، وأطرها النظرية والقانونية، فضلا عن أبعادها السياسية، وكذا إكراهاتها العملية.
وفي نفس الآن، فالاستعانة بالتجارب المقارنة في مجال الرقابة المالية العليا لا تبتغي "استيراد النماذج أو التجارب"، وإنما تهدف إلى الاستفادة من التطورات الفقهية والقانونية المقارنة، والاسترشاد بالنظم الرقابية المالية الدولية،[3] من أجل التفكير العميق في أسس العلاقة بين المجلس والبرلمان من منطلق إبراز مظاهر التمايز والتنافس من جهة، ومجالات المساعدة والاستشارة من جهة ثانية.
أولا: المجلس الأعلى للحسابات والبرلمان: أوجه التمايز
يشكل الاختصاص المالي الدعامة الرئيسة لنشأة المؤسسة البرلمانية، فبالإضافة إلى مسؤولية هذه المؤسسة في المجال التشريعي، تضطلع بمهمة رئيسة في ميدان مراقبة العمل الحكومي. من هنا، تعد الرقابة البرلمانية على النشاط المالي الحكومي المظهر الأول والأهم من مظاهر الرقابة المالية الخارجية، ومرد ذلك إلى أن السلطة التشريعية في الدول الديمقراطية تتولى، بوصفها الممثل الشرعي لإرادة الشعب، مراقبة تنفيذ الميزانية العامة التي وضعت لتحقيق الصالح العام للمجتمع.[4]
وتتسم الرقابة البرلمانية بالطابع الشمولي والعام، إذ تتناول جميع أوجه النشاط المالي الحكومي، فهي إما مراقبة قبلية تتجلى في دراسة ومناقشة مشروع القانون المالي، والتصويت والمصادقة عليه، أو مراقبة موازية تتمثل في مراقبة تنفيذ القانون المالي، وتجري عن طريق الأسئلة الشفوية أو الكتابية الموجهة إلى أعضاء الحكومة حول المسائل المالية، أو مراقبة بعدية على عمليات تنفيذ قانون المالية، وتتحدد في دراسة مشاريع قوانين التصفية والمصادقة عليها، كما يمكن أن تتم عرضيا عن طريق لجان تقصي الحقائق.
أما المجلس فيعتبر، حسب المشرع الدستوري، الهيئة العليا لمراقبة المالية العمومية، إذ يتولى مهمة الرقابة العليا على الأموال العمومية، كما يمارس المراقبة العليا على تنفيذ قوانين المالية.[5] وعلى هذا المستوى، تتحقق هذه المؤسسة الرقابية من سلامة العمليات المتعلقة بمداخيل ومصاريف الأجهزة الخاضعة لمراقبتها بمقتضى القانون، وتقيم كيفية تدبيرها لشؤونها، وتتخذ، عند الاقتضاء، عقوبات عن كل إخلال بالقواعد السارية على العمليات المذكورة.[6]
وإذا كان البرلمان يتوفر على سلطات تشريعية في المجال المالي، ويتولى أيضا مراقبة تدبير الأموال العمومية في إطار مراقبته للعمل الحكومي، فإنه يمارس رقابة ملاءمة أكثر منها رقابة مشروعية، لأن المجلس التشريعي مؤسسة سياسية،[7] لذا فهو يناقش الاختيارات السياسية، ويراقب السلطة التنفيذية باعتبارها سلطة سياسية. في حين، تتولى الأجهزة العليا للرقابة مهام الرقابة والتدقيق والتقييم، ولا تتدخل بأي حال من الأحوال في النقاش السياسي.[8] وتبعا لذلك، فالمحكمة المالية مكلفة بمراقبة الحكومة والإدارة والأجهزة العمومية من زاوية قانونية ومحاسبية، إذ تقرر، في المقام الأول، في القضايا المالية، بينما الرقابة البرلمانية، بطبيعتها، رقابة سياسية.[9]
وإذا كانت فعالية مهمة المحكمة المالية إزاء البرلمان تتوقف على تكاملية أفعالهما وأدوارهما الموجهة لمراقبة المالية العمومية، والعمل الحكومي في المجال المالي، فإن هذه التكاملية لا تلغي إمكانية وجود تمايز بين المحكمة المالية والبرلمان من خلال مستويات متعددة: بداية من خلال نظامهما الأساسي، فالهيئة القضائية تقدم مراقبة مختلفة عن تلك الممارسة من طرف النواب، ثانيا حسب سلطاتهما ووسائلهما، فالمحكمة المالية تتوفر على ولوج إلى المعلومة أكثر شساعة من البرلمان، لكن على خلاف المحكمة، لا يخضع البرلمان لأي مسطرة جبرية خاصة للمراقبة، بل يتوفر على العديد من الوسائل لمنح الفعالية لمراقبته.[10]
وبهذا الصدد، يمكن الإقرار بوجود منافسة للبرلمان من طرف "الأجهزة التي لها مصداقية تقنية كبيرة جدا، والتي لها استقلالية أكبر عن الحكومة"، والتي تتوفر على "قدرة كبيرة جدا على النقد"،[11] ومن بينها الأجهزة العليا للرقابة. وبناء على ذلك، فمجالات اختصاص وسلطة رقابة المحكمة المالية والبرلمان تظهر وجود شكل من أشكال التنافس بينهما،[12] لكن ذلك لا يلغي امتلاك البرلمان لوحده "الشرعية" في مجال فرض الضرائب والمحاسبة.[13]
ولا يفوتنا أن نشير إلى أن القاضي المالي المغربي يتولى مهمة الرقابة المالية البعدية على كيفية التصرف في الأموال العمومية، وكذا تقييم فعالية التدبير المالي العمومي؛ أي مراقبة جملة من القرارات التي تخص التدبير العمومي والسياسات والبرامج العمومية، وهي لا محالة تعبر عن اختيارات سياسية، كما يراقب مالية الأحزاب، وينظر في التصاريح الإجبارية للممتلكات،[14] ويفحص النفقات المتعلقة بالعمليات الانتخابية، مما يجعله في مواجهة مباشرة مع النخب السياسية المسؤولة عن تدبير الشأن العام، سواء على المستوى الوطني أو الترابي.[15]
وبشكل عام، فإذا كانت أغلب الأجهزة العليا للرقابة تخصص جزءا هاما من اهتمامها للفعالية؛ أي مراقبة نجاعة التدبير العمومي-، وليس فقط لمشروعية العمل المالي العمومي، فإن ذلك يطرح العديد من المشاكل والصعوبات المتعلقة بالتمييز الضروري بين ما يتعلق بالتقدير التقني، وما يتعلق بالتقدير السياسي.
ومن هذا المنطلق، فالقرارات المعتمدة من طرف السلطات العمومية تخضع لمراقبة التسيير، مما يعني أن مجموع التدبير المالي العمومي يجد نفسه خاضعا لهذه المراقبة التي لا تقوم على ملاءمة السياسة المتبعة، بل تركز قبل كل شيء على مراقبة النتائج من خلال مقارنة الإنجازات مع الأهداف المحددة، ومع ذلك، فهي تظهر في الواقع أكثر تعقيدا. وعلى هذا المستوى، فإذا كانت الأجهزة العليا للرقابة لا تنتقد القوانين والسياسات الحكومية، فهي تناقش بحرية الطريقة التي طبقت بها. أضف إلى ذلك، فعلى الرغم من أن تلك الأجهزة غير مختصة بالقيام بتقديرات حول مشروعية القرارات السياسية، فيعود إليها فحص ما إذا كانت الشروط التي تقوم عليها هذه القرارات موجودة حقا.[16]
هكذا، تعد مراقبة التسيير، أحيانا، مجالا للصراع مع السلطات العمومية التي تحكم بأن الأجهزة العليا للرقابة قد تجاوزت دورها. وفي هذا السياق، أثير نقاش في فرنسا حول معرفة مدى إمكانية تدخل المحكمة المالية في الإنجاز التدبيري للحكومة. ولقد برر إحداث مكتب برلماني للتقييم بأن محكمة الحسابات ليس لها كمهمة القيام بتحليل سياسي للعمل الحكومي، وأن هذا الدور يجب أن يبقى امتيازا وحكرا على البرلمان.[17] على هذا النحو، يعود التقدير السياسي إلى البرلمان، لكن هذا الأخير يجب أن يخبر بشكل كاف، وأن يتوفر على المعلومة المالية الموسعة من طرف الأجهزة العليا للرقابة، وأن تكون له الإرادة لممارسة حقيقية لرقابة الفعالية على التدبير العمومي.[18]
من هنا، فعلى الرغم من مظاهر التمايز والاختلاف بين البرلمان والمجلس، ووجود نوع من التنافس بين شرعيتي "التمثيل" و"الرقابة"، فذلك لا يلغي الاشتراك في نفس المهمة المتمثلة في المحافظة على المال العام، كما لا ينفي إمكانية التكامل في المجال الرقابي والتقييمي.
ثانيا: المجلس الأعلى للحسابات ومهمة تقديم المساعدة للبرلمان
سعت الوثيقة الدستورية إلى تقوية دور المؤسسة البرلمانية على مستوى التشريع والمراقبة والتقييم. وفي هذا الإطار، أضحى البرلمان يمارس السلطة التشريعية، وتم تدعيم صلاحياته في مجال الرقابة على العمل الحكومي، كما تولى تقييم السياسات العمومية. لكن القراءة الفاحصة للصلاحيات الممنوحة للبرلمان في المجال المالي تظهر أنها تظل متسمة بالمحدودية.[19] وعلى هذا المستوى، سنحاول، بداية، إبراز مظاهر ضعف السلطة المالية للبرلمان، وبالتالي محدودية دوره التشريعي والرقابي في المجال المالي، لنعمد ثانيا إلى توضيح أهمية اختصاص مساعدة المجلس للبرلمان، وبعض تجلياته، فضلا عن الصعوبات التي يطرحها على صعيد الممارسة.
أ- ضعف الاختصاص البرلماني في المجال المالي
إذا كان قانون المالية يصدر عن البرلمان بالتصويت طبقا لشروط ينص عليها قانون تنظيمي، فإن الممارسة البرلمانية للسلطة المالية تخضع لجملة من القيود القانونية التي تفرغها، من الناحية العملية، من مضمونها، من أبرزها الحيز الزمني الضيق المخصص من طرف الحكومة للبرلمان لدراسة قانون المالية،[20] وحرمانه من أية سلطة اقتراح لتعديل نفقات التجهيز في الوقت الذي تتمتع فيه الحكومة بكامل الصلاحية لتقديم مشاريع قوانين تستهدف إدخال تعديلات على البرنامج الذي صادق عليه البرلمان.
وفي هذا الإطار، تنص مقتضيات الفصل 75 من الدستور على تصويت البرلمان مرة واحدة على نفقات التجهيز التي قد تهم عدة سنوات، مما يعني عدم إمكانية تقديمه لأي مقترحات قوانين لتغيير ما تمت الموافقة عليه في هذا الصدد. زد على ذلك، تتوفر الحكومة على صلاحية بلورة القانون المالي، إذ يمكنها أن تفتح بمرسوم الاعتمادات اللازمة لسير المرافق العمومية، والقيام بالمهام المنوطة بها، على أساس ما هو مقترح في الميزانية المعروضة على الموافقة، إذا لم يتمكن البرلمان في نهاية السنة المالية من التصويت على قانون المالية، أو لم يصدر الأمر بتنفيذه بسبب إحالته على المجلس الدستوري للنظر في مدى دستوريته. وتبعا لذلك، يظهر أن الاختصاص البرلماني ينتقل إلى الحكومة في حال عدم التصويت على مشروع القانون المالي في الأجل المحدد.
فضلا عن ذلك، تصطدم اقتراحات البرلمان بمقتضيات الفصل 77 من الدستور الذي يعطي الحكومة صلاحية واسعة في عدم قبول المقترحات أو التعديلات المقدمة من طرف أعضاء البرلمان، على الرغم من اشتراط بيان الأسباب، إذا كان قبولها يؤدي بالنسبة للقانون المالي إما إلى تخفيض الموارد العمومية، وإما إلى إحداث تكليف عمومي، أو الزيادة في تكليف موجود، تماشيا مع كون الحكومة، من خلال وزير المالية، هي التي تتولى إعداد مشاريع قوانين المالية، والسهر على تنفيذها.[21] من هنا، تتبين محدودية السلطة المالية للمؤسسة البرلمانية،[22] وذلك على الرغم من سعي المشرع الدستوري إلى التقليص من هيمنة الحكومة في المجال المالي، وذلك بالتنصيص على دور كل من البرلمان والحكومة في السهر على الحفاظ على توازن مالية الدولة.[23]
كما يمكن للحكومة الدفع بمقتضيات الفصل 79 من الدستور الذي يمنحها الحق في عدم قبول كل اقتراح أو تعديل لا يدخل في اختصاص السلطة التشريعية، أو الدفع بمقتضيات الفصل 82 من الدستور الذي يعطي لمشاريعها ومبادراتها الأسبقية على المبادرات والمقترحات التي يتقدم بها أعضاء البرلمان. ومن جانب آخر، يظهر أن المشرع الدستوري لم ينص على تاريخ محدد للبت في مشروع القانون المالي، وأحال على القانون التنظيمي للمالية الذي وضع أجالا معينة لمناقشة القانون المالي.[24]
هكذا، فبالرجوع إلى مختلف المراحل الخاصة باعتماد وإقرار القانون المالي يتبدى طابع الضعف في الاختصاص المالي للبرلمان، إذ أن طابع "العقلنة البرلمانية" يظل يقيد الصلاحيات المالية المعترف بها مبدئيا للبرلمان. بل إن القانون المالي يظل، في الوضع الغالب، قانونا حكوميا بامتياز، لأنه يعبر عن تصور الحكومة لميزانية الدولة، في حين أن البرلمان لا يستطيع أن يخطط في المجال المالي وفقا لرغبة وأهداف من يمثله.[25] وعلى هذا، تستمر السمة الملازمة للعمل البرلماني والمتمثلة في ضعف مراقبته للأداء المالي الحكومي.
ومن جانب آخر، تعترض مراقبة البرلمان لمالية الدولة مجموعة من الصعوبات الذاتية، لعل أهمها عدم توفر أغلبية النواب على الكفاءة التعليمية والتقنية الضرورية من أجل تحليل ومناقشة الميزانية مناقشة دقيقة، ذلك أن الانتخابات التشريعية المغربية تحمل إلى البرلمان نوابا لا يتوفر معظمهم على المؤهلات العلمية الكافية التي تمكنهم من الدراسة التقنية لقانون المالية ذي الطبيعة التقنية المعقدة، الأمر الذي يؤثر بشكل كبير في قدرتهم على ممارسة صلاحياتهم الدستورية في المناقشة المالية والرقابة والمساءلة.[26]
هكذا، فضعف التكوين السياسي والتقني للموارد البشرية للبرلمان يجعلها في تبعية دائمة، وفي حالة استيلاب مطبق، أمام المبادرات الحكومية التي تبقى مشاريعها تتمتع بالسيادة المطلقة من حيث قيمتها التقنية،[27] هذا الوضع يخلق جهازا أليا للتوجيه تظهر فيه الحكومة سيدة كل المبادرات، وأعضاء البرلمان يشكلون مجتمعين غرفة للتسجيل، ومصدرا لشرعنة هذه المبادرات.[28] وعلى هذا، فقد انتقلت الصلاحيات المالية التشريعية إلى الحكومة التي أصبحت بفضل كبار خبرائها تحضر ميزانية الدولة، وتعرضها على البرلمان من أجل المصادقة عليها،[29] مما يقود إلى تفوق وهيمنة الحكومة على المجال المالي، ويخلق نوعا من عدم التوازن المؤسساتي.[30]
وضمن هذا السياق، وبما أن الرقابة البرلمانية غير قادرة على القيام بمهامها على الوجه الأكمل؛ لكون طبيعة الوظيفة البرلمانية متعددة الجوانب والمهام، وكذا لصعوبة تفرغ أعضاء البرلمان لهذه المهمة، هذا إلى جانب نقص الكفاءة والخبرة لديهم في الأمور المالية والمحاسبية، فقد اتجهت معظم البرلمانات في العالم نحو الاستعانة بأجهزة متخصصة، تتمتع بالاستقلالية عن السلطة التنفيذية، وتقوم بالرقابة على الأموال العمومية نيابة عنها، وتقدم إليها نتائج أعمالها.[31] ولعوامل تاريخية وقانونية انتقلت المساعدة المقدمة للبرلمان من التبعية إلى مجرد التعاون.[32] لذا، أضحت علاقة الأجهزة العليا للرقابة بالبرلمان تتسم بالتعاون والمشاركة والمساعدة.
ب-اختصاص مساعدة المجلس الأعلى للحسابات للبرلمان
تضطلع الأجهزة العليا للرقابة بأدوار المساعدة وإعلام السلطات العامة بإجراءات تنفيذ المالية العمومية، وبالتالي يسير أداؤها في اتجاه تحسين عمل مختلف المتدخلين في مجال التدبير المالي العمومي. على هذا، أصبحت اليوم مراقبة حسابات المحاسبين العموميين وظيفة ثانوية، بالمقابل فالمشورة وتقديم النصيحة، والقيام بالتدقيق، وتقييم السياسات العمومية، مع المصادقة على الحسابات، أصبحت مهام جوهرية.[33] وبهذا الصدد، يوضح فحص العلاقات الموجودة بين الأجهزة العليا للرقابة والسلطات العمومية وجود ترادف برلمان- أجهزة عليا للرقابة في مراقبة العمل الحكومي.[34]
وعلى خلاف معظم التجارب المقارنة، تميزت التجربة المغربية في مجال العلاقة بين المجلس والبرلمان، لمدة طويلة، بضعف التواصل والتنسيق، إذ ظل المجلس يفضل نقل المعلومة أكثر للجهاز التنفيذي منه للبرلمان والرأي العام.[35] واستنادا لذلك، يظهر الضعف الواضح لعلاقة التعاون التقني والإخباري بين المجلس والبرلمان بالنظر لغياب الوسائل الحقيقية لتفعيل هذه العلاقة، وعدم إرساء المقتضيات الدستورية والقانونية لآليات مؤسساتية للتعاون باستثناء الإشارة العامة إلى المساعدة المقدمة من طرف المجلس للبرلمان.[36]
وفي إطار المستجدات التي جاءت بها الوثيقة الدستورية المغربية، وسع المشرع الدستوري أدوار المجلس الاستشارية من خلال تدعيم وظيفة تقديم المساعدة لمحيطه الرقابي؛ خاصة السلطات العامة والهيئات القضائية. وفي هذا السياق، فقد أكدت مقتضيات الفصل 148 من الدستور على تقديم المجلس مساعدته للبرلمان في المجالات المتعلقة بمراقبة المالية العمومية، وكذا الإجابة عن الأسئلة والاستشارات المرتبطة بوظائف البرلمان في التشريع والمراقبة والتقييم المتعلقة بالمالية العامة.
وبهذا الصدد، يمكن للبرلمان، في إطار وظيفته التشريعية، الاسترشاد بخبرة وكفاءة القضاة الماليين في المجال المالي، وبالتالي استشارتهم عند إعداد القوانين والأنظمة المتعلقة بالتدبير المالي العمومي وبالإدارات العمومية. وبناء على ذلك، يمكن للمجلس المساهمة في تحسين جودة التشريعات المالية من خلال تقديم رأيه في كل المقتضيات القانونية التي لها علاقة بالتدبير المالي والمحاسبي، وبالتالي لها تأثير على المالية العمومية.
فعلى صعيد التجارب المقارنة، يتبين أن المؤسسة العليا للرقابة قد تكون مصدرا لتعديل النصوص القانونية الخاصة بالمالية العمومية. فعلى سبيل المثال، ساهمت محكمة الحسابات الفرنسية بشكل حيوي وفعال في صناعة القانون التنظيمي المنظم لقوانين المالية لعام 2001.[37] كما يمكن للمحكمة المالية، في العديد من البلدان، على سبيل المثال الجزائر واليونان، أن تستشار حول بعض النصوص القانونية أو مشاريع النصوص.[38]
لكن الممارسة المغربية لا تستجيب لهذا النهج المقارن، فتغيير النصوص القانونية المنظمة لمراقبة المالية العمومية، انطلاقا من مقتضيات متضمنة في قوانين المالية، تم دون استشارة ومشاركة المجلس.[39] كما أن إصلاح الرقابة العليا على الأموال العمومية تم بمعزل عن تعديل النصوص المنظمة لباقي الأجهزة الأخرى المكلفة بالمراقبة المالية والتي هي في حاجة إلى تحيين نصوصها ليكون إصلاح نظام المراقبة المالية نظاما متكاملا وشموليا.
وعلاوة على ذلك، يبدو أن العلاقة بين المجلس والبرلمان يمكن أن تتوطد أكثر من خلال الإصلاحات الجديدة التي جاء بها دستور 2011. فإذا كان المشرع الدستوري قد أسند ثلاث وظائف للبرلمان: التصويت على القانون، ومراقبة العمل الحكومي، وتقييم السياسات العمومية، فإن البرلمان المغربي، على غرار التجربة الفرنسية، يملك حق الاختيار بين تشكيل جهاز خاص، بين المجلسين النيابيين، مختص في تقييم السياسات العمومية، أو الاعتماد على المجلس في هذا المجال،[40] خاصة أن التقييم لن يكون أمرا جديدا كلية بالنسبة للجهاز الرقابي، بل هو خاصية تميزه، فمنهج التقييم يركز في الواقع على تحليل اقتصاد وفعالية ونجاعة تدبير الأجهزة العمومية والسياسات العمومية.[41]
ومن هذا المنظور، يمكن أن تشكل مساهمة المجلس في مهمة تقييم السياسات العمومية تدعيما لدوره ومكانته كمؤسسة دستورية للرقابة العليا على الأموال العمومية، وحلا لإشكالية الخبرة لدى الموارد البشرية للمؤسسة البرلمانية. زد على ذلك، سيتمكن المجلس من مواكبة مسارات الإنجاز، والتقدم باقتراحات وتوصيات لتقويم مختلف الاختلالات المحتملة. وبالتالي، يمكن للمجلس المساهمة في تحسين عناصر الفعل العمومي، وترشيد وتقوية نجاعة السياسات العمومية.[42]
وعلى الرغم من أهمية المقتضيات الجديدة للوثيقة الدستورية في مجال مساعدة المجلس للبرلمان، والتي ستجعل المجلس يساهم في تحسين الأداء الرقابي والتقييمي للمؤسسة البرلمانية من خلال تقديم الاستشارة والمساعدة في المجال المالي، والمشاركة في أشغال اللجان البرلمانية، فضلا عن تجويد أدوات المراقبة البرلمانية، فإن هذه المقتضيات ستطرح على المستوى النظري والعملي العديد من الإكراهات والصعوبات.
ج-صعوبات مهمة تقديم المساعدة للبرلمان
سنتوقف في هذا المستوى عند بعض الصعوبات التي تطرحها مهمة تقديم المساعدة للبرلمان على صعيد الممارسة، وسنتطرق لضمانات الاستقلالية، وقضية تبادل المعلومات والوثائق، وما يترتب عن ذلك من آجال.
1- مهمة مساعدة البرلمان وإشكالية الاستقلالية
يبدو واضحا من المقتضيات الدستورية والقانونية المنظمة لعلاقة المجلس بباقي السلطات العامة، حرص المشرع المغربي على التأكيد على استقلالية المجلس عن السلطتين التشريعية والتنفيذية، إذ نصت الوثيقة الدستورية على ضمان الدستور لاستقلالية المجلس، وخصته بباب مستقل، كما لم تدرجه أيضا في الباب الخاص بالسلطة القضائية.[43] لكن ما معنى الاستقلالية في ظل اختصاص تقديم المساعدة للمؤسسات العامة؟.
بالنسبة لإجراءات التعيين، فإذا كان تعيين رئيس الجهاز الأعلى للرقابة من طرف البرلمان يبقى أمرا أكثر تواترا في التجارب المقارنة، إذ يمارس من طرف أكثر من نصف أعضاء الأوروساي،[44] فإن تعيين الرئيس الأول في المغرب، فضلا عن الوكيل العام للملك، يبقى مجالا خاصا بالملك، حيث لا يتدخل البرلمان في هذا التعيين. ونجد نفس الأمر في التجربة الفرنسية، إذ يتم تعيين الرئيس الأول لمحكمة الحسابات من طرف رئيس الجمهورية، مما يعني أن السلطة التنفيذية تملك السلطة التقديرية للتعيين في منصب الرئيس الأول.[45] وبصفة عامة، لا يتدخل البرلمان في تعيين القضاة الماليين، إذ يتم تعيينهم في التجربة المغربية من طرف الملك.[46]
وعلى مستوى الاستقلال المالي، فيظهر نوع من التوازن بين المجلس والبرلمان في مجال تدبير ميزانيتيهما. فتنفيذ ميزانية المؤسسة البرلمانية لا يخضع لمراقبة خارجية مفروضة بحكم القانون، وذلك في ارتباط بمبدأ فصل السلط، وبدعوى أن السيادة المالية لهذه المؤسسة قد تمس في حال ما إذا سمح بممارسة بعض الأوجه الرقابية من طرف الجهاز التنفيذي، أو من طرف المحكمة المالية.[47] وتبعا لذلك، يمكن القول بأن البرلمان يستفيد من حصانة مالية، وذلك بعد الاكتفاء بمراقبة داخلية لميزانيته.[48]
ومن نفس المنطلق، تتوفر المحاكم المالية على ميزانية موحدة مدرجة بالميزانية العامة للدولة، يهيئ مشروعها، ويتولى صرفها، الرئيس الأول للمجلس باعتباره الآمر بالصرف. ولا يخضع تنفيذ هذه الميزانية لأي رقابة قبلية، وذلك بغية توفير ضمانات أكبر لاستقلالية المحاكم المالية. كما تم إعفاء ميزانية المجلس من المراقبة اللاحقة، والاكتفاء فقط بتقديم بيان عام حول تنفيذ هذه الميزانية ضمن التقرير السنوي الذي يبعث للملك.
وبالمقابل، فتوسيع مقتضيات الفصل 148 من الوثيقة الدستورية لنطاق الوظيفة الاستشارية، ومنح البرلمان صلاحية عامة في مجال طلب مساعدة المجلس في كل ما يخص ممارسة وظائفه التشريعية والرقابية والتقييمية المتعلقة بالمالية العمومية، سيكون له، في حال اعتماد البرلمان على المجلس بشكل كبير، تأثير مباشر على إعداد وتنفيذ البرنامج السنوي للمجلس، كما سيقود لا محالة إلى طرح مسألة الحدود بين الاستقلالية والتبعية. زد على ذلك، فالمجلس لا يقدم خدماته الاستشارية للبرلمان فقط، بل للحكومة والهيئات القضائية أيضا، الأمر الذي من شأنه أن يطرح، كذلك، مسألة التوازن في علاقة المجلس بباقي المؤسسات العامة.
وعلى هذا النحو، فإذا كان المشرع الدستوري قد وسع من نطاق المهام الاستشارية للمجلس من خلال طلب المساعدة، فإنه بالمقابل لم يوفر ضمانات مؤسساتية حقيقية لصيانة استقلالية المجلس. كما يظهر أن المقتضيات الدستورية الجديدة قد تغيت أساسا تجويد الأداء البرلماني، لذا نظرت للمجلس كمجرد هيئة مساعدة له في أداء مختلف وظائفه، لكنها لم تعر الاهتمام الكافي للتكامل والتنسيق بين الأجهزة العليا للرقابة على الأموال العمومية، إذ أغفلت إبراز أدوار الدعم والمساندة التي يمكن للبرلمان أن يقدمها للمجلس.
لقد سبق أن طرحت قضية استقلالية المحكمة المالية في فرنسا أيضا، إذ على الرغم من أن الخيار الفرنسي كان ينطوي نظريا على إبقاء محكمة الحسابات على نفس المسافة من البرلمان والحكومة، فإن مهمة تقديم المساعدة خاصة للبرلمان قادت إلى طرح مسألة ضمانات الاستقلالية. وفي هذا السياق، فقد قوى القاضي الدستوري علنا مبدأ استقلالية محكمة الحسابات، عن البرلمان والحكومة معا، في قراره المتعلق بالقانون التنظيمي الخاص بقوانين المالية 2001،[49] إذ منحها مجالا واسعا لحرية تأويل المساعدة التي يمكن أن تقدمها للبرلمان.[50]
إن ما تقدم يفيد أن تقديم المساعدة من طرف المحكمة المالية للبرلمان لا يدل على عدم الاستقلالية؛ فبصفتها محكمة مالية، لا يمكنها أن تخضع، في إعداد برنامج عملها، للالتزام بإبلاغه المسبق إلى رؤساء اللجان المالية، أو للرأي المتخذ من طرف هذه الأخيرة. كما أن الوضع رهن إشارة البرلمان لا يجب، بأي حال من الأحوال، أن يقودها إلى إنكار واجبها الدستوري بمساعدة الحكومة أيضا.[51]
وفي نفس الإطار، فإذا كانت محكمة الحسابات الألمانية مؤهلة لمنح توصيات للبرلمان أو الحكومة، بمبادرتها الخاصة، أو بطلب منهما، فإن طلب البرلمان أو الحكومة لا يتوفر إلا على صفة اقتراح، ولا يعرقل في أي شيء استقلال المحكمة المالية التي تقرر على قدم المساواة إذا كانت تمنح متابعة لهذا الطلب أو ذاك.[52]
وتجدر الإشارة إلى تدعيم المشرع الدستوري الفرنسي "للمهام السياسية" لمحكمة الحسابات، فمساعدة هذه الأخيرة للبرلمان تم تقويتها من طرف المراجعة الدستورية لعام 2008 التي نصت في الفصل 47-2 على مساعدة محكمة الحسابات للبرلمان في مراقبة عمل الحكومة، وتقييم السياسات العمومية، ومراقبة تنفيذ قوانين المالية، وتطبيق قوانين تمويل الضمان الاجتماعي.[53] وتبعا لذلك، تراجع التوازن؛ أي المسافة الفاصلة بين محكمة الحسابات والحكومة والبرلمان، لصالح هذا الأخير، فالمساعدة تقدم للبرلمان في مراقبة العمل الحكومي.[54]
وبالرجوع إلى التجربة المغربية، فإذا كان المشرع الدستوري قد ثمن ودعم وظيفة الاستشارة والمساعدة المقدمة من طرف المجلس للبرلمان، فإنه ترك الأمر عاما وشاسعا. ونعتقد أن جعل اختصاص المساعدة اختصاصا عاما دون تحديد مجالاته بدقة سيطرح العديد من الإشكالات، بل قد يحول المجلس إلى مجرد هيئة استشارية تابعة للبرلمان، لتصبح رقابته امتدادا للرقابة البرلمانية على نشاط الحكومة في المجال المالي.
واستنادا لما سبق بيانه، فإذا كان المجلس ملزما بالأخذ بعين الاعتبار طلبات المساعدة المحالة عليه من طرف السلطات العامة، فإننا نرى ضرورة عدم خضوع المجلس لتوجيهاتها في برمجة عمله الرقابي، حتى يكون حرا في وضع أولوياته وإعداد برنامجه السنوي. زد على ذلك، لابد من محافظة المجلس على نزاهته وحياديته في مباشرة عمله الرقابي، ويتحقق ذلك بعدم الاستجابة للرغبات السياسية، وتجنب الانخراط في التقاطبات السياسية أغلبية/معارضة.
2- إكراهات تبادل المعلومات والوثائق
تقتضي مهمة تقديم المساعدة من طرف الأجهزة العليا للرقابة للبرلمان تبادلا منتظما للوثائق والمعلومات المالية والمحاسبية. إذ قد يطلب البرلمان في التجارب المقارنة، أو أي لجنة من لجانه، بيانات أو تقارير من المؤسسة العليا للرقابة، بل قد يتعدى الأمر ذلك ليشمل مختلف المراسلات بينها وبين الإدارة. على هذا، أصبح العمل البرلماني يعتمد بشكل كبير على وثائق الأجهزة العليا للرقابة للقيام بمراقبة المالية العمومية بفعالية.
ويظهر أن النطاق الشاسع للوظيفة الاستشارية للمجلس، لن يجعل علاقته بالبرلمان مقتصرة فقط على التقارير التقليدية المرافقة لقانون التصفية،[55] بل ستمتد لمختلف الوثائق المالية والمحاسبية التي يمكن أن يطلبها البرلمان. من هنا، فمهمة تقديم المساعدة من خلال إجابة المجلس عن الأسئلة والاستشارات المرتبطة بمختلف وظائف المؤسسة البرلمانية المتعلقة بالمالية العمومية ستقود نظريا إلى تبادل العديد من الوثائق بينهما. ففي ضوء مقتضيات الدستور الجديد، يمكن للبرلمان أن يطلب رأي المجلس في أي قضية خاصة بممارسة وظائفه، أو يعرض عليه أي وثيقة تتعلق بالجوانب المالية والمحاسبية، أو بقضية من قضايا التدبير العمومي، كما يمكن أن يطلب من المجلس أي وثيقة تساعده على أداء مهامه، أو القيام بأي تحقيق أو تدقيق أو تقييم للأجهزة العمومية...[56]
وعلى المستوى الإجرائي، تطرح مسألة ما إذا كان بإمكان البرلمان الاطلاع على جميع الوثائق والمعلومات التي يتوفر عليها المجلس، وبالموازاة مدى توفر أعضاء المجلس على إمكانية الولوج الحر للبرلمان، ولجميع وثائقه وتقاريره، ولمجموع محاضر لجانه. كما تطرح قضية قابلية إحالة الوثائق والمراسلات بين المجلس والأجهزة الخاضعة لرقابته على البرلمان.
وإذا كانت مقتضيات الوثيقة الدستورية المغربية توحي بأن المجلس أضحى "مستشارا" ماليا لدى البرلمان، مما يعني إمكانية استفادة هذا الأخير من كل وثائق المجلس، فبالمقابل، ليس هناك ما يفيد إلزام البرلمان بإحالة وثائقه وأعماله على المحاكم المالية. وإذا كانت التجربة المغربية موضوعيا في حاجة إلى عمق زمني، وتراكمات عملية هامة، للإجابة عن قضايا تبادل الوثائق والمراسلات والتقارير، وإفراز آليات للتبادل المنتظم للمعلومات بين المجلس والبرلمان، فإن الاسترشاد بالتجارب المقارنة يمكننا من القول بأن الأجهزة العليا للرقابة تؤدي، حاليا، مهمة عامة للإخبار اتجاه البرلمان حول جميع الأسئلة التي لها علاقة بمجال المالية العمومية. ومن هذا المنطلق، أصبحت إحالة تقارير الأجهزة العليا للرقابة أمرا منظما واعتياديا، تعمل من خلالها تلك الأجهزة على توفير المعلومة المالية الموضوعية والحيادية للبرلمان بخصوص قضايا التدبير المالي العمومي.
لكن بالنسبة لقضية تبادل المراسلات بين الأجهزة العليا للرقابة والأجهزة الخاضعة للمراقبة، أو رؤسائهم التسلسليين، فيلاحظ، في أغلب البلدان، أنها ليست كلها قابلة للإرسال للبرلمان. فالمراسلات المحالة من طرف الأجهزة العليا للرقابة على الإدارات هي، نظريا، سرية. لكن في بعض البلدان، يمكن لأعضاء البرلمان الإطلاع عليها. ففي ألمانيا، يمكن للبرلمانيين، في بعض الظروف، الاطلاع على التبليغات التي ترسلها محكمة الحسابات الفيدرالية للإدارة. وفي بلجيكا، تبين النصوص بأنه يجب إبلاغ كل برلماني، الذي يطلب ذلك، بكل المستندات المحاسبية، كيفما كانت، الموجودة في أرشيف المحكمة المالية. وعلى الرغم من انفتاح هذه المسطرة على جميع البرلمانيين، فيظهر أنها أكثر أهمية بالنسبة لأعضاء المعارضة.[57]
وتجدر الإشارة إلى أن إبلاغ البرلمانيين ترد عليه بعض الاستثناءات المنصوص عليها قانونا. وتهم، على الخصوص، الوثائق التي من شأن تبليغها التعرض لمخاطر تمس أسرار الإدارة الأكثر أهمية؛ مداولات الحكومة، الدفاع الوطني، السياسة الخارجية، النقد والقرض العام، فضلا عن أمن الدولة والأمن العمومي. كما يستثني القاضي الإداري، أيضا، من الإعلام المنصوص عليه قانونا، الوثائق غير التامة، والوثائق الداخلية للمصالح؛ كالبرنامج السنوي للتفتيش، والوثائق التحضيرية والتمهيدية.[58]
وفي نفس الإطار، تطرح قضية تبادل الوثائق والمعلومات مسألة الآجال الضرورية للأجهزة العليا للرقابة من أجل الرد على طلبات البرلمان، إذ تشكل قضية الآجال عاملا للنزاع بينهما. فإذا كانت محكمة الحسابات الفرنسية تعتبر أن التحريات التي تنجزها بطلب من لجنة المالية تساهم في توسيع إعلام البرلمانيين حيث تقدم لهم ضمانة موضوعية للمحكمة، ولشساعة مصادر معلوماتها، فالبرلمانيون لهم بالمقابل الانطباع بأن "الآجال التي تتطلب من طرف أعمال محكمة الحسابات تفوق بكثير جدا وقت وجود لجان التقصي".[59]
كما أن احترام الأجهزة العليا للرقابة للمسطرة التواجهية يشكل عنصرا يطيل الآجال التي في إطارها يمكن أن يتحقق إخبار البرلمان، وذلك على الرغم من المجهودات التي تبدلها تلك الأجهزة لتقدم جوابا لطلباته في آجال قابلة للاستجابة لحاجاته. ولا تتعلق قضية الآجال فقط بالتحقيقات المنجزة من أجل البرلمان، ولكن بمجموع أعمال تلك الأجهزة، بسبب أن النفع الذي يجب أن تقدمه للبرلمان يرتبط كثيرا بمدى تحيين أعمالها.[60]
ومن أجل تجاوز الصعوبات التي قد تعترض التعاون بين الأجهزة العليا للرقابة والبرلمان في التجارب المقارنة، فقد تطلب الأمر إحداث هيئات برلمانية متخصصة من أجل تسيير عملية تبادل المعلومات. وضمن هذا السياق، يعد وجود جهاز للتعاون بين الأجهزة العليا للرقابة والبرلمان في بعض البلدان أمرا تقليديا. ففي النمسا، تنص الوثيقة الدستورية على أن المجلس الوطني يحدث لجنة لدراسة تقارير محكمة الحسابات. أما في بلجيكا، فهذه اللجنة الفرعية لها طابع غير منظم، وغير مهيكل، إذ تتدخل "كجهاز للتشاور، للاطلاع على المعلومات من طرف محكمة الحسابات وتخصها بالفحص".[61]
أضف إلى ذلك، فمن أجل تجاوز الصعوبات التي تخص الآجال، فقد ربطت المحكمة المالية الفرنسية علاقات وطيدة مع البرلمان سمحت لها ببرمجة قبلية لطلباته للتحقيق، وإنجازها في الوقت المحدد. زد على ذلك، أنه خارج المواعيد السنوية تستجيب محكمة الحسابات، أيضا، لدعوات المجالس النيابية عندما ترغب في معرفة رأيها في وضعية تقدم الإصلاحات، والصعوبات المواجهة، وكذا الوسائل المساعدة على الخروج منها.[62]
على سبيل الختم
إن الاشتغال على موضوع العلاقة بين المجلس والبرلمان يندرج في إطار الاهتمام بمؤسستين دستوريتين لهما دور بالغ الأهمية في مجال مراقبة العمل الحكومي في المجال المالي. وإذا كنا لا ندعي في هذه الدراسة تقديم جواب نهائي وقطعي عن تلك العلاقة، فإننا حاولنا فقط استعراض بعض العناصر النظرية والقانونية التي تمكننا من التفكير في أسسها العامة على ضوء المقتضيات الجديدة للوثيقة الدستورية المغربية والتجارب المقارنة.
واستنادا لما سبق بيانه، يمكننا إبداء بعض الملاحظات بخصوص العلاقة بين المجلس والبرلمان، تتجلى الأولى في أن القراءة الفاحصة للوثيقة الدستورية، تظهر بصفة عامة حرص المشرع الدستوري على التوفيق بين تقوية سلطة نواب البرلمان، وتحديث التدبير العمومي، أو بمعنى آخر إدماج منطقين معا: المنطق السياسي من جهة الذي يمنح الأسبقية لنواب البرلمان في ارتباط بالتمثيلية، والمنطق التدبيري من جهة ثانية الذي يتعلق بالضرورات الاقتصادية والذي يمنح، في الواقع، الامتياز للفعالية وللخبرة التقنية. مما يعني محاولة التوفيق بين تقوية الطابع البرلماني، ومتطلبات التدبير العمومي الذي يحتاج إلى الخبرة، الأمر الذي قاد إلى توسيع نطاق مهمة المساعدة المقدمة من طرف المجلس للبرلمان.
لكن على الرغم من الإصلاحات البالغة الأهمية التي جاءت بها الوثيقة الدستورية من أجل تقوية المؤسسة البرلمانية، لاسيما من خلال المقتضيات الخاصة بالتنصيب البرلماني للحكومة، وتقييم السياسات العمومية، فيتضح استمرارية "العقلنة البرلمانية"، وبالتالي تكريس هيمنة السلطة التنفيذية، وضعف الاختصاص البرلماني في المجال المالي. وعلى هذا أضحت الحاجة ملحة اليوم إلى علاقة تكامل وتعاون بين المجلس والبرلمان في مجال مراقبة الأموال العمومية، وذلك في إطار توفير ضمانات الاستقلالية، والمحافظة على نوع من التوازن المؤسساتي، إذ يقدم المجلس مساعدته أيضا للحكومة والهيئات القضائية.
وتتعلق الملاحظة الثانية بأن المستجدات الدستورية تفرض تغييرا شاملا لمختلف النصوص المنظمة للأجهزة العليا للرقابة على الأموال العمومية. وبهذا الصدد، يلزم إصلاح مدونة المحاكم المالية من أجل إعادة النظر في الأطر القانونية والمسطرية، والبنيات التنظيمية للمجلس. فمهمة مساعدة المجلس للبرلمان في مجال تقييم السياسات العمومية، على سبيل المثال، تحتاج إلى مناهج ومقتربات جديدة، وتعديل للمساطر، وتعاون بين المجلس والمجالس الجهوية للحسابات من أجل القيام بتحقيقات شاملة. وتبعا لذلك، يمكن أن تقود المهام الجديدة إلى تحول في ماهية الفعل الرقابي للمجلس، وتغيير في بنائه التنظيمي، وأدوات اشتغاله...
وبالموازاة مع ذلك، لابد من تحديد آليات قانونية واضحة لتنظيم العلاقة بين المجلس والبرلمان؛ أي آليات للتنسيق والتعاون، وكيفيات تبادل المعلومات، وتنظيم الآجال. وفي هذا الإطار، يجب أن تهتم الأنظمة الداخلية لمجلسي البرلمان بتأطير مسألة طلب المساعدة من المجلس، وكيفية التعامل مع تقاريره، وطرائق الاستفادة من حضور أعضائه...
كما يلزم مراجعة العديد من مقتضيات مدونة المحاكم المالية، ومن بينها حذف المادة 52 من المدونة التي تستثني الوزراء والبرلمانيين من مراقبة المجلس، وجعل اختصاصه شاملا من خلال إخضاع كل الأشخاص الممارسين للمسؤولية العمومية للرقابة، وذلك لمسايرة ما نص عليه الدستور في مجال ربط المسؤولية بالمحاسبة.
وتتأسس الملاحظة الثالثة على مفارقة مفادها أن حرص المشرع الدستوري على تقوية الرقابة والتقييم، وتدعيم شروط الحكامة المالية، يقابله في الواقع تنامي ظاهرة الفساد المالي، وتفشي الرشوة واقتصاد الريع، وتفاقم المشاكل الهيكلية لتدبير المالية العمومية، وأزمة في التمويل العمومي، واختلالات كبرى في تدبير الإدارات العمومية للشأن العام...
وفضلا عن ذلك، يلاحظ عدم اقتناع النخب السياسية بتبريرات وجود التدقيق الداخلي على الرغم من محدوديته، كما أن المحاسبة والمساءلة غائبتان عن سلوك المسؤولين وثقافتهم السياسية. بل يمكن القول أن الإحساس بالإفلات من العقاب شجع على التلاعب بالمال العام، بل منح مكافأة غير مستحقة للعديد من الأشخاص المفتقرين للكفاءة، الأمر الذي قاد إلى تشكل فئات مناهضة لكل تحرك محتمل نحو الدمقرطة.
مما يعني أن المدخل الحقيقي للتحديث السياسي لا يجب أن يقتصر على تغيير النصوص، بل يفترض تغيير البنيات الثقافية والاجتماعية والسياسية، وإعطاء إشارات واضحة وقوية في مجال محاربة الفساد، وفرض سلطة القانون على كل المتدخلين في مجال التدبير المالي العمومي، وتكريس قيم الشفافية والمحاسبة والمساءلة باعتبارها جوهر العمل الديمقراطي.
الهوامش
[1] ظهير شريف رقم 1.11.91 بتنفيذ نص الدستور الصادر في 29 يوليو 2011، ج.ر عدد 5964 مكرر بتاريخ30 يونيو 2011، ص.3600.
[2] سنعبر عن المجلس الأعلى للحسابات في هذه الدراسة بالمجلس.
[3] تتميز الأجهزة العليا للرقابة على الأموال العمومية عالميا بالتعدد والتنوع، غير أن الثيبولوجيات الفقهية غالبا ما تصنف تلك الأجهزة إلى ثلاثة نماذج أساسية وهي: النموذج الأنجلوسكسوني، والنموذج اللاتيني، والنموذج الألماني. يراجع:
Saïdj (L.), « Le modèle des cours des comptes: traits communs et diversité », R.F.F.P., n°101-mars 2008, pp.45-46.
ويظهر أن المغرب، وفي ارتباط باعتبارات تاريخية، استلهم نظامه للرقابة العليا على الأموال العمومية من النموذج الفرنسي، حيث تأثر بشكل كبير بهذا النموذج سواء من حيث التنظيم أو الاختصاص، أو القواعد والمساطر المتبعة، أو من خلال العلاقة مع السلطات العامة.
Saïdj (L.), « Le modèle des cours des comptes: traits communs et diversité », R.F.F.P., n°101-mars 2008, pp.45-46.
ويظهر أن المغرب، وفي ارتباط باعتبارات تاريخية، استلهم نظامه للرقابة العليا على الأموال العمومية من النموذج الفرنسي، حيث تأثر بشكل كبير بهذا النموذج سواء من حيث التنظيم أو الاختصاص، أو القواعد والمساطر المتبعة، أو من خلال العلاقة مع السلطات العامة.
[4] Philip (L.), Finances publiques, 4ème éd., Cujas, Paris, 1989. p.401.
[5] أحدث المجلس سنة 1979، غير أن صوريته وجموده، قاد إلى التفكير في ضرورة تحديث وإصلاح نظام الرقابة المالية العليا. وتبعا لذلك، تم الارتقاء بالمجلس إلى مصاف مؤسسة دستورية، كما تم التنصيص على إنشاء المجالس الجهوية للحسابات، في إطار المراجعة الدستورية لعام 1996. وقد فرضت دسترة المحاكم المالية إصلاح الإطار القانوني المنظم لعملها من خلال صدور القانون رقم 62.99 المتعلق بمدونة المحاكم المالية.
[6] الفصل 47 من الدستور المغربي.
[7] Duverger (M.), Institutions politiques et droit constitutionnel, 2ème éd., P.U.F., Paris, 1990, p.173.
[8] Flizot (S.), Les relations entre les institutions supérieures de contrôle financier et les pouvoirs publics dans les pays de l’Union européenne, L.G.D.J, Paris, 2003, p.243.
[9] Lambert (A.), « Renforcer le contrôle du parlement sur l’exécutif », in « Processus budgétaire vers un nouveau rôle du Parlement », les colloques du Sénat, Paris, France, 24-25 janvier 2001, p.150.
[10] Dautry (Ph.) et Lamy (Ph.), « Le contrôle de la gestion publique par la Cour des comptes et par le Parlement: concurrence ou complémentarité? », RFFP, n°80, décembre 2002, pp.128-148.
[11] Rosanvallon (P.), La contre-démocratie, La politique à l’âge de la défiance, Ed. Seuil, Paris, 2006, p.312.
[12] Dautry (Ph.) et Lamy (Ph.), op.cit., p.128.
[13] Migaud (D.), « Moderniser la gestion publique et renforcer le pouvoir budgétaire du Parlement », RFFP, n°73, 2001, p.40.
[14] عهد إلى الهيئة المشتركة بين المجلس ومحكمة النقض بالنظر في التصاريح الإجبارية بالممتلكات التي تخص أعضاء مجلسي البرلمان والمجلس الدستوري.
[15] نفكر هنا في مختلف الاعتراضات والانتقادات التي وجهت لتقارير المجلس من طرف بعض الفاعلين السياسيين، إذ اعتبر وزير المالية السابق أنها ليست قرآنا منزلا، ووصفت من طرف رئيس المجلس الجماعي للرباط سابقا بأنها "عمل هواة"، وربط رئيس المجلس الجماعي بفاس بين تلك التقارير والإرهاب...
[16] Flizot (S.), op.cit., p.316.
[17] Ibid., pp.318-319.
[18] Philip (L.), « Panorama du contrôle des finances publiques dans le monde », R.F.F.P., no101-mars, 2008, p.27.
[19] ظلت السمة الملازمة للعمل البرلماني بالمغرب تتجلى في محدوديته على مستوى التشريع والمراقبة. إذ ظل البرلمان يوصف بضعف المردودية من الناحية الكمية والنوعية، وذلك في ارتباط بقيود قانونية وذاتية وسوسيوسياسية. وعلاوة على ذلك، وجهت انتقادات كثيرة لنظام ثنائية المجلس النيابي، الذي اعتمد بموجب دستور 1996، من طرف فقهاء القانون الدستوري والفاعلين السياسيين والحقوقيين.
[20] على صعيد الممارسة، يظهر عدم احترام الحكومة لأجل إيداع مشروع قانون المالية بمكتب أحد مجلسي البرلمان، على الرغم من أن الفقرة الأولى من المادة 33 من القانون التنظيمي للمالية تحدد ذلك الأجل في سبعين يوما. القانون التنظيمي رقم 7.98 المتعلق بقانون المالية، كما تم تغييره وتتميمه بالقانون التنظيمي رقم 14.00 الصادر بتنفيذه الظهير الشريف رقم 1.00.195 بتاريخ 19 أبريل 2000، ج.ر عدد 4788، 20 أبريل 2000، ص.903.
[21] الفصل الأول من مرسوم 2.07.995 صادر في 23 أكتوبر 2008 بشأن اختصاصات وتنظيم وزارة المالية، ج.ر عدد 5680، 6 نوفمبر 2008، ص.4088.
[22] حافظ الفصل 77 من دستور 2011 على مضمون الفصل 51 من دستور 1996، على الرغم من كل الانتقادات التي وجهت إلى كثرة استخدامه من طرف وزراء المالية السابقين من أجل تجميد المبادرة التشريعية للبرلمانيين.
[23] تجدر الإشارة أن المجلس الوزاري الذي يرأسه الملك هو الذي يتداول في التوجهات الإستراتيجية لسياسة الدولة، والتوجهات العامة لمشروع قانون المالية.
[24] المادتان 33 و34 من القانون التنظيمي المتعلق بقانون المالية. واضح أننا لسنا في حاجة إلى استعراض مختلف ثغرات القانون التنظيمي المتعلق بقانون المالية، وكذا مظاهر تكريسه لهيمنة الحكومة على تدبير كل ما يتعلق بالمادة المالية، فقد تطرق الفقه المغربي باستفاضة للموضوع، ويمكن الرجوع إلى:
Berrada (A.) et Harakat (M.) (dir.), «la réforme de la loi organique relative aux lois de finances», RMAD, n°28, 2009.
Berrada (A.) et Harakat (M.) (dir.), «la réforme de la loi organique relative aux lois de finances», RMAD, n°28, 2009.
[25] خالد الشرقاوي: "أي دور للبرلمان في وضع قانون المالية؟"، المجلة المغربية للتدقيق والتنمية، عدد 15، دجنبر 2002، صص.25-33.
[26] حسن قرنفل: النخبة السياسية والسلطة: أسئلة التوافق، مطابع إفريقيا الشرق، الدار البيضاء، 1997، ص.75.
[27] لا يجب أن يفهم من حديثنا عن ضعف الموارد البشرية للمؤسسة البرلمانية أي دفاع عن الخطاب التقنوقراطي الذي يؤكد على أن الفعالية مرتبط بالحكومة التي تجسد عالم العقلنة وذلك بتوفرها على الخبراء الذي يمتلكون الخبرة الدقيقة في المسائل المالية والمحاسبية. فمن المعلوم أن إيديولوجية الكفاءة والخبرة تطرح قضية المراقبة الديمقراطية التي استبدلت ب"تقنيات ميزانية" لا تترك للسياسي إلا هامشا ضيقا جدا للعمل. ينظر:
Bouvier (M.), « Experts et politiques face à la gouvernance des sociétés complexes », in Etudes en l’honneur de Loïc Philip: «Constitution et finances publiques», Economica, Paris, 2003, p.306.
Bouvier (M.), « Experts et politiques face à la gouvernance des sociétés complexes », in Etudes en l’honneur de Loïc Philip: «Constitution et finances publiques», Economica, Paris, 2003, p.306.
[28] محمد الغالي، التدخل البرلماني في مجال السياسات العامة في المغرب (1984-2002)، المطبعة والوراقة الوطنية، مراكش، يناير 2006، ص.129.
[29] حسن قرنفل، م. س، ص.74.
[30] نشير إلى أن الفقه المقارن أضحى لا يستند في تحليل العلاقة بين المؤسسات العامة داخل الدولة، خاصة علاقة البرلمان بالحكومة، إلى النظرية الدستورية التقليدية التي تحاول دراسة تلك العلاقة من منطق التوازن واللاتوازن، بل يقترح الاهتمام، ليس بصلاحيات هذه المؤسسة أو تلك، لكن بطريقة إنجاح سياسة اقتصادية ومالية ما. للاستزادة يمكن الرجوع إلى:
Hertzog (R.), « Les pouvoirs financiers du parlement », Revue de droit public, 1/2, 2002, p.300.
Hertzog (R.), « Les pouvoirs financiers du parlement », Revue de droit public, 1/2, 2002, p.300.
[31] Fabre (J.-F.), le contrôle des finances publiques, Coll. SUP, P.U.F., Paris, 1968, p.190.
[32] Magnet (J.), « Classification des institutions supérieures de contrôle financier », R.F.F.P., n°36, 1991, p.9.
[33] Philip (L.), « Panorama du contrôle...», op.cit., p.27.
[34] Flizot (S.), op.cit., p.230.
[35] Harakat (M.), contribution à une théorie générale du contrôle supérieur des finances publiques: cas du Maroc, Thèse de doctorat d’Etat en sciences économiques, Université Mohammed V, F.S.J.E.S., Agdal- Rabat, 1991, p.225.
[36] تقدم واقعة رفض الرئيس الأول السابق للمجلس الاستجابة لطلب أعضاء من مجلس النواب القيام بزيارة ميدانية للمجلس عام 2011، من أجل الاطلاع على بنيته الإدارية، وطرق تسييره، ومنهجية اشتغاله، والطرق المعتمدة في المراقبة والتقارير المنجزة، تجسيدا عمليا على وجود شبه قطيعة بين البرلمان والمجلس.
[37] Cieutat (B.), « La cour des comptes et la réforme», R.F.F.P., n° 76- Novembre 2001, pp.107-122.
[38] Saïdj (L.), op.cit., p.56.
[39] أضحت عملية إدماج العديد من النصوص القانونية في مشروع القانون المالي ممارسة اعتيادية من طرف الحكومة. ومن بين تلك النصوص المصاحبة لقانون المالية نجد تلك الخاصة بمدونة المحاكم المالية. وفي هذا الإطار، فقد عبر المجلس، مرارا، في مراسلاته وتقاريره السنوية، عن عدم التنسيق معه في مجال تعديل النصوص القانونية المتعلقة بمنظومة الرقابة المالية العليا، وبالتالي موقفه الرافض لهذه الممارسة.
[40] استقرت التجربة الفرنسية على إحداث هيئة داخل البرلمان لتقييم السياسات العمومية، إذ أنشأت الجمعية الوطنية جهازا يتولى مهمة التقييم والمراقبة داخل لجنة المالية، والذي يستفيد من مساعدة هامة لمحكمة الحسابات. أما مجلس الشيوخ، فقد أحدث لجنة لتقييم السياسات العمومية ملحقة بلجنة المالية، ولكنها مفتوحة أمام أعضاء اللجان الأخرى. وفي ظل افتقاد اللجنة للموارد البشرية المؤهلة تعتمد، عند الاقتضاء، على الخبراء الخارجيين وذلك تحت مسؤولية البرلمانيين. يراجع:
Lambert (A.), op.cit., p.151.
Lambert (A.), op.cit., p.151.
[41] Crucis (H.-M.), « L’article 47-2 de la Constitution, la réforme de la Cour des comptes et la responsabilité des gestionnaires de fonds publics », A.J.D.A., 2009, p. 1408.
[42] يظهر أن ما اعتبره المجلس تقييما للسياسات العمومية لا يرقى إلى ذلك، إذ اكتفى بمراقبة المشاريع والبرامج العمومية، كما ظل محكوما بمنطق المطابقة القانونية، دون القدرة على مراقبة مدى تحقيق النتائج وآثارها. ونسجل أن تقييم السياسات العمومية يختلف عن التدقيق؛ فإذا كان هذا الأخير ينحصر في تحليل الفعل العمومي، فالتقييم يتساءل عن النتائج المنجزة، والآثار الحقيقية المسجلة، وبالتالي يركز على البعد المجتمعي، وعلى الرهانات الرئيسة لسياسة ما...
[43] تجدر الإشارة أن الاستقلالية تضمن أيضا من خلال الطابع القضائي للمحكمة المالية. إذ تقتضي مهمة البت في الحسابات استقلالية المحكمة المالية عن السلطة السياسية ليس فقط للجهاز التنفيذي، الذي يتم التفكير فيه للوهلة الأولى، لكن حتى عن الجهاز التشريعي. ينظر:
Magnet (J.), «La collaboration de la Cour des comptes au contrôle financier du Parlement », in Loïc Philip (dir.), L’exercice du pouvoir financier du Parlement, Théorie, pratique et évolution, Economica, Paris, 1996, p.107.
Magnet (J.), «La collaboration de la Cour des comptes au contrôle financier du Parlement », in Loïc Philip (dir.), L’exercice du pouvoir financier du Parlement, Théorie, pratique et évolution, Economica, Paris, 1996, p.107.
[44] Philip (L), « Panorama du contrôle… », op.cit, p.26.
[45] Desmoulin (G.), Finances publiques de l’Etat, Ed., Vuibert, Paris, 2008, p.202.
[46] انطلاقا من معطى التعيين يمكن الإقرار بتبعية المجلس للمؤسسة الملكية.
[47] يساير هذا الاختيار التجربة الفرنسية التي تجعل فحص وتصفية حسابات المجالس النيابية يتم من طرف لجنة برلمانية خاصة في كل جمعية، يراجع:
May (M.), « Régime financier des assemblés parlementaires en France », R.F.A.P., n°68, 1993, pp.537-546.
لكن التجربة الفرنسية التي تستند إلى استقلال مالي "مطلق" للبرلمان، عرفت مؤخرا نقاشا كبيرا في هذا الشأن، فقد أكد رئيس الجمهورية الفرنسية إمكانية خضوع حسابات البرلمان مستقبلا لرقابة محكمة الحسابات على غرار حسابات رئاسة الجمهورية. غير أن الأمر سيتم من وجهة نظر الرئيس الأول لمحكمة الحسابات بشكل تدريجي، وباتفاق مع البرلمان. بالمقابل، يعترض البرلمانيون على ذلك التصور، ويرون أنه سيجعل من المحكمة المالية أقوى من البرلمان، لذا يقترحون أن تراقب حسابات البرلمان من طرف شركات خاصة للتدقيق.
www.liberation.fr/.../hollande-mise-tout-sur-la-cour-des-comptes_84473... 7 septembre 2012.
May (M.), « Régime financier des assemblés parlementaires en France », R.F.A.P., n°68, 1993, pp.537-546.
لكن التجربة الفرنسية التي تستند إلى استقلال مالي "مطلق" للبرلمان، عرفت مؤخرا نقاشا كبيرا في هذا الشأن، فقد أكد رئيس الجمهورية الفرنسية إمكانية خضوع حسابات البرلمان مستقبلا لرقابة محكمة الحسابات على غرار حسابات رئاسة الجمهورية. غير أن الأمر سيتم من وجهة نظر الرئيس الأول لمحكمة الحسابات بشكل تدريجي، وباتفاق مع البرلمان. بالمقابل، يعترض البرلمانيون على ذلك التصور، ويرون أنه سيجعل من المحكمة المالية أقوى من البرلمان، لذا يقترحون أن تراقب حسابات البرلمان من طرف شركات خاصة للتدقيق.
www.liberation.fr/.../hollande-mise-tout-sur-la-cour-des-comptes_84473... 7 septembre 2012.
[48] طبقا لمقتضيات المادتين 27 و28 من النظام الداخلي لمجلس النواب في الصيغة الحالية التي أقرت بالتصويت في الجلسة العامة بتاريخ 13 فبراير 2012، والمادتين 39 و40 من النظام الداخلي لمجلس المستشارين، يبقى كل ما يتعلق بإعداد ميزانية مجلسي البرلمان ومراقبة تنفيذها شأنا داخليا خاصا.
[49] Cc, 25 juillet 2001, Décision du Conseil constitutionnel n° 2001-448, DC, Rec 99.const.106 ; JO 2 Août 2001, p.12490.
[50] Voir à ce propos: J.-P. Camby (coord.), « La réforme du budget de l’Etat, la LOLF», L.G.D.J., Paris, 2002, pp.349-350.
[51] Lascombe (M.) et Vandendriessche (X.), «conseil constitutionnel et cour des comptes: plaidoyer pour une coopération renforcée », in Etudes en l’honneur de Loïc Philip: Constitution et finances publiques, op.cit., pp.436-438.
[52] Theuerkauf (G.), « Les relations entre la cour des comptes fédérale et le Parlement», R.F.F.P., n°59, 1997, p.121.
[53] Les missions de la cour des comptes consacrées par la révision constitutionnelle du 23 juillet 2008, Rapport d’activité 2008, cour des comptes, www.rapport_activite_2008_pdf, p.8.
[54] أحيت المراجعة الدستورية لعام 2008 النقاش الفقهي في فرنسا من جديد حول وضعية المحكمة المالية في البناء المؤسساتي للدولة. إذ اعتبر جانب من الفقه، أن المهام الجديدة، خاصة مساعدة البرلمان في مراقبة العمل الحكومي، تقطع مع التوازن الذي كرسه القاضي الدستوري، مما سيجعل مهمة المساعدة تمارس كثيرا تجاه البرلمان، فالمحكمة أصبحت تابع مميز للبرلمان، ولمجموع وظائفه، في مجال مراقبة الجهاز التنفيذي. ينظر:
Hertzog (R.), «la juridiction financière en mutation », RFFP, n°106-Avril 2009, p.264.
بل ذهب بعض الفقه إلى حد الكشف عن "خطر ممكن لتسييس الوظائف غير القضائية لمحكمة الحسابات" لصالح البرلمان. ينظر:
Meunier (A.-D.), « La cour des comptes : une institution sous double influence», R.F.F.P. n°109-Février 2010, p.125 et s.
Hertzog (R.), «la juridiction financière en mutation », RFFP, n°106-Avril 2009, p.264.
بل ذهب بعض الفقه إلى حد الكشف عن "خطر ممكن لتسييس الوظائف غير القضائية لمحكمة الحسابات" لصالح البرلمان. ينظر:
Meunier (A.-D.), « La cour des comptes : une institution sous double influence», R.F.F.P. n°109-Février 2010, p.125 et s.
[55] يقوم المجلس بإعداد التقرير المتعلق بتنفيذ قانون المالية، والتصريح العام بالمطابقة اللذين يرافقان قانون التصفية المقدم للبرلمان. كما يعد المجلس تقريرا سنويا يشكل أداة هامة لإعلام السلطات العامة والرأي العام، لكن المجلس لم يقم بنشر التقارير الخاصة، ولم يصدر تقاريرا موضوعاتية.
[56] على صعيد الممارسة، لن يستطيع المجلس بشريا وماديا إلا المساهمة في عدد محدود من التحقيقات والتقييمات، خاصة في ظل عدم توفره على وسائل عمل موازية. كما لن يقدر المجلس على استقبال كل طلبات المساعدة، بل لن يكون في مقدوره إلا الاستجابة لعدد قليل منها، وذلك بالنظر لشساعة اختصاصاته وتعدد مهامه. ففي إطار الازدواج الوظيفي، يمارس المجلس مهاما قضائية تتجلى في رقابة التدقيق والبت في الحسابات، والتأديب المالي. كما يزاول مهاما غير قضائية، تتمثل في مراقبة التسيير، ومراقبة استخدام الأموال العمومية. كما يتولى المجلس مهمة تقديم المساعدة للبرلمان والحكومة والهيئات القضائية، فضلا عن تدقيق حسابات الأحزاب السياسية، وفحص النفقات المتعلقة بالعمليات الانتخابية، هذا إلى جانب مراقبة وتتبع التصاريح الإجبارية بالممتلكات.
[57] Flizot (S.), op.cit., p.233.
[58] Ibid., pp.236-237.
[59] Ibid., p.237.
[60] Ibid., p.238.
[61] Flizot (S.), op.cit., pp.250-251.
[62] Séguin (Ph.), « La LOLF et la cour des comptes », R.F.F.P., n° 97 – mars 2007, pp.44-46.