ذ عبد العزيز العتيقي أستاذ بكلية الحقوق بفاس
تضمن الموقع الإلكتروني لوزارة العدل مقالا في شكل << مذكرة >> بعنوان << مذكرة حول الأسس القانونية لأجراء الاقتطاع من أجور موظفي الدولة والجماعات الترابية المضربين عن العمل >>
ويثير هذا المقال مجموعة من الإشكالات القانونية فضلا عن مغالطات لا يمكن السكوت عنها .
وسنحاول في هذا المقال مناقشة هذه الإشكالات ورفع وتوضيح المغالطات .
أولا : مناقشة الشكل
لعل أول ما يفاجئ الزائر للموقع الإلكتروني الرسمي لوزارة العدل وهو بصدد الاطلاع على هذا << المقال >> أنه عنون بمصطلح المذكرة وفي التعريف القانوني المذكرة أو Note تعني قرارا تتخذه إدارة أو مصلحة عمومية من أجل التدبير والتسيير أو لإعطاء توجيه لموظفيها أو لتفسير نص قانوني معين يلفه غموض أو سوء تطبيق لاحظته هذه الإدارة أو المصلحة العمومية .
ومن هذا المنطلق تعتبر المذكرة مرجعا قانونيا في أدنى سلم التراتبية القانونية . لكنها في أحيان كثيرة تشكل مرجع التطبيق الفعلي للنص القانوني موضوع المذكرة .
وهذا ما لاحظناه بخصوص مذكرات تفسير النصوص الضريبية ومذكرات وزارة العدل بخصوص تطبيق عدة نصوص قانونية في مجال مدونة الأسرة وفي مجال مدونة الشغل مثلا .
وهذا النوع من المذكرات وبحكم أنه داخل في إطار التراتبية القانونية ويمكن اعتماده مرجعا لأحكام القضاء يتشكل من مذكرات مسؤولة تحمل مرجعا ترقيميا إداريا تسلسليا يحترم شكليات محددة .
فهل هذه المذكرة تدخل ضمن هذا الإطار ؟ .
وهل نناقشها على هذا الأساس ؟
في هذا الإطار لابد من التذكير ببعض العناصر الأساسية .
° المذكرة المذكورة نشرت في الموقع الرسمي لوزارة العدل ضمن نافذة "مستجدات ".
والموقع الرسمي هذا لا تنشر فيه مقالات أو خواطر مجهولة التوقيع والمصدر لأنه موقع عمومي ، وإلا فعلى الوزارة أن تسمح بنشر مقالات أخرى سواء حول هذا الموضوع أو غيره .
° إذا اعتبرنا بأن موقع نشر هذه " المذكرة " رسمي فهو لا ينشر إلا النصوص القانونية والاجتهادات والأخبار المتعلقة بنشاط الوزارة وبالتالي فهو ليس بمجلة إلكترونية لنشر المقالات .
وعلى هذا الأساس تكون تلك " المذكرة " تحمل وجهة نظر الوزارة لكنها اتخذت طابعا شعبويا خاليا من الشكليات القانونية المعتمدة في المذكرات الوزارية والإدارية .
° إذا اعتبرنا " المذكرة " على هذا النحو بمعنى هذا أن الوزارة تنصب نفسها " مدعيا عاما " للحكومة وتحرضها على اتخاذ قرار الاقتطاع من أجور موظفي الدولة وموظفي الجماعات الترابية .
فهل هي مذكرة موجهة إلى الحكومة ؟ .
هل أصبحت وزارة العدل والحريات سلطة فوق التراتبية الحكومية وأعطت لنفسها حق إنجاز مذكرة بمقتضاها تؤسس لقرار حكومي باقتطاع الأجور ؟ .
نحن فعلا أمام إشكالية دستورية ، لأن المذكرات الوزارية والمصلحية تصدر في إطار الاختصاص الحكومي والوظيفي وكل خروج عن هذا الإطار القانوني يعتبر عملا غير مشروع إن لم يتسم بالشعبوية في تدبير مرفق العدالة .
ومادام الموقع الرسمي لوزارة العدل قد نشر هذه المذكرة فعلى الوزارة أنم تكون متحلية بالشجاعة لتعطي للمذكرة ترقيما معينا ومرجعا قانونيا مع تحديد الجهة الموجهة إليها بمعنى أن تقوم بإصلاح " المسطرة " .
أما إذا كانت الوزارة قد بدأت << سياسة جديدة >> في استغلال الموقع الرسمي لها بنشر مقالات ومذكرات مجهولة فليس ذلك من الحكامة في شيء بل هو أقرب إلى " الشعبوية " البعيدة عن المنطق القانوني ومبادئ تدبير المرفق العمومي .
وتزداد هذه المسألة خطورة بالنظر لطبيعة الجهة المسؤولة عن هذا السلوك " اللامشروع " إنها وزارة العدل والحريات ؟ .
ثانيا : من حيث الموضوع
لقد عنونت " المذكرة " بمذكرة حول الأسس القانونية لإجراء الاقتطاع من أجور موظفي الدولة والجماعات الترابية المضربين عن العمل .
وإذ تضمنت مجموعة من نقاط النقاش القانوني والمغالطات فسنحاول مجادلتها بالحسنى تبعا لعناصرها .
1ـ حول المرجعية الدستورية
تبدأ المذكرة بالتذكير بالفصل 29 من الدستور والذي ينص في فقرته الثانية على أن << حق الإضراب مضمون وسيحدد قانون تنظيمي شروط وكيفيات ممارسته >> .
لكن تحاول " المذكرة " أن تفرغ هذا الفصل من محتواه بالاستناد إلى الدستور نفسه في محاولة لتعطيل صدور هذا القانون التنظيمي حيث تصور لنا المذكرة وكأن لا حاجة لنا إلى صدور هذا القانون التنظيمي .
وفي سبيل ذلك تقدم مجموعة من الوسائل تستدعي المناقشة .
أ) فالفصل 29 المعتمد عليه ينص على قانون تنظيمي باعتباره أوحد وسيلة لتنظيم حق الإضراب .
والمادة الثامنة المشار إليها من العهد الدولي المتعلق بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية تربط تنظيم حق الإضراب وممارسته بقوانين الدولة المعنية والدولة المغربية لها دستور ينص على أن مسألة تنظيم حق الإضراب من اختصاص القانون التنظيمي ، فهل هناك هذا القانون ؟
وهل بانعدامه يمكن استغلال الفراغ لممارسة سلطات وصلاحيات تتنافى مع الحصر الدستوري ؟
ب) تقرر المذكرة حكما حاسما دون تأسيس قانوني إذ تعتبر بأن " إذا هذا الإقرار الدستوري قد ضمن ممارسة هذا الحق فإن هذه الممارسة يجب أن تراعي ضرورة احترام جملة من الحقوق والمبادئ التي نص عليها الدستور بصفة صريحة من أهمها ..
وسنناقش هذه " الأهمها " في العناصر التالية :
+ تشير المذكرة للفصل 37 من الدستور وتنتقي منه ـ بطريقة متحايلة وفجة ـ ما يتعلق فيه بتلازم الحق مع الواجب لكنها تتناسى مطلع هذا الفصل إذ ينص على أن << على جميع المواطنات والمواطنين احترام الدستور والتقيد بالقانون... >> .
وهو خطاب عام موجه للكل أيا كان موقع مسؤوليته ومركزه القانوني مواطنون ومسؤولون وإدارة .
نعم هناك تلازم بين الحق والواجب بين الحرية والمسؤولية وهذا التلازم ناتج وأثر قانوني رتبه الفصل المذكور على التزام الكل باحترام الدستور والتقيد بالقانون .
ويعني ذلك أن السلطة الحكومية ملزمة باحترام الدستور واحترام الدستور يقتضي حتما إخراج القانون التنظيمي للوجود عن طريق مبادرتها التشريعية أو أن تبادر السلطة التشريعية لذلك .
وفي غياب هذا القانون التنظيمي تكون الممارسات والتدابير التي تتخذها أية جهة كانت خرقا سافرا لنص الدستور .
أما بخصوص تلازم الحق مع الواجب فدون شك لا يمكن للسلطة الحكومة أن تتناسى التزامها الوارد في الفصل 8 من الدستور والذي ينص على أنه << تعمل السلطات العمومية على تشجيع المفاوضة الجماعية ...>> فهذا التزام دستوري عام ويدخل في إطار تنظيم العلاقات المهنية والحكامة الرشيدة .
كما أنه التزام يتأسس على اتفاقية منظمة العمل الدولية رقم 98 المتعلقة بالحق في التنظيم والمفاوضة الجماعية والتي صادق عليها المغرب منذ 1957 .
وإذن فعندما نتحدث عن ربط ممارسة الحقوق بأداء الواجبات يجب أن تكون لدينا نظرة متكاملة عن كل الحقوق وكل الأطراف وأن نتمثل في ذلك قوله تعالى << أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون >> .
ولذلك فقبل أن تتحدث هذه المذكرة عن التزامات المواطن ـ والموظف مواطن ـ عليها أن تعلم بأن السلطات الحكومية مطالبة قبل غيرها بتحملها لمسؤولياتها وإعطاء النموذج على احترام الدستور بامتناعها عن اتخاذ أي تدبير يمس حق الإضراب لأنه مجال للقانون التنظيمي ومن جهة أخرى عليها أن تستجيب لطلبات الحوار المقدمة لها من قبل الهيئات التمثيلية وأن تسعى وتبادر إلى التفاوض معا في إطار احترام القانون ، وبعدها يحق لها أن تحاسب كل من لم يتحمل مسؤوليته في إطار القانون .
+ تتحدث المذكرة عن مبدأ استمرارية الخدمات التي تقدمها المرافق العمومية للمواطنين ( الفصل 154 من الدستور ) وهنا أيضا لجأت المذكرة إلى أسلوب البتر والانتقاء إذ تناست الفترة الثانية من هذا الفصل والتي تنص على أنه << تخضع المرافق
العمومية لمعايير الجودة والشفافية والمحاسبة والمسؤولية وتخضع في تسييرها للمبادئ والقيم الديمقراطية التي أقرها الدستور >> .
وغني عن البيان أن قراءة الفصل برمته تفضي إلى القول بأن مفهوم استمرار المرافق العمومية يبدأ من استمرارية التزاماتها تجاه المواطنين والعاملين بها مهما تغير مسؤولوها .
وهنا لا يمكننا القفز على تنكر الحكومة الحالية لالتزامات سابقتها بخصوص التوظيف المباشر والموقعة في وثيقة رسمية . إذ علينا أن نكرر المثل الناصح " إذا كان بيتك من زجاج فلا ترمي الناس بالحجر " .
ثم إن مفهوم استمرار المرافق العمومية في أداء خدماتها للجمهور لا تعني المصالح العمومية فقط بل تهم كل المرافق التي تؤدي خدمة عمومية .
وهو لا يعني تعطيل ممارسة الحقوق والحريات باسم " التباكي " على المصلحة العامة ومصلحة المواطنين .
إن استمرار المرفق العمومي تعني بالأساس الحرص على ضمان الخدمة العمومية وتلافي كل ما من شأنه أن يعطلها وذلك في إطار من الحكامة الرشيدة والتي عبر عنها الدستور في فصله السالف الذكر بالتسيير وفق المبادئ والقيم الديمقراطية ، ومعايير الجودة والشفافية والمحاسبة والمسؤولية ضمن هذا الإطار وعوض التساؤل عن ممارسة الإضراب واعتبارها مضرة بالمصلحة العامة يجب التساؤل عن أسباب الإضراب . أليست هي المسؤولة عن الإضرار بالمصلحة العامة .
من المسؤول عن آثار الإضراب ؟ أهم المضربون الذين مارسوا حقهم في الاحتجاج والمطالبة المهنية . أم المسؤول هي السلطة الحكومية المعنية التي قد تكون أخلت بالتزاماتها وأغلقت باب التفاوض ومست بالحرية النقابية ....إلخ .
يجب أن لا نقف عند النتيجة بل يجب البحث في الأسباب التي أدت إليها وهذا هو المقصود بالمسؤولية والمحاسبة .
إن لدينا من الأمثلة ما يكفي للدلالة على عدم التزام السلطات المسيرة للمرافق العمومية بتعهداتها تجاه العاملين بها .
كما لدينا كثير من الأمثلة على أن كثيرا من هذه التعهدات تتعلق بتطبيق اتفاقات واضحة أو مقتضيات قانونية وإحصائيات وزارة التشغيل حول أسباب النزاعات الاجتماعية خير دليل على ذلك .
صحيح أن ممارسة الإضراب في إطار المصالح العمومية الحيوية يكتسي صبغة خاصة إذ يجب ترتيب بعض الأوضاع كالإخبار بالإضراب وتأمين الخدمات الأساسية " Le service Minima " وهذا ما تقوم به النقابات تلقائيا رغم أن مجال تحديد ذلك هو القانون التنظيمي ويمكن مراجعة مشاريعه التي أنجزت لحد الآن .
+ تشير المذكرة إلى أن جميع أعوان المرافق العمومية عند ممارستهم لوظائفهم المبادئ التي نص عليها الدستور ومن بينها مبدأ حماية المصلحة العامة باعتباره مبدأ دستوريا ( ف 155 ) وإيراد هذا الفصل هنا في معرض الحديث عن الإضراب هو من قبيل الحشو والحشر لأن الفصل المذكور يتحدث عن كيفية ممارسة أعوان المرافق العمومية لوظائفهم باحترام القانون والحياد والشفافية والنزاهة والمصلحة العامة . وهو ما يعتبر تطبيقا لمبدأ مساواة المواطنين في الانتفاع من المرافق العمومية دون أي اعتبار آخر والذي نص عليه الفصل السابق ( ف 154 ) وبالتالي فلا علاقة للفصل 155 بممارسة حق الإضراب .
والخلاصة أن المذكرة حاولت استعمال بعض فصول الدستور للدلالة على تقييد حق الإضراب بل وتحريمه على الموظفين لكن هذا الاستعمال كشف عن توظيف انتقائي لا يخلو من " انتهازية فكرية " قائمة على مكيافيلية واضحة لا تستقيم مع الصبغة الحقوقية للدستور الجديد . كما كشف هذا الاستعمال عن تناقض صارخ بين ما تخلص إليه المذكرة وبين ما تبرزه ممارسات السلطات الحكومية ومسؤولي المرافق العمومية من تنكر لكثير من مبادئ وأحكام الدستور .
ثالثا : حول الأسس القانونية للاقتطاع
بدءا تكشف المذكرة عن خطأ منهجي عندما عنونت فقرته الرابعة هذه بنفس عنوان المذكرة برمتها وكأنها تعتبر الدستور ليس داخلا ضمن الأسس القانونية !.
على أي فربما الانفعال والإسراع لتحقيق الغاية قد أنسيا من صاغ هذه المذكرة الالتفات لهذا الحذر المنهجي .
ما هي إذن هذه الأسس القانونية للاقتطاع من أجور الموظفين المضربين ؟ .
تبدأ المذكرة هذه الأسس بتقديم مفاده أنه في انتظار صدور القانون التنظيمي تفرض المقتضيات القانونية الجارية حاليا التمييز بين حالة التغيب لأسباب غير مشروعة وحالة عدم أداء العمل لأسباب أخرى .
ومعنى هذا التقديم أن هذه المقتضيات تقوم مقام القانون التنظيمي في تنظيم ممارسة الإضراب وآثاره القانونية على وضعية الموظف المضرب وكأن هذه النصوص وجدت لتحجز مكان القانون التنظيمي لحين صدوره .
وقد تناست المذكرة مسألة أساسية وهي أن المشرع الدستوري عندما أحال أمر تنظيم ممارسة الإضراب على قانون تنظيمي فليس عبثا بل هو تعبير على خطورة هذا التنظيم وحساسيته مما يستوجب رقابة دستورية مسبقة عليه وهو ما لا تخضع له القوانين العادية .
ولذلك فلا صلاحية لأي قانون في أن يعوض القانون التنظيمي لا قبلا ولا بعدا .
ومع ذلك سنناقش هذه النصوص لنرى قولها في " تنظيم الإضراب " وتبرير الاقتطاع من الأجور ؟ .
ـ حالة التغيب لأسباب غير مشروعة .
تعتمد المذكرة على القانون 81ـ12 بشأن الاقتطاعات من رواتب موظفي وأعوان الدولة والجماعات المحلية المتغيبين عن العمل بصفة غير مشروعة وكذا المرسوم الصادر في 10 ماي 2000 حول شروط وكيفيات تطبيق هذا القانون .
وتخلص المذكرة هكذا ـ ببساطة تراهن على سذاجة القارئ ـ إلى القول بأن الاقتطاع مشروع لأن التغيب بمناسبة الإضراب غير مشروع . فهل هذا منطق قانوني.
إن التغيب بسبب الإضراب هو تغيب مشروع ولا يحتاج إلى ترخيص والقانون السابق الذكر إنما يتحدث عن التغيب بدون رخصة فهل تحتاج ممارسة الإضراب إلى رخصة حتى يكون تغيبا مبررا ؟
ـ حالة عدم أداء العمل لأسباب أخرى .
تعتمد المذكرة هنا على قانون المحاسبة العمومية المرسوم الملكي رقم 60ـ 330 الصادر في 21 أبريل 1967 والذي يشير في فصله 11 ـ وليس 14 كما ورد في المذكرة ـ على التزام المحاسبين بمراقبة صحة الدين ومن بين ذلك العمل المنجز .
ولسنا ندري هل المقصود التأكد من إنجاز خدمات من طرف الموردين أو كل من أنجز عملا لفائدة الدولة ومرافقها العمومية أم أيضا مراقبة ما إذا كان الموظف قد أنجز عمله فعلا .
مهما يكن فإن الموظف إذا كان لم ينجز عمله بسبب الإضراب فإنه بذلك يكون تغيبه مشروعا مثلما هو مشروع تغيبه لأسباب صحية وغيرها منصوص عليها في قانون الوظيفة العمومية .
والمحاسب العمومي مطالب بتطبيق القانون وهو يعلم أن الإضراب حق دستوري لكن قرار الاقتطاع الذي يصدر من الإدارة المعنية لا يكون مبررا هكذا بصريح العبارة بالإضراب وإنما يتخذ القرار بناء على التغيب بدون ترخيص ! بمعنى أن الإدارة تتحايل على القانون ولا تمتلك الشجاعة للتصريح بحقيقة الواقعة التي على أساسها تم الاقتطاع من الأجر .
وفي جميع الأحوال فإن قانون المحاسبة العمومية لا يمكنه أن يحل محل القانون التنظيمي للإضراب ولا الدستور الذي أكد على ضمان ممارسة حق الإضراب .
ولعل من الغريب حقا أن يمتلك محرر هذه المذكرة الجرأة في قوله بأن التغيب غير المشروع ينطبق على حالة الإضراب .
لكنه يتدارك فيما بعد ليقول بأن مبدأ الأجر بدون عمل ينطبق بصفة خاصة على حالات الإضراب التعسفي وكأنه لم يقتنع بعد بمبدأ الاقتطاع أو أنه تذكر بأن الإضراب حق دستوري .
أما الإشارة الأخيرة بالتذكير بالمادة 32 من مدونة الشغل التي تجعل حالات الإضراب ضمن حالات توقف عقد الشغل فهو حشر لموضوع بعيد عن المقارنة مع الوظيفة العمومية ذلك أنه من المبادئ الأولية للعلاقات المهنية هو التمييز بين وضعية الأجير التعاقدية والوضعية النظامية للموظف .
وأن توقف عقد الشغل خلال فترة الإضراب هو من مسلمات الطبيعة التبادلية لعقد الشغل ولا قياس مع وجود الفارق وإلا إذا قبلنا هذا القياس فيجب أن نسمح به في كل جوانب العلاقات المهنية في إطار الوظيفة العمومية وهكذا مثلا سيصبح التغيب بسبب المرض يجعل الموظف في وضعية توقف عن العمل وتوقف عن تسلم الأجرة وسيكون من حق الموظف أن يقدم استقالته بحرية شرط احترامه فقط مهلة الإخطار وباختصار علينا أن نقبل كل الآثار القانونية المترتبة على تحويل علاقة الموظف بالإدارة من طابع نظامي إلى طابع تعاقدي .
رابعا : موقف القضاء الإداري في الموضوع
حاولت المذكرة أن تعزز موقفها ببعض أحكام القضاء الإداري وهذا ما يدفعنا لمناقشة نقطتين أولها موقع القضاء كمصدر للقانون وثانيها قيمة وحجية الأحكام المعتمد عليها .
1) موقع القضاء كمصدر للقانون
يعتبر القضاء مصدرا تفسيريا للقانون فهو لا ينشئ قاعدة قانونية وإنما يكشف عن وجودها إما اعتمادا على قانون موجود يفسره ويؤوله إذا لم يكن واضحا. وإما اعتمادا على مصادر أخرى للقانون كالعرف وقواعد العدل والإنصاف والمبادئ العامة للقانون وهو بهذا المعنى لا يمكنه أن يتجاوز حدود المصدر التفسيري وأن يتطاول على اختصاص السلطة التشريعية لما في ذلك من إخلال بمبدأ فصل السلط خاصة في موضوع إحاطة المشرع الدستوري بضمانات حصرية عندما خص بتنظيمه القانون التنظيمي .
2) القضاء الإداري وموضوع الاقتطاع من أجور الموظفين المضربين .
لقد اعتمدت المذكرة على حكمين أحدهما للمحكمة الإدارية بأكادير وآخر لإدارية الـــرباط .
والواقع أن هذين الحكمين يعتبران بمثابة خبر الآحاد الذي يدخل ضمن خانة الأحاديث الضعيفة لضعف تواتره .
ومع ذلك سنناقشهما في حدود ما أثارته المذكرة .
ففيما يخص حكم إدارية أكادير فهو حكم فريد لهذه المحكمة كما أن تعليله مهزوز فهو لم يسند موقفه بأي نص قانوني حتى يمكن مناقشته .
ثم إن ما ذكره حول الحالات الحصرية لأداء الأجر مردود لأن قانون الوظيفة العمومية لا ينص على إيقاف الأجرة في جميع الحالات التي لا ينجز فيها الموظف عمله ومنها حالة المرض وحالات أخرى أما بالنسبة لحالة الإضراب فأمرها موكول للقانون التنظيمي الذي عليه أن يحسم في هذه النقطة بما يرتئيه المشرع مناسبا لضمان حق ممارسة الإضراب كما نص على ذلك الدستور صراحة .
أما بخصوص حكم إدارية الرباط فإن تعليله الوارد في المذكرة لا يظهر علاقته بموضوع الإضراب والاقتطاع فهو يتحدث عن الاقتطاع لكون الطاعن لم يدل بما يثبت طلب الإذن بالتغيب .
وتبعا لما سبق لا يمكن تحميل القضاء الإداري موقفا يرتضيه أهل المذكرة المذكورة مع العلم أننا نتحدث في حدود حكمين ابتدائيين من الصعب اعتمادهما دليلا على موقف قضائي في الموضوع .
وبالمقابل فإننا نذكر هنا بموقف مناقض لما ذكر .
ففي حكم للمحكمة الإدارية بمكناس تحت عدد 63/2001 بتاريخ 12/7/2001 ورد ما يلي : << وحيث أنه إذا كانت المادة الخامسة من مرسوم 5 فبراير 1958 المتعلق بممارسة العمل النقابي من طرف الموظفين تنص على أن .... فإن مقتضيات هذا المرسوم والتي تتضمن منعا مطلقا لحق الإضراب تعتبر غير منسجمة مع المقتضى الدستوري الوارد لاحقا والذي أكدته الدساتير المغربية المتعاقبة لذلك فإن هذا المنع المطلق يسقط لعدم انسجامه مع الدستور >> .
( حكم أشار إليه ذ محمد أوزيان في مقاله : آثار إضراب الموظف العمومي " مجلة الحقوق المغربية عدد 2009.9 ص 22 " ) .
كما أن قرارا للمجلس الأعلى تحت عدد 599 في 4/7/2007 ملف إداري عدد 1651/2004 جاء فيه على الخصوص << لكن حيث إنه إذا كان من حق الإدارة اتخاذ ما تمليه المصلحة من قرارات بشأن حركة مستخدميها ما لم يثبت انحرافها فإن تزامن قرار نقل الطاعن مع الإضراب وادعاءه أن تنقيله كان بسبب مشاركته فيه يقلب عبئ الإثبات على الإدارة التي بررت هذا التزامن بتعاطف زملاء الطاعن معه عن طريق إدراج اسمه ضمن المضربين لتفادي القرار دون إثبات ذلك .... >> .
<< وأن الإدارة لم تثبت بأن قرار نقل الطاعن اقتضته المصلحة مما يجعل القرار المطعون فيه متسما بعدم المشروعية لخرقه الحق في ممارسة الإضراب >> .
( قرار منشور بمجلة قضاء المجلس الأعلى عدد 69ـ2008 ص 194 ) .
يمكننا القول إذن بأن الاستدلال بحكمين ابتدائيين للقول بأن القضاء الإداري يعطي مشروعية للاقتطاع من أجور الموظفين المضربين هو استدلال بحجة ضعيفة لانعدام التواتر وضعف تعليل الحكم الأول وغياب موضوع الإضراب في الحكم الثاني.
بل إن القضاء المغربي بصفة عامة يكرس المشروعية الدستورية لممارسة حق الإضراب ولا يمكنه أن يتجاوز مجاله القضائي للمس باختصاص السلطة التشريعية الموكول إليها إقرار القانون التنظيمي المرتقب لتنظيم ممارسة حق الإضراب .