توطئــــة
يعد تأهيل منظومة العدالة ومحاربة الفساد مدخلا لتخليق الحياة العامة ؛ لكون صلاح القضاء وتثبيت استقلاليته "لا ينعم به القضاة بل المتقاضين"، لذلك لا مناص من زجر بل وبتر كل عضو أصابه مرض الفساد طالما يؤذي مؤسسة القضاء برمتها؛ فصلاح هذه الأخيرة رهين بصلاح كل قاض يرتدي روبها المقيد بيمين العدل ؛ والذي قال عنه النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم: "أشد الناس عذابا يوم القيامة من أشركه الله تعالى في سلطانه فجار في حكمه".
وفي هذا الإطار اتخذ المجلس الأعلى للقضاء في دورته العادية التي ابتدأت يوم 21 جمادى الأولى 1434 الموافق لـ 2 أبريل 2013 عقوبات تأديبية بشأن قضاة توبعوا بتهم يبدوا من خلالها أنهم أساؤوا إلى قدسية رسالة القضاء؛ وبالنظر للمرحلة الانتقالية التي يعيشها هذا المجلس؛ ولكون قراراته ستشكل وبلا شك تراكما اجتهاديا يقعد للمرحلة القادمة التي ستعرف تنزيلا للدستور الجديد بمجلس أعلى للسلطة القضائية سيضم أعضاء حقوقيين قد يكون من بينهم من ليس له تكوين ـــ معمق ـــ في القانون؛ فإننا سنحاول الإسهام بدراسات ترصد طريقة اشتغاله منذ مرحلة توجيه التهمة إلى البت فيها.
وبالإطلاع على قرارات المجلس الأعلى للقضاء في دورته الأخيرة شدت انتباهي بعض المتابعات التي لم أجد لها إطارا قانونيا ينظمها ؛ ذلك لأن الفصل 58 من النظام الأساسي لرجال القضاء ينص على أنه: " يكون كل إخلال من القاضي بواجباته المهنية أو بالشرف أو بالوقار أو الكرامة خطأ من شأنه أن يكون محل عقوبة تأديبية" ؛ فتكون بذلك المخالفات التأديبية وفق النظام الأساسي منحصرة في:
ــ الإخلال بالواجبات المهنية ؛
ــ الإخلال بالشرف ؛
ــ الإخلال بالوقار ؛
ــ الإخلال بالكرامة ؛
وإذا قمنا بتكملة النظام الأساسي بالمقتضيات الجديدة للدستور تنزيلا لهذا الأخير؛ فإن الفصل 109 منه ينص على أنه: " يعد كل إخلال من القاضي بواجب الاستقلال والتجرد خطأ مهنيا
جسيما" ؛ فيكون بذلك هذا الأخير قد أتى بمخافة تأديبية هي "الخطأ المهني الجسيم" مسايرة للقانون الفرنسي واجتهادات المجلس الأعلى للقضاء بفرنسا على ضوئه، محددا (أي الدستور المغربي) الخطأ المهني الجسيم في:
ــ الإخلال بواجب الاستقلال ؛
ــ الإخلال بواجب التجرد .
وإذا ثبتت متابعة قاض بـ " عدم التبرير لمصادر أموال" ، وآخر بـ "استغلال النفوذ" ، ومتابعة ذعادل فتحي بـ "الإخلال بواجب الحياد" رغم عدم وجود هاته المتابعات ضمن زمرة المخالفات التأديبية المنصوص عليها في الفصل 58 من النظام الأساسي أو الفصل 109 من الدستور؛ فإنه يتعين علينا التطرق لمبدأ الشرعية في علاقته بالمخالفة التأديبية (أولا) غير أنه وبالنظر لما يترتب عن تطبيق هذا المبدأ من مبادئ أخرى سيما خاصية ومبدأ التحديد وعدم العموم؛ فإننا سندرس كذلك المبدأ الأخير في علاقته بقرارات المجلس الأعلى للقضاء (ثانيا).
أولا: المخالفة التأديبية ومبدأ الشرعية
يقصد بمبدأ الشرعية أنه "لا جريمة (مخافة للقانون) إلا بنص" ؛ وقد شب جدل فقهي واسع حول حقيقة الصلة ومدى الارتباط بين المخالفة التأديبية ومبدأ الشرعية، لكن أشير ـــ بداية ـــ أنني لا أروم رصد مختلف الإتجاهات الفقهية التي نظرت لموضوع شرعية المخالفة التأديبية والتي نجم عنها عنها رأيان أحدهما مؤيد والآخر معارض ؛ نرى أن اختلافهما مرده لعدم تفريقهما بين مبدأ الشرعية وما ينجم عنه من مبادئ أخرى من قبيل عدم التوسع في تشريع المخالفة ووجوب تحديد المتابعة التأديبية ــ كما سنرى عند نهاية هذه الدراسة ــ .
وهكذا فقد استقر القضاء الإداري في مصر على أن: "تكييف الواقعة بما يجعلها من الذنوب الإدارية المستحقة للعقاب، إنما مرجعه إلى تقدير جهة الإدارة ومبلغ انضباط هذا التكييف على الواقعة المنسوبة إلى الموظف، من حيث الخروج على الواجب الوظيفي، أو الإخلال بحسن السير والسلوك المستأهل للعقاب بوصفه ذنبا إداريا " .
ويؤكد هذا التوجه الطبيعة الخاصة التي يتميز بها هذا النوع من المخالفات، فالشائع أن المشرّع يحرّم على الموظف ارتكاب مجموعة من الأفعال على وجه التحديد، وفي نفس الوقت يحظر عليه بنصوص عامة الخروج على واجبات الوظيفة أو الإخلال بكرامتها، أو سلوك ما يعد شائناً من الأعمال.
ويرى اتجاه فقهي أنّ مبدأ المشروعية يُعدّ ركناً من أركان المخالفة أو الجريمة التأديبية، مع اعترافه بالصعوبات التي تواجه تطبيق هذا المبدأ ؛ وحجتهم أنه إذا كان القانون التأديبي لا يتقيد بمبدأ الشرعية حسب مفهومه الجنائي، إلا أنّ ذلك لا يعني عدم الخضوع لقاعدة شرعية الخطأ التأديبي؛ فالشرعية هنا تأخذ لونا مختلفاً يتفق مع طبيعة القانون التأديبي، بحيث تتنوع مصادر الركن الشرعي بصورة تنسجم مع واجبات الوظيفة ومقتضياته .( محمد عثمان مختار محمد: الجريمة التأديبية بين القانون الإداري وعلم الإدارة العامة، دار الفكر العربي، القاهرة، 1973 ) .
كما ذهب آخر إلى القول:
"لذلك لا نتردد في الأخذ بالرأي القائل بلزوم الركن الشرعي لقيام الخطأ التأديبي، أما الرأي المخالف فلا يخلو من المغالطة التي جاءت نتيجة عدم الاعتراف بالطبيعة المميزة لمفهوم الشرعية هنا والذي يختلف عن مسألة حصر الأخطاء التأديبية أو عدمه؛ فمبدأ الشرعية يعني خضوع الإدارة للقانون، إلا أنّه يخولها في المجال التأديبي سلطة تقديرية لتحديد ما يعد خطأ تأديبياً، لاعتبارات تتعلق بأوضاع المرافق العامة، وهي التي تدعو للإبقاء على صفة المرونة، بالقدر الذي يجعل من الإشراف الرئاسي أمراً مجدياً حسب الظروف الخاصة بكل مرفق"( محمد عصفور: ضوابط التأديب في الوظيفة العامة، مجلة العلوم الإدارية، س 5 ، عدد 1 ، 1963 ).
وقد اعترف القضاء الإداري بهذه الخصوصية التي تتصف بها المخالفات التأديبية، فبعد أن أكدت المحكمة الإدارية العليا بمصر ضرورة التزام الموظف بالواجبات التي تنص عليها القوانين، تضيف قائلة:
"إن الأخطاء التأديبية قد ترتكب في أثناء القيام بالوظيفة أو بمناسبة أدائها، وذلك بمخالفة ما تفرضه من واجبات إيجابية أو نواه، يستوي في ذلك أن ترد هذه الواجبات في نصوص صريحة أو تفرضها طبيعة العمل الوظيفي"( مصطفى عفيفي: فلسفة العقوبة التأديبية وأهدافها، دراسة مقارنة، أطروحة دكتوراة، جامعة القاهرة، القاهرة، 1967 ) .
ثانيا: المخالفة التأديبية وعنصر أو مبدأ التحديد
1 ـ مفهوم عنصر التحديد:
يقصد بـ "عنصر التحديد" تحديد الفعل والوصف القانوني؛ وذلك بذكر ما إذا كان إخلالا بواجب مهني أم مساسا بشرف وكرامة المهنة أو ...؟؟؟
وللمخالفة التأديبية ركنين: مادي ومعنوي.
الركن المادي: ويتمثل في إخلال الموظف بواجباته، كالقيام بعمل محظور، أو عندما يمتنع أو يتراخى، عن القيام بعمل منوط به أو خروجه على التعليمات، ولو من غير قصد أو علم.
ولقيام العنصر المادي يجب توافر عنصر التحديد، وهذا يعني أن التصرف المكون للعنصر المادي يجب أن يكون له وجود ظاهر وملموس، يتمثل في عمل إيجابي كالتعدي بالقول أو الفعل على رئيس أو زميل، وقد يكون سلبيا كالإمتناع عن أداء عمل معين.
كما يشترط لتوافر العنصر المادي أن يكون محددا؛ فتوجيه اتهام للموظف دون تحديد الفعل الذي يأتيه لا يكون العنصر المادي للمخالفة التأديبية.
أما عن الركن المعنوي للمخالفة التأديبية، فيتحقق بالإدارة الآثمة أو غير المشروعة للموظف في اقتراف الفعل أو الترك المكون للركن المادي للمخالفة، مما يتعين معه على الموظف معرفة واجبات وظيفته ولا يقبل منه التذرع بعدم العلم بها أو عدم الإطلاع عليها .
فهذا المبدأ ليس غائباً أو غير مطبق، ولكنه يتسع بالقدر اللازم لشمول كافة الأفعال التي يمكن وقوعها واحتسابها إخلالاً بمقتضيات الوظيفة أو المهنة؛ إذ الأسلوب المتبع أن يتولى المشرع تعداد معظم الواجبات والمحظورات، ويذكر قسماً منها بألفاظ وعبارات محددة، لكنه يحتاط فيورد أحياناً عبارات عامة تسمح بإدراج ما يمكن أن ينضوي تحت مفهومها من الأفعال، وهو مضطر لاتباع هذا الأسلوب الذي تقتضيه طبيعة هذه المخالفات، لكن يتعين على السلطة التأديبية تحديد الفعل ولو كان عاما .
2 ـ مدى توفر عنصر التحديد في المخالفات التأديبية التي صدرت بشأنها عقوبات عن المجلس الأعلى للقضاء:
سبقت الإشارة إلى أنه ثمة متابعات تأديبية صدرت بشأنها عقوبات تأديبية عن المجلس الأعلى للقضاء الأخير، علما أن هذه المتابعات لا وجود لسند لها في القانون الأساسي لرجال القضاء وخاصة الفصل 58 منه ، كما لا وجود لها بالفصل 109 من الدستور؛ لكن قد يقول قائل أن ما اقترفه القاضي المعني من إخلاله بواجبه المهني "الحياد" أو "عجزه عن إثبات مصادر أمواله" أو "استغلال النفوذ" يشكل في حد ذاته ــ إن ثبت ــ إخلالا بالشرف أو بالواجبات المهنية طبقا للفص 58 من القانون الأساسي لرجال القضاء ، أو إخلالا بواجب الاستقلال أو التجرد طبقا للفصل 109 من الدستور؛ إلا أنني أرى على ضوء ما تقدم أن مبدأ التحديد وتجنب العموم يفرض عدم وصف ما هو متابع به القاضي موضوع التأديب بوصف غير مذكور في القانون.
لذلك يجب عدم التستر وراء ذريعة صعوبة تحديد كافة المخالفات التأديبية حصرا لطبيعة كل مهنة والواجبات الملقاة على كل موظف أو ... ذلك لكون هذه الصعوبة تواجه المشرع؛ أما حين يحدد هذا الأخير المخالفات التأديبية ولو على وجه العموم فعلى جهة المتابعة الركون إليها عند إشهار سيف المتابعة .
ولعل الغاية من ذلك هي تحقيق ثلاثة أهداف سامية:
ــ تحقيق مصلحة المعني بالمخالفة؛ حتى يعلم مسبقا بالأفعال المحظورة عليه والتي يؤدي اقترافها إلى تعرضه للعقاب الإداري؛
ــ منح فرصة للدفاع لمناقشة الفعل المرتكب في علاقته بالوصف الذي أقرته جهة التأديب والذي يجب أن يكون من بين المخالفات المحددة حصرا ولو شابها التعميم ؛
ــ منح محكمة الطعن إمكانية بسط رقابتها على التكييف المستند على مخالفات محددة من قبل المشرع ولو كانت عامة .
وهكذا فقد كان على السيد وزير العدل كجهة متابعة تحديد نوع المخالفة المهنية ولو اتسمت بالعموم ؛ كتلك المتعلقة بالإخلال بالواجبات المهنية أو الإخلال بواجب الشرف أو الاستقلال أو التجرد؛ والتي قد تتجسد في عدة أفعال مخالفة للقانون الجنائي أو غير مخالفة له طالما أن المخالفات التأديبية أشمل من المخالفات الزجرية .
وفي هذا الإطار ثمة متابعة تأديبية سميت بـ " عدم التبرير لمصادر أموال" رغم عدم وجود إطار قانوني لا تأديبي ولا حتى تجريمي يمكن الاستناد إليه ؛ حتى خلت الأمر يتعلق بقانون جديد بالمغرب وهو المسمى بــ "الكسب أو الإثراء غير المشروع Unjust Enrichment" أو قانون من أين لك هذا ، أو من أين لك كل هذا؟؟ وقد سبقتنا العديد من الدول إليه خاصة العربية منها ؛ ففي مصر صدر قانون الكسب غير المشروع رقم 62 لسنة 1975 ، وبسوريا صدر قانون الكسب غير المشروع رقم 64 لسنة 1958 ، كما أصدرت فلسطين قانون الكسب غير المشروع رقم 1 سنة 2005.
وبالمغرب يعد بنظري قانون الكسب غير المشروع مدخلا ليس لمحاربة الفساد فقط بل لاصطياد الحيثان الكبيرة التي تبقى بمنآى عن الملاحقة ؛ طالما تجد النيابة العامة (كجهة مكلفة بالاثبات) عقبات كأداء في سبيل إثبات المصدر غير المشروع للأموال التي يتحوز بها المشتبه فيه (ولو في إطار قانون مكافحة غسل الأموال لكون هذا الأخير يشترط وجود جريمة أولية تحصلت منها الأموال موضوع الغسل أو التبييض) ؛ لذلك فالأمر يحتاج إلى جرأة وشجاعة طالما الأمر يتعلق بجرائم أباطرة الأموال، فتكون بذلك النيابة العامة في منآى (أي غير ملزمة) عن إثبات المصدر غير المشروع للأموال المكتسبة؛ طالما يعد كسباً غير مشروع كل زيادة في الثروة يعجز المعني عن إثبات مصدرها؛ وفي انتظار الجرأة المذكورة نكون أمام عدم وجود إطار قانوني تجريمي يمكن الاستناد عليه من طرف السلطة المكلفة بتوجيه التهمة التأديبية، وحتى على فرض تبين لها ذلك يجب الاستناد إلى المخالفات المحددة حصرا سواء في إطار الفصل 58 من النظام الأساسي لرجال القضاء أو الفصل 109 من الدستور عند الاقتضاء .
خاتمة:
ونشير في الختام إلى أن غايتي من هذه الدراسة هي الارتقاء بالمجلس الأعلى للقضاء كمؤسسة دستورية تعيش مرحلتها الانتقالية بهدف إنتاج اجتهادات تقعيدية للمرحلة القادمة ، والتي ستضم تحت تسمية "المجلس الأعلى للسلطة القضائية" أشخاصا حقوقيين وآخرين قد لا يكون لهم تكوين ــ معمق ــ في القانون ؛ مما قد يجعل أي رصيد اجتهادي غير مؤسس قانونا بمثابة "الكبائر القانونية" التي يجب رفعها ضمانا لفاعلية الجزاء التأديبي وعدم تعسف السلطة التأديبية؛ لأنه كما قال جون لوك:"عندما ينتهي القانون يبدأ الطغيان ".
وقد ارتأيت الإسهام بدراسات تثري عمل هذه المؤسسة وتضع الأصبع على بعض الاختلالات التي شابت عملها لعقود؛ ارتقاء بمؤسساتنا الدستورية ؛ لأنه كما قال توماس بين: " حين يطرق الرقي باب أمة من الأمم يسأل أهنا فكر حر ؟؟ فإن وجده دخل، وإلا مضى " .
يعد تأهيل منظومة العدالة ومحاربة الفساد مدخلا لتخليق الحياة العامة ؛ لكون صلاح القضاء وتثبيت استقلاليته "لا ينعم به القضاة بل المتقاضين"، لذلك لا مناص من زجر بل وبتر كل عضو أصابه مرض الفساد طالما يؤذي مؤسسة القضاء برمتها؛ فصلاح هذه الأخيرة رهين بصلاح كل قاض يرتدي روبها المقيد بيمين العدل ؛ والذي قال عنه النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم: "أشد الناس عذابا يوم القيامة من أشركه الله تعالى في سلطانه فجار في حكمه".
وفي هذا الإطار اتخذ المجلس الأعلى للقضاء في دورته العادية التي ابتدأت يوم 21 جمادى الأولى 1434 الموافق لـ 2 أبريل 2013 عقوبات تأديبية بشأن قضاة توبعوا بتهم يبدوا من خلالها أنهم أساؤوا إلى قدسية رسالة القضاء؛ وبالنظر للمرحلة الانتقالية التي يعيشها هذا المجلس؛ ولكون قراراته ستشكل وبلا شك تراكما اجتهاديا يقعد للمرحلة القادمة التي ستعرف تنزيلا للدستور الجديد بمجلس أعلى للسلطة القضائية سيضم أعضاء حقوقيين قد يكون من بينهم من ليس له تكوين ـــ معمق ـــ في القانون؛ فإننا سنحاول الإسهام بدراسات ترصد طريقة اشتغاله منذ مرحلة توجيه التهمة إلى البت فيها.
وبالإطلاع على قرارات المجلس الأعلى للقضاء في دورته الأخيرة شدت انتباهي بعض المتابعات التي لم أجد لها إطارا قانونيا ينظمها ؛ ذلك لأن الفصل 58 من النظام الأساسي لرجال القضاء ينص على أنه: " يكون كل إخلال من القاضي بواجباته المهنية أو بالشرف أو بالوقار أو الكرامة خطأ من شأنه أن يكون محل عقوبة تأديبية" ؛ فتكون بذلك المخالفات التأديبية وفق النظام الأساسي منحصرة في:
ــ الإخلال بالواجبات المهنية ؛
ــ الإخلال بالشرف ؛
ــ الإخلال بالوقار ؛
ــ الإخلال بالكرامة ؛
وإذا قمنا بتكملة النظام الأساسي بالمقتضيات الجديدة للدستور تنزيلا لهذا الأخير؛ فإن الفصل 109 منه ينص على أنه: " يعد كل إخلال من القاضي بواجب الاستقلال والتجرد خطأ مهنيا
جسيما" ؛ فيكون بذلك هذا الأخير قد أتى بمخافة تأديبية هي "الخطأ المهني الجسيم" مسايرة للقانون الفرنسي واجتهادات المجلس الأعلى للقضاء بفرنسا على ضوئه، محددا (أي الدستور المغربي) الخطأ المهني الجسيم في:
ــ الإخلال بواجب الاستقلال ؛
ــ الإخلال بواجب التجرد .
وإذا ثبتت متابعة قاض بـ " عدم التبرير لمصادر أموال" ، وآخر بـ "استغلال النفوذ" ، ومتابعة ذعادل فتحي بـ "الإخلال بواجب الحياد" رغم عدم وجود هاته المتابعات ضمن زمرة المخالفات التأديبية المنصوص عليها في الفصل 58 من النظام الأساسي أو الفصل 109 من الدستور؛ فإنه يتعين علينا التطرق لمبدأ الشرعية في علاقته بالمخالفة التأديبية (أولا) غير أنه وبالنظر لما يترتب عن تطبيق هذا المبدأ من مبادئ أخرى سيما خاصية ومبدأ التحديد وعدم العموم؛ فإننا سندرس كذلك المبدأ الأخير في علاقته بقرارات المجلس الأعلى للقضاء (ثانيا).
أولا: المخالفة التأديبية ومبدأ الشرعية
يقصد بمبدأ الشرعية أنه "لا جريمة (مخافة للقانون) إلا بنص" ؛ وقد شب جدل فقهي واسع حول حقيقة الصلة ومدى الارتباط بين المخالفة التأديبية ومبدأ الشرعية، لكن أشير ـــ بداية ـــ أنني لا أروم رصد مختلف الإتجاهات الفقهية التي نظرت لموضوع شرعية المخالفة التأديبية والتي نجم عنها عنها رأيان أحدهما مؤيد والآخر معارض ؛ نرى أن اختلافهما مرده لعدم تفريقهما بين مبدأ الشرعية وما ينجم عنه من مبادئ أخرى من قبيل عدم التوسع في تشريع المخالفة ووجوب تحديد المتابعة التأديبية ــ كما سنرى عند نهاية هذه الدراسة ــ .
وهكذا فقد استقر القضاء الإداري في مصر على أن: "تكييف الواقعة بما يجعلها من الذنوب الإدارية المستحقة للعقاب، إنما مرجعه إلى تقدير جهة الإدارة ومبلغ انضباط هذا التكييف على الواقعة المنسوبة إلى الموظف، من حيث الخروج على الواجب الوظيفي، أو الإخلال بحسن السير والسلوك المستأهل للعقاب بوصفه ذنبا إداريا " .
ويؤكد هذا التوجه الطبيعة الخاصة التي يتميز بها هذا النوع من المخالفات، فالشائع أن المشرّع يحرّم على الموظف ارتكاب مجموعة من الأفعال على وجه التحديد، وفي نفس الوقت يحظر عليه بنصوص عامة الخروج على واجبات الوظيفة أو الإخلال بكرامتها، أو سلوك ما يعد شائناً من الأعمال.
ويرى اتجاه فقهي أنّ مبدأ المشروعية يُعدّ ركناً من أركان المخالفة أو الجريمة التأديبية، مع اعترافه بالصعوبات التي تواجه تطبيق هذا المبدأ ؛ وحجتهم أنه إذا كان القانون التأديبي لا يتقيد بمبدأ الشرعية حسب مفهومه الجنائي، إلا أنّ ذلك لا يعني عدم الخضوع لقاعدة شرعية الخطأ التأديبي؛ فالشرعية هنا تأخذ لونا مختلفاً يتفق مع طبيعة القانون التأديبي، بحيث تتنوع مصادر الركن الشرعي بصورة تنسجم مع واجبات الوظيفة ومقتضياته .( محمد عثمان مختار محمد: الجريمة التأديبية بين القانون الإداري وعلم الإدارة العامة، دار الفكر العربي، القاهرة، 1973 ) .
كما ذهب آخر إلى القول:
"لذلك لا نتردد في الأخذ بالرأي القائل بلزوم الركن الشرعي لقيام الخطأ التأديبي، أما الرأي المخالف فلا يخلو من المغالطة التي جاءت نتيجة عدم الاعتراف بالطبيعة المميزة لمفهوم الشرعية هنا والذي يختلف عن مسألة حصر الأخطاء التأديبية أو عدمه؛ فمبدأ الشرعية يعني خضوع الإدارة للقانون، إلا أنّه يخولها في المجال التأديبي سلطة تقديرية لتحديد ما يعد خطأ تأديبياً، لاعتبارات تتعلق بأوضاع المرافق العامة، وهي التي تدعو للإبقاء على صفة المرونة، بالقدر الذي يجعل من الإشراف الرئاسي أمراً مجدياً حسب الظروف الخاصة بكل مرفق"( محمد عصفور: ضوابط التأديب في الوظيفة العامة، مجلة العلوم الإدارية، س 5 ، عدد 1 ، 1963 ).
وقد اعترف القضاء الإداري بهذه الخصوصية التي تتصف بها المخالفات التأديبية، فبعد أن أكدت المحكمة الإدارية العليا بمصر ضرورة التزام الموظف بالواجبات التي تنص عليها القوانين، تضيف قائلة:
"إن الأخطاء التأديبية قد ترتكب في أثناء القيام بالوظيفة أو بمناسبة أدائها، وذلك بمخالفة ما تفرضه من واجبات إيجابية أو نواه، يستوي في ذلك أن ترد هذه الواجبات في نصوص صريحة أو تفرضها طبيعة العمل الوظيفي"( مصطفى عفيفي: فلسفة العقوبة التأديبية وأهدافها، دراسة مقارنة، أطروحة دكتوراة، جامعة القاهرة، القاهرة، 1967 ) .
ثانيا: المخالفة التأديبية وعنصر أو مبدأ التحديد
1 ـ مفهوم عنصر التحديد:
يقصد بـ "عنصر التحديد" تحديد الفعل والوصف القانوني؛ وذلك بذكر ما إذا كان إخلالا بواجب مهني أم مساسا بشرف وكرامة المهنة أو ...؟؟؟
وللمخالفة التأديبية ركنين: مادي ومعنوي.
الركن المادي: ويتمثل في إخلال الموظف بواجباته، كالقيام بعمل محظور، أو عندما يمتنع أو يتراخى، عن القيام بعمل منوط به أو خروجه على التعليمات، ولو من غير قصد أو علم.
ولقيام العنصر المادي يجب توافر عنصر التحديد، وهذا يعني أن التصرف المكون للعنصر المادي يجب أن يكون له وجود ظاهر وملموس، يتمثل في عمل إيجابي كالتعدي بالقول أو الفعل على رئيس أو زميل، وقد يكون سلبيا كالإمتناع عن أداء عمل معين.
كما يشترط لتوافر العنصر المادي أن يكون محددا؛ فتوجيه اتهام للموظف دون تحديد الفعل الذي يأتيه لا يكون العنصر المادي للمخالفة التأديبية.
أما عن الركن المعنوي للمخالفة التأديبية، فيتحقق بالإدارة الآثمة أو غير المشروعة للموظف في اقتراف الفعل أو الترك المكون للركن المادي للمخالفة، مما يتعين معه على الموظف معرفة واجبات وظيفته ولا يقبل منه التذرع بعدم العلم بها أو عدم الإطلاع عليها .
فهذا المبدأ ليس غائباً أو غير مطبق، ولكنه يتسع بالقدر اللازم لشمول كافة الأفعال التي يمكن وقوعها واحتسابها إخلالاً بمقتضيات الوظيفة أو المهنة؛ إذ الأسلوب المتبع أن يتولى المشرع تعداد معظم الواجبات والمحظورات، ويذكر قسماً منها بألفاظ وعبارات محددة، لكنه يحتاط فيورد أحياناً عبارات عامة تسمح بإدراج ما يمكن أن ينضوي تحت مفهومها من الأفعال، وهو مضطر لاتباع هذا الأسلوب الذي تقتضيه طبيعة هذه المخالفات، لكن يتعين على السلطة التأديبية تحديد الفعل ولو كان عاما .
2 ـ مدى توفر عنصر التحديد في المخالفات التأديبية التي صدرت بشأنها عقوبات عن المجلس الأعلى للقضاء:
سبقت الإشارة إلى أنه ثمة متابعات تأديبية صدرت بشأنها عقوبات تأديبية عن المجلس الأعلى للقضاء الأخير، علما أن هذه المتابعات لا وجود لسند لها في القانون الأساسي لرجال القضاء وخاصة الفصل 58 منه ، كما لا وجود لها بالفصل 109 من الدستور؛ لكن قد يقول قائل أن ما اقترفه القاضي المعني من إخلاله بواجبه المهني "الحياد" أو "عجزه عن إثبات مصادر أمواله" أو "استغلال النفوذ" يشكل في حد ذاته ــ إن ثبت ــ إخلالا بالشرف أو بالواجبات المهنية طبقا للفص 58 من القانون الأساسي لرجال القضاء ، أو إخلالا بواجب الاستقلال أو التجرد طبقا للفصل 109 من الدستور؛ إلا أنني أرى على ضوء ما تقدم أن مبدأ التحديد وتجنب العموم يفرض عدم وصف ما هو متابع به القاضي موضوع التأديب بوصف غير مذكور في القانون.
لذلك يجب عدم التستر وراء ذريعة صعوبة تحديد كافة المخالفات التأديبية حصرا لطبيعة كل مهنة والواجبات الملقاة على كل موظف أو ... ذلك لكون هذه الصعوبة تواجه المشرع؛ أما حين يحدد هذا الأخير المخالفات التأديبية ولو على وجه العموم فعلى جهة المتابعة الركون إليها عند إشهار سيف المتابعة .
ولعل الغاية من ذلك هي تحقيق ثلاثة أهداف سامية:
ــ تحقيق مصلحة المعني بالمخالفة؛ حتى يعلم مسبقا بالأفعال المحظورة عليه والتي يؤدي اقترافها إلى تعرضه للعقاب الإداري؛
ــ منح فرصة للدفاع لمناقشة الفعل المرتكب في علاقته بالوصف الذي أقرته جهة التأديب والذي يجب أن يكون من بين المخالفات المحددة حصرا ولو شابها التعميم ؛
ــ منح محكمة الطعن إمكانية بسط رقابتها على التكييف المستند على مخالفات محددة من قبل المشرع ولو كانت عامة .
وهكذا فقد كان على السيد وزير العدل كجهة متابعة تحديد نوع المخالفة المهنية ولو اتسمت بالعموم ؛ كتلك المتعلقة بالإخلال بالواجبات المهنية أو الإخلال بواجب الشرف أو الاستقلال أو التجرد؛ والتي قد تتجسد في عدة أفعال مخالفة للقانون الجنائي أو غير مخالفة له طالما أن المخالفات التأديبية أشمل من المخالفات الزجرية .
وفي هذا الإطار ثمة متابعة تأديبية سميت بـ " عدم التبرير لمصادر أموال" رغم عدم وجود إطار قانوني لا تأديبي ولا حتى تجريمي يمكن الاستناد إليه ؛ حتى خلت الأمر يتعلق بقانون جديد بالمغرب وهو المسمى بــ "الكسب أو الإثراء غير المشروع Unjust Enrichment" أو قانون من أين لك هذا ، أو من أين لك كل هذا؟؟ وقد سبقتنا العديد من الدول إليه خاصة العربية منها ؛ ففي مصر صدر قانون الكسب غير المشروع رقم 62 لسنة 1975 ، وبسوريا صدر قانون الكسب غير المشروع رقم 64 لسنة 1958 ، كما أصدرت فلسطين قانون الكسب غير المشروع رقم 1 سنة 2005.
وبالمغرب يعد بنظري قانون الكسب غير المشروع مدخلا ليس لمحاربة الفساد فقط بل لاصطياد الحيثان الكبيرة التي تبقى بمنآى عن الملاحقة ؛ طالما تجد النيابة العامة (كجهة مكلفة بالاثبات) عقبات كأداء في سبيل إثبات المصدر غير المشروع للأموال التي يتحوز بها المشتبه فيه (ولو في إطار قانون مكافحة غسل الأموال لكون هذا الأخير يشترط وجود جريمة أولية تحصلت منها الأموال موضوع الغسل أو التبييض) ؛ لذلك فالأمر يحتاج إلى جرأة وشجاعة طالما الأمر يتعلق بجرائم أباطرة الأموال، فتكون بذلك النيابة العامة في منآى (أي غير ملزمة) عن إثبات المصدر غير المشروع للأموال المكتسبة؛ طالما يعد كسباً غير مشروع كل زيادة في الثروة يعجز المعني عن إثبات مصدرها؛ وفي انتظار الجرأة المذكورة نكون أمام عدم وجود إطار قانوني تجريمي يمكن الاستناد عليه من طرف السلطة المكلفة بتوجيه التهمة التأديبية، وحتى على فرض تبين لها ذلك يجب الاستناد إلى المخالفات المحددة حصرا سواء في إطار الفصل 58 من النظام الأساسي لرجال القضاء أو الفصل 109 من الدستور عند الاقتضاء .
خاتمة:
ونشير في الختام إلى أن غايتي من هذه الدراسة هي الارتقاء بالمجلس الأعلى للقضاء كمؤسسة دستورية تعيش مرحلتها الانتقالية بهدف إنتاج اجتهادات تقعيدية للمرحلة القادمة ، والتي ستضم تحت تسمية "المجلس الأعلى للسلطة القضائية" أشخاصا حقوقيين وآخرين قد لا يكون لهم تكوين ــ معمق ــ في القانون ؛ مما قد يجعل أي رصيد اجتهادي غير مؤسس قانونا بمثابة "الكبائر القانونية" التي يجب رفعها ضمانا لفاعلية الجزاء التأديبي وعدم تعسف السلطة التأديبية؛ لأنه كما قال جون لوك:"عندما ينتهي القانون يبدأ الطغيان ".
وقد ارتأيت الإسهام بدراسات تثري عمل هذه المؤسسة وتضع الأصبع على بعض الاختلالات التي شابت عملها لعقود؛ ارتقاء بمؤسساتنا الدستورية ؛ لأنه كما قال توماس بين: " حين يطرق الرقي باب أمة من الأمم يسأل أهنا فكر حر ؟؟ فإن وجده دخل، وإلا مضى " .