رغم أن المغرب لم يعرف إحداث الجهة-الجماعة المحلية إلا بعد 1997 أي خمس سنوات بعد تكريسها في الدستور، إلا أن سؤال التدبير اللامركزي للتراب كان دائما حاضرا في خطابات أصحاب القرار السياسي و على رأسها الخطب الملكية.
فمنذ 1984 أعلن الملك الحسن الثاني عن نية إحداث جهات تتمتع بسلطات تشريعية و تنفيذية أي على غرار بلدان ذات تنظيم فدرالي أو شبه فدرالي. كان الملك حينها معجبا بالتنظيم الترابي الألماني وكان يؤمن بأن هذا النموذج يناسب المغرب لتنوع أعرافه وتقاليده.
توالت العديد من الخطابات المعبرة عن نوايا وطموحات عدة، وضلت مسألة الجهوية تحضر وتغيب في جداول أعمال صناع القرار السياسي بالمغرب، في الإعلام العمومي والخصوصي وكذلك في الفضاء العمومي.
واعتبر المتتبعون تكليف لجنة استشارية بداية سنة 2010 بصياغة مقترحات نظام جهوي موسع بمثابة خطوة هامة وحاسمة في هذا المسلسل الطويل. وعلقت كل الآمال على هذه الهيئة للقطع مع المركزية اليعقوبية ولاقتراح نظام ترابي جديد يمأسس لعلاقة جديدة بين المركز والهامش وبين الدولة والجهة على أساس مبدإ التفريع.
إلا أنه بعد نشر تقرير اللجنة الاستشارية للجهوية تبين أن المشروع المقترح يندرج ضمن الفلسفة التقليدية لتدبير التراب. ثم بعد ذلك جاء دستور 2011 ليؤكد هذه الأطروحة، فبالرغم من تنصيصه على مجموعة من المبادئ الضرورية لجهوية متقدمة، كمبدأ التدبير الحر ومبدأ التفريع، فإنه في المقابل يختصر دورها في المساهمة، إلى جانب الجماعات الترابية الأخرى، في تفعيل السياسة العامة للدولة ولا يحق لها إعداد السياسات الترابية إلا من خلال ممثليها في مجلس المستشارين.
من خلال ما ذكرناه يتبين أن هناك تفاوت واضح بين الخطاب و الممارسة. خطاب حماسي ينادي بنظام جهوية موسعة تتمتع فيه الجهات بسلطات موسعة، وممارسة في شكل قرارات ترسم خطوات محتشمة وتفعل ببطء غير سليم.
هي إذن وضعية متناقضة تثير فضول كل الباحثين في هذا المجال لمحاولة فك أطراف المعادلة والوقوف على المحددات الحقيقية لهذا التوازن المختل. من جانبنا ارتأينا أن ندلو بدلونا في هذا
الموضوع لنقدم ثلاث عوامل أساسية نعتقد أن لها دور كبير في تحديد معالم سياسات تدبير التراب بالمغرب، ونلخصها فيما يلي:
إرث المذهب اليعقوبي:
المذهب اليعقوبي هو مذهب فكري وسياسي ظهر بعد الثورة الفرنسية، كان مبدؤه في الأصل هو الدفاع عن سيادة الشعب وعن وحدة وعدم انقسامية الجمهورية. ويقصد به حاليا المذهب الذي يتبنى فكرة تنظيم الدولة في جهاز إداري بيروقراطي ممركز، وممارسة السلطة عبر نخبة تكنقراطية تبسط نفودها على كل المستويات الجغرافية وكل ميادين الحياة الاجتماعية من أجل توحيد مظاهرها، وبهذا تكون فلسفتها مناقضة تماما لفلسفة الجهوية.
كانت هذه الفلسفة هي السائدة في أدهان المكلفين ببناء الدولة الوطنية الحديثة بالمغرب منذ السنوات الأولى من الحماية إلى ما بعد الاستقلال، حيث كانت مذهبا مثاليا لترسيخ دولة مركزية قوية وقادرة على بسط سلطتها على كل المراكز الهامشية للنفوذ خاصة منها القبلية.
بعد استكمال بناء الدولتين المركزيتين في كل من فرنسا والمغرب في حقبتين متباعدتين زمنيا، لكن على نفس المذهب اليعقوبي، لم يختف هذا الأخير بل ضل حاضرا في كل السياسات الترابية في مظاهر مختلفة، وذلك بتغليب المقاربات الأمنية على حساب المقاربات التنموية والتنصيص على الوحدة الترابية كثابت قوي من بين الثوابت الوطنية. فمبدأ عدم انقسامية الجمهورية مكرس في الفصل الأول من الدستور الفرنسي، في حين أن تصدير الدستور المغربي يذكر بأن المغرب متشبث بالوحدة الترابية وبأن المملكة المغربية دولة موحدة.
إلا أن كل ما ذكرناه في هذا الصدد لم يمنع من تبني عدة قوانين أسست لتجربة فريدة في مجال التدبير اللامركزي للتراب في البلدين. وضل المغرب تابعا لفرنسا باستنساخ تجاربها بعد سنوات أو عقود من تطبيقها، بشكل يوحي بأن المسؤولون المغاربة يودون التأكد، في كل مرة، من أن الجمهورية لم تنقسم ليطمئنوا على أن المملكة أيضا لن تنقسم.
ملف الصحراء:
كانت و ماتزال قضية الصحراء تعتبر محددا أساسيا في مسلسل اتخاذ القرار السياسي في المغرب، خاصة حينما يتعلق الأمر بسياسات التقسيم والتنظيم الترابي. هذا ما يدفع صاحب القرار السياسي إلى الكثير من الحذر والتريث في بعض الأحيان وإلى الكثير من التردد والتناقض في أحيان أخرى، الشيْ الذي يترتب عنه حماسة الخطابات، بطء وثيرة اتخاذ القرارات ثم في آخر المطاف تأجيل تنفيذ هذه القرارات و تجميد المشاريع التي تحملها. كل هذا يجعل المواطن البسيط في ترقب مستديم ويفرض على الباحث المتخصص في هذا المجال الكثير من البحث والتحليل لمحاولة فهم كل هذه المعادلات.
من هذا المنظور يمكن لنا أن نفهم لماذا يظهر خطاب الجهوية تارة فيطفو على السطح ليحتل رقعة شاسعة في أجندة النقاش العمومي ثم ليتوارى بعد ذلك في انتظار ظهوره من جديد. فعلى سبيل المثال، فمشروع الحكم الذاتي بالأقاليم الصحراوية تمت صياغته في سياق معين لتقديمه كأرضية جديدة للتفاوض مع الأطراف المعنية كبديل لمقترح الاستفتاء بعدما تبينت استحالة تفعيل هذا الأخير. وقد حرص المسؤولون المغاربة دوما على التأكيد أن الدولة ماضية في تفعيل المشروع مهما كان موقف الأطراف الأخرى، إلا أن التماطل في تنزيل هذا المقترح يؤكد على أن الدولة لا تعتبره خيارا منفعيا بل تنازلا يقتضي التزام الأطراف الأخرى بتنازل مقابل قبل الشروع في تنفيذ الالتزامات.
من جهة أخرى، لا يمكن فهم الخطاب الرسمي حول الجهوية إلا بربطه بالسياق والحيثيات نفسها. فالحديث عن جهوية موسعة جعل الكثير من المهتمين بهذا الشأن يذهب إلى أن المغرب قد ينحو منحى دولة الجهات كإسبانيا مثلا، حيث خولت صلاحيات مهمة للجماعات الترابية خاصة منها الجهات. إلا أن التقرير الذي أعدته اللجنة الاستشارية حول الجهوية وما تضمنه الدستور الجديد بخصوص الجماعات الترابية لم يكن في مستوى انتظارات من استهوتهم دولة الجهات. فالدستور لم يحمل في طياته جهوية موسعة بل اكتفى بتأهيل الجهات إلى مستوى الجماعات الحضرية والقروية بالتنصيص عن انتخاب مجالسها بالاقتراع العام المباشر و تخويل رؤسائها سلطة تنفيذ قرارات المجالس.
وتميز الخطاب حول الجهوية بالأقاليم الصحراوية بكثير من الغموض يصعب من خلاله التنبؤ بما إن كانت الدولة ستعتمد مبدأ المساواة بين الجهات، أم أن الجهات الجنوبية ستتمتع بكثير من الاستقلالية مقارنة مع مثيلاتها الواقعة في الجزء الشمالي للبلاد.
اختلالات في تجربة التدبير اللامركزي
من المؤكد أن المغرب قام بخطوة جريئة في مجال التدبير اللامركزي منذ سنة 1976، حيث تم تمتيع المجالس الجماعية بصلاحيات مهمة وتخويل رؤسائها السلطة التنفيذية وجزء مهم من الشرطة الإدارية. إلا أن تقييم هذه التجربة بين عدة اختلالات مرتبطة بتسيير الشأن الجماعي. فعدد كبير من الجماعات خاصة منها القروية تم اختزال دورها في تسيير الشؤون الإدارية اليومية للمواطنين بتمويل شبه كلي من حصة الجماعات المحلية من الضريبة على القيمة المضافة.
أما بخصوص الجماعات الحضرية بالمدن الكبرى والتي تسير ميزانيات ضخمة، فإن غياب مخططات التنمية الجماعية واستراتيجيات واضحة لتحقيق أهداف محددة أدى إلى سيادة نوع من العشوائية في صرف النفقات. هذا بالإضافة إلى غياب آليات الحكامة الجيدة والمراقبة والمحاسبة، الشيء الذي نتج عنه إهدار الأموال العامة سواء بسوء النية أو بسوء التدبير.
ويرجع هذا الوضع بالأساس، من جهة أولى، إلى كون النخب السياسية المتعاقبة على تسيير الشأن الجماعي تفتقر للمؤهلات المعرفية والتقنية الضرورية في مجال تسيير الشأن العام، ومن جهة أخرى إلى ضعف الحس الأخلاقي وتغليب المصالح الشخصية لهذه النخب على حساب المصلحة العامة.
أما بخصوص الإدارة الجماعية ومواردها البشرية، فإن غياب نظام أساسي محفز يجعل الموارد البشرية ذات الكفاءة العالية تهجر الجماعات بحثا عن الأفضل. إضافة إلى كون الدولة لا تملك إرادة حقيقية للتأسيس للوظيف الترابية التي من شأنها إعادة توزيع فائضها من الأطر العليا التي تشتغل بالإدارة المركزية على الجماعات وفق حاجياتها.
من هنا يتضح أن التشخيص الدقيق لهذه الوضعية لا يشجع أصحاب القرار على الدخول في مغامرة مماثلة فيما يتعلق بالجهات، لذلك تم ترجيح خيار الترقب والانتظار إلى حين تقويم ما يمكن تقويمه وإلى أن تتوفر الشروط الموضوعية لإنجاح هذه التجربة وتنتفي العوامل التي فصلنا فيها في هذا المقال.