شكل الإصلاح الذي لحِق ميدان الصفقات العمومية مؤخرا، والذي مر على دخوله حيز التنفيذ ما يناهز (10) أشهر، من خلال المرسوم رقم 2.12.349 المؤرخ بتاريخ 8 جمادى الأولى 1434 الموافق 20 مارس 2013، لبنة جديدة في مسلسل الإصلاحات القوية والجادة التي تهدف جعل الصفقات العمومية رافعة إستراتيجية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية[1]. هذا المرسوم الذي جاء كرد فعل قوي على سنوات من التعتيم و الجمود اللذان طالا مختلف الجوانب القانونية والاقتصادية و المالية والقضائية. خاصة أن أهميته تزداد يوما بعد يوم من خلال الارتفاع المضطرد للاعتمادات المخصصة لإنجاز الصفقات العمومية[2].
لكن و رغم مجموع الإصلاحات المحمودة التي جاء بها المرسوم الجديد و التي ستساهم ولا شك في الدفع بإبرام الصفقات العمومية إلى مستوى متقدم نوعا ما، إلا أن ذلك –حسب وجهة نظرنا – يظل قاصرا مادام أن المرسوم لم يعالج الاختلالات الأساسية التي تطبع هذا المجال من عقود.
ولعل أبرز الجوانب التي لا تزال محل تساؤل خاصة على مستوى آليات الإبرام و الرقابة هي :
أولا : ربط المسؤولية بالمحاسبة
لا شك أن أكبر غائب عن تسيير الشأن العام بالمغرب هو المسائلة والمحاسبة، هذا الذي ما فتئت الدراسات تشير إليه[3] على جميع الأصعدة، فأي مشروع إصلاحي لابد و أن ينطلق من ربط المسؤولية بالمحاسبة، عبر تفعيل آليات الرقابة الداخلية والخارجية وضمان استقلال القضاء ونزاهته. وينبغي في نظرنا أن لا ترمي المسائلة دائما إلى المحاسبة وإنزال العقاب فقط بل يجب أن تهدف أيضا إلى إجْزَالِ الشُكر للمصلحين بالتناسب مع الجهود المبذولة في القيام بالمهام والإبداع فيها.
ثانيا : مسألة تطبيق القانون
حيث لازال ميدان الصفقات العمومية محكوما بمرسوم، بعيدا عن الإطار التشريعي و صلاحيات البرلمان والذي يقول "محمد المسكاوي" رئيس الشبكة المغربية لحماية المال العام " يجب أن نتحرك في إطار القانون، يجب وضع آليات للزجر.. موضوع الصفقات العمومية يجب أن تخلق له آلية تابعة لرئاسة الحكومة بعيدا عن التدبير اليومي للإدارات المحلية، طبعا بآليات للتصريف و السرعة في تنفيذ الأعمال...)[4] ونحن بدورنا نتفق مع رأي الدكتور حيث أن مجال الصفقات العمومية لا بد أن يدخل ضمن الاختصاصات البرلمانية، علما أن المجلس الاقتصادي والاجتماعي راهن على الجمع بين القانون والنصوص التنظيمية التطبيقية ضمن جملة التوصيات التي تضمنها تقريره الخاص حول الموضوع[5].
ثالثا :غياب مدونة خاصة بالصفقات العمومية
فالتشتت الذي يطبع النصوص التي تهم هذا المجال، يجعل من الصعب الإلمام الضوابط القانونية لهذا المجال أمرا صعب المنال خاصة بالنسبة للمقاولات الصغرى والمتوسطة التي تعاني من قلة الموارد المالية التي تسمح لها بتعيين مستشارين متخصصين في مجال الإجراءات القانونية للصفقات العمومية.خاصة مع غياب المساندة العمومية لها، هكذا نجد مرسوم 20 مارس 2007 المتعلق بالصفقات العمومية ودفاتر الشروط الإدارية العامة إضافة إلى ظهير 28 غشت 1948 المتعلق برهن الصفقات، و المرسوم الملكي لسنة 1967 المتعلق بتنظيم المحاسبة العمومية، و الفصول من 241 إلى 256 من القانون الجنائي المتعلق بجريمة الرشوة، والفصل 769 من قانون الالتزامات و العقود الذي يحدد مسؤولية المهندس و المقاول، والمرسوم رقم 1975.12.30 المتعلق بمراقبة الالتزام بالنفقات، وغيرها. كل هذه النصوص لابد من جمعها في إطار مدونة خاصة للصفقات العمومية ، الأمر الذي سيسهل على جميع المهتمين والمتدخلين في هذا المجال من مقاولات وقضاة ودارسين وغيرهم من سهولة الاطلاع على الضوابط المنظمة للصفقات.
رابعا : الثغرات القانونية
حيث الملاحظ من قراءة المرسوم الجديد أن المشرع المغربي ترك العديد من الثغرات القانونية، والتي يمكن أن تشكل ممرا خطيرا و مؤثرا على مسار الصفقات العمومية. من بينها تلك المتعلقة بعدم اجتماع الأعضاء الذين يعتبر حضورهم إجباريا لاستكمال مسطرة فحص العروض في آجال معقولة بعد الجلسة الأولى لفتح الأظرفة . وعدم النص على إجراء ردعي مترتب عن عدم نشر البرنامج التوقعي إضافة إلى عدم إشارة المشرع إلى ضرورة الإعلان في صحف وطنية ذات توزيع جيد أو متوسط تفاديا للجوء إلى الجرائد ذات التوزيع الضعيف. وغيرها من الثغرات التي لابد من سدها تفاديا لضياع المال العام.
خامسا : نشر المعلومات وتسهيل الولوج إليها
فميدان الصفقات العمومية خصوصا يعاني من شح كبير في الإحصاءات الرسمية الدورية و المُحَينَةِ بشكل منتظم حسب معايير مختلفة : أنواع الصفقات، موضوعاتها، مبالغها ، نائلوها وغير ذلك من المعطيات الضرورية للباحث الأكاديمي و الفاعل الاقتصادي وكذلك المواطن كرقيب خارجي على صرف الأموال العمومية، بدل التعتيم الذي يعيشه هذا المجال منذ مدة طويلة. ونسجل هنا المجهودات الكبيرة التي تقوم بها العديد من فعاليات المجتمع المدني من أمثال ترانسبرانسي المغرب و الشبكة المغربية لحماية المال العام في خلق مغرب مبني على الشفافية والوضوح.
سادسا : دفاتر التحملات
أو المنطقة التي يسكنها الشيطان[6] والتي أكدت التجارب في السابق أنها تكون مصنوعة على المقاس. والتي لا تزال إلى حد اليوم مرتعا للفساد والمحسوبية والزبونية. وقد كان من الأولى مواكبة إصلاح دفاتر التحملات مع إصلاح مرسوم الصفقات العمومية،
سابعا : سلبية المتنافسين
أو ما يطلق عليهم بالمقصيين اتجاه رفض ملفاتهم. فرغم انه منذ مرسوم 1998 تم منحهم الحق في المطالبة بأسباب إقصائهم فإن أغلبيتهم لا يستعملون هذا الحق. وهذه الحالة و إن كانت غير داخلة بشكل مباشر في سلطات الإدارة العامة إذ تبقى ملتصقة أكثر بالمتنافسين.
إن إصلاح النصوص ، مهما كان نطاقه، ليس هو الذي سيؤدي إلى تراجع الرشوة في مجال الصفقات العمومية، بشكل واضح وذا دلالة، ولكن ما سيجعلها تتراجع هو بالأساس تفعيل إجراءات المواكبة، وتدعيم المراقبة مع فرض نظام للعقوبات الإدارية أو القضائية التي من طبيعتها أن تشجع التطبيق الفعلي للنصوص.[7]
عموما فإن الإصلاحات التي شهدها المغرب منذ 2011 تزامنا مع الربيع العربي والتي تمخض عنها مراجعة للدستور مرورا بالعديد من المستجدات التي همت مختلف الجوانب كان آخرها صدور مرسوم 20 مارس المتعلق بالصفقات العمومية، تبين و بوضوح أن ميدان الصفقات العمومية على الخصوص بدأ يخرج من النفق المظلم، خاصة مع تبلور الإرادة السياسية للحكومة الحالية التي تخلصت إلى حد ما من " رُهَابِ " المعايير و التزامات المغرب الدولية التي ما فتئت السلطات ترفعها من قبلُ للتصدي لأي طرح، خاصة ذلك الذي يقضي بمنح الأفضلية للمقاولة الوطنية أو إعطاء المقاولات الصغرى والمتوسطة حصة ثابتة من قيمة الصفقات.
مقتطف من بَحْثي لنيل الإجازة في القانون العام قدمته للمناقشة برسم الموسم الجامعي 2013-2014
لم يَسبق أن نشرته
لكن و رغم مجموع الإصلاحات المحمودة التي جاء بها المرسوم الجديد و التي ستساهم ولا شك في الدفع بإبرام الصفقات العمومية إلى مستوى متقدم نوعا ما، إلا أن ذلك –حسب وجهة نظرنا – يظل قاصرا مادام أن المرسوم لم يعالج الاختلالات الأساسية التي تطبع هذا المجال من عقود.
ولعل أبرز الجوانب التي لا تزال محل تساؤل خاصة على مستوى آليات الإبرام و الرقابة هي :
أولا : ربط المسؤولية بالمحاسبة
لا شك أن أكبر غائب عن تسيير الشأن العام بالمغرب هو المسائلة والمحاسبة، هذا الذي ما فتئت الدراسات تشير إليه[3] على جميع الأصعدة، فأي مشروع إصلاحي لابد و أن ينطلق من ربط المسؤولية بالمحاسبة، عبر تفعيل آليات الرقابة الداخلية والخارجية وضمان استقلال القضاء ونزاهته. وينبغي في نظرنا أن لا ترمي المسائلة دائما إلى المحاسبة وإنزال العقاب فقط بل يجب أن تهدف أيضا إلى إجْزَالِ الشُكر للمصلحين بالتناسب مع الجهود المبذولة في القيام بالمهام والإبداع فيها.
ثانيا : مسألة تطبيق القانون
حيث لازال ميدان الصفقات العمومية محكوما بمرسوم، بعيدا عن الإطار التشريعي و صلاحيات البرلمان والذي يقول "محمد المسكاوي" رئيس الشبكة المغربية لحماية المال العام " يجب أن نتحرك في إطار القانون، يجب وضع آليات للزجر.. موضوع الصفقات العمومية يجب أن تخلق له آلية تابعة لرئاسة الحكومة بعيدا عن التدبير اليومي للإدارات المحلية، طبعا بآليات للتصريف و السرعة في تنفيذ الأعمال...)[4] ونحن بدورنا نتفق مع رأي الدكتور حيث أن مجال الصفقات العمومية لا بد أن يدخل ضمن الاختصاصات البرلمانية، علما أن المجلس الاقتصادي والاجتماعي راهن على الجمع بين القانون والنصوص التنظيمية التطبيقية ضمن جملة التوصيات التي تضمنها تقريره الخاص حول الموضوع[5].
ثالثا :غياب مدونة خاصة بالصفقات العمومية
فالتشتت الذي يطبع النصوص التي تهم هذا المجال، يجعل من الصعب الإلمام الضوابط القانونية لهذا المجال أمرا صعب المنال خاصة بالنسبة للمقاولات الصغرى والمتوسطة التي تعاني من قلة الموارد المالية التي تسمح لها بتعيين مستشارين متخصصين في مجال الإجراءات القانونية للصفقات العمومية.خاصة مع غياب المساندة العمومية لها، هكذا نجد مرسوم 20 مارس 2007 المتعلق بالصفقات العمومية ودفاتر الشروط الإدارية العامة إضافة إلى ظهير 28 غشت 1948 المتعلق برهن الصفقات، و المرسوم الملكي لسنة 1967 المتعلق بتنظيم المحاسبة العمومية، و الفصول من 241 إلى 256 من القانون الجنائي المتعلق بجريمة الرشوة، والفصل 769 من قانون الالتزامات و العقود الذي يحدد مسؤولية المهندس و المقاول، والمرسوم رقم 1975.12.30 المتعلق بمراقبة الالتزام بالنفقات، وغيرها. كل هذه النصوص لابد من جمعها في إطار مدونة خاصة للصفقات العمومية ، الأمر الذي سيسهل على جميع المهتمين والمتدخلين في هذا المجال من مقاولات وقضاة ودارسين وغيرهم من سهولة الاطلاع على الضوابط المنظمة للصفقات.
رابعا : الثغرات القانونية
حيث الملاحظ من قراءة المرسوم الجديد أن المشرع المغربي ترك العديد من الثغرات القانونية، والتي يمكن أن تشكل ممرا خطيرا و مؤثرا على مسار الصفقات العمومية. من بينها تلك المتعلقة بعدم اجتماع الأعضاء الذين يعتبر حضورهم إجباريا لاستكمال مسطرة فحص العروض في آجال معقولة بعد الجلسة الأولى لفتح الأظرفة . وعدم النص على إجراء ردعي مترتب عن عدم نشر البرنامج التوقعي إضافة إلى عدم إشارة المشرع إلى ضرورة الإعلان في صحف وطنية ذات توزيع جيد أو متوسط تفاديا للجوء إلى الجرائد ذات التوزيع الضعيف. وغيرها من الثغرات التي لابد من سدها تفاديا لضياع المال العام.
خامسا : نشر المعلومات وتسهيل الولوج إليها
فميدان الصفقات العمومية خصوصا يعاني من شح كبير في الإحصاءات الرسمية الدورية و المُحَينَةِ بشكل منتظم حسب معايير مختلفة : أنواع الصفقات، موضوعاتها، مبالغها ، نائلوها وغير ذلك من المعطيات الضرورية للباحث الأكاديمي و الفاعل الاقتصادي وكذلك المواطن كرقيب خارجي على صرف الأموال العمومية، بدل التعتيم الذي يعيشه هذا المجال منذ مدة طويلة. ونسجل هنا المجهودات الكبيرة التي تقوم بها العديد من فعاليات المجتمع المدني من أمثال ترانسبرانسي المغرب و الشبكة المغربية لحماية المال العام في خلق مغرب مبني على الشفافية والوضوح.
سادسا : دفاتر التحملات
أو المنطقة التي يسكنها الشيطان[6] والتي أكدت التجارب في السابق أنها تكون مصنوعة على المقاس. والتي لا تزال إلى حد اليوم مرتعا للفساد والمحسوبية والزبونية. وقد كان من الأولى مواكبة إصلاح دفاتر التحملات مع إصلاح مرسوم الصفقات العمومية،
سابعا : سلبية المتنافسين
أو ما يطلق عليهم بالمقصيين اتجاه رفض ملفاتهم. فرغم انه منذ مرسوم 1998 تم منحهم الحق في المطالبة بأسباب إقصائهم فإن أغلبيتهم لا يستعملون هذا الحق. وهذه الحالة و إن كانت غير داخلة بشكل مباشر في سلطات الإدارة العامة إذ تبقى ملتصقة أكثر بالمتنافسين.
إن إصلاح النصوص ، مهما كان نطاقه، ليس هو الذي سيؤدي إلى تراجع الرشوة في مجال الصفقات العمومية، بشكل واضح وذا دلالة، ولكن ما سيجعلها تتراجع هو بالأساس تفعيل إجراءات المواكبة، وتدعيم المراقبة مع فرض نظام للعقوبات الإدارية أو القضائية التي من طبيعتها أن تشجع التطبيق الفعلي للنصوص.[7]
عموما فإن الإصلاحات التي شهدها المغرب منذ 2011 تزامنا مع الربيع العربي والتي تمخض عنها مراجعة للدستور مرورا بالعديد من المستجدات التي همت مختلف الجوانب كان آخرها صدور مرسوم 20 مارس المتعلق بالصفقات العمومية، تبين و بوضوح أن ميدان الصفقات العمومية على الخصوص بدأ يخرج من النفق المظلم، خاصة مع تبلور الإرادة السياسية للحكومة الحالية التي تخلصت إلى حد ما من " رُهَابِ " المعايير و التزامات المغرب الدولية التي ما فتئت السلطات ترفعها من قبلُ للتصدي لأي طرح، خاصة ذلك الذي يقضي بمنح الأفضلية للمقاولة الوطنية أو إعطاء المقاولات الصغرى والمتوسطة حصة ثابتة من قيمة الصفقات.
مقتطف من بَحْثي لنيل الإجازة في القانون العام قدمته للمناقشة برسم الموسم الجامعي 2013-2014
لم يَسبق أن نشرته
[1] رأي المجلس الاقتصادي و الاجتماعي, "الصفقات العمومية رافعة إستراتيجية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية", إحالة ذاتية رقم7/2012 ص.1.
[2] و لا أدَّل على ذلك من تخصيص قانون المالية لسنة 2014، لـ 186 مليار درهم للمجهود الاستثماري، و التي ستترجم و لا شك على شكل صفقات.
[3] من ضمن هذه التقارير والدراسات ما قام به مجلس المنافسة و الذي كلف مكتب الدراسات " مازار" بإجراء دراسة حول معيقات الصفقات العمومية بالمغرب و التي خلصت هذه الدراسة في الأخير إلى أن السبب الرئيسي هو ضعف المراقبة.
[4] كلمة رئيس الشبكة المغربية لحماية المال العام، الأستاذ محمد المسكاوي في حوار لموقع الأخبار 24 متاح في إطار يوم تواصلي حول " واقع اختلالات الصفقات العمومية و الاستثمار: نماذج وشهادات " (متاح على موقع اليوتوب على الرابط التالي :
https://www.youtube.com/watch?v=cN-76AD5v80
https://www.youtube.com/watch?v=cN-76AD5v80
[5] تقرير المجلس الاقتصادي والاجتماعي,"الصفقات العمومية رافعة إستراتيجية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية",إحالة ذاتية رقم 7/ 2012.ص 9
[6] بلال التليدي, ملاحظات على مشروع مرسوم الصفقات اللجنة الوطنية للطلبيات العمومية, مقال منشور بجريدة التجديد, بتاريخ 2013.04.08.
[7] أخبار ترانسبرانسي, نشرة مرصد الرشوة, , العدد 6, يونيو 2009, ص.16.