مقدمـّة:
النيابـة العامـّة هــي تـلــك الهيـئة الّتـي تـدافع عـــن الحـقّ العـام . و هــي هيئـة قضائيّـة , أي أنّهــا تتشكـل من قضـاة , و لـذلك , فهـي تسمّى أيضـاً بالقضـاء الواقـف , تميزاً عن قضـاة الأحكام , الّذين يندرجـون ضمـن القضـاء الجالـس .
و أمّـا السلطـة التنفيذيّـة فهي تلك الجهـة المخولـة بتنفيذ سياسـات البلاد . بمعنّـى أنـّها الحكومّـة الّتي تتشكـل من مجمـوعة من الوزراء .
و مـن النّاحيّـة التّـاريخيّـة فـإن مؤسسّـة النيابـة الـعامّـة ذات أصل فرنسي . فارهاصاتها الأولـى ظهرت في فرنسا و كانت علـى شـكل محاميـن متخصصيـن كانـوا يدافعـون عن مصالـح الملـك أمام المحاكم (1) .
و قد تطورت هـذه المؤسسّـة لتصبـح على ما هي عليـه الآن , باعتبـارها هيئـة قضائيّـة لها دور مهـم في الدفـاع عن الحقّ العـام . كمـا أنّها أصبحت تمثـل السلطـة التنفيذيّـة أمام المحاكـم .
و هنا يتجلّـى اشكـال كبير يتأسس على السّؤال التّالي : كيف نقول أن القضـاء هيئة مستقلـة و في ذات الوقت نجد أن قضـاة النيابة العامّـة يمثلون السلطة التنفيذيّـة؟
إنه , و للإجابة على هـذا السّؤال حريٌ بنا أن نتـناول موضـوع الوضعيّـة القانونيّـة للنيابة العامّـة ( المبحث الثانيّ ) و قبـل ذلك, لا بأس فـي أن نتطرق لما جاء في الدّستـور المغربـي حول استقلال القضاء ( المبحث الأوّل ) .
المبحث الأول : استقلال القضاء في الدستور
تناول الدستور المغربيّ في بابـه السابـع موضـوع السلطة القضائيّـة و ذلك من خـلال الفصـل 107 إلى الفصـل 128 . و ركز في هذا الباب على مواضيع ثلاثـة أساسيّـة هي :
أ ـ استقلال القضـاء
ب ـ المجلس الأعلى للسلطة القضائيّة
ج ـ حقوق المتقاضيـن و قـواعد سيـر العـدالة
و حول الموضـوع الّذي يعنينا و هو استقـلال القضاء فإننا نجد أن الفصل 107 من الدّستـــــور ينص على الآتي : " السلطة القضائيّة مستقلة عن السلطة التّشريعيّة و عن السلطـة التنفيذيّـة "(2).
بيـد أننا في الفصـل 110 نلاحـظ أن المشرع ينـص علـى التزام النيابة العامّـة بالتعليمات الكتابيــة القانونيّة الصادرة عن السلطة الّتـي يتبعون لها . و نجد الوثيقـة الدسـتورية في الفصل 116 تنص على ما يلي : " يراعي المجلس الأعلـى للسلطـة القضائيّـة , في القضـايا الّتي تهم قضـاة النيابـة العامّـة , تقاريـر التقييـم المقدمّـة من قبـل السلطـة الّتي يتبعون لهـا " (3) .
ترتيـباً على ما تقـدم نستنـتج أن الوثيقـة الدّستورية تنص على استقلال القضـاء , ثم نجـد أن النيابـة العامّـة , رغم أنّها تتكون من قضـاة , تابـعة لسلطـة أخـرى . فهـل الأمر متعلـق بطبيعـة الوضعيّـة القانونيّـة للنيـابـة العامّـة؟
المبحث الثاني : الوضعيّة القانونيّـة للنيـابة العامّـة
ان الوضعيّـة القانونيّـة للنيابـة العامّـة , كما يـرى الفقـهاء , تأتي من ميزتين . الأولـى تتمثـل في كون النيابـة العامّـة تمثـل السلطـة التنفيّذيّـة . و الثانيّـة تكمن في أن النيابـة العامّـة تعتبـر طرفـاً أصليـاً في الدعـوى الجنائيّـة . و ما يهمنـا هنا هو الميزة الأولى . أي كون القضـاء الواقف يمثـل السلطـة التنفيذيّـة أمام المحاكـم .
انـه من الجديـر بالذكر أن هـذه الميزة خلقت الكثيـر من النقـاش الفقهي . فهنـاك من الفقـهاء مـن ظـلّ يربــط مؤسسّـة النيابـة العامّـة بالسلطـة القضـائيّـة . و هنـاك من ربـــط بين النيابـة العامّـة و السلطـة التنفيذيّـة ربطاً مبـاشراً (4) .
و القول أن جهـاز النيابـة العامّـة يمثـل السلطـة التنفيذيّـة يعنّي أن هـذا الجهاز يخضـع للسلـم الإداري أو لنقـل أنّه خاضـع للسلطـة الرئاسيّـة , و أنّه موحد أي أنه بجميع أفراده شخص واحد , و أنّـه مستقـل أيضاً . فكيـف ذلك؟ كيـف يكون مستقلاً مع أنـه خاضـع لسلطـة أخرى؟
ان استقـلال النيـابة العامّـة يظهـر في علاقتـها مع قضـاة الحكـم و قضـاء التحـقيـق و مـع المتضـرر , و ليس مع السلطـة التنفيذيّـة . فالنيابـة العامّـة مادامت خاضعـة للسلطة التنفيذيـّة , و خاضعـة للسلـم الاداري فإنّ رئيســها الأعلـى يظـلّ هـو وزيـر العـدل الّذي يمثـل السلطـة التنفيذيّـة , و يمثـل أعلـى سلم اداري داخـل وزارة العـدل .
خاتمـة
يتبين لنا , اذن , أن القضـاء في شقـه المتعلـق بالنيـابة العامّـة ليـس مستقـلاً , بل تابعاً للسلطـة التنفيـذيّـة .
و لا يفوتنـي أن أسجـل في خاتمـة هذا الموضـوع ملاحظتين جوهريتين :
الأولى : ان التركيـز على طبيعيـة عمـل النيابـة العامّـة يجعلنـا نتفهـم عـدم استقلاليـتها عن السلطـة التنفيذيّـة فالمصلحـة تقتضي خضـوع النيابة العامّـة لهـذه السلطـة . ثمّ ان هـذا الجهـاز لا يصـدر أحكامـاً . و بالتّالي , فإن عدم استقلاليتـه لن يؤثـر على السلطـة القضائيّـة .
الثانيّـة : يبقى الاشكـال , حسب رأيي , ليس في خضـوع النيابـة عامّـة لسلطـة أخرى , و انّـما خضوعـها لأشخاص ليسـوا بقضاة . اذ كيف يكون رئيس النيابة العامّـة وزيراً مسيساً ذا حمولـة اديولوجيّـة معينـة , و يمارس العمل السيـاسيّ بجميـع مشاحناتـه و توتراته , مع أن الدّستور ينص على منع القضاة من الانخراط في الأحزاب السياسيّة (5) , فكيف يمنع القضاة , و خصوصاً قضاة النيابة العامّة , من التوجـه الحزبي , في حين أن رأيسهم منتمي حزبياً؟ (6)
هوامش :
1 ـ محمد عياط , دراسة في المسطرة الجنائيّة المغربيّة , الجزء الأول , ص : 66
2 ـ الجريدة الرسميّة , السنة المائة , عدد 5952
3 ـ الجريدة الرسميّة , السنة المائة , عدد 5952
4 ـ محمد عياط , مرجع سابق , ص : 70 و 71
5 ـ الفصل 111 من الدّستور المغربيّ
6 ـ حذفت وزارة العدل في بعض الدول الانجلوساكسونيّة . و أشرف في بعض الدول على شؤون القضاة رئيس محكمة النقض أو قاض سامي .