بعد الكلمة الترحيبية التي تقدم بها عبد الحكيم المرابط مسير الجلسة، تم تسليم الكلمة إلى الأستاذ د.هشام الإدريسي، بصفته ممثلا لشعبة القانون العام والعلوم السياسية بكلية العلوم القانونية والاقتصاديةوالاجتماعية – أكدال، حيث اعتبر هذا الأخير بأن هذا اللقاء هو فرصة لتجديد التواصل بين الكلية والطلبة والباحثين،كما أن اختيار موضوع مؤسسات الحكامة بالمنظومة الدستوريةيعبر عن مدىالاهتماموالتتبع للمواضيع التي تطبع وتثير النقاش العام بعد دستور 2011، خاصة النقاش المتعلق بوظائف مؤسسات الحكامة، وكيفية إحداثها، وأهمية الصلاحيات التي ستوكل إليها.
وفي إطار علاقة الشعبة بالتنظيمات القانونية داخل الكلية،أكد الأستاذ ممثل الشعبة، بأن لا مفر للجامعة من تشجيعمثل هذه المنتديات والدفع بها إلى تنوير البحث العلمي داخل الحرم الجامعي،وأضافأن في تعدد مثل هذه المنتديات وتغطيتها للعديد من المجالات،فائدة كبيرة تتجلى بالخصوص في تحقيق التكامل بين جميع التخصصات، بهدف إثراء الكلية بالأنشطة التي تجر النفع على كل من الطالب والكلية. وتمنى بذلك النجاج لتجربة المنتديات، واعتبر أن في استدعاء أستاذ بقيمة د. عبد الإله فونتير الخبير القانوني في مجال التشريع؛لتقديم تصوره العلمي كباحث وخبير؛فرصة للإجابة على تساؤلات من قبيل: كيف ستساهم مؤسسات الحكامة في ضبط ترشيد النفقات العمومية ومراقبة قضايا حقوق الانسان؟ كيف ستشتغل هذه المؤسسات؟ ماهي طبيعة النقاش الذي ستطرحه على مستوى الحكومة والبرلمان والمجتمع المدني؟
وبعده، قدمرئيس المنتدى فؤاد بلحسن، كلمة قدم فيها الشكر للأستاذالمحاضر على قبول الدعوة، وشَكر الحضور والعمادة والشعبة، ثم عرض تعريفا موجزا بالمنتدى والأهداف التي يسعى إلى تحقيقيها ودعا الباحثين والطلبة إلى الانخراط في ديناميته الداخلية للمساهمة في خلق أنشطة علمية جديدة.عقب ذلك،عاد مسير الجلسة من جديد ليقدم نبذة عن المسار المعرفي والمهني الطويل والغنيللأستاذالقدير د. عبد الاله فونتير.
₪وفيما يلي مداخلة الأستاذ المحاضر:
أبى الأستاذ فونتير قبل بداية مداخلته إلا أن يعرج على ذكر مفارقة غريبة يعيشها،وهي أن اشتغاله برحاب مكاتب الادارة العمومية لم يثنه عن تحصيل المعرفة وارتشاف كؤوس العلم، وهو في تعبيره نوع من العذاب الذي يعانيه الموظفون عندما يحاولون الجمع بين ضرورات لقمة العيش وحب اكتساب المعرفة والسير في مسيرة العلم.
وفي معرض تبريره أسباب اختيارالموضوع، استدلالأستاذ بأن المخاض والسياق الذي تعيش فيه الدولة سواء على مستوى التنظير الفكري أو الواقع السياسي المعيش،ساهم في إحداث نقلة فعلية تفاعلت فيها عوامل سياسية،اجتماعية، اقتصادية وقيمية في لحظة تاريخية،لإخراج دستور بعمق جديد يزيحه عن النسق الدستوري المعتاد، معتبرا أن مختلف التجارب الدستورية التي عرفها المغرب كانت كلها عبارة عن دساتير ومراجعات معيارية غلب عليها هاجس إحكام الصياغة وضبط المفاهيم.
ويجد الأستاذ بعد تمعنه في الدستور الجديد، أن في عمقه مقتضيات فلسفة سياسية تعود إلى برنامج سياسي سبق وأن طرح من طرف أحزاب في حقبة زمنية معينة،أكثر من كونهدستورا معيارياتحدَّد به قواعد سير الحكم وتنظيم العلاقة بين مؤسسات الدولة التقليدية.
وانطلق في تقديمه مستجدات الدستور الجديد من خلال عرضه للملاحظات التالية:
الملاحظة الأولى: أن الدستوري الحاليانتقل من الانكباب على تأطير العلاقة بين المؤسسات التقليديةللدولة إلى البحث عن موقعلهاداخل المشهد المؤسساتي، وذلك بإضافة جرعات جديد إلى اختصاصاتها؛ بهدف تقوية أدوارهاوضبط العلاقات فيما بينها؛
الملاحظة الثانية:أن الدستور الجديد كرس جيلا جديدا من الحقوق والحريات، والتي كانت فيما قبل عبارة عن شعارات.ويتجلى ذلك في مأسستهلمجموعة من الحريات الاقتصاديةوالاجتماعية (الحق في الماء، الحق في التغذية السليمة،الحق في النقل،الحق في السكن، الحق في بيئة سليمة) والحقوق الفئوية(تكريس حماية الدولة لحقوق الأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة،والعجزة والنساء والأشخاص في وضعية هشة).
وبخصوص الجيل الجديد من المؤسسات الدستورية، اكتفى الأستاذ بتقسيمها إلى ثلاث فئات، وذلك طبقا لما جاء به الدستور الحالي، دون الخوض في المغزى من هذا التصنيف وهي:
الفئة الأولى: المؤسسات الحقوقية: مؤسسة الوسيط، مؤسسة الجالية المغربية المقيمة بالخارج، المجلس الاستشاري الوطني لحقوق الانسان؛
الفئة الثانية: مؤسسات الحكامة الجيدة: الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري، الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها، مجلس المنافسة؛
الفئة الثالثة: الهيئات المكلفة بالنهوض بالتنمية البشرية والمستدامة والديمقراطية التشاركية.
وللدخول إلى عمق النقاش المتعلق بموضوع الدرس الافتتاحي، نبه المحاضرإلى أنه لن يخوض في طرح السؤال -الذي سماه بسؤال التداخل- المتعلق بمدى تـوَفق المشرع الدستوري في جعل هذه المؤسسات تنهض بوظائف معينة في إطار النسق المؤسساتي العام للدولة،من منطلق اعتباره أن كل هذه المؤسسات هي مؤسسات حقوقية وفي نفس الوقت هي مؤسسات للحكامة، كما برر ذلك أن هذا التساؤل سيقود به إلى استعراض المذاهب الفقهية في ذلك،. وعليه فالتساؤلات المهمة لديه هي:
هل هذه ا لمؤسسات هي مؤسسات وظيفية أم أنها مؤسسات تقليدية متداخلة مع المؤسسات القائمة؟
هل كان بإمكان المشرع الدستوري عرض هذه المؤسسات في نصص الدستور دون تصنيفيها؟
هل هي مؤسسات تتكلف بوظائف معينة أم أن وظائفها تؤدي إلى شيء من التداخل مع المؤسسات التقليدية للدولة؟
ما هو موقع هذه المؤسسات ضمن خريطة مؤسسات الحكم، بمعنى فيما إذا كانت هذه المؤسسات ذات طابع تقريري أو استشاري، أو لها صلاحيات السلطة العمومية أم أنها مجرد سلطات مكملة؟
هل يتعلق الأمر بفضاءات للنقاش العمومي المفتوح لاحتواءالاقتراحات ومرافعات المجتمع المدني أم أن الأمر يتعلق بمؤسسات لها ارتباط بالدولة باعتبارها مؤسسات دستورية؟
وتساؤل أخير حول ما إذا كانت طبيعة الأدوار التي ستؤديها هذه المؤسسات، ستعمل على تعويض الأدوار التي يقوم بها المجتمع المدني.مع العلم أن هذا الأخير يشكل قوة فاعلة لا يمكن التنكر أو التنازل عنها.
حسبتقديره، فالذي يهم في كل هذه الأسئلة، ليس هو تقديم جواب شاف لكل الأسئلة المطروحة، لأن ذلك من اختصاص المشرع.ولكن الذي يشغل باله هو وجود حاجة الى التأملوالتفكر حول الأدوار التي ستنهض بها مؤسسات الحكامة في ظل تواجد مشهد مؤسساتي متعدد المشارب والأطياف.
والتساؤل الفرعي المنبثق عن هذه الأسئلةهو: لماذا ارتقى المشرع ببعض المؤسسات إلى مؤسسات دستورية؟فهلالارتقاء بها الى درجة الدستورية يمكن أن يجعل منها مؤسسات تحل محل المؤسسات المسؤولة سياسيا والمنبثقة ديمقراطيا؟
وفي معرض الأطروحة التي دافع عنها الأستاذ طيلة مداخلته حول وظائف مؤسسات الحكامة بالمنظومة الدستورية،أقر، وبشكل حاسم، أنه لا يمكن لهذه المؤسسات أن تحل محل المؤسسات التقليدية المنبثقة ديمقراطيا؛ وعليه فالوظائف التي ستعهد إليها لا يمكنأن تخرج عن سياق الوظائف التكميلية لدولة القانون.
واسترسل في الدفاع عن أطروحته هاته، بالانطلاق من تقسيم وظائف مؤسسات الدولة إلىوظائف تقريرية ووظائف للترافع من أجل النهوض بقضايا معينة، ووظائف تتعلق بالتقييم والتتبع،ووظائف للتأطير.
وحول الفرضية التي تعتبر وظيفة مؤسسات الحكامة وظيفة تقريرية، قام المتدخل بتفنيدها، مبررا ذلك بأن سلطة التقرير لا يمكن أن تعهد إلا للمؤسسات التي لها مواصفات السلطة العمومية. وعليه فبناء التصورلإحداث مؤسسات الحكامة ينطلق من اعتبار وظائفها تهدف إلى تكميل وظائف المؤسسات التقليدية للدولة لا أن تقوم مقامها.إذا فمن خلال هذا الطرح، لا يمكنالحديث عن وظائف تقريرية لمؤسسات الحكامة الدستوريةلأن التقرير،في نظر المتدخل، هو بيد السلطات التي تشكل العماد الأساسي لقيام الدولة.
وقد ميز بين الوظائف التكميلية بين التوجهات التالية: فإماأن تكون لهذه الوظائف قوة اقتراحيةفي القضايا الثقافية والسوسيو-اقتصادية،أو وظيفة استشاريةتكسبها صوتاإلى جانب صوت المجتمع المدني، أو وظيفة الرصد والتتبع والتقييم من أجل قياس الفعل والنتائج المحققة في تنفيذ السياسات العمومية والبرامج الحكومية وتصحيح الاعوجاجات المسجلة، فالتقييم في رأيه لا يؤتي أكله بالتقارير المزاجية المدفوعة من جهات معينة لأغراض برغماتية مبنية على منطق التصيد.
إلى جانب هذه الوظائف،أضاف الأستاذ المحاضر وظيفة الترافع والتي بمقتضاها يمكن لهذه المؤسسات أن تقدم ملفات مطلبية والترافع عنها،وذلك لإرساء حق من الحقوق أو لفت انتباه الحكومة لاتخاذإجراءات معينة أو ولنهج سياسات عمومية فعالة؛فآلية الترافع، في نظره، هي لغة نقابية وهي في نفس الوقت آلية تجبر الدولة على اتخاذ مجموعة من الإجراءات لتجاوز العديد من المعضلات والإخفاقات.
الوظيفة الأخيرة في إطار مايسمى بالوظائف التكميلية التي عرضها المحاضر ضمن طرحه، وهي وظيفة بمقتضاها يتم توعية الرأي العام ومؤسسات الحكم حولالمهام الملقاة على عاتقهم، مثل التوعية حول ظاهرةالاحتكارأو التركيز الاقتصادي،فمجلس المنافسة مثلا ينبغي أن يقوم بدوره في هذا الشأن، ليس من باب النصوص والمذكرات والتوصيات،وإنما من باب توعية الفاعلين الاقتصادي والاجتماعين وقوى الحركة الاستهلاكية حول مخاطر هذه الظاهرة.
وبهدف تعميق النقاش حول الاشكاليات التي تحيط أدوار ورهانات مؤسسات الحكامة، اعتبر الأستاذ د. عبد الإله فونتير أن محاولة خلق التفاعل، وبإيجابية، بين مؤسسات الحكامة والوظائف المعروضة اعلاه، يقود إلى ترجيح مسألة الإعتراف بأدوار التكميلية، وضرورة الحرص على تفعيل هذه الأدوار.
وقد هذا الطرح بالمحاضر إلى التساؤلحول الرهانات؛ حيث عرضها، بتفصيل، على الشكل التالي:
الرهان الأول:إعادة صياغة الأدوار التي تقوم بها المؤسسات القائمة مثل مجلس المنافسة والهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها. وبخصوص مطلب استقلالية هذه الهيئات، أكدأن ما ينبغي أن يفهم منه، هو الاستقلالية في الوظائف والمهام والنهوض بالأعباء الملقاة على عاتق هذه المؤسسات وليس الاستقلال المالي، لأنه لا يمكن استثناءأي مؤسسة من مؤسسات الدولة من المراقبة المالية.
الرهان الثاني: إعادة رسم الأهداف المتوخاة. والسؤال المطروح بهذا الخصوص هو: هل الرهان منصب على استكمال وتتميم المشهد الدستوريبإحداثمؤسسات الحكامة الدستورية فقط،أم أن الأمر مجرد اقتباس لأنماط مؤسساتية منصوص عليها بدساتير أخرى،أم أن الأمر يتعلق بمؤسسات ستشتغل على تكريس وتقوية الديمقراطية داخل الدولة؟
الرهان الثالث : رهان ضمان التناسق والتكامل بين عمل هذه المؤسسات وبين الأدوار التي تقوم بها المؤسسات التقليدية للدولة؛ وذلك لتفادي الشرود والخروج عن المعقول في الإطار الذي سيحفظ التكامل ويرسم الحدود بينهما من جهة، ومن جهة أخرى لتجنب تضخيم الأدوار بالشكل الذي يجعلها تحل محل هذه الأخيرة.
إذا فالحاجة الى تدخل محترفين على مستويي الخرائطية السياسية والخرائطية التقنية، يعتبر ضروريا في هذه المرحلة لتوليد جيل جديد من المؤسسات الداعمة للحكامة والمكرسة لقيام دولة القانون.
موجز للنقاش التفاعلي:
التساؤلات والأفكار المطروحة أثناء المناقشة:
ألن يشكل إحداث بعض من مؤسسات الحكامة الدستورية عبئا جديدا على الدولة؟
كيف يمكن ضبط والتحكم في الإشكال المتعلق بالنخبة التي ستشتغل بأجهزة هذه المؤسسات؟
ماهي المحددات التي من شأنها المساهمة والحسم في الرفع من كفاءة هذه المؤسسات؟ وما الأهم هنا، النص القانوني أم الممارسة؟
كيف يمكن دمقرطة الولوج إلى أجهزة هذه المؤسسات؟
ما هو السبيل الذي يمكن أن تنتهجه مؤسسات الحكامة بغية فرض شخصيتها والتموقع بأدوار طلائعية ضمن المنظومة المؤسساتية؟
هل يمكن اعتبار بعض من الصلاحيات التقريرية لمجلس المنافسة بمثابة نوع من التطاول على الصلاحيات التي تضطلع بها المؤسسات التقليدية للدولة؟
لماذا لم يحسم القانون في الاختصاصات والمهام التي ينهض بها مجلس المنافسة؟
كيف يمكن للاعتراف بالاستقلال المالي لهذه المؤسسات أن يساهم في حيادها؟
ألا يمكن إضافة رهان التوازن بين مؤسسات الحكامة والمؤسسات التقليدية للدولة إلى رهان التناسق والتكامل؟
ما هو المغزى من التنصيص على هذه المؤسساتانطلاقا من الهندسة الدستورية؟
هل الحراك العربي«الربيع العربي» هو منأرغم المشرع الدستوري على دسترة مثل هذه الهيئات؟
كيف يمكن رسم الثقة بهذه المؤسسات؟
في معرض رده على هذه التساؤلات لخص الأستاذ القدير إجاباته في النقاط التالية:
استنباط فكرة الوظائف التكميلية لمؤسسات الحكامة نابع من موقع المقتضيات الدستورية التي خُصصت لها بالدستور، والتي جاءت بعد الأبواب المخصصة للملك والبرلمان والحكومة؛
مطلب الاستقلالية، يتلخص في تخويل مؤسسات الحكامة استقلالا في الصلاحيات والنهوض بالمهام التي ستعهد إليها؛
بخصوص قضية الدمقرطة الداخلية، ومن منطلق دراسة تاريخ بِناء مؤسسات الدولة، فالنصوص القانونية لا يمكن أن تشكل ذلك العامل الوحيد الذي قد يُحدث التغيير، فضلا على أن أسلوب التعيين داخل بعض من دواليب هذه المؤسسات، لا يمكن أن يعيق من مسألة دمقرطتها؛
رسم الحدود بين مؤسسات الحكامة والمؤسسات التقليدية للدولة هو تمرين ينطلق من التشريع؛
قرارات مجلس المنافسة هي قرارات مركبة ينبغي التمييز فيها بين قرارات السلطة الإدارية التي يجوز الطعن فيها أمام القضاء وقرارات قضائية يجوز الطعن فيها بالاستئناف.
وتم اختتام الدرس الافتتاحي القيم، بتقديم شهادة تقديرية من منتدى الباحثين في العلوم الإدارية والمالية إلى الأستاذ الجليل عبد الإله فنتير، تقديرا لمساهماته القيمة في تطوير البحث العلمي في مجال تدبير الشأن العام.