انسجاما مع التوصيات المنبثقة عن جلسات الحوار الوطني حول إصلاح منظومة العدالة بالمغرب، طرحت وزارة العدل والحريات حُـزمة من مسدوات مشاريع القوانين المتعلقة بكل من قانون المسطرة المدنية وقانون المسطرة الجنائية والقانون المتعلق بالتنظيم القضائي للمملكة.
وسنقتصر في هذا الإطار على دراسة جانب من جوانب المستجدات التي حملتها مسودة مشروع القانون المتعلق بالتنظيم القضائي للمملكة، ويتعلق الأمر بوأد تجربة المحاكم الإدارية، التي عمّرت ما يربوا عن عقدين من الزمن.
فهل تشكل هذه المسألة ردّة وانتكاسة داخل المشهد القضائي المغربي؟ وإلى أي حد يمكن القول بأن الاستغناء عن تجربة المحاكم المتخصصة فيه توسّل بمبدأ القرب الجغرافي على حساب مبدأ القرب الوظيفي؟
بداية يمكن القول أن تجربة المحاكم الإدارية، التي تـمّ إحداثها بموجب القانون رقم 41.90 الصادر بتاريخ 10 سبتمبر 1993، جاءت استجابة لظروف سياسية وحقوقية كان يمرّ بها المغرب بصفة خاصة والمجتمع الدولي بصفة عامة، تقتضي تقوية دور السلطة القضائية في مراقبة مشروعية تصرفات الدولة. إذ جاء في الرسالة الملكية الموجهة للمشاركين في الملتقى الأول للمؤسسات الوطنية لحماية وتطوير حقوق الإنسان بحوض البحر الأبيض المتوسط، المنعقد بمراكش في أبريل 1998: " إمعانا منا في تحصين تلك الحقوق والحريات من كل انتهاك ممكن، أنشأنا ضمن حكومتنا وزارة مكلفة بحقوق الإنسان، ووزارة أخرى مكلفة بالأشخاص المعاقين، كما أنشأنا المحاكم الإدارية لضمان حقوق المواطنين اتجاه الإدارة، واضعين نصب أعيننا ديننا الحنيف، وقيم حضارتنا العريقة، عبر كل المؤسسات القانونية والمدنية".
ومن تـمّ، فإن بواعث إحداث المحاكم الإدارية لم تأت من باب الصدفة، أو مجرّد تـرف فكري أو قانوني، بل شكلت لحظة تحول في بنية التنظيم القضائي المغربي. بيـد أن هذه التجربة التي عمّرت أزيد من عقدين من الزمن، أُريـدَ لها ألا تبْـرح مكانها. فرغم التحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي شهدتها بلادنا مع مطلع الألفية الثالثة، إلا أنه لم تكـن لدى مهندسي الخريطة القضائية القابعيـن بقصـر المامونية (وزارة العدل والحريات)، إرادة حقيقية وفلسفة واضحة في إطار تطوير هذه التجربة، إذ ما زالت المحاكم الإدارية تعيش على وقْـع بُـأس تنظيمي، بحث لا يضـمّ التنظيم القضائي للمملكة سوى سبـع محاكم ابتدائية ومحكمتين استئنافيتين. فرغم تطور نظام الجهوية بالمغرب( 16 جهة في إطار القانون الحالي، و12 جهة في ظل مشروع القانون المرتقب)، إلا أن منطق توزيع المحاكم الإدارية ما زال وفيـا للتقسيم الجهوي لسنة 1971، الذي كان يضمّ سبع جهات.
أما بخصوص عدد القضاة المعينين في مجموع المحاكم الإدارية الابتدائية فيتمثل، حسب الإحصائيات الصادرة عن وزارة العدل والحريات سنة 2011، في 96 قاضيا، و28 قاضيا بمحكمتي الاستئناف الإداريتين.
كما تجدر الإشارة إلى أن المشرع لم يفكـر بعد في إحداث مجلس دولة كمحكمة للنقض، مستقلة عن محكمة النقض العادية، تختص بالنظر بالنقض في القضايا الإدارية.
وحيادا عن كل هذه الملاحظات التي من شأنها أن تطور من أداء المحاكم الإدارية ببلادنا، فإن هناك شبـه إجماع على نجاح تجربة المحاكم الإدارية، سواء على مستوى حصيلتها أو على مستوى طبيعة أحكامها، بما يخدم مقصد تحقيق الأمـن القضائي.
فبدل أن يسعى المشرع إلى تأسيس نظام قضائي مزدوج، على شاكلة التنظيم القضائي الفرنسي، الذي يتخذه المشرع المغربي إنجيلا لـه، نجـد أن مُروّضـي التنظيم القضائي المغربي، قد أداروا له ظهورهم، حيث تـم وأد تجربة المحاكم المتخصصة بصفة عامة، والمحاكم الإدارية على وجه أخـص، على مستوى ميثاق إصلاح منظومة العدالة، الذي قال عن المحاكم المتخصصة ما لم يقله مالك عن الخمـر. بحيث أوصى بـ " ربط إحداث المحاكم الإدارية بالدوائر القضائية التي يبرز حجم المنازعات الإدارية بها، والاحتفاظ بمحكمتي الاستئناف بكل من الرباط ومراكش، مع السعـي تدريجيا إلى إحداث أقسام إدارية متخصصة بالمحاكم الابتدائية وغرف إدارية بمحاكم الاستئناف"، وهو ما تمّت ترجمته من خلال مشروع القانون المتعلق بالتنظيم القضائي للمملكة، الذي تحدث عن كل شئ دون أن يقدّم أي شئ، إذ تأسس على مبدأ الوحدة وبَـلْقنـة مبدأ التخصص، بحيث أصبحت المحاكم الابتدائية تضمّ أقسام متخصصة في القضاء الإداري، وأقسام متخصصة في القضاء التجاري، مما يشكّل توسّـلا بمبدأ القرب الجغرافي، على حساب مبدأ القرب الوظيفي، الذي يقوم على أساس جودة الأحكام والنجاعة القضائية. فهل من ضمانات لدى المشرع بخصوص عدم إمكانية بـثّ قضاة الزواج والطلاق وشؤون القاصرين والشغل والقضايا الجنحية ...،
في المنازعات الإدارية التي تتسم بحساسية بالغة، سواء على مستوى قواعدها الشكلية أو الموضوعية؟
وعلى سبيل الختام، يمكن القول أن طبيعة تعاطي مسودة المشروع المتعلق بالتنظيم القضائي للمملكة مع القضاء المتخصص بصفة عامة، والقضاء الإداري عل وجه أخصّ، من شأنه أن يُشـرْذم الخريطة القضائية للمملكة. لذلك كان الأجدى بالمشرع، التفكير في الزيادة في عدد المحاكم الإدارية، وإعادة النظر في توزيعها الجغرافي، في إطار توجّهات الجهوية المتقدمة، باعتبارها توجها حاسما لتطوير وتحديث هياكل الدولة ومرافقها العمومية، وفي مقدمتها مرفق القضاء.
وسنقتصر في هذا الإطار على دراسة جانب من جوانب المستجدات التي حملتها مسودة مشروع القانون المتعلق بالتنظيم القضائي للمملكة، ويتعلق الأمر بوأد تجربة المحاكم الإدارية، التي عمّرت ما يربوا عن عقدين من الزمن.
فهل تشكل هذه المسألة ردّة وانتكاسة داخل المشهد القضائي المغربي؟ وإلى أي حد يمكن القول بأن الاستغناء عن تجربة المحاكم المتخصصة فيه توسّل بمبدأ القرب الجغرافي على حساب مبدأ القرب الوظيفي؟
بداية يمكن القول أن تجربة المحاكم الإدارية، التي تـمّ إحداثها بموجب القانون رقم 41.90 الصادر بتاريخ 10 سبتمبر 1993، جاءت استجابة لظروف سياسية وحقوقية كان يمرّ بها المغرب بصفة خاصة والمجتمع الدولي بصفة عامة، تقتضي تقوية دور السلطة القضائية في مراقبة مشروعية تصرفات الدولة. إذ جاء في الرسالة الملكية الموجهة للمشاركين في الملتقى الأول للمؤسسات الوطنية لحماية وتطوير حقوق الإنسان بحوض البحر الأبيض المتوسط، المنعقد بمراكش في أبريل 1998: " إمعانا منا في تحصين تلك الحقوق والحريات من كل انتهاك ممكن، أنشأنا ضمن حكومتنا وزارة مكلفة بحقوق الإنسان، ووزارة أخرى مكلفة بالأشخاص المعاقين، كما أنشأنا المحاكم الإدارية لضمان حقوق المواطنين اتجاه الإدارة، واضعين نصب أعيننا ديننا الحنيف، وقيم حضارتنا العريقة، عبر كل المؤسسات القانونية والمدنية".
ومن تـمّ، فإن بواعث إحداث المحاكم الإدارية لم تأت من باب الصدفة، أو مجرّد تـرف فكري أو قانوني، بل شكلت لحظة تحول في بنية التنظيم القضائي المغربي. بيـد أن هذه التجربة التي عمّرت أزيد من عقدين من الزمن، أُريـدَ لها ألا تبْـرح مكانها. فرغم التحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي شهدتها بلادنا مع مطلع الألفية الثالثة، إلا أنه لم تكـن لدى مهندسي الخريطة القضائية القابعيـن بقصـر المامونية (وزارة العدل والحريات)، إرادة حقيقية وفلسفة واضحة في إطار تطوير هذه التجربة، إذ ما زالت المحاكم الإدارية تعيش على وقْـع بُـأس تنظيمي، بحث لا يضـمّ التنظيم القضائي للمملكة سوى سبـع محاكم ابتدائية ومحكمتين استئنافيتين. فرغم تطور نظام الجهوية بالمغرب( 16 جهة في إطار القانون الحالي، و12 جهة في ظل مشروع القانون المرتقب)، إلا أن منطق توزيع المحاكم الإدارية ما زال وفيـا للتقسيم الجهوي لسنة 1971، الذي كان يضمّ سبع جهات.
أما بخصوص عدد القضاة المعينين في مجموع المحاكم الإدارية الابتدائية فيتمثل، حسب الإحصائيات الصادرة عن وزارة العدل والحريات سنة 2011، في 96 قاضيا، و28 قاضيا بمحكمتي الاستئناف الإداريتين.
كما تجدر الإشارة إلى أن المشرع لم يفكـر بعد في إحداث مجلس دولة كمحكمة للنقض، مستقلة عن محكمة النقض العادية، تختص بالنظر بالنقض في القضايا الإدارية.
وحيادا عن كل هذه الملاحظات التي من شأنها أن تطور من أداء المحاكم الإدارية ببلادنا، فإن هناك شبـه إجماع على نجاح تجربة المحاكم الإدارية، سواء على مستوى حصيلتها أو على مستوى طبيعة أحكامها، بما يخدم مقصد تحقيق الأمـن القضائي.
فبدل أن يسعى المشرع إلى تأسيس نظام قضائي مزدوج، على شاكلة التنظيم القضائي الفرنسي، الذي يتخذه المشرع المغربي إنجيلا لـه، نجـد أن مُروّضـي التنظيم القضائي المغربي، قد أداروا له ظهورهم، حيث تـم وأد تجربة المحاكم المتخصصة بصفة عامة، والمحاكم الإدارية على وجه أخـص، على مستوى ميثاق إصلاح منظومة العدالة، الذي قال عن المحاكم المتخصصة ما لم يقله مالك عن الخمـر. بحيث أوصى بـ " ربط إحداث المحاكم الإدارية بالدوائر القضائية التي يبرز حجم المنازعات الإدارية بها، والاحتفاظ بمحكمتي الاستئناف بكل من الرباط ومراكش، مع السعـي تدريجيا إلى إحداث أقسام إدارية متخصصة بالمحاكم الابتدائية وغرف إدارية بمحاكم الاستئناف"، وهو ما تمّت ترجمته من خلال مشروع القانون المتعلق بالتنظيم القضائي للمملكة، الذي تحدث عن كل شئ دون أن يقدّم أي شئ، إذ تأسس على مبدأ الوحدة وبَـلْقنـة مبدأ التخصص، بحيث أصبحت المحاكم الابتدائية تضمّ أقسام متخصصة في القضاء الإداري، وأقسام متخصصة في القضاء التجاري، مما يشكّل توسّـلا بمبدأ القرب الجغرافي، على حساب مبدأ القرب الوظيفي، الذي يقوم على أساس جودة الأحكام والنجاعة القضائية. فهل من ضمانات لدى المشرع بخصوص عدم إمكانية بـثّ قضاة الزواج والطلاق وشؤون القاصرين والشغل والقضايا الجنحية ...،
في المنازعات الإدارية التي تتسم بحساسية بالغة، سواء على مستوى قواعدها الشكلية أو الموضوعية؟
وعلى سبيل الختام، يمكن القول أن طبيعة تعاطي مسودة المشروع المتعلق بالتنظيم القضائي للمملكة مع القضاء المتخصص بصفة عامة، والقضاء الإداري عل وجه أخصّ، من شأنه أن يُشـرْذم الخريطة القضائية للمملكة. لذلك كان الأجدى بالمشرع، التفكير في الزيادة في عدد المحاكم الإدارية، وإعادة النظر في توزيعها الجغرافي، في إطار توجّهات الجهوية المتقدمة، باعتبارها توجها حاسما لتطوير وتحديث هياكل الدولة ومرافقها العمومية، وفي مقدمتها مرفق القضاء.