يشكل النقل بمختلف أشكاله، البري والبحري والجوي، وبصنفيه نقل البضائع والأشخاص، قطاعا إستراتيجيا تراهن عليه جميع الدول للنهوض بمؤهلاتها الاقتصادية والاجتماعية، ورغم أهمية جميع هذه الأشكال في رفع هذا التحدي، فإننا سنحاول التركيز على النقل السككي في شقه المتعلق بنقل الأشخاص.
ووعيا منه بأهمية قطاع النقل عمد المشرع إلى وضع قواعد تضمن سلامة الركاب والحفاظ على حقوقهم مما قد يتعرضون له من أضرار أثناء النقل.
وهكذا عرف المشرع المغربي عقد النقل في المادة 443 من مدونة التجارة واعتبره: «اتفاقا يتعهد بمقتضاه الناقل مقابل ثمن بأن ينقل ضمن العقود التبادلية التي ترتب التزامات متقابلة في ذمة طرفيه هما الناقل من جهة والراكب أو المسافر ومن جهة أخرى، فإذا كان الالتزام الرئيسي الملقى على عاتق هذا الأخير هو أداء ثمن النقل، فإن الناقل يتحمل عدة التزامات، من بينها على الخصوص الالتزام بضمان سلامة المسافر وسلامة أمتعته وإيصاله إلى المكان وفي الوقت المتفق عليهما تحت طائلة إثارة مسؤوليته المدنية في حالة إخلاله بهذه الالتزامات.
وتثير هذه المسؤولية جملة من التساؤلات، من بينها التساؤل حول طبيعتها القانونية ثم الأساس الذي تقوم عليه وحالاتها والوقت الذي تبتدئ وتنتهي فيه، وما هي الإمكانات المتاحة أمام الناقل للتحلل منها، بالإضافة إلى الإجراءات الواجب اتباعها لتفعيل دعوى المسؤولية.
في سبيل الإجابة على هذه التساؤلات سوف نعمل على تقسيم الموضوع إلى مطلبين، الأول نتناول فيه قيام مسؤولية الناقل السككي، على أن نخصص المطلب الثاني لآثار هذه المسؤولية أي دعوى المسؤولية، علما أن هذه الدراسة سوف تقتصر على النقل الداخلي دون أن تمتد إلى ما هو دولي الذي يخضع إلى جانب القانون الوطني للاتفاقيات الدولية.
المطلب الأول: قيام مسؤولية الناقل السككي
نظم المشرع المغربي مسؤولية ناقل الأشخاص ضمن الباب الثالث من القسم الثالث من مدونة التجارة، وتعتبر هذه القواعد المبدأ العام الذي يطبق على جميع أشكال النقل ما لم توجد مقتضيات خاصة.
ويتطلب الحديث عن مسؤولية الناقل السككي تناول أساس هذه المسؤولية (أولا) ثم شروط قيامها (ثانيا) بالإضافة إلى وسائل دفعها (ثالثا
أولا: طبيعة وأساس مسؤولية الناقل
لم تعرف مسألة تحديد طبيعة مسؤولية الناقل خلافا كبيرا على غرار الخلاف الذي سجل بخصوص الأساس الذي تبنى عليه، ذلك أن تحديد طبيعة هذه المسؤولية غالبا ما يتم الحسم فيه استنادا إلى وجود عقد النقل من عدمه، حيث إن الفقه متفق على أن هذه المسؤولية تكون عقدية متى أبرم عقد النقل وتصبح تقصيرية متى تخلف هذا الأخير، وإن كان المجلس الأعلى قد شد عن هذا التوجه معتبرا مسؤولية الناقل العقدية تظل قائمة ما دام الراكب متصلا بالناقلة فإذا انقطع عنها لسبب من الأسباب فإن مسؤولية الناقل العقدية تنقطع لتبدأ مسؤوليته التقصيرية (قرار عدد 52 بتاريخ 1978/01/18 ملف رقم 58035)، علما أن هذا القرار يبقى فريدا ولا يمكن اعتماده كأساس لتحديد موقف المجلس الأعلى من الموضوع.
غير أن الخلاف الفقهي والقضائي الذي سجل في هذا السياق هو الذي طال أساس مسؤولية الناقل الذي لا يمكن الحسم فيه إلا بتحديد طبيعة التزام الناقل بصفة عامة والناقل السككي بصفة خاصة، حيث تعددت النظريات الفقهية حول الإجابة على هذا الإشكال يمكننا اختزالها في نظيرتين: الأولى تعتبر الناقل ملزما بوسيلة أو ببذل عناية وهي عناية الرجل العادي، أما الثانية فتضع على عاتق الناقل التزاما بتحقيق نتيجة وهي النتيجة المتفق عليها في عقد النقل. ويبدو أن الأخذ بهذه النظرية أو تلك ينعكس بشكل رئيسي على تحديد الأساس الذي تبنى عليه مسؤولية الناقل، فاعتماد النظرية الأولى يجعل مسؤولية هذا الأخير قائمة على أساس الخطأ واجب الإثبات، بينما الأخذ بالنظرية الثانية يؤدي إلى اعتبار مسؤوليته مفترضة تقوم على أساس الخطأ المفترض
.
والملاحظ أن أغلب التشريعات الحديثة الداخلية منها والدولية، الاتفاقيات الدولية، ذهبت إلى تبني النظرية الثانية ومنها التشريع المغربي، حيث يمكن أن نستشف موقفه من هذا الجدل من خلال مقتضيات مدونة التجارة التي جعلت الناقل ملزما بتحقيق نتيجة، وأن عدم الوصول إلى هذه الأخيرة يفترض أنه ارتكب خطأ مما يتوجب تحميله المسؤولية عن ذلك
.
ولما كانت مسؤولية الناقل قائمة على أساس الخطأ المفترض، فإنها مجرد قرينة بسيطة قابلة لإثبات العكس، حيث يمكن دفعها بإثبات أحد أسباب الإعفاء التي سوف نتطرق إليها لاحقا
.
ثانيا: شروط قيام مسؤولية الناقل السككي
حتى تتحقق مسؤولية الناقل السككي يجب أن تتوفر مجموعة من الشروط نستعرضها كما يلي:
1 ـ وجود عقد نقل:
يعتبر عقد النقل عقدا رضائيا ينشأ بمجرد تراضي طرفيه الناقل والراكب أو المسافر وتوافر باقي الشروط الأخرى، ولا يعتبر هذا العقد شكليا على اعتبار أن الشكلية في هذا المجال هي للإثبات لا للانعقاد، لذلك فالراكب حتى يتأتى له التمسك بالمسؤولية العقدية للناقل يتعين عليه إثبات الرابطة التعاقدية التي تربطه بهذا الأخير وذلك بالإدلاء بما يفيد وجود عقد النقل.ويخضع إثبات عقد النقل للقواعد العامة للإثبات، حيث يجوز إثباته في مواجهة الناقل بكافة الطرق بما فيها البينة والقرائن ما دام النقل بالنسبة إلى هذا الأخير يعد عملا تجاريا، وهو ما أكدته محكمة النقض المصرية في أحد قراراتها بقولها: «إذا كانت الكتابة ليست شرطا لانعقاد عقد النقل البري ولا لإثباته ولا تعتبر ركنا من أركانه ومن ثم يخضع إثبات عقد النقل البري للقواعد العامة فيجوز إثباته بالبينة والقرائن مهما كانت قيمته وذلك في مواجهة الناقل الذي يعد عمله تجاريا دائما طالما كان محترفا لعمليات النقل»
وقد جرت العادة في مجال النقل البري للأشخاص إثبات عقد النقل بواسطة تذاكر السفر، حيث أثارت هذه الأخيرة عدة إشكالات من بينها إشكال إمكانية تنازل المسافر عن تذكرته لفائدة شخص آخر وما مدى جواز تمسك الناقل بانعدام الرابطة العقدية مع هذا الشخص؟
جوابا على هذا الإشكال ميز الفقه بين التذاكر الشخصية والتذاكر العادية مانعا إمكانية التنازل عن النوع الأول بينما أجاز ذلك بالنسبة إلى النوع الثاني، وبالتالي يبقى دفع الناقل مؤسسا في الحالة الأولى دون الحالة الثانية.
2ـ تحقق إحدى حالات المسؤولية:
تتعدد الحالات التي تثار فيها مسؤولية الناقل السككي بحسب نوع الالتزام الذي أخل به هل يتعلق بضمان السلامة أم بإيصال الراكب في الوقت وإلى المكان المتفق عليهما أم بنقل الأمتعة، وعموما يمكن إجمال هذه الحالات في ما يلي
:
أـ إصابة الراكب بجرح أو بأي أذى جسماني أو وفاته:
يضع عقد النقل على عاتق الناقل التزاما أساسيا يتمثل في ضمان السلامة الجسدية للراكب من خلال اتخاذ كافة الإجراءات والاحتياطات اللازمة لحمايته مما قد يصيبه من أضرار أثناء تنفيذ العقد.
وقد نصت المادة 485 من مدونة التجارة على أنه: «يسأل الناقل عن الأضرار اللاحقة بشخص المسافر خلال النقل ولا يمكن إعفاؤه من هذه المسؤولية إلا بإثبات حالة القوة القاهرة أو خطأ المتضرر»، كما يسأل الناقل أيضا طبقا للمادة 486 من نفس المدونة عن وفاة المسافر نتيجة حادث ما وقع خلال فترة النقل.
فانطلاقا من هاتين المادتين يتبين أن الناقل يلتزم بضمان السلامة الجسدية للمسافر وأن الإخلال بهذا الالتزام يحمله المسؤولية عن الإضرار التي تلحق بهذا الأخير.
غالبا ما تتحكم في اختيار وسيلة النقل عوامل محددة، منها على الخصوص عامل الوقت الذي يضعه الناقل للرحلة، إما مسبقا من خلال العروض الموجهة للزبائن قصد استمالتهم وجلبهم للتعاقد، وإما من خلال اللوائح التنظيمية كما هو الشأن بالنسبة إلى النقل السككي.
والملاحظ أن الاقبال على النقل السككي غالبا ما يأخذ بعين الاعتبار هذا العامل، ذلك أن الزمن أصبح في الوقت الراهن عنصرا مهما بالنسبة إلى الأشخاص بالنظر الى علاقته بالأعمال الوظيفية التجارية وتحقيق المصالح الشخصية. غير أن عدم ايصال الراكب إلى الوجهة المقصودة وفي الوقت المحدد، يتسبب له في عدة أضرار وتحرمه من تحقيق المكاسب والفرص التي كان ينوي الحصول عليها، الشيء الذي يجعل الناقل مسؤولا عن الإخلال بهذا الالتزام.
وحدد المشرع المغربي صور الاخلال بالالتزام المذكور في ثلاث:
- تعذر السفر قبل الإقلاع: تطرقت لهذه الصورة المادة 477 من مدونة التجارة، فحسب هذه الأخيرة إذا تعذر السفر بسبب فعل أو خطأ الناقل، فللمسافر الحق في استرداد ثمن النقل، وكذا الحصول على تعويض عن الضرر، أما إذا كان السبب في ذلك يرجع الى حادث فجائي أو قوة قاهرة تتعلق بوسيلة النقل أو أي سبب آخر من شأنه أن يمنع السفر أو يجعله خطيرا دون أن يصدر الخطأ من أي طرف، فسخ العقد دون تعويض من أي طرف ويتعين على الناقل إرجاع ثمن النقل إذا كان قد قبضه مسبقا.
- توقف السفر بعد الإقلاع: بالرجوع الى المادة 478 من المدونة نفسها نجدها قد حددت القواعد الواجب إتباعها في الحالة التي تتوقف فيها عملية النقل، علما أن تطبيق هذه القواعد رهين بعدم وجود اتفاق خاص بين الطرفين.
وهكذا إذا توقف المسافر بإرادته في الطريق وجب عليه دفع الثمن كاملا، أما إذا امتنع الناقل عن متابعة السفر أو إذا أرغم بخطئه المسافر على التوقف في الطريق، فلا يلزم المسافر بدفع ثمن النقل، وفي حالة ما إذا سبق له أن دفعه فيحق له استرداده مع ثبوت حقه في المطالبة بالتعويض عن الضرر.
وإذا كان التوقف راجعا الى حادث فجائي أو قوة قاهرة تتعلق بوسيلة النقل أو بشخص المسافر فلا يتحمل المسافر ثمن النقل إلا بمقدار المسافة المقطوعة دون تعويض أي طرف.
- تأخر السفر: تعتبر هذه الحالة الأكثر وقوعا من الناحية العملية وتثير العديد من الخلافات بين المسافرين والناقل ويكفي وجود بإحدى محطات القطار لرصد حدة هذه الخلافات، إذ بمجرد ما يعلن المسؤولون في محطة القطار عبر مكبرات الصوت عن تأخر هذا الأخير حتى ينتفض المسافرون غضبا ويعلنون عن تذمرهم واحتجاجهم القوي خصوصا إذا كنت مدة التأخير طويلة.
وقد عالج المشرع هذه الحالة في ثلاث مواد وهي المادة 479 من مدونة التجارة التي نصرت على أنه: «إذا تأخر السفر فللمسافر الحق في التعويض عن الضرر. إذا كان التأخير غير عاد أو إذا لم يبق للمسافر بسبب هذا التأخير فائدة في القيام بالسفر، حق له زيادة عن تعويض الضرر أن يفسخ العقد أو أن يسترجع ثمن النقل الذي دفعه.
لا تعويض للمسافر إذا كان التأخير ناتجا عن حادث فجائي أو قوة قاهرة». وكذا المادة 480 التي جاء فيها: «إذا توقف الناقل أثناء السفر في أماكن لم تكن معينة في برنامج السفر أو إذا سلك طرقا غير الطريق المحدد أو تسبب بأية وسيلة أخرى أو بفعله في تأخير الوصول، فللمسافر الحق في فسخ العقد والتعويض».
وأيضا المادة 481 التي نصت على أنه: «إذا تسبب في تأخير السفر فعل أو إجراء إصلاحات ضرورية على وسيلة النقل، أو خطر غير متوقع يجعل مواصلة السفر أمرا خطيرا ولم يكن هناك اتفاق بين الأطراف، طبقت القواعد التالية:
إذا لم يرد المسافر انتظار زوال المانع أو إتمام الإصلاحات، جاز له أن يفسخ العقد شريطة أن يدفع ثمن النقل في حدود المسافة المقطوعة.
- إذا فضل انتظار استئناف السفر فلا يلزم بدفع أي مبلغ إضافي على ثمن النقل، ويجب على الناقل أن يضمن له الإيواء الطعام طيلة مدة التوقف…».
فمن خلال هذه المواد يتبين أن المشرع المغربي جعل الناقل السككي مسؤولا عن التأخير في إيصال الراكب أو المسافر في الوقت المحدد كما هو متفق عليه».
غير أن التساؤل الذي يثار في هذا الصدد يتمحور حول ما إذا كانت هذه المسؤولية تترتب بمجرد التأخير، أم أن الأمر يستلزم وقوع ضرر للراكب من جراء هذا التأخير، ذلك أن الدافع من وراء طرحنا لهذا السؤال يرجع بالأساس إلى أن المشرع نص على مصطلح الضرر في المادة الأولى دون أن يشير إليه في المادتين الثانية والثالثة.
بصدد الجواب على هذا التساؤل وانطلاقا من صياغة المادة المومأ إليها أعلاه يمكن القول إن الناقل لا يكون مسؤولا إلا إذا نتج عن التأخير ضرر، على اعتبار أن مصطلح الضرر ورد بشكل صريح في هذه المادة.
والضرر يمكن أن يكون ماديا مثل الشخص الذي يصل متأخرا عن موعد محدد على نحو فوت عليه فرصة تحقيق ربح مادي مما تسبب له في ضرر مادي، ومن أمثلة الأضرار المعنوية التي يمكن أن تلحق مستعمل القطار نذكر الموظف أو الأجير الذي يتأخر عن الوقت المحدد له للالتحاق بعمله نتيجة تأخر القطار يكون قد تعرض لضرر معنوي يتمثل في امكانية التأثير على سمعته ومكانته لدى مشغله، والمحامي الذي يتأخر عن جلسة المحكمة أو عن موكله يكون قد تعرض لضرر معنوي على اعتبار أن من شأن هذا التأخير أن يمس بسمعته لدى موكله، وأيضا المحامي الذي نال منه الإرهاق والتعب الشديد نتيجة تأخر السفر لساعات طويلة.
وقد دأب القضاء المغربي وعلى رأسه المجلس الأعلى على تحميل الناقل مسؤولية الأضرار اللاحقة بالمسافر نتيجة تأخر القطار، حيث ورد في إحدى حيثيات قراره عدد 111 بتاريخ 2003/4/10 في الملف المدني عدد 2003/5/1/3971 ما يلي: «لكن فإن محكمة الاستئناف لما استندت في ما قضت به على مقتضيات الفصل 479 م ت الذي ينص على أن تأخر السفر يعطي للمسافر الحق في التعويض عن الضرر إذا كان التأخير غير عاد ولم يبق للمسافر بسببه فائدة في القيام بالسفر معتبرة أن التعويض المحكوم به مترتب عن الضرر المعنوي الثابت فعلا من خلال عدم حضوره جلسة المحكمة في الوقت المحدد لها، وأن من شأن ذلك المساس بسمعته محاميا لدى موكلته يكون قد اعتبرت أن عدم حضوره لجلسة المحكمة والذي قام برحلته بسببها يشكل في حد ذاته ضررا موجبا للتعويض، فأوضحت بذلك طبيعة الضرر المذكور ونوعيته ولم تتناقض بذلك في تعليل قرارها وكان مؤسسا ومعللا ولم تخرق معه أي مقتضى قانوني وكان ما بالوسيلة غير مؤسس».
ج- هلاك وتلف الأمتعة:
أخضع المشرع المغربي نقل الأمتعة للقواعد الخاصة بنقل البضائع، بحيث لم يجعل الناقل مسؤولا إلا عن الأمتعة التي يتسلمها من الراكب دون تلك التي يحتفظ بها هذا الأخير وهو ما يتضح من مقتضيات المادة 482 من مدونة التجارة التي ورد فيها: « لا يلزم المسافر بدفع أي ثمن إضافي عن الأمتعة واللوازم الشخصية ما لم يتم الاتفاق على خلاف ذلك. يسأل الناقل عن ضياع أمتعة المسافر أو هلاكها حسب القواعد المنصوص عليها في المواد 458 و459 و460 و464، غير أنه لا يسأل عن الأمتعة التي يحتفظ بها المسافر».
وإذا كان المشرع قد أعفى الناقل من المسؤولية عن الأمتعة التي يحتفظ بها المسافر، فإنه قد يسأل عنها في حالة وفاة هذا الأخير وتعرضها للهلاك أو التلف نتيجة تقصير الناقل في اتخاذ التدابير اللازمة للحفاظ عليها وحماية مصالح الورثة الى حين تسليمها لمن له الحق فيها كما أوجبت ذلك المادة 486 من مدونة التجارة.
يتعلق شرط وقوع الضرر أثناء عملية النقل بحالة إصابة الراكب بضرر أو أذى جسماني أو وفاته، إذ ربط المشرع قيام مسؤولية الناقل في هذه الحالة بوقوع الحادثة أثناء فترة النقل، وطرح التساؤل حول المقصود بهذه الفترة هل تبتدئ منذ اتصال الراكب بوسيلة النقل أو بمجرد اقتناء تذكرة السفر؟
بخصوص الجواب على هذا التساؤل هناك اتجاهات، الاتجاه الأول يعتبر أن هذه الفترة تبتدئ منذ اتصال المسافر ماديا بوسيلة النقل أي القطار وتنتهي عند فقدان هذا الاتصال، فحسب هذا الاتجاه يكون الناقل مسؤولا عن سلامة الراكب منذ صعوده القطار وتنتفي عنه إذا غادر هذا الأخير.
أمام الانتقادات التي وجهت للرأي الأول ظهر اتجاه آخر يوسع نسبيا من هذه الفترة معتبرا الناقل مسؤولا عما يصيب المسافر من أضرار منذ وصوله رصيف المحطة أي بمجرد وقوفه في هذا الأخير استعدادا لصعود القطار، إلا أن الشرط الأساسي الذي يستلزمه هذا الاتجاه هو التوفر على تذكرة السفر، فإذا أصيب الراكب بأي ضرر خلال هذه الفترة حتى قبل اتصاله المادي بالقطار قامت مسؤولية الناقل، وتنتهي مسؤوليته بمجرد خروجه ومغادرته المحطة.
أما الاتجاه الثالث فإذا كان يتفق مع الاتجاه الثاني حول الوقت الذي تنتهي فيه المسؤولية العقدية للناقل، فإنه يختلف معه حول نقطة انطلاقها، إذ يعتبر هذا الاتجاه مسؤولية الناقل تبتدئ بمجرد اقتناء المسافر تذكرة السفر، وهو ما سارت فيه محكمة الاستئناف بالدار البيضاء في قرارها الذي ورد فيه: «متى ثبت أن الضحية دخل محطة القطار بعد أن حصل على تذكرة السفر وأن الحادثة وقعت في المحطة ولم يثبت المكتب الوطني للسكك الحديدية أي خطأ من الضحية، فإن مسؤوليته تكون قائمة حسب مقتضيات الفصل 79 من قانون الالتزامات والعقود» (قرار عدد 1673 بتاريخ 1992/10/15) ملف 90/565).
غير أن التساؤل يطرح بخصوص الحالة التي يصاب فيه المسافر بضرر قبل اقتنائه تذكرة السفر وذلك أثناء دخوله بهو المحطة وتوجهه إلى شباك التذاكر أو لغرض آخر غير ذلك كتوجهه إلى إحدى المحلات التجارية الموجودة داخل المحطة باعتبار أن معظم المحطات أصبحت في الوقت الراهن تضم فضاءات تجارية وترفيهية؟
بخصوص الجواب على التساؤل المطروح يجب التمييز بين فرضيتين: الأولى يكون فيها الناقل هو غير مستغل المحطة هنا لا يسأل الناقل إلا أثناء البدء في تنفيذ عقد النقل الذي يتم بمجرد اقتناء تذكرة السفر كما سبق الذكر، ذلك أن الفقه يميز في هذا الإطار بين مسؤولية الناقل ومسؤولية مستغل أو مدير المحطة.
الفرضية الثانية يكون فيها الناقل هو نفسه المستغل. هنا لا مجال للفصل بين المسؤوليتين على اعتبار أن الناقل هو الذي يتحمل وحده المسؤولية، غير أن طبيعة وأساس هذه المسؤولية يختلفان في هذه الحالة.
مما لا جدال فيه وكما سبق التأكيد على ذلك أعلاه، أنه بمجرد اقتناء المسافر تذكرة السفر ينعقد العقد ويبدأ في ترتيب آثاره، ما يجعل مسؤولية الناقل عقدية قائمة على أساس الخطأ المفترض، لكن إذا حدث أن أصيب الشخص داخل المحطة وقبل اقتنائه تذكرة السفر، فإن المسؤولية هنا لن تكون إلا مسؤولية تقصيرية نظرا لغياب عقد النقل.
وهكذا فقد جعل الفصل 88 من قانون الالتزامات والعقود الشخص مسؤولا عن الضرر الحاصل من الشيء الذي تحت حراسته كلما كان هذا الشيء هو السبب المباشر في حدوث الضرر، وأساس هذه المسؤولية هو الخطأ المفترض، أي افتراض ارتكاب خطأ في الحراسة وهو ما أكده المجلس الأعلى في قراره عدد 600 بتاريخ 31/12/1975 ملف مدني 41773 حيث جاء فيه: «إنه طبقا للفصل 88 من ق ل ع فإن المسؤولية الناتجة عن الأشياء غير الحية هي مسؤولية تنشأ عن خطأ مفترض في حراسة الشيء الذي تسبب في حدوث الضرر..».
غير أنه بالنظر إلى أن النقل السككي في المغرب يتميز باحتكاره من طرف الدولة ممثلة في المكتب الوطني للسكك الحديدية الذي هو في الوقت ذاته مستغل المحطة، فإن مسؤولية هذا الأخير في هذه الحالة يجب بحثها في إطار الفصل 79 من قانون الالتزامات والعقود، وهو ما يمكن استنتاجه من إحدى حيثيات قرار المجلس الأعلى 1787 المشار إلى مراجعه أعلاه والذي جاء فيه: «إن مسؤولية المكتب الوطني للسكك الحديدية باعتباره مؤسسة عمومية، تخضع لمقتضيات الفصل 79 من ظهير الالتزامات والعقود، وتترتب هذه المسؤولية عن تسيير مصالح المكتب ولو بدون خطأ ولا يعفى من هذه المسؤولية إلا إذا أثبت أن الضرر يرجع إلى خطأ الضحية أو إلى القوة القاهرة. لما كان الأمر كذلك فإن محكمة الاستئناف أخطأت عندما بحثت مسؤولية المكتب في نطاق الفصل 88 من ظهير الالتزامات والعقود، إلا أن المجلس الأعلى يعوض بالعلة القانونية المحضة المذكورة أعلاه، والمأخوذة من مقتضيات الفصل 79 والمطبقة على الوقائع الثابتة لدى قضاة الموضوع، العلة الخاطئة المستقاة من الفصل 88 الأمر الذي يجعل القرار المطعون فيه مبررا تبريرا قانونيا».
ثالثا: وسائل دفع مسؤولية الناقل السككي
إذا كانت مسؤولية الناقل العقدية تتحقق في حالة المساس بالسلامة الجسدية والبدنية للراكب والتأخير في نقله وإيصاله إلى المكان وفي الوقت المتفق عليهما وفق ما فصلناه أعلاه، فإن هناك بعض الحالات تعتبر منفذا للناقل يستطيع بها الإفلات من هذه المسؤولية.
فبالرجوع إلى المادتين 479 و485 من مدونة التجارة يتضح أن المشرع المغربي خول للناقل إمكانية إبعاد المسؤولية عنه وذلك بالتمسك بإحدى الوسائل التي حددها له وهي القوة القاهرة، الحادث الفجائي، خطأ المتضرر، وإجراء إصلاحات ضرورية على وسيلة النقل، والخطر غير المتوقع.
وإذا كان المشرع جعل من القوة القاهرة سببا معفيا من المسؤولية في حالة المساس بالسلامة الجسدية للراكب والتأخير في نقله إلى المكان وفي الوقت المحددين، فإنه أضاف سببا آخرا يختلف في الصورتين معا حيث جعل من خطأ المتضرر سببا معفيا إلى جانب القوة القاهرة في الصورة الأولى والحادث الفجائي في الصورة الثانية.
أـ القوة القاهرة: تعتبر القاهرة سببا قانونيا تمكن الناقل من الإفلات من المسؤولية، وقد حدد المشرع مفهوم القوة القاهرة في الفصل 269 من قانون الالتزامات والعقود الذي جاء فيه: «كل أمر لا يستطيع الإنسان أن يتوقعه كالظواهر الطبيعية (الفيضانات والجفاف والعواصف والحرائق والجراد)، وغارات العدو، وفعل السلطة، ويكون من شأنه أن يجعل تنفيذ الالتزام مستحيلا».
فانطلاقا من هذا الفصل يتضح أن الواقعة حتى تكتسي صبغة القوة القاهرة يجب أن تكون غير متوقعة، وأن يكون الناقل غير قادر على دفعها، وأن تجعل الواقعة تنفيذ الالتزام مستحيلا.
والملاحظ في هذا الإطار أن المشرع المغربي لما أتى في الفصل المذكور ببعض صور القوة القاهرة فإنه أوردها على سبيل المثال لا الحصر بدليل أنه استعمل حرف الكاف عند قوله كالظواهر الطبيعية.
واستقر الاجتهاد القضائي على أن تقدير توفر هذه الشروط يدخل في صميم السلطة التقديرية لمحكمة الموضوع متى كان سائغا، كما أن تقدير هذه الشروط يجب أن يكون بحسب ظروف ووقائع كل حالة على حدة، ولذلك فإن الأمور التي تخضع للسلطة التقديرية لمحكمة الموضوع لا تخضع لرقابة المجلس الأعلى إلا من حيث التعليل.
وهكذا فالحريق اعتبره المشرع قوة قاهرة، إلا أن القول بذلك يجب أن يقدر بحسب الظروف فهو لا يعد كذلك إذا كان من داخل وسيلة النقل وناتجا عن إهمال في صيانة وإصلاح هذه الأخيرة، كذلك الفيضانات هي من الأمور المتوقعة في فصل الشتاء في ظل التطور التقني والتقدم التكنولوجي الذي أصبح يسمح في الوقت الراهن برصد جميع الظواهر والعواصف الجوية، ما باتت معه إمكانية توقع هذه الأخيرة أمرا متاحا، الشيء الذي ينفي عنها طابع القوة القاهرة، وهو ما أكده القضاء المغربي وإن كان في مادة النقل البحري فإن هذا لا يمنع من إسقاطه على باقي أشكال النقل الأخرى، وهكذا ورد في قرار محكمة الاستئناف بالدار البيضاء: «... حيث يدفع الناقل البحري بالقوة القاهرة وبالتالي انعدام مسؤوليته نظرا لقوة العاصفة التي تعرضت لها الباخرة خلال السفرة البحرية التي تمت خلال شهر فبراير 1978، غير أنه كان على الربان أن يتوقع حدوث مثل هذه العاصفة في هاته الآونة واتخاذ الاحتياطات اللازمة لتلافيها، وبالتالي فلا مجال للتمسك بمقتضيات الفصل 269 ق ل ع الذي يعتبر القوة القاهرة كل أمر لا يستطيع الإنسان أن يتوقعه في حين أن حدوث العواصف خلال تلك الفترة من الأمور التي يمكن توقعها في فصل الشتاء الذي تكثر فيه العواصف...» (قرار رقم 706 الصادر في الملف التجاري عدد 84/2346)، نفس التوجه سلكته المحكمة الابتدائية بالدار البيضاء في حكمها عدد 2571 بتاريخ 1986/10/02 الذي ورد فيه: «إن عاصفة بلغت قوتها 10 درجات وقعت في شهر دجنبر، وهي فترة تكثر فيها الزوابع البحرية التي تعترض طرق السفن، لا يمكن أن تكون غير متوقعة من طرف الربان، إذ أن عنصر انعدام التوقع ضروري لكي تشكل العاصفة قوة قاهرة»، كما ورد في إحدى قرارات المجلس الأعلى ما يلي: «لا يمكن الادعاء بالقوة القاهرة.
تبين للمحكمة أن انقلاب القطار وقع في الوقت الذي كانت السكة الحديدية مغطاة بالمياه نتيجة الأمطار الغزيرة، الأمر الذي كان يمكن معه لحارس القطار توقع الحادث وكان في وسعه تفاديه لو أنه اتخذ كافة الاحتياطات اللازمة التي منها التريث حتى ينزل الماء....». (قرار عدد 1787 بتاريخ 1987/07/22 في الملف عدد 99431)، كما سارت محكمة النقض السورية في نفس الاتجاه (نقض مدني سوري 1952 بتاريخ 1980/12/27).
ب- الحادث الفجائي: يجب الإشارة في البداية الى الجدل الذي عرفه الفقه بخصوص موقفه من المدلول القانوني لمفهوم الحادث الفجائي وعلاقته بالقوة القاهرة من حيث ما إذا كانا يعتبران سببا واحدا أم سببين مختلفين.
هذا الجدل أفرز لنا اتجاهين الأول يميل إلى تبني الرأي الأول الذي شدد على ضرورة اعتبارهما سببا واحدا لا فرق بينهما، بينما يرى الثاني أن كلا السببين يتميزان عن بعضهما البعض باعتبار أن لكل واحد منهما شروطه الخاصة به.
ويبدو أن المشرع المغربي انتصر للرأي الثاني بدليل أنه يشير تارة إلى أحد المصطلحين دون الآخر كما هو الشأن في المادة 485 من مدونة التجارة حيث استعمل مصطلح القوة القاهرة دون الحادث الفجائي، وتارة أخرى يتبنى المصطلحين معا لكنه يفرق بينهما بعبارة «أو» التي تفيد أنهما مختلفان عن بعضهما البعض كما هو الحال بالنسبة للمادة 479 من المدونة نفسها.
والحادث الفجائي شأنه شأن القوة القاهرة يعد سببا معفيا من المسؤولية، لكنه لا يعتبر كذلك إلا في حالة واحدة وهي حالة التأخير في نقل المسافر الى وجهته المقصودة طبقا للمادة 479 من المدونة المذكورة، أما في حالة إصابته بأضرار جسمانية فلا يمكن للناقل التمسك بهذا السبب لعدم اعتباره كذلك من طرف المشرع المغربي.
ج- خطأ المتضرر:
يعتبر خطأ المتضرر سببا معفيا من المسؤولية يمكن معه للناقل أن يتمسك به في مواجهة الراكب، من خلال إثبات أن الضرر الذي تعرض له هذا الأخير كان بسبب فعله وأن هذا الفعل هو السبب الوحيد في الحادث. ولكن هذا الحكم لا يعتبر كذلك إذا كان ما ارتكبه المسافر من أفعال ألحقت به الضرر راجعة في الأصل الى فعل الناقل، كأن يستأنف السير سائق القطار دون أن ينتبه إلى صعود ونزول الركاب وإغلاق جميع الأبواب مما يترتب عن إصابة أحدهم بضرر، ومن التطبيقات القضائية لهذه الحالة نذكر قرار المجلس الأعلى عدد 767 بتاريخ 2006/07/05 الذي أبرم قرار محكمة الاستئناف التجارية بالدارالبيضاء رقم 2980 الصادر بتاريخ 2004/10/07 الذي أيد بدوره الحكم الابتدائي القاضي بتحمل المكتب الوطني للسكك الحديدية كامل مسؤولية الحادث الذي وقع لأحد الركاب نتيجة إصابته بأضرار إثر استئناف السائف السير دون الانتباه الى نزول الركاب، حيث دفع المكتب الوطني للسكك الحديدية في المرحلة الاستئنافية أن السير على السكك الحديدية يخضع لإجراءات دقيقة وواضحة على شكل بيانات وملصقات تعلق بمحطة القطارات وداخل عربات القطار، وأنه عند كل توقف للقطار تقوم المصالح التابعة له عن طريق مكبرات الصوت بإذاعة بيان تنذر المسافرين من خلاله بالاستعداد لاستئناف السير وتطلب منهم الحيطة والحذر.
غير أن محكمة الاستئناف ردت هذا الدفع بعلة: « أن المستأنف، أي المكتب الوطني للسكك الحديدية، لم يثبت الخطأ المزعوم الذي نسبه للضحية ولم يثبت أنه قام بجميع الاحتياطات الضرورية لتفادي وقوع الحادث بإغلاق الأبواب وعدم تحرك القطار إلا بعد نزول المسافرين والإعلان بانتهاء فترة التوقف لأن الفصل 485 من مدونة التجارة يحمل الناقل المسؤولية عن الأضرار اللاحقة بشخص المسافر خلال النقل ولا يمكن اعفاؤه من هذه المسؤولية إلا بإثبات حالة القوة القاهرة أو خطأ المتضرر، وبما أن المستأنف لم يثبت إعفاؤه من هذه المسؤولية إلا بإثبات حالة القوة القاهرة أو خطأ المتضرر وبما أن المستأنف لم يثبت ذلك يبقى مسؤولا مسؤولية كاملة عن الأضرار اللاحقة بالمتضرر…». وهو التعليل الذي استصوبه المجلس الأعلى وقضى على ضوء ذلك برفض طلب النقض الذي تقدم به المكتب المذكور.
وفي قرار آخر صدر تحت عدد 47 بتاريخ 1988/03/10 اعتبر نفس المجلس أن «المسافر الذي كان يعبر من عربة الى أخرى لم يرتكب أي خطأ من شأنه أن يعفي الدولة من هذه المسؤولية».
بقي في الأخير أن نتساءل حول ما مدى تأثير فعل الغير على مسؤولية الناقل وهل يمكن لهذا الأخير أن يتمسك بهذا السبب لإبعاد المسؤولية عنه؟
بداية يجب تحديد المقصود بالغير، فهذا الأخير هو كل شخص أجنبي عن الناقل ولا يعتبر من تابعيه لأن أفعال هؤلاء يتحملها الناقل في إطار مسؤولية المتبوع عن أعمال التابع.
أما بخصوص التساؤل المطروح فقد تم الاتفاق على أن الناقل يكون مسؤولا عن الضرر اللاحق بالمسافر بسبب فعل الغير ولا يمكنه التحلل من هذه المسؤولية إلا إذا أثبت توفر شروط القوة القاهرة أو الحادث الفجائي في هذا الفعل وهو ما سارت فيه محكمة الاستئناف بالرباط في قرارها الصادر بتاريخ 2002/3/20 في الملف عدد 6/01/515 الذي رفضت فيه إضفاء صبغة الحادث الفجائي على سقوط الأسلاك الكهربائية ذات التوتر العالي التي تزود القطارات بالطاقة بسبب عمل اجرامي من طرف مجهول، وقد تم إبرام هذا القرار من طرف المجلس الأعلى بواسطة قراره عدد 1111 بتاريخ
2003/4/10.
التوجه نفسه تبنته محكمة الاستئناف الإدارية بالرباط التي لم تتردد في تحميل الناقل السككي مسؤولية الضرر الذي يصيب المسافر نتيجة رشق القطار بالحجارة من طرف مجهولين وهو ما يتضح من قرارها رقم 5 الصادر بتاريخ 2007/01/10 في الملف عدد 6/06/26 حيث جاء في تعليل المحكمة ما يلي: «وحيث إنه من جهة أخرى، فإن مسؤولية المكتب المستأنف في هذه النازلة تكون قائمة ولو بدون ارتكابه لأي خطأ من جانبه استنادا إلى فكرة المخاطر الناتجة عن استعمال أشياء خطيرة كالقطار وخاصة وأنه ليس بالملف ما يثبت أن الضرر راجع الى خطأ الضحية، مما يبقى معه ما أثاره المستأنف بخصوص القوة القاهرة، والحادث الفجائي غير ذي جدوى وما أثير في هذا الشق غير منتج».
د. فعل الأمير وإجراء إصلاحات ضرورية على و سيلة النقل والخطر غير المتوقع:
نص المشروع على هذه الأسباب في المادة 481 من مدونة التجارة وبالرغم من أنه لم ينص صراحة على اعتبارها أسبابا للإعفاء، فإنه من خلال القراءة المتأنية للمادة المذكورة يتبين أنها تعتبر كذلك بدليل أن المشرع لم يرتب المسؤولية على الناقل في هذه الحالات، بل حدد القواعد الواجب تطبيقها في حالة انعدام اتفاق بين الطرفين.
المطلب الثاني: دعوى التعويض
تعتبر دعوى التعويض الأثر المباشر لقيام مسؤولية الناقل، حيث يعمل المتضرر على تفعيل هذه المسؤولية من خلال مقاضاة الناقل أمام الجهة القضائية المختصة بغرض الحصول على التعويض المناسب لجبر الضرر الذي تعرض له.
وتثير دعوى التعويض جملة من التساؤلات تتعلق أساسا بتحديد المحكمة المختصة، وإجراءات الدعوى ثم مسألة التقادم.
أولا: المحكمة المختصة بالنظر في دعوى التعويض
حتى يتأتى للمسافر المتضرر الحصول على التعويض عن الضرر الذي لحقه، يجب عليه رفع دعواه إلى المحكمة التي يرجع لها اختصاص البت في هذه الدعوى طبقا لقواعد التنظيم القضائي، حيث يتوزع هذا الاختصاص الى اختصاص نوعي واختصاص مكاني.
1- الاختصاص النوعي:
اعتبر المشرع المغربي في الفقرة 6 من المادة السادسة من مدونة التجارة النقل نشاطا تجاريا ذلك أن ممارسة الشخص لهذا النشاط على سبيل الاعتياد أو الاحتراف يكسبه صفة تاجر مع مراعاة المتعلقة بالشهر في السجل التجاري.
واعتبر بعض الفقه أن ممارسة أعمال النقل لا تكفي وحدها لاكتساب صفة التجار بل يجب أن تتخذ كإطار لها شكل مقاولة.
ولعل التساؤل الأساسي الذي يثار في هذا المجال يتمحور حول تحديد المحكمة المختصة بالبت في النزاعات المترتبة عن أعمال النقل، على اعتبار أن طبيعة القضاء المغربي يتوزع بين قضاء عاد وقضاء متخصص، فهناك من جهة المحاكم الابتدائية ومن جهة أخرى المحاكم التجارية، ويزداد النقاش إثارة في حالة احتكار القطاع من طرف هيأة عمومية، كما هو الشأن بالنسبة للمكتب الوطني للسكك الحديدية، حيث من شأنه
من المتفق عليه أن عقد النقل عقد تجاري وهذه الصبغة تجعل اختصاص البت في النزاعات المترتبة عنه يرجع مبدئيا للمحاكم التجارية طبقا للمادة 5 من قانون المحاكم التجارية والتي نصت على أنه: «تختص المحاكم التجارية بالنظر في الدعاوى المتعلقة بالعقود التجارية...».
غير أن هذا الاختصاص مقيد بمعيار قيمي ألا وهو ضرورة تجاوز قيمة الطلب 20 ألف درهم، كما نصت على ذلك المادة 6 من القانون نفسه التي ورد فيها: «تختص المحاكم التجارية بالنظر في الطلبات الأصلية التي تتجاوز قيمتها 20.000 درهم، كما تختص بالنظر في جميع الطلبات المقابلة أو طلبات المقاصة مهما كانت قيمتها».
وهذا يعني أن النزاعات الناشئة عن عقد النقل والتي لا تتعدى قيمتها المبلغ المذكور تكون من اختصاص المحكمة الابتدائية باعتبارها صاحبة الولاية العامة.
وبالنظر إلى أن المادة 8 من القانون رقم 41.90 نصت على أنه: «تختص المحاكم الإدارية، مع مراعاة أحكام المادتين 9 و11 من هذا القانون، بالبت ابتدائيا ودعاوى التعويض عن الأضرار التي تسببها أعمال ونشاطات أشخاص القانون العام ما عدا الأضرار التي تسببها في الطريق العام مركبات أيا كان نوعها يملكها شخص من أشخاص القانون العام»، فإن التساؤل الذي يطرح في هذا الإطار يتعلق بما إذا كانت الصبغة العمومية للناقل السككي من شأنها أن تنزع الاختصاص عن هذه المحاكم لصالح المحكمة الإدارية، وما مدى جدية دفع الناقل بعدم اختصاص المحاكم الابتدائية والتجارية بحسب الأحوال لصالح جهة القضاء الإداري؟
جوابا على التساؤل المطروح يمكن القول بأن الصبغة العمومية للمكتب لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تجعل المحاكم الإدارية مختصة في البت في النزاعات الناشئة عن عقد النقل، على اعتبار أن النقل من جهة هو عمل تجاري بصرف النظر عن طبيعة الشخص الذي يمارسه، ما يجعل النزاعات المترتبة عليه من اختصاص المحاكم التجارية أو الابتدائية بحسب الأحوال، ومن جهة أخرى فالفصل 1 من الظهير الشريف رقم 1.63.225 المتعلق بإحداث المكتب الوطني للسكك الحديدية جعل هذا الأخير مؤسسة عمومية ذات صبغة صناعية وتجارية تتمتع بالشخصية المدنية والاستقلال المالي وتوضع تحت الوصاية الإدارية لوزير الأشغال العمومية.
وعليه، فإن دفع المكتب بعدم اختصاص المحاكم الابتدائية والتجارية بحسب الأحوال لصالح المحاكم الإدارية غير مرتكز على أي أساس قانوني، وهو ما أكده المجلس الأعلى في قراره عدد 1111 بتاريخ 2003/4/10 المشار إليه أعلاه حيث ورد فيه: «لكن فإن المكتب الوطني للسكك الحديدية بالرغم من تمتعه بالشخصية المعنوية العامة فإن نشاطه يغلب عليه الطابع الاقتصادي ويخضع في مجال النقل لمقتضيات القانون الخاص وتكون المحاكم العادية مختصة بالنظر في دعوى تعويض الضرر الناجم عن النقل عبر السكك الحديدية وتكون مسؤوليته مدنية تطبيقا للاستثناء من اختصاص المحاكم الإدارية المنصوص عليه بمقتضى الفصل 8 من ظهير 93/9/10 بتنفيذ قانون 41-90 المحدث للمحاكم المذكورة مما لم يكن معه هناك مجال لإعمال مقتضيات الفصل 12 من الظهير المذكور وكانت معه الوسيلة غير مؤسسة».
وتجدر الإشارة إلى أن دخول القانون رقم 03-52 المتعلق بتنظيم الشبكة السككية الوطنية وتدبيرها واستغلالها حيز التنفيذ، سينعكس بشكل أساسي على قواعد الاختصاص القضائي حيث سيحسم الجدل القائم حول اشكال اختصاص المحاكم الإدارية بالبت في النزاعات التي يكون طرفها المكتب الوطني للسكك الحديدية ، وهو ما يتضح من خلال المادة 6 من نفس القانون التي نصت على أن الاستغلال السككي بشقيه تدبير البنيات الأساسية السككية والاستغلال التقني والتجاري ستتولاه مقاولات تعرف بمدبري البنيات الأساسية السككية بالنسبة للشق الأول ومتعهدي النقل السككي بخصوص الشق الثاني، وأن الاستغلال السككي يعتبر نشاطا صناعيا وتجاريا يخضع للقانون التجاري وأن مدبري البنيات الأساسية السككية ومتعهدي النقل السككي تجار.
نصت المادة 17 على إحداث شركة مساهمة تحمل تسمية الشركة المغربية للسكك الحديدية التي سوف تحل محل المكتب الوطني للسكك الحديدية في حقوقه والتزاماته.
وقد أجمع أغلب الفقه والقضاء، على أنه منذ صدور قانون 41.90 المتعلق بالمحاكم الإدارية، أصبح الاختصاص النوعي من النظام العام يجب على المحاكم أن تثيره تلقائيا، كما يجب على هذه الأخيرة أن تبت في الدفع المتعلق بالاختصاص النوعي بحكم مستقل طبقا للمادة 13 من قانون المحاكم الإدارية، وأن الحكم البات في الاختصاص النوعي لا يقبل الطعن إلا أمام المجلس الأعلى طبقا للمادة المذكورة وكذا المادة 12 من قانون محاكم الاستئناف الإدارية.
وإذا كان هذا المبدأ هو الذي استقرت عليه الغرفة المدنية بالمجلس الأعلى، فقد طالعتنا السنة الماضية الغرفة التجارية لدى المجلس نفسه بقرار يحتاج الكثير من التأمل والتأني، حيث ذهبت عكس توجه الغرفة الأولى لما اعتبرت أنه «إذا كان النزاع معروضا أمام محكمة ابتدائية ودفع أمامها بعدم الاختصاص لفائدة جهة قضائية عادية (تجارية) فإن حكم الاختصاص الصادر عنها ضم للجوهر أم لا، يستأنف أمام محكمة الاستئناف ويطعن فيه بالنقض أمام المجلس الأعلى، وإن كان الدفع لفائدة اختصاص المحكمة الإدارية، فإن الحكم الصادر عنها يستأنف أمام المجلس الأعلى تطبيقا للمادتين 13 من قانون إحداث المحاكم الإدارية و12 من قانون إحداث محاكم الاستئناف الإدارية، ولما يكون النزاع أمام المحكمة التجارية ويثار الدفع أمامها بعدم الاختصاص لفائدة المحكمة الابتدائية فإن الحكم المستقل الصادر بهذا الشأن يستأنف أمام محكمة الاستئناف أمام المجلس الأعلى استنادا للمادتين 12 و13 المذكورتين. ولما يكون النزاع معروضا أمام محكمة إدارية ويثار أمامها الدفع بعدم الاختصاص النوعي لفائدة جهة قضائية عادية فإن الحكم المستقل الصادر عنها يستأنف لدى المجلس الأعلى تبعا للمقتضيات المذكورة». (قرار عدد 785 بتاريخ 2010/05/13 في الملف التجاري عدد 2009/1/3/427).
2ـ الاختصاص المكاني:
طبقا للفصل 27 من قانون المسطرة المدنية فإن الاختصاص المكاني يكون لمحكمة الموطن الحقيقي أو المختار للمدعى عليه، وما دام النقل السككي في المغرب تشرف عليه مؤسسة عمومية يوجد مقرها الاجتماعي بالرباط فإن الاختصاص المكاني يعود بحسب الأحوال للمحكمتين الابتدائية والتجارية بالرباط.
ثانيا: إجراءات الدعوى
انطلاقا من فصول قانون المسطرة المدنية، فإن دعوى التعويض تقدم بواسطة مقال موقع عليه من طرف محام مقيد بجدول إحدى هيآت المحامين بالمغرب، حيث يجب أن تتوفر في صاحب المقال الصفة والمصلحة والأهلية والإذن بالتقاضي عند الاقتضاء وأن يتضمن الاسم العائلي والشخصي وصفة وموطن المدعي والمدعى عليه وكذا موضوع الدعوى والوقائع والوسائل المثارة، كما يجب أن يرفق بالمستندات المعززة للطلب مع ضرورة أداء الرسوم القضائية ما لم يكن مستفيدا من المساعدة القضائية.
وما دام النقل السككي في المغرب تشرف عليه مؤسسة عمومية وهي المكتب الوطني للسكك الحديدية، فإن الفصل 514 من قانون المسطرة المدنية أوجب إدخال الوكيل القضائي للمملكة كلما كان الطلب يرمي إلى التصريح بمديونية المكتب المذكور تحت طائلة عدم القبول.
وعلى ذكر المستندات، فإنها تختلف بحسب طبيعة طلب المدعي هل يتعلق الأمر بطلب التعويض عن التأخير أم عن الضرر، ففي الحالة الأولى نعتقد أنه يجب على المدعي أن يدلي بتذكرة السفر وبجدول التوقيت وبشهادة التأخير التي يتعين على الناقل تسليمها له طبقا لما نصت عليه المادة 481 من مدونة التجارة التي جاء فيها: «يلزم الناقل بتسليم المسافر، إذا طلب ذلك، شهادة تثبت التأخير في السفر إذا وقع»، وفي حالة ما إذا رفض الناقل القيام بذلك يمكن للمسافر/المدعي أن يطلب من أحد المفوضين القضائيين التوجه إلى الناقل قصد مطالبته بصفة قانونية بتسليمه الشهادة المذكورة وفي حالة الامتناع تحرير محضر بذلك حتى يتأتى له إرفاقه بمقاله، أما في الحالة الثانية فيجب عليه أن يدلي بما يثبت وقوع الحادث أثناء عملية النقل وتعرضه لضرر من جراء ذلك، عموما يجب عليه أن يدلي بجميع الوثائق التي من شأنها أن تثبت ادعاءاته.
بعد تسجيل المقال يعين رئيس المحكمة قاضيا مكلفا، حيث تعمل المحكمة على تبليغ مقال الدعوى إلى المدعى عليه، وبعد استنفاد الأطراف أجوبتهم وردودها واستكمال الإجراءات يصدر الحكم الذي يمكن أن يكون تمهيديا باتخاذ إجراء من إجراءات التحقيق أو يكون فاصلا في موضوع الدعوى، هذا الأخير يقبل الطعن بالاستئناف سواء من قبل المدعي أو المدعى عليه، وتبت محكمة الاستئناف في الطعن بمقتضى قرار الذي يقبل بدوره الطعن بالنقض شريطة أن تكون قيمة الطلب تتعدى 20 ألف درهم، اما إذا كانت أقل من ذلك فالقرار إذاك يعتبر نهائيا ولا يقبل في هذه الحالة الطعن بالنقض (الفصل 353 قانون المسطرة المدنية).
ثالثاـ تقادم دعوى التعويض:
سبق أن قلنا بأن عقد النقل يصنف ضمن العقود التجارية وبالتالي فإنه يخضع لقواعد القانون التجاري ومن بينها التقادم، وقد نصت المادة 5 من مدونة التجارة على أن الالتزامات الناشئة بمناسبة عمل تجاري بين التجار أو بينهم وبين غير التجار تتقادم بمضي خمس سنوات ما لم توجد مقتضيات خاصة مخالفة.
فدعوى التعويض ضد الناقل السككي تتقادم إذا بمرور خمس سنوات تبتدئ من اليوم الذي وقع فيه الفعل المسبب لضرر، ويخضع تقادم دعوى التعويض للأحكام العامة الواردة في قانون الالتزامات والعقود فيما يتعلق بقطع التقادم ووقفه.
خاتمة:
لقد حاولنا من خلال هذا المقال تسليط الضوء، ولو جزئيا، على موضوع مسؤولية الناقل السككي للأشخاص من خلال طرح بعض الإشكالات التي يثيرها، ولا ندعي أننا أحطنا بالموضوع من جميع الجوانب وإن كنا متأكدين أن دراسات أخرى ستعمل على تغطية النواقص التي طالت هذه الدراسة.
ووعيا منه بأهمية قطاع النقل عمد المشرع إلى وضع قواعد تضمن سلامة الركاب والحفاظ على حقوقهم مما قد يتعرضون له من أضرار أثناء النقل.
وهكذا عرف المشرع المغربي عقد النقل في المادة 443 من مدونة التجارة واعتبره: «اتفاقا يتعهد بمقتضاه الناقل مقابل ثمن بأن ينقل ضمن العقود التبادلية التي ترتب التزامات متقابلة في ذمة طرفيه هما الناقل من جهة والراكب أو المسافر ومن جهة أخرى، فإذا كان الالتزام الرئيسي الملقى على عاتق هذا الأخير هو أداء ثمن النقل، فإن الناقل يتحمل عدة التزامات، من بينها على الخصوص الالتزام بضمان سلامة المسافر وسلامة أمتعته وإيصاله إلى المكان وفي الوقت المتفق عليهما تحت طائلة إثارة مسؤوليته المدنية في حالة إخلاله بهذه الالتزامات.
وتثير هذه المسؤولية جملة من التساؤلات، من بينها التساؤل حول طبيعتها القانونية ثم الأساس الذي تقوم عليه وحالاتها والوقت الذي تبتدئ وتنتهي فيه، وما هي الإمكانات المتاحة أمام الناقل للتحلل منها، بالإضافة إلى الإجراءات الواجب اتباعها لتفعيل دعوى المسؤولية.
في سبيل الإجابة على هذه التساؤلات سوف نعمل على تقسيم الموضوع إلى مطلبين، الأول نتناول فيه قيام مسؤولية الناقل السككي، على أن نخصص المطلب الثاني لآثار هذه المسؤولية أي دعوى المسؤولية، علما أن هذه الدراسة سوف تقتصر على النقل الداخلي دون أن تمتد إلى ما هو دولي الذي يخضع إلى جانب القانون الوطني للاتفاقيات الدولية.
المطلب الأول: قيام مسؤولية الناقل السككي
نظم المشرع المغربي مسؤولية ناقل الأشخاص ضمن الباب الثالث من القسم الثالث من مدونة التجارة، وتعتبر هذه القواعد المبدأ العام الذي يطبق على جميع أشكال النقل ما لم توجد مقتضيات خاصة.
ويتطلب الحديث عن مسؤولية الناقل السككي تناول أساس هذه المسؤولية (أولا) ثم شروط قيامها (ثانيا) بالإضافة إلى وسائل دفعها (ثالثا
أولا: طبيعة وأساس مسؤولية الناقل
لم تعرف مسألة تحديد طبيعة مسؤولية الناقل خلافا كبيرا على غرار الخلاف الذي سجل بخصوص الأساس الذي تبنى عليه، ذلك أن تحديد طبيعة هذه المسؤولية غالبا ما يتم الحسم فيه استنادا إلى وجود عقد النقل من عدمه، حيث إن الفقه متفق على أن هذه المسؤولية تكون عقدية متى أبرم عقد النقل وتصبح تقصيرية متى تخلف هذا الأخير، وإن كان المجلس الأعلى قد شد عن هذا التوجه معتبرا مسؤولية الناقل العقدية تظل قائمة ما دام الراكب متصلا بالناقلة فإذا انقطع عنها لسبب من الأسباب فإن مسؤولية الناقل العقدية تنقطع لتبدأ مسؤوليته التقصيرية (قرار عدد 52 بتاريخ 1978/01/18 ملف رقم 58035)، علما أن هذا القرار يبقى فريدا ولا يمكن اعتماده كأساس لتحديد موقف المجلس الأعلى من الموضوع.
غير أن الخلاف الفقهي والقضائي الذي سجل في هذا السياق هو الذي طال أساس مسؤولية الناقل الذي لا يمكن الحسم فيه إلا بتحديد طبيعة التزام الناقل بصفة عامة والناقل السككي بصفة خاصة، حيث تعددت النظريات الفقهية حول الإجابة على هذا الإشكال يمكننا اختزالها في نظيرتين: الأولى تعتبر الناقل ملزما بوسيلة أو ببذل عناية وهي عناية الرجل العادي، أما الثانية فتضع على عاتق الناقل التزاما بتحقيق نتيجة وهي النتيجة المتفق عليها في عقد النقل. ويبدو أن الأخذ بهذه النظرية أو تلك ينعكس بشكل رئيسي على تحديد الأساس الذي تبنى عليه مسؤولية الناقل، فاعتماد النظرية الأولى يجعل مسؤولية هذا الأخير قائمة على أساس الخطأ واجب الإثبات، بينما الأخذ بالنظرية الثانية يؤدي إلى اعتبار مسؤوليته مفترضة تقوم على أساس الخطأ المفترض
.
والملاحظ أن أغلب التشريعات الحديثة الداخلية منها والدولية، الاتفاقيات الدولية، ذهبت إلى تبني النظرية الثانية ومنها التشريع المغربي، حيث يمكن أن نستشف موقفه من هذا الجدل من خلال مقتضيات مدونة التجارة التي جعلت الناقل ملزما بتحقيق نتيجة، وأن عدم الوصول إلى هذه الأخيرة يفترض أنه ارتكب خطأ مما يتوجب تحميله المسؤولية عن ذلك
.
ولما كانت مسؤولية الناقل قائمة على أساس الخطأ المفترض، فإنها مجرد قرينة بسيطة قابلة لإثبات العكس، حيث يمكن دفعها بإثبات أحد أسباب الإعفاء التي سوف نتطرق إليها لاحقا
.
ثانيا: شروط قيام مسؤولية الناقل السككي
حتى تتحقق مسؤولية الناقل السككي يجب أن تتوفر مجموعة من الشروط نستعرضها كما يلي:
1 ـ وجود عقد نقل:
يعتبر عقد النقل عقدا رضائيا ينشأ بمجرد تراضي طرفيه الناقل والراكب أو المسافر وتوافر باقي الشروط الأخرى، ولا يعتبر هذا العقد شكليا على اعتبار أن الشكلية في هذا المجال هي للإثبات لا للانعقاد، لذلك فالراكب حتى يتأتى له التمسك بالمسؤولية العقدية للناقل يتعين عليه إثبات الرابطة التعاقدية التي تربطه بهذا الأخير وذلك بالإدلاء بما يفيد وجود عقد النقل.ويخضع إثبات عقد النقل للقواعد العامة للإثبات، حيث يجوز إثباته في مواجهة الناقل بكافة الطرق بما فيها البينة والقرائن ما دام النقل بالنسبة إلى هذا الأخير يعد عملا تجاريا، وهو ما أكدته محكمة النقض المصرية في أحد قراراتها بقولها: «إذا كانت الكتابة ليست شرطا لانعقاد عقد النقل البري ولا لإثباته ولا تعتبر ركنا من أركانه ومن ثم يخضع إثبات عقد النقل البري للقواعد العامة فيجوز إثباته بالبينة والقرائن مهما كانت قيمته وذلك في مواجهة الناقل الذي يعد عمله تجاريا دائما طالما كان محترفا لعمليات النقل»
وقد جرت العادة في مجال النقل البري للأشخاص إثبات عقد النقل بواسطة تذاكر السفر، حيث أثارت هذه الأخيرة عدة إشكالات من بينها إشكال إمكانية تنازل المسافر عن تذكرته لفائدة شخص آخر وما مدى جواز تمسك الناقل بانعدام الرابطة العقدية مع هذا الشخص؟
جوابا على هذا الإشكال ميز الفقه بين التذاكر الشخصية والتذاكر العادية مانعا إمكانية التنازل عن النوع الأول بينما أجاز ذلك بالنسبة إلى النوع الثاني، وبالتالي يبقى دفع الناقل مؤسسا في الحالة الأولى دون الحالة الثانية.
2ـ تحقق إحدى حالات المسؤولية:
تتعدد الحالات التي تثار فيها مسؤولية الناقل السككي بحسب نوع الالتزام الذي أخل به هل يتعلق بضمان السلامة أم بإيصال الراكب في الوقت وإلى المكان المتفق عليهما أم بنقل الأمتعة، وعموما يمكن إجمال هذه الحالات في ما يلي
:
أـ إصابة الراكب بجرح أو بأي أذى جسماني أو وفاته:
يضع عقد النقل على عاتق الناقل التزاما أساسيا يتمثل في ضمان السلامة الجسدية للراكب من خلال اتخاذ كافة الإجراءات والاحتياطات اللازمة لحمايته مما قد يصيبه من أضرار أثناء تنفيذ العقد.
وقد نصت المادة 485 من مدونة التجارة على أنه: «يسأل الناقل عن الأضرار اللاحقة بشخص المسافر خلال النقل ولا يمكن إعفاؤه من هذه المسؤولية إلا بإثبات حالة القوة القاهرة أو خطأ المتضرر»، كما يسأل الناقل أيضا طبقا للمادة 486 من نفس المدونة عن وفاة المسافر نتيجة حادث ما وقع خلال فترة النقل.
فانطلاقا من هاتين المادتين يتبين أن الناقل يلتزم بضمان السلامة الجسدية للمسافر وأن الإخلال بهذا الالتزام يحمله المسؤولية عن الإضرار التي تلحق بهذا الأخير.
غالبا ما تتحكم في اختيار وسيلة النقل عوامل محددة، منها على الخصوص عامل الوقت الذي يضعه الناقل للرحلة، إما مسبقا من خلال العروض الموجهة للزبائن قصد استمالتهم وجلبهم للتعاقد، وإما من خلال اللوائح التنظيمية كما هو الشأن بالنسبة إلى النقل السككي.
والملاحظ أن الاقبال على النقل السككي غالبا ما يأخذ بعين الاعتبار هذا العامل، ذلك أن الزمن أصبح في الوقت الراهن عنصرا مهما بالنسبة إلى الأشخاص بالنظر الى علاقته بالأعمال الوظيفية التجارية وتحقيق المصالح الشخصية. غير أن عدم ايصال الراكب إلى الوجهة المقصودة وفي الوقت المحدد، يتسبب له في عدة أضرار وتحرمه من تحقيق المكاسب والفرص التي كان ينوي الحصول عليها، الشيء الذي يجعل الناقل مسؤولا عن الإخلال بهذا الالتزام.
وحدد المشرع المغربي صور الاخلال بالالتزام المذكور في ثلاث:
- تعذر السفر قبل الإقلاع: تطرقت لهذه الصورة المادة 477 من مدونة التجارة، فحسب هذه الأخيرة إذا تعذر السفر بسبب فعل أو خطأ الناقل، فللمسافر الحق في استرداد ثمن النقل، وكذا الحصول على تعويض عن الضرر، أما إذا كان السبب في ذلك يرجع الى حادث فجائي أو قوة قاهرة تتعلق بوسيلة النقل أو أي سبب آخر من شأنه أن يمنع السفر أو يجعله خطيرا دون أن يصدر الخطأ من أي طرف، فسخ العقد دون تعويض من أي طرف ويتعين على الناقل إرجاع ثمن النقل إذا كان قد قبضه مسبقا.
- توقف السفر بعد الإقلاع: بالرجوع الى المادة 478 من المدونة نفسها نجدها قد حددت القواعد الواجب إتباعها في الحالة التي تتوقف فيها عملية النقل، علما أن تطبيق هذه القواعد رهين بعدم وجود اتفاق خاص بين الطرفين.
وهكذا إذا توقف المسافر بإرادته في الطريق وجب عليه دفع الثمن كاملا، أما إذا امتنع الناقل عن متابعة السفر أو إذا أرغم بخطئه المسافر على التوقف في الطريق، فلا يلزم المسافر بدفع ثمن النقل، وفي حالة ما إذا سبق له أن دفعه فيحق له استرداده مع ثبوت حقه في المطالبة بالتعويض عن الضرر.
وإذا كان التوقف راجعا الى حادث فجائي أو قوة قاهرة تتعلق بوسيلة النقل أو بشخص المسافر فلا يتحمل المسافر ثمن النقل إلا بمقدار المسافة المقطوعة دون تعويض أي طرف.
- تأخر السفر: تعتبر هذه الحالة الأكثر وقوعا من الناحية العملية وتثير العديد من الخلافات بين المسافرين والناقل ويكفي وجود بإحدى محطات القطار لرصد حدة هذه الخلافات، إذ بمجرد ما يعلن المسؤولون في محطة القطار عبر مكبرات الصوت عن تأخر هذا الأخير حتى ينتفض المسافرون غضبا ويعلنون عن تذمرهم واحتجاجهم القوي خصوصا إذا كنت مدة التأخير طويلة.
وقد عالج المشرع هذه الحالة في ثلاث مواد وهي المادة 479 من مدونة التجارة التي نصرت على أنه: «إذا تأخر السفر فللمسافر الحق في التعويض عن الضرر. إذا كان التأخير غير عاد أو إذا لم يبق للمسافر بسبب هذا التأخير فائدة في القيام بالسفر، حق له زيادة عن تعويض الضرر أن يفسخ العقد أو أن يسترجع ثمن النقل الذي دفعه.
لا تعويض للمسافر إذا كان التأخير ناتجا عن حادث فجائي أو قوة قاهرة». وكذا المادة 480 التي جاء فيها: «إذا توقف الناقل أثناء السفر في أماكن لم تكن معينة في برنامج السفر أو إذا سلك طرقا غير الطريق المحدد أو تسبب بأية وسيلة أخرى أو بفعله في تأخير الوصول، فللمسافر الحق في فسخ العقد والتعويض».
وأيضا المادة 481 التي نصت على أنه: «إذا تسبب في تأخير السفر فعل أو إجراء إصلاحات ضرورية على وسيلة النقل، أو خطر غير متوقع يجعل مواصلة السفر أمرا خطيرا ولم يكن هناك اتفاق بين الأطراف، طبقت القواعد التالية:
إذا لم يرد المسافر انتظار زوال المانع أو إتمام الإصلاحات، جاز له أن يفسخ العقد شريطة أن يدفع ثمن النقل في حدود المسافة المقطوعة.
- إذا فضل انتظار استئناف السفر فلا يلزم بدفع أي مبلغ إضافي على ثمن النقل، ويجب على الناقل أن يضمن له الإيواء الطعام طيلة مدة التوقف…».
فمن خلال هذه المواد يتبين أن المشرع المغربي جعل الناقل السككي مسؤولا عن التأخير في إيصال الراكب أو المسافر في الوقت المحدد كما هو متفق عليه».
غير أن التساؤل الذي يثار في هذا الصدد يتمحور حول ما إذا كانت هذه المسؤولية تترتب بمجرد التأخير، أم أن الأمر يستلزم وقوع ضرر للراكب من جراء هذا التأخير، ذلك أن الدافع من وراء طرحنا لهذا السؤال يرجع بالأساس إلى أن المشرع نص على مصطلح الضرر في المادة الأولى دون أن يشير إليه في المادتين الثانية والثالثة.
بصدد الجواب على هذا التساؤل وانطلاقا من صياغة المادة المومأ إليها أعلاه يمكن القول إن الناقل لا يكون مسؤولا إلا إذا نتج عن التأخير ضرر، على اعتبار أن مصطلح الضرر ورد بشكل صريح في هذه المادة.
والضرر يمكن أن يكون ماديا مثل الشخص الذي يصل متأخرا عن موعد محدد على نحو فوت عليه فرصة تحقيق ربح مادي مما تسبب له في ضرر مادي، ومن أمثلة الأضرار المعنوية التي يمكن أن تلحق مستعمل القطار نذكر الموظف أو الأجير الذي يتأخر عن الوقت المحدد له للالتحاق بعمله نتيجة تأخر القطار يكون قد تعرض لضرر معنوي يتمثل في امكانية التأثير على سمعته ومكانته لدى مشغله، والمحامي الذي يتأخر عن جلسة المحكمة أو عن موكله يكون قد تعرض لضرر معنوي على اعتبار أن من شأن هذا التأخير أن يمس بسمعته لدى موكله، وأيضا المحامي الذي نال منه الإرهاق والتعب الشديد نتيجة تأخر السفر لساعات طويلة.
وقد دأب القضاء المغربي وعلى رأسه المجلس الأعلى على تحميل الناقل مسؤولية الأضرار اللاحقة بالمسافر نتيجة تأخر القطار، حيث ورد في إحدى حيثيات قراره عدد 111 بتاريخ 2003/4/10 في الملف المدني عدد 2003/5/1/3971 ما يلي: «لكن فإن محكمة الاستئناف لما استندت في ما قضت به على مقتضيات الفصل 479 م ت الذي ينص على أن تأخر السفر يعطي للمسافر الحق في التعويض عن الضرر إذا كان التأخير غير عاد ولم يبق للمسافر بسببه فائدة في القيام بالسفر معتبرة أن التعويض المحكوم به مترتب عن الضرر المعنوي الثابت فعلا من خلال عدم حضوره جلسة المحكمة في الوقت المحدد لها، وأن من شأن ذلك المساس بسمعته محاميا لدى موكلته يكون قد اعتبرت أن عدم حضوره لجلسة المحكمة والذي قام برحلته بسببها يشكل في حد ذاته ضررا موجبا للتعويض، فأوضحت بذلك طبيعة الضرر المذكور ونوعيته ولم تتناقض بذلك في تعليل قرارها وكان مؤسسا ومعللا ولم تخرق معه أي مقتضى قانوني وكان ما بالوسيلة غير مؤسس».
ج- هلاك وتلف الأمتعة:
أخضع المشرع المغربي نقل الأمتعة للقواعد الخاصة بنقل البضائع، بحيث لم يجعل الناقل مسؤولا إلا عن الأمتعة التي يتسلمها من الراكب دون تلك التي يحتفظ بها هذا الأخير وهو ما يتضح من مقتضيات المادة 482 من مدونة التجارة التي ورد فيها: « لا يلزم المسافر بدفع أي ثمن إضافي عن الأمتعة واللوازم الشخصية ما لم يتم الاتفاق على خلاف ذلك. يسأل الناقل عن ضياع أمتعة المسافر أو هلاكها حسب القواعد المنصوص عليها في المواد 458 و459 و460 و464، غير أنه لا يسأل عن الأمتعة التي يحتفظ بها المسافر».
وإذا كان المشرع قد أعفى الناقل من المسؤولية عن الأمتعة التي يحتفظ بها المسافر، فإنه قد يسأل عنها في حالة وفاة هذا الأخير وتعرضها للهلاك أو التلف نتيجة تقصير الناقل في اتخاذ التدابير اللازمة للحفاظ عليها وحماية مصالح الورثة الى حين تسليمها لمن له الحق فيها كما أوجبت ذلك المادة 486 من مدونة التجارة.
يتعلق شرط وقوع الضرر أثناء عملية النقل بحالة إصابة الراكب بضرر أو أذى جسماني أو وفاته، إذ ربط المشرع قيام مسؤولية الناقل في هذه الحالة بوقوع الحادثة أثناء فترة النقل، وطرح التساؤل حول المقصود بهذه الفترة هل تبتدئ منذ اتصال الراكب بوسيلة النقل أو بمجرد اقتناء تذكرة السفر؟
بخصوص الجواب على هذا التساؤل هناك اتجاهات، الاتجاه الأول يعتبر أن هذه الفترة تبتدئ منذ اتصال المسافر ماديا بوسيلة النقل أي القطار وتنتهي عند فقدان هذا الاتصال، فحسب هذا الاتجاه يكون الناقل مسؤولا عن سلامة الراكب منذ صعوده القطار وتنتفي عنه إذا غادر هذا الأخير.
أمام الانتقادات التي وجهت للرأي الأول ظهر اتجاه آخر يوسع نسبيا من هذه الفترة معتبرا الناقل مسؤولا عما يصيب المسافر من أضرار منذ وصوله رصيف المحطة أي بمجرد وقوفه في هذا الأخير استعدادا لصعود القطار، إلا أن الشرط الأساسي الذي يستلزمه هذا الاتجاه هو التوفر على تذكرة السفر، فإذا أصيب الراكب بأي ضرر خلال هذه الفترة حتى قبل اتصاله المادي بالقطار قامت مسؤولية الناقل، وتنتهي مسؤوليته بمجرد خروجه ومغادرته المحطة.
أما الاتجاه الثالث فإذا كان يتفق مع الاتجاه الثاني حول الوقت الذي تنتهي فيه المسؤولية العقدية للناقل، فإنه يختلف معه حول نقطة انطلاقها، إذ يعتبر هذا الاتجاه مسؤولية الناقل تبتدئ بمجرد اقتناء المسافر تذكرة السفر، وهو ما سارت فيه محكمة الاستئناف بالدار البيضاء في قرارها الذي ورد فيه: «متى ثبت أن الضحية دخل محطة القطار بعد أن حصل على تذكرة السفر وأن الحادثة وقعت في المحطة ولم يثبت المكتب الوطني للسكك الحديدية أي خطأ من الضحية، فإن مسؤوليته تكون قائمة حسب مقتضيات الفصل 79 من قانون الالتزامات والعقود» (قرار عدد 1673 بتاريخ 1992/10/15) ملف 90/565).
غير أن التساؤل يطرح بخصوص الحالة التي يصاب فيه المسافر بضرر قبل اقتنائه تذكرة السفر وذلك أثناء دخوله بهو المحطة وتوجهه إلى شباك التذاكر أو لغرض آخر غير ذلك كتوجهه إلى إحدى المحلات التجارية الموجودة داخل المحطة باعتبار أن معظم المحطات أصبحت في الوقت الراهن تضم فضاءات تجارية وترفيهية؟
بخصوص الجواب على التساؤل المطروح يجب التمييز بين فرضيتين: الأولى يكون فيها الناقل هو غير مستغل المحطة هنا لا يسأل الناقل إلا أثناء البدء في تنفيذ عقد النقل الذي يتم بمجرد اقتناء تذكرة السفر كما سبق الذكر، ذلك أن الفقه يميز في هذا الإطار بين مسؤولية الناقل ومسؤولية مستغل أو مدير المحطة.
الفرضية الثانية يكون فيها الناقل هو نفسه المستغل. هنا لا مجال للفصل بين المسؤوليتين على اعتبار أن الناقل هو الذي يتحمل وحده المسؤولية، غير أن طبيعة وأساس هذه المسؤولية يختلفان في هذه الحالة.
مما لا جدال فيه وكما سبق التأكيد على ذلك أعلاه، أنه بمجرد اقتناء المسافر تذكرة السفر ينعقد العقد ويبدأ في ترتيب آثاره، ما يجعل مسؤولية الناقل عقدية قائمة على أساس الخطأ المفترض، لكن إذا حدث أن أصيب الشخص داخل المحطة وقبل اقتنائه تذكرة السفر، فإن المسؤولية هنا لن تكون إلا مسؤولية تقصيرية نظرا لغياب عقد النقل.
وهكذا فقد جعل الفصل 88 من قانون الالتزامات والعقود الشخص مسؤولا عن الضرر الحاصل من الشيء الذي تحت حراسته كلما كان هذا الشيء هو السبب المباشر في حدوث الضرر، وأساس هذه المسؤولية هو الخطأ المفترض، أي افتراض ارتكاب خطأ في الحراسة وهو ما أكده المجلس الأعلى في قراره عدد 600 بتاريخ 31/12/1975 ملف مدني 41773 حيث جاء فيه: «إنه طبقا للفصل 88 من ق ل ع فإن المسؤولية الناتجة عن الأشياء غير الحية هي مسؤولية تنشأ عن خطأ مفترض في حراسة الشيء الذي تسبب في حدوث الضرر..».
غير أنه بالنظر إلى أن النقل السككي في المغرب يتميز باحتكاره من طرف الدولة ممثلة في المكتب الوطني للسكك الحديدية الذي هو في الوقت ذاته مستغل المحطة، فإن مسؤولية هذا الأخير في هذه الحالة يجب بحثها في إطار الفصل 79 من قانون الالتزامات والعقود، وهو ما يمكن استنتاجه من إحدى حيثيات قرار المجلس الأعلى 1787 المشار إلى مراجعه أعلاه والذي جاء فيه: «إن مسؤولية المكتب الوطني للسكك الحديدية باعتباره مؤسسة عمومية، تخضع لمقتضيات الفصل 79 من ظهير الالتزامات والعقود، وتترتب هذه المسؤولية عن تسيير مصالح المكتب ولو بدون خطأ ولا يعفى من هذه المسؤولية إلا إذا أثبت أن الضرر يرجع إلى خطأ الضحية أو إلى القوة القاهرة. لما كان الأمر كذلك فإن محكمة الاستئناف أخطأت عندما بحثت مسؤولية المكتب في نطاق الفصل 88 من ظهير الالتزامات والعقود، إلا أن المجلس الأعلى يعوض بالعلة القانونية المحضة المذكورة أعلاه، والمأخوذة من مقتضيات الفصل 79 والمطبقة على الوقائع الثابتة لدى قضاة الموضوع، العلة الخاطئة المستقاة من الفصل 88 الأمر الذي يجعل القرار المطعون فيه مبررا تبريرا قانونيا».
ثالثا: وسائل دفع مسؤولية الناقل السككي
إذا كانت مسؤولية الناقل العقدية تتحقق في حالة المساس بالسلامة الجسدية والبدنية للراكب والتأخير في نقله وإيصاله إلى المكان وفي الوقت المتفق عليهما وفق ما فصلناه أعلاه، فإن هناك بعض الحالات تعتبر منفذا للناقل يستطيع بها الإفلات من هذه المسؤولية.
فبالرجوع إلى المادتين 479 و485 من مدونة التجارة يتضح أن المشرع المغربي خول للناقل إمكانية إبعاد المسؤولية عنه وذلك بالتمسك بإحدى الوسائل التي حددها له وهي القوة القاهرة، الحادث الفجائي، خطأ المتضرر، وإجراء إصلاحات ضرورية على وسيلة النقل، والخطر غير المتوقع.
وإذا كان المشرع جعل من القوة القاهرة سببا معفيا من المسؤولية في حالة المساس بالسلامة الجسدية للراكب والتأخير في نقله إلى المكان وفي الوقت المحددين، فإنه أضاف سببا آخرا يختلف في الصورتين معا حيث جعل من خطأ المتضرر سببا معفيا إلى جانب القوة القاهرة في الصورة الأولى والحادث الفجائي في الصورة الثانية.
أـ القوة القاهرة: تعتبر القاهرة سببا قانونيا تمكن الناقل من الإفلات من المسؤولية، وقد حدد المشرع مفهوم القوة القاهرة في الفصل 269 من قانون الالتزامات والعقود الذي جاء فيه: «كل أمر لا يستطيع الإنسان أن يتوقعه كالظواهر الطبيعية (الفيضانات والجفاف والعواصف والحرائق والجراد)، وغارات العدو، وفعل السلطة، ويكون من شأنه أن يجعل تنفيذ الالتزام مستحيلا».
فانطلاقا من هذا الفصل يتضح أن الواقعة حتى تكتسي صبغة القوة القاهرة يجب أن تكون غير متوقعة، وأن يكون الناقل غير قادر على دفعها، وأن تجعل الواقعة تنفيذ الالتزام مستحيلا.
والملاحظ في هذا الإطار أن المشرع المغربي لما أتى في الفصل المذكور ببعض صور القوة القاهرة فإنه أوردها على سبيل المثال لا الحصر بدليل أنه استعمل حرف الكاف عند قوله كالظواهر الطبيعية.
واستقر الاجتهاد القضائي على أن تقدير توفر هذه الشروط يدخل في صميم السلطة التقديرية لمحكمة الموضوع متى كان سائغا، كما أن تقدير هذه الشروط يجب أن يكون بحسب ظروف ووقائع كل حالة على حدة، ولذلك فإن الأمور التي تخضع للسلطة التقديرية لمحكمة الموضوع لا تخضع لرقابة المجلس الأعلى إلا من حيث التعليل.
وهكذا فالحريق اعتبره المشرع قوة قاهرة، إلا أن القول بذلك يجب أن يقدر بحسب الظروف فهو لا يعد كذلك إذا كان من داخل وسيلة النقل وناتجا عن إهمال في صيانة وإصلاح هذه الأخيرة، كذلك الفيضانات هي من الأمور المتوقعة في فصل الشتاء في ظل التطور التقني والتقدم التكنولوجي الذي أصبح يسمح في الوقت الراهن برصد جميع الظواهر والعواصف الجوية، ما باتت معه إمكانية توقع هذه الأخيرة أمرا متاحا، الشيء الذي ينفي عنها طابع القوة القاهرة، وهو ما أكده القضاء المغربي وإن كان في مادة النقل البحري فإن هذا لا يمنع من إسقاطه على باقي أشكال النقل الأخرى، وهكذا ورد في قرار محكمة الاستئناف بالدار البيضاء: «... حيث يدفع الناقل البحري بالقوة القاهرة وبالتالي انعدام مسؤوليته نظرا لقوة العاصفة التي تعرضت لها الباخرة خلال السفرة البحرية التي تمت خلال شهر فبراير 1978، غير أنه كان على الربان أن يتوقع حدوث مثل هذه العاصفة في هاته الآونة واتخاذ الاحتياطات اللازمة لتلافيها، وبالتالي فلا مجال للتمسك بمقتضيات الفصل 269 ق ل ع الذي يعتبر القوة القاهرة كل أمر لا يستطيع الإنسان أن يتوقعه في حين أن حدوث العواصف خلال تلك الفترة من الأمور التي يمكن توقعها في فصل الشتاء الذي تكثر فيه العواصف...» (قرار رقم 706 الصادر في الملف التجاري عدد 84/2346)، نفس التوجه سلكته المحكمة الابتدائية بالدار البيضاء في حكمها عدد 2571 بتاريخ 1986/10/02 الذي ورد فيه: «إن عاصفة بلغت قوتها 10 درجات وقعت في شهر دجنبر، وهي فترة تكثر فيها الزوابع البحرية التي تعترض طرق السفن، لا يمكن أن تكون غير متوقعة من طرف الربان، إذ أن عنصر انعدام التوقع ضروري لكي تشكل العاصفة قوة قاهرة»، كما ورد في إحدى قرارات المجلس الأعلى ما يلي: «لا يمكن الادعاء بالقوة القاهرة.
تبين للمحكمة أن انقلاب القطار وقع في الوقت الذي كانت السكة الحديدية مغطاة بالمياه نتيجة الأمطار الغزيرة، الأمر الذي كان يمكن معه لحارس القطار توقع الحادث وكان في وسعه تفاديه لو أنه اتخذ كافة الاحتياطات اللازمة التي منها التريث حتى ينزل الماء....». (قرار عدد 1787 بتاريخ 1987/07/22 في الملف عدد 99431)، كما سارت محكمة النقض السورية في نفس الاتجاه (نقض مدني سوري 1952 بتاريخ 1980/12/27).
ب- الحادث الفجائي: يجب الإشارة في البداية الى الجدل الذي عرفه الفقه بخصوص موقفه من المدلول القانوني لمفهوم الحادث الفجائي وعلاقته بالقوة القاهرة من حيث ما إذا كانا يعتبران سببا واحدا أم سببين مختلفين.
هذا الجدل أفرز لنا اتجاهين الأول يميل إلى تبني الرأي الأول الذي شدد على ضرورة اعتبارهما سببا واحدا لا فرق بينهما، بينما يرى الثاني أن كلا السببين يتميزان عن بعضهما البعض باعتبار أن لكل واحد منهما شروطه الخاصة به.
ويبدو أن المشرع المغربي انتصر للرأي الثاني بدليل أنه يشير تارة إلى أحد المصطلحين دون الآخر كما هو الشأن في المادة 485 من مدونة التجارة حيث استعمل مصطلح القوة القاهرة دون الحادث الفجائي، وتارة أخرى يتبنى المصطلحين معا لكنه يفرق بينهما بعبارة «أو» التي تفيد أنهما مختلفان عن بعضهما البعض كما هو الحال بالنسبة للمادة 479 من المدونة نفسها.
والحادث الفجائي شأنه شأن القوة القاهرة يعد سببا معفيا من المسؤولية، لكنه لا يعتبر كذلك إلا في حالة واحدة وهي حالة التأخير في نقل المسافر الى وجهته المقصودة طبقا للمادة 479 من المدونة المذكورة، أما في حالة إصابته بأضرار جسمانية فلا يمكن للناقل التمسك بهذا السبب لعدم اعتباره كذلك من طرف المشرع المغربي.
ج- خطأ المتضرر:
يعتبر خطأ المتضرر سببا معفيا من المسؤولية يمكن معه للناقل أن يتمسك به في مواجهة الراكب، من خلال إثبات أن الضرر الذي تعرض له هذا الأخير كان بسبب فعله وأن هذا الفعل هو السبب الوحيد في الحادث. ولكن هذا الحكم لا يعتبر كذلك إذا كان ما ارتكبه المسافر من أفعال ألحقت به الضرر راجعة في الأصل الى فعل الناقل، كأن يستأنف السير سائق القطار دون أن ينتبه إلى صعود ونزول الركاب وإغلاق جميع الأبواب مما يترتب عن إصابة أحدهم بضرر، ومن التطبيقات القضائية لهذه الحالة نذكر قرار المجلس الأعلى عدد 767 بتاريخ 2006/07/05 الذي أبرم قرار محكمة الاستئناف التجارية بالدارالبيضاء رقم 2980 الصادر بتاريخ 2004/10/07 الذي أيد بدوره الحكم الابتدائي القاضي بتحمل المكتب الوطني للسكك الحديدية كامل مسؤولية الحادث الذي وقع لأحد الركاب نتيجة إصابته بأضرار إثر استئناف السائف السير دون الانتباه الى نزول الركاب، حيث دفع المكتب الوطني للسكك الحديدية في المرحلة الاستئنافية أن السير على السكك الحديدية يخضع لإجراءات دقيقة وواضحة على شكل بيانات وملصقات تعلق بمحطة القطارات وداخل عربات القطار، وأنه عند كل توقف للقطار تقوم المصالح التابعة له عن طريق مكبرات الصوت بإذاعة بيان تنذر المسافرين من خلاله بالاستعداد لاستئناف السير وتطلب منهم الحيطة والحذر.
غير أن محكمة الاستئناف ردت هذا الدفع بعلة: « أن المستأنف، أي المكتب الوطني للسكك الحديدية، لم يثبت الخطأ المزعوم الذي نسبه للضحية ولم يثبت أنه قام بجميع الاحتياطات الضرورية لتفادي وقوع الحادث بإغلاق الأبواب وعدم تحرك القطار إلا بعد نزول المسافرين والإعلان بانتهاء فترة التوقف لأن الفصل 485 من مدونة التجارة يحمل الناقل المسؤولية عن الأضرار اللاحقة بشخص المسافر خلال النقل ولا يمكن اعفاؤه من هذه المسؤولية إلا بإثبات حالة القوة القاهرة أو خطأ المتضرر، وبما أن المستأنف لم يثبت إعفاؤه من هذه المسؤولية إلا بإثبات حالة القوة القاهرة أو خطأ المتضرر وبما أن المستأنف لم يثبت ذلك يبقى مسؤولا مسؤولية كاملة عن الأضرار اللاحقة بالمتضرر…». وهو التعليل الذي استصوبه المجلس الأعلى وقضى على ضوء ذلك برفض طلب النقض الذي تقدم به المكتب المذكور.
وفي قرار آخر صدر تحت عدد 47 بتاريخ 1988/03/10 اعتبر نفس المجلس أن «المسافر الذي كان يعبر من عربة الى أخرى لم يرتكب أي خطأ من شأنه أن يعفي الدولة من هذه المسؤولية».
بقي في الأخير أن نتساءل حول ما مدى تأثير فعل الغير على مسؤولية الناقل وهل يمكن لهذا الأخير أن يتمسك بهذا السبب لإبعاد المسؤولية عنه؟
بداية يجب تحديد المقصود بالغير، فهذا الأخير هو كل شخص أجنبي عن الناقل ولا يعتبر من تابعيه لأن أفعال هؤلاء يتحملها الناقل في إطار مسؤولية المتبوع عن أعمال التابع.
أما بخصوص التساؤل المطروح فقد تم الاتفاق على أن الناقل يكون مسؤولا عن الضرر اللاحق بالمسافر بسبب فعل الغير ولا يمكنه التحلل من هذه المسؤولية إلا إذا أثبت توفر شروط القوة القاهرة أو الحادث الفجائي في هذا الفعل وهو ما سارت فيه محكمة الاستئناف بالرباط في قرارها الصادر بتاريخ 2002/3/20 في الملف عدد 6/01/515 الذي رفضت فيه إضفاء صبغة الحادث الفجائي على سقوط الأسلاك الكهربائية ذات التوتر العالي التي تزود القطارات بالطاقة بسبب عمل اجرامي من طرف مجهول، وقد تم إبرام هذا القرار من طرف المجلس الأعلى بواسطة قراره عدد 1111 بتاريخ
2003/4/10.
التوجه نفسه تبنته محكمة الاستئناف الإدارية بالرباط التي لم تتردد في تحميل الناقل السككي مسؤولية الضرر الذي يصيب المسافر نتيجة رشق القطار بالحجارة من طرف مجهولين وهو ما يتضح من قرارها رقم 5 الصادر بتاريخ 2007/01/10 في الملف عدد 6/06/26 حيث جاء في تعليل المحكمة ما يلي: «وحيث إنه من جهة أخرى، فإن مسؤولية المكتب المستأنف في هذه النازلة تكون قائمة ولو بدون ارتكابه لأي خطأ من جانبه استنادا إلى فكرة المخاطر الناتجة عن استعمال أشياء خطيرة كالقطار وخاصة وأنه ليس بالملف ما يثبت أن الضرر راجع الى خطأ الضحية، مما يبقى معه ما أثاره المستأنف بخصوص القوة القاهرة، والحادث الفجائي غير ذي جدوى وما أثير في هذا الشق غير منتج».
د. فعل الأمير وإجراء إصلاحات ضرورية على و سيلة النقل والخطر غير المتوقع:
نص المشروع على هذه الأسباب في المادة 481 من مدونة التجارة وبالرغم من أنه لم ينص صراحة على اعتبارها أسبابا للإعفاء، فإنه من خلال القراءة المتأنية للمادة المذكورة يتبين أنها تعتبر كذلك بدليل أن المشرع لم يرتب المسؤولية على الناقل في هذه الحالات، بل حدد القواعد الواجب تطبيقها في حالة انعدام اتفاق بين الطرفين.
المطلب الثاني: دعوى التعويض
تعتبر دعوى التعويض الأثر المباشر لقيام مسؤولية الناقل، حيث يعمل المتضرر على تفعيل هذه المسؤولية من خلال مقاضاة الناقل أمام الجهة القضائية المختصة بغرض الحصول على التعويض المناسب لجبر الضرر الذي تعرض له.
وتثير دعوى التعويض جملة من التساؤلات تتعلق أساسا بتحديد المحكمة المختصة، وإجراءات الدعوى ثم مسألة التقادم.
أولا: المحكمة المختصة بالنظر في دعوى التعويض
حتى يتأتى للمسافر المتضرر الحصول على التعويض عن الضرر الذي لحقه، يجب عليه رفع دعواه إلى المحكمة التي يرجع لها اختصاص البت في هذه الدعوى طبقا لقواعد التنظيم القضائي، حيث يتوزع هذا الاختصاص الى اختصاص نوعي واختصاص مكاني.
1- الاختصاص النوعي:
اعتبر المشرع المغربي في الفقرة 6 من المادة السادسة من مدونة التجارة النقل نشاطا تجاريا ذلك أن ممارسة الشخص لهذا النشاط على سبيل الاعتياد أو الاحتراف يكسبه صفة تاجر مع مراعاة المتعلقة بالشهر في السجل التجاري.
واعتبر بعض الفقه أن ممارسة أعمال النقل لا تكفي وحدها لاكتساب صفة التجار بل يجب أن تتخذ كإطار لها شكل مقاولة.
ولعل التساؤل الأساسي الذي يثار في هذا المجال يتمحور حول تحديد المحكمة المختصة بالبت في النزاعات المترتبة عن أعمال النقل، على اعتبار أن طبيعة القضاء المغربي يتوزع بين قضاء عاد وقضاء متخصص، فهناك من جهة المحاكم الابتدائية ومن جهة أخرى المحاكم التجارية، ويزداد النقاش إثارة في حالة احتكار القطاع من طرف هيأة عمومية، كما هو الشأن بالنسبة للمكتب الوطني للسكك الحديدية، حيث من شأنه
من المتفق عليه أن عقد النقل عقد تجاري وهذه الصبغة تجعل اختصاص البت في النزاعات المترتبة عنه يرجع مبدئيا للمحاكم التجارية طبقا للمادة 5 من قانون المحاكم التجارية والتي نصت على أنه: «تختص المحاكم التجارية بالنظر في الدعاوى المتعلقة بالعقود التجارية...».
غير أن هذا الاختصاص مقيد بمعيار قيمي ألا وهو ضرورة تجاوز قيمة الطلب 20 ألف درهم، كما نصت على ذلك المادة 6 من القانون نفسه التي ورد فيها: «تختص المحاكم التجارية بالنظر في الطلبات الأصلية التي تتجاوز قيمتها 20.000 درهم، كما تختص بالنظر في جميع الطلبات المقابلة أو طلبات المقاصة مهما كانت قيمتها».
وهذا يعني أن النزاعات الناشئة عن عقد النقل والتي لا تتعدى قيمتها المبلغ المذكور تكون من اختصاص المحكمة الابتدائية باعتبارها صاحبة الولاية العامة.
وبالنظر إلى أن المادة 8 من القانون رقم 41.90 نصت على أنه: «تختص المحاكم الإدارية، مع مراعاة أحكام المادتين 9 و11 من هذا القانون، بالبت ابتدائيا ودعاوى التعويض عن الأضرار التي تسببها أعمال ونشاطات أشخاص القانون العام ما عدا الأضرار التي تسببها في الطريق العام مركبات أيا كان نوعها يملكها شخص من أشخاص القانون العام»، فإن التساؤل الذي يطرح في هذا الإطار يتعلق بما إذا كانت الصبغة العمومية للناقل السككي من شأنها أن تنزع الاختصاص عن هذه المحاكم لصالح المحكمة الإدارية، وما مدى جدية دفع الناقل بعدم اختصاص المحاكم الابتدائية والتجارية بحسب الأحوال لصالح جهة القضاء الإداري؟
جوابا على التساؤل المطروح يمكن القول بأن الصبغة العمومية للمكتب لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تجعل المحاكم الإدارية مختصة في البت في النزاعات الناشئة عن عقد النقل، على اعتبار أن النقل من جهة هو عمل تجاري بصرف النظر عن طبيعة الشخص الذي يمارسه، ما يجعل النزاعات المترتبة عليه من اختصاص المحاكم التجارية أو الابتدائية بحسب الأحوال، ومن جهة أخرى فالفصل 1 من الظهير الشريف رقم 1.63.225 المتعلق بإحداث المكتب الوطني للسكك الحديدية جعل هذا الأخير مؤسسة عمومية ذات صبغة صناعية وتجارية تتمتع بالشخصية المدنية والاستقلال المالي وتوضع تحت الوصاية الإدارية لوزير الأشغال العمومية.
وعليه، فإن دفع المكتب بعدم اختصاص المحاكم الابتدائية والتجارية بحسب الأحوال لصالح المحاكم الإدارية غير مرتكز على أي أساس قانوني، وهو ما أكده المجلس الأعلى في قراره عدد 1111 بتاريخ 2003/4/10 المشار إليه أعلاه حيث ورد فيه: «لكن فإن المكتب الوطني للسكك الحديدية بالرغم من تمتعه بالشخصية المعنوية العامة فإن نشاطه يغلب عليه الطابع الاقتصادي ويخضع في مجال النقل لمقتضيات القانون الخاص وتكون المحاكم العادية مختصة بالنظر في دعوى تعويض الضرر الناجم عن النقل عبر السكك الحديدية وتكون مسؤوليته مدنية تطبيقا للاستثناء من اختصاص المحاكم الإدارية المنصوص عليه بمقتضى الفصل 8 من ظهير 93/9/10 بتنفيذ قانون 41-90 المحدث للمحاكم المذكورة مما لم يكن معه هناك مجال لإعمال مقتضيات الفصل 12 من الظهير المذكور وكانت معه الوسيلة غير مؤسسة».
وتجدر الإشارة إلى أن دخول القانون رقم 03-52 المتعلق بتنظيم الشبكة السككية الوطنية وتدبيرها واستغلالها حيز التنفيذ، سينعكس بشكل أساسي على قواعد الاختصاص القضائي حيث سيحسم الجدل القائم حول اشكال اختصاص المحاكم الإدارية بالبت في النزاعات التي يكون طرفها المكتب الوطني للسكك الحديدية ، وهو ما يتضح من خلال المادة 6 من نفس القانون التي نصت على أن الاستغلال السككي بشقيه تدبير البنيات الأساسية السككية والاستغلال التقني والتجاري ستتولاه مقاولات تعرف بمدبري البنيات الأساسية السككية بالنسبة للشق الأول ومتعهدي النقل السككي بخصوص الشق الثاني، وأن الاستغلال السككي يعتبر نشاطا صناعيا وتجاريا يخضع للقانون التجاري وأن مدبري البنيات الأساسية السككية ومتعهدي النقل السككي تجار.
نصت المادة 17 على إحداث شركة مساهمة تحمل تسمية الشركة المغربية للسكك الحديدية التي سوف تحل محل المكتب الوطني للسكك الحديدية في حقوقه والتزاماته.
وقد أجمع أغلب الفقه والقضاء، على أنه منذ صدور قانون 41.90 المتعلق بالمحاكم الإدارية، أصبح الاختصاص النوعي من النظام العام يجب على المحاكم أن تثيره تلقائيا، كما يجب على هذه الأخيرة أن تبت في الدفع المتعلق بالاختصاص النوعي بحكم مستقل طبقا للمادة 13 من قانون المحاكم الإدارية، وأن الحكم البات في الاختصاص النوعي لا يقبل الطعن إلا أمام المجلس الأعلى طبقا للمادة المذكورة وكذا المادة 12 من قانون محاكم الاستئناف الإدارية.
وإذا كان هذا المبدأ هو الذي استقرت عليه الغرفة المدنية بالمجلس الأعلى، فقد طالعتنا السنة الماضية الغرفة التجارية لدى المجلس نفسه بقرار يحتاج الكثير من التأمل والتأني، حيث ذهبت عكس توجه الغرفة الأولى لما اعتبرت أنه «إذا كان النزاع معروضا أمام محكمة ابتدائية ودفع أمامها بعدم الاختصاص لفائدة جهة قضائية عادية (تجارية) فإن حكم الاختصاص الصادر عنها ضم للجوهر أم لا، يستأنف أمام محكمة الاستئناف ويطعن فيه بالنقض أمام المجلس الأعلى، وإن كان الدفع لفائدة اختصاص المحكمة الإدارية، فإن الحكم الصادر عنها يستأنف أمام المجلس الأعلى تطبيقا للمادتين 13 من قانون إحداث المحاكم الإدارية و12 من قانون إحداث محاكم الاستئناف الإدارية، ولما يكون النزاع أمام المحكمة التجارية ويثار الدفع أمامها بعدم الاختصاص لفائدة المحكمة الابتدائية فإن الحكم المستقل الصادر بهذا الشأن يستأنف أمام محكمة الاستئناف أمام المجلس الأعلى استنادا للمادتين 12 و13 المذكورتين. ولما يكون النزاع معروضا أمام محكمة إدارية ويثار أمامها الدفع بعدم الاختصاص النوعي لفائدة جهة قضائية عادية فإن الحكم المستقل الصادر عنها يستأنف لدى المجلس الأعلى تبعا للمقتضيات المذكورة». (قرار عدد 785 بتاريخ 2010/05/13 في الملف التجاري عدد 2009/1/3/427).
2ـ الاختصاص المكاني:
طبقا للفصل 27 من قانون المسطرة المدنية فإن الاختصاص المكاني يكون لمحكمة الموطن الحقيقي أو المختار للمدعى عليه، وما دام النقل السككي في المغرب تشرف عليه مؤسسة عمومية يوجد مقرها الاجتماعي بالرباط فإن الاختصاص المكاني يعود بحسب الأحوال للمحكمتين الابتدائية والتجارية بالرباط.
ثانيا: إجراءات الدعوى
انطلاقا من فصول قانون المسطرة المدنية، فإن دعوى التعويض تقدم بواسطة مقال موقع عليه من طرف محام مقيد بجدول إحدى هيآت المحامين بالمغرب، حيث يجب أن تتوفر في صاحب المقال الصفة والمصلحة والأهلية والإذن بالتقاضي عند الاقتضاء وأن يتضمن الاسم العائلي والشخصي وصفة وموطن المدعي والمدعى عليه وكذا موضوع الدعوى والوقائع والوسائل المثارة، كما يجب أن يرفق بالمستندات المعززة للطلب مع ضرورة أداء الرسوم القضائية ما لم يكن مستفيدا من المساعدة القضائية.
وما دام النقل السككي في المغرب تشرف عليه مؤسسة عمومية وهي المكتب الوطني للسكك الحديدية، فإن الفصل 514 من قانون المسطرة المدنية أوجب إدخال الوكيل القضائي للمملكة كلما كان الطلب يرمي إلى التصريح بمديونية المكتب المذكور تحت طائلة عدم القبول.
وعلى ذكر المستندات، فإنها تختلف بحسب طبيعة طلب المدعي هل يتعلق الأمر بطلب التعويض عن التأخير أم عن الضرر، ففي الحالة الأولى نعتقد أنه يجب على المدعي أن يدلي بتذكرة السفر وبجدول التوقيت وبشهادة التأخير التي يتعين على الناقل تسليمها له طبقا لما نصت عليه المادة 481 من مدونة التجارة التي جاء فيها: «يلزم الناقل بتسليم المسافر، إذا طلب ذلك، شهادة تثبت التأخير في السفر إذا وقع»، وفي حالة ما إذا رفض الناقل القيام بذلك يمكن للمسافر/المدعي أن يطلب من أحد المفوضين القضائيين التوجه إلى الناقل قصد مطالبته بصفة قانونية بتسليمه الشهادة المذكورة وفي حالة الامتناع تحرير محضر بذلك حتى يتأتى له إرفاقه بمقاله، أما في الحالة الثانية فيجب عليه أن يدلي بما يثبت وقوع الحادث أثناء عملية النقل وتعرضه لضرر من جراء ذلك، عموما يجب عليه أن يدلي بجميع الوثائق التي من شأنها أن تثبت ادعاءاته.
بعد تسجيل المقال يعين رئيس المحكمة قاضيا مكلفا، حيث تعمل المحكمة على تبليغ مقال الدعوى إلى المدعى عليه، وبعد استنفاد الأطراف أجوبتهم وردودها واستكمال الإجراءات يصدر الحكم الذي يمكن أن يكون تمهيديا باتخاذ إجراء من إجراءات التحقيق أو يكون فاصلا في موضوع الدعوى، هذا الأخير يقبل الطعن بالاستئناف سواء من قبل المدعي أو المدعى عليه، وتبت محكمة الاستئناف في الطعن بمقتضى قرار الذي يقبل بدوره الطعن بالنقض شريطة أن تكون قيمة الطلب تتعدى 20 ألف درهم، اما إذا كانت أقل من ذلك فالقرار إذاك يعتبر نهائيا ولا يقبل في هذه الحالة الطعن بالنقض (الفصل 353 قانون المسطرة المدنية).
ثالثاـ تقادم دعوى التعويض:
سبق أن قلنا بأن عقد النقل يصنف ضمن العقود التجارية وبالتالي فإنه يخضع لقواعد القانون التجاري ومن بينها التقادم، وقد نصت المادة 5 من مدونة التجارة على أن الالتزامات الناشئة بمناسبة عمل تجاري بين التجار أو بينهم وبين غير التجار تتقادم بمضي خمس سنوات ما لم توجد مقتضيات خاصة مخالفة.
فدعوى التعويض ضد الناقل السككي تتقادم إذا بمرور خمس سنوات تبتدئ من اليوم الذي وقع فيه الفعل المسبب لضرر، ويخضع تقادم دعوى التعويض للأحكام العامة الواردة في قانون الالتزامات والعقود فيما يتعلق بقطع التقادم ووقفه.
خاتمة:
لقد حاولنا من خلال هذا المقال تسليط الضوء، ولو جزئيا، على موضوع مسؤولية الناقل السككي للأشخاص من خلال طرح بعض الإشكالات التي يثيرها، ولا ندعي أننا أحطنا بالموضوع من جميع الجوانب وإن كنا متأكدين أن دراسات أخرى ستعمل على تغطية النواقص التي طالت هذه الدراسة.