بصرف النظر عن الملاحظات المُتعدّدة التي تبديها الجمعيات الحقوقية، عن حقّ، بخصوص القضاء المغربي، فإن هناك العديد من الحالات التي انتصر فيها القضاء لحقوق الإنسان، وحَكمَ فيها لصالح الموطنين. قد لا نصادف مثل هكذا أحكام في مختلف أصناف القضاء المغربي، لكن الأمر لا ينطبق على القضاء الإداري الذي أثبت في أكثر من قضية أنه أهلٌ لوصف "حامي المواطن ضد الإدارة" الذي يُطلق عليه في الديمقراطيات الحديثة. صحيح أن الأحكام التي تصدر في صالح المواطن ضد الادارة ليست بالكثرة التي ينبغي، ولكن هناك بالفعل لبِنات أساسية يمكن التعويل عليها من أجل التأسيس لقضاء حر ومستقل عن كل السلط، بل إن القاضي الاداري أصدر أحكاما تأسيسية من شأنها الإسهام في تكريس أعراف ومبادئ جديدة في المُعاملات، وفي هذا السياق يأتي الحكم الذي نحن بصدد مناقشته.
تعتبر مسألة الارث من القضايا الشائكة في المجتمعات الإسلامية، حيثُ يخترقها ما هو ديني وما هو ثقافي شعبي وما هو عرفي، ويزداد الأمر تعقيدا كلّما تعلق الأمر بوضعية المرأة فيما يتعلق بنصيبها في الارث. لقد درجت الجماعات السُّلالِية في المغرب على منع نسائها من نصيبهن الذي يتساوى مع الرجال في الإرث المتأتي من الأراضي السُّلالية، مستغلة في ذلك جهل النساء بحقوقِهن، وثقل الأعراف والتقاليد، وسطوة التفسيرات الدينية المتحيزة ضد المرأة (ربما ذلك من ترسُّبات الفقه الشيعي الذي ترفض بعض مدارسه توريث الأرض للمرأة). غير أن كل هذا لم يَحُل دون أن تُصدِر المحكمة الإدراية بالرباط بتاريخ 10 أكتوبر 2013 حكما ينتصر للمرأة السُّلالية ويمنحها حقها في الارث لأول مرة. فلقد أبدع السادة القضاة (محمد الهيني رئيسا، أمينة العبودي، معاذ العبودي) في التوسُّل بكل الحجج التي أفضت بهم إلى اتخاذ قرار ينصف المرأة ويرفض اعتراضات الرجال.
لم تكتف المحكمة الإدارية بحجة واحدة لكي تصدر أحكامها، بل لقد مزجت بطريقة مٌبدعة، بين النصوص الدينية، والقواعد الدستورية، والمواثيق الدولية، وكل ذلك في نسقٍ واحد لم يترك المجال لمَنفَذٍ يمكن أن يتسرّب منه شك الاعتراض:
فمن حيث الشكل، وفيما يخصّ دفع الوكيل القضائي للمملكة بعدم قابلية قرارات مجلس الوصاية للطعن، حكمت المحكمة برفض الدفع، لأن هذا الأمر لا ينطبق على طلب الطعن بالإلغاء، وذلك استنادا للفصل 118 من الدستور الذي جاء فيه: "كل قرار اتخذ في المجال الإداري، سواء كان تنظيميا أو فرديا، يمكن الطعن فيه أمام الجهة القضائية الإدارية المختصة". فمبدأ سمو الدستور يستدعي أن تكون القواعد الدستورية هي المعتمدة ضدًّا على القوانين الأدنى.
أما من حيث المضمون، فإن المحكمة أيّدت قرار مجلس الوصاية الذي منح فيه المرأة السلالية نصيبها المساوي للرجل في الارث. وهو القرار المرفوض من طرف البعض زعما بأنه يشكّلُ "شططا في استعمال السلطة، ويخرق القواعد والأعراف المعمول بها من طرف الجماعة السلالية وانعدام التعليل...". ولتفنيذ هذا الدفع، ارتكزت المحكمة التي ترأسها القاضي الهيني ، على قاعدة المساواة، ومراعاة لمقاربة النوع التي ينص عليهما الدستور في فصوله (6 و 19 و 32 من الدستور)، وهو الأمر الذي تؤيده النصوص الشرعية من قبيل حديث الرسول "النساء شقائق الرجال في الأحكام".
وبطريقة ذكية تنمّ عن سعةٍ في الاطلاع، رجعَ أعضاء المحكمة إلى نصوص القانون الدولي ذات الصلة من قبِيل: الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (المواد 1 و2 و 7)، والعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية (المواد 2 و 3 و26)، و المادتين 2 و3 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، واتفاقية "سيداو" التي تنص موادها على مجابهة كل أشكال التمييز ضد المرأة.
يمكن القول، بان حكم المحكمة الادارية شكّل سابقة تساعد على النهوض بوضعية المرأة المغربية، وتُسْهِم في التقليل من الحيف الموجّه إلى نصف المجتمع. نعم هناك العديد من النصوص القانونية التي تحتاج إلى تعديل (الدستور، مدونة الأسرة، قانون الجنسية، خطة العدالة،...)، فضلا عن وجود ثقافة مجتمعية تَنهلُ تارة من فهومات دينية، وتارة أخرى من أعراف ضاربة في التقليد، تجعل المرأة في مرتبة ثانوية، وصحيح أيضا أن العديد من الأحكام القضائية إما لا يُبدل ناطقيها مجهودا أكبر من أجل تأويل النصوص القانونية لصالح المرأة، وإما أن السادة القضاة متأثرين بسياقهم المجتمعي الذي لا يُكنّ كبير ودٍّ للمرأة من الناحية القانونية والسياسية ( في مقال سابق أشرنا إلى قصة خديجة التي حرمها القضاء بمحضونتها بسبب التماطل). لكن في ظل كل هذه الاكراهات يَصدُف أن نجد أحكاما قضائية في صالح النساء، أحكاما من شأنها التأسيس لأعراف حديثة تكرّم نصف المجتمع وتحقق الإنصاف المطلوب.