النيابة العامة أو كما يسميها البعض من الفقهاء جهة الحق العام، هي جهاز قضائي مخول له من طرف المشرع تمثيل الحق العام والدفاع عن مصالح المجتمع من الناحية القانونية.
ولأهمية هذا الجهاز واعترافا بالأعمال الجليلة والمجهودات القيمة التي يقوم بها للصالح العام خصص له المشرع بابا خاصا هو الباب الثالث من القسم الأول من الكتاب الأول المتعلق بالتحري عن الجرائم ومعاينتها[1].
والنيابة العامة كطرف رئيسي في الدعوى العمومية تنعت بالقضاء الواقف Magistrature de bout في الفقه الجنائي لأن ممثلها يقف لزوما حين يأخذ الكلمة أمام المحكمة لبسط مطالب الادعاء الشفوية أو لمناقشة أوجه إسناد التهمة إلى المتهم، في حين أن قضاة الأحكام لا يقفون أبدا لذلك اتسموا بالقضاء الجالس كما تنعت بالطرف الشريف في الدعوى العمومية لأنه ولو جرت العادة على التماسها دائما لسبل إدانة المتهم سعيا منها في الدفاع عن المجتمع من كيد المجرمين والأشرار فإنها مع ذلك إذا هي تنبهت إلى أن تلمس الإدانة أصبح يتعارض مع العدالة بسبب غلبة أدلة البراءة في جانب التهم، تحولت النيابة العامة من ملتمساتها السابقة – حتى ولو كانت مخطوطة ومكتوبة – ودافعت بحرارة عن الأصل الذي هو البراءة، ولا عجب في ذلك ولا عضاضة مادامت طرفا في الدعوى العمومية ليست ككل الأطراف – يمثل المجتمع كله الذي وإن كان يهمه فعلا تحقيق مصلحته إلا أن ذلك لا ينبغي أن يكون على حساب الأبرياء[2].
ولم يكن الجهاز النيابة العامة أن يصل إلى ما وصل إليه التنظيم المحكم واتساع السلطات، وجسامة المهام إلا عبر مراحل طبعت تاريخه.
في مرحلة سبقت عهد الحماية لم يكن جهاز النيابة العامة مستقلا يحرك الدعوى العمومية ويمارسها وينفذ الأحكام، وإنما كانت هاته المهام منصهرة في القاضي مصدر الحكم، وخير دليل على ذلك أنه بالرجوع إلى بعض القضايا التي كان القضاء المسلمون يبتون فيها، لا يخرج عن نطاق اعتبارها من مهام النيابة العامة وقتنا المعاصر[3].
أما خلال فترة الحماية فقد عرف المغرب مجموعة من النظم تتضمن محاكم مختلفة نذكر منها على سبيل المثال :
أ – المحاكم العصرية :
وقد كانت هذه المحاكم تنظر في القضايا على درجتين محكمة ابتدائية ومحكمة استئناف الأولى تتشكل من رئيس ونواب ومدعى عام ووكلائه، أما الثانية فمن رئيس أول وخمسة رؤساء غرف وأربعة وعشرون مستشارا ومدعي عمومي ومحامين عموميين وخمسة وكلاء للمدعي العمومي.
ب – المحاكم المخزنية :
وقد كانت النيابة العامة ممثلة أساسا في هاته المحاكم بناء على ظهير 24 أكتوبر 1953 من طرف المندوبين المخزنيين، وكان تدخل النيابة أساسا لفائدة القانون ويشمل تدخلها هذا جميع القضايا وعلى رأسها بالطبع القضايا المدنية والتجارية[4].
ج – المحاكم العرفية :
كان أساس هاته المحاكم مجموعة من الأعراف والعادات والتقاليد المطبقة في المناطق البربرية... وكانت تخضع من حيث الاختصاصات النيابة العامة إلى سلطة مندوب الحكومة الفرنسية، كما أن دور هذا الأخير لم يكن منحصرا فقط في اختصاصات النيابة العامة أمام هاته المحاكم بل أنه تطور وأصبح ينصب أساسا على دور المراقبة والإشراف على مجموعة من المحاكم العبرية.
د – المحاكم العبرية :
كانت هاته المحاكم خاضعة لتطبيق الشريعة الموسوية، سواء في الشمال المغربي أو في جنوبه، وما يسجل على هذه المحاكم هو غياب النيابة العامة والتقاضي على درجة واحدة[5]، أما خلال فترة ما بعد استقلال المغرب وذهاب عصر الحماية.
فقد صدرت عدة ظهائر شريفة وقوانين ساهمت في تطور العدالة لعل أهمها قانون التوحيد والتعريب الذي ادمجت بمقتضاه المحاكم العصرية في المحاكم العادية ومحاكم الصلح في محاكم السدد، والمحاكم الابتدائية في المحاكم الإقليمية ابتداء من فاتح يناير 1965، وكذلك ظهير التنظيم القضائي الجديد 15 يوليوز 1974 وظهير الإجراءات الانتقالية بتاريخ 28 يوليوز 1974.
ليعرف بعد ذلك قانون المسطرة الجنائية تعديلا بمقتضى ظهير 30 دجنبر 1991 على بعض مقتضيات في 10 فبراير 1959 يتولوه تعديل 10 شتنبر 1993.
وفي سنة 2003 يصدر القانون الجديد رقم 22.01 الذي اعتبر محطة تاريخية متميزة وقفزة نوعية في مسار تطور بناء دولة الحق والقانون والمؤسسات. ولعل أهم ما جاء به هذا القانون فيما يخص النيابة العامة التنصيص على :
وتجدر الإشارة على أنه بعد خطاب صاحب الجلالة 20/08/2009 فهناك تعديلات أخرى ستشمل قانون المسطرة الجنائية. على أن الخطاب التاريخي لِ 9 من مارس 2011 الذي أعطى دستور مراجعا جديداً وافق عليه الشعب المغربي من خلال الاستفتاء بغالبية ساحقة، كما ضمن أهم المستجدات همت الجانب الاجتماعي و الاقتصادي... و القضائي، هذا الأخير أدرج ضمن الباب السابع منه و عرف مجموعة من المستجدات.
كما أنه وبغية القضاء الفوري على أثر الجريمة والحفاظ على الوضعيات التي كانت قائمة قبل ارتكابها، تم إسناد مهام جديدة إلى النيابة العامة – إضافة إلى ما ذكر – كإرجاع الحالة إلى ما كانت عليه وحالة الاعتداء على الحيازة ورد الأشياء المحجوزة لمن له الحق فيها، بالإضافة إلى المساهمة في إصلاح التمزق الذي يصب النسيج الاجتماعي من جراء بعض النزاعات البسيطة، وسعيا إلى إعادة وشائح المودة إلى أفراد المجتمع من خلال رعاية الصلح[6].
للتعرف أكثر على هذا الجهاز خصصنا مبحثا أول لماهيته، ومبحث ثان مهام جهاز النيابة العامة نركز فيه على دورها في تحريك الدعوى العمومية وكذا مراقبتها لأعمال الشرطة القضائية كأهم دورين.
المبحث الأول : ماهية جهاز النيابة العامة
إن النيابة العامة هي جهاز قانوني يمثل المجتمع ذلك من خلال السلطات التي منحها لها المشرع فإذا كان هدف الطرف المدني المتضرر أو المدعي هو الحصول على التعويض بصفة أساسية فإن هدف النيابة العامة هو تمثيل المجتمع من خلال سلطتها العقابية، فهذا كله يجعل النيابة العامة تتميز بمجموعة من الخصائص، سنعالج هذه الخصائص في مطلب أول، كما أنها تختلف على باقي الأجهزة من حيث التنظيم، سنعالج هذا في مطلب ثاني.
الأول : خصائص النيابة العامة
سنتناول هذه الخصائص في عدة فقرات :
الفقرة الأولى : صفة الوحدة
تعتبر خاصية النيابة العامة المتمثلة في الوحدة من بين الخصائص المميزة لجهاز النيابة العامة وذلك بغض النظر عن درجة المحكمة، ذلك أن النيابة العامة وحدة لا تتجزأ، فهي بالتالي وحدة في التمثيل ووحدة في التعبير.
ويقصد بخضوع النيابة العامة لمبدأ الوحدة غير المجزئة هو أن النيابة العامة تمثل على صعيد المحاكم الابتدائية على سبيل المثال لا الحصر سواء من طرف وكيل الملك شخصيا أو أحد نوابه بغض النظر عن شخصية النائب الممثل لوكيل الملك في الجلسة[7]. وبالتالي فإن أي عضو من أعضاء النيابة العامة يمكن أن يقوم بأي إجراء من إجراءات الدعوى العمومية، عوض عضو آخر في هذه الهيأة، ففي الجلسة الواحدة يمكن أن يخلف أحد أعضاء النيابة العامة زميله والمحاكمة جارية لا تتوقف[8]، لكن كل هذا مرتبط بشرط احترام الاختصاص الترابي، فلا يجوز لعضو من أعضاء النيابة العامة أمام محكمة عادية أن يقوم باتخاذ إجراء أمام محكمة الثنائية نيابة عن أحد قضاة النيابة العامة في هذه الأخيرة بمقولة أن : <<النيابة العامة وحدة لا تتبعض>>.
الفقرة الثانية : صفة الاستقلال
تتميز مؤسسة النيابة العامة بالاستقلال عن كل من الخصوم في الدعوى والمحكمة والإدارة، فاستقلالها عن الخصوم مؤكد في سلطة الملاءمة الثابتة لها بقوة القانون المادتان 40 بالنسبة لوكيل الملك و 49 بالنسبة للوكيل العام للملك في تحريكها للدعوى العمومية أو تركها بحسب ما يتبدى لها من الظروف والملابسات وما يحقق مصلحة المجتمع العليا.
أما استقلالها عن المحكمة فتابت كذلك إذ لا يجوز لقاضي الحكم أن يضع يده مباشرة على قضية من القضايا، دون أن تقام بها الدعوى من طرف النيابة العامة وإن هذه الأخيرة آثارت الدعوى العمومية فلها أن تساند مطالبها وتدافع عنها بواسطة ممثليها وتشرح آراءها بغية إقناع المحكمة بها دون ما أي تدخل توجيه من قبل المحكمة اللهم ما اقتضاه نظام حسن سير العدالة وتحصين حقوق الدفاع.
أما استقلالها اتجاه الإدارة، فأعضاء النيابة العامة قضاة ينتمون للسلك التراتبي القضائي، بما يتطلبه ذلك من تكوين وشروط خاصين يتميز بها أعضاء النيابة العامة عن باقي الموظفين وهي لا تختلف عما يشترطه في قضاة الأحكام كما أنهم يتمتعون بمجموعة من الضمانات أكبر من تلك التي تخول للموظفين العاديين، ويتجسد استقلال النيابة العامة كذلك في المداخلات الشفوية[9].
الفقرة الثالثة : صفة عدم المسؤولية
صفة عدم مسؤولية أعضاء النيابة العامة عن أعمالها أثناء ممارستهم لمهامهم في المتابعة والمراقبة، بما أنها تقوم بالدفاع عن المجتمع من الأشرار وحفظه من داء الجريمة، لذلك فإن هي انتهت متابعة شخص ما إلى التبرئة مثلا فلا يسوغ والحالة هذه أن يقوم هذا المبرأ (وقد يكون قبلا خضع للاعتقال بأمر من النيابة العامة) ويطالب بتعويضه شخصيا من النيابة العامة الذي يكون اتخذ الإجراء طبقا لقواعد المسؤولية المدنية، وبالتالي فأعضاء النيابة العامة يقومون بمهام جسيمة فلا يمكن تهديدهم لا بالنصوص الجنائية ولا بالإجراءات المدنية، وما يزكي هذا كله هو السهر على مصلحة المجتمع بالدرجة الأولى.
الفقرة الرابعة : صفة عدم القابلية للتجريح
فالمقصود بهذه الخاصية هو عدم السماح بخصومها من مدعى عليهم ومساهمين ومشاركين في الجريمة بتقديم طلبات ترمي إلى نزع صلاحية أعضاء النيابة العامة في ممارسة إجراء متعلق بالخصومة الجنائية عموما مخافة تحيز أو تحامل إلى غير ذلك من الأسباب التي قد يراها المدعى عليه قائمة لصداقة هذا العضو لأحد الأطراف أو لدائنيته له.. إلخ[10]. فمكن المشرع المغربي تجريح قضاة الحكم والتحقيق دون أعضاء النيابة العامة[11].
الفقرة الخامسة : خاصية التدرج والخضوع الرئاسي
فإن كل عضو من أعضاء النيابة العامة مرؤوس خاضع لرئيس الهيئة التي يتبعها في حدود الدائرة القضائية التي تختص بها هذه الهيئة.
هذا ولعل أهم تساؤل يتعلق بهذه الخصيصة التي نحن بصددها يتمحور في مدى صحة إجراء يتخذه أعضاء هيئة النيابة العامة خلافا للتعليمات التي قد يكون قد تلقاها من رئيسه ؟
الجواب هو أن كل مرؤوس عليه التقيد بتعليمات رئيسه عند قيام بكل الإجراءات المتعلقة بالخصومة الجنائية من بدايتها إلى نهايتها وإن هو خالفها – وبغض النظر عن إمكانية مجازاته تأديبا – فإن الإجراء المنجز خلافا للتعليمات الموجهة لرئيس المرؤوس يكون صحيحا، ومثال ذلك في الحالة التي يأمر فيها وزير العدل الوكيل العام للملك بإحدى المحاكم بعدم إثارة المتابعة وحفظها أو بعدم التماس تحقيق أو الكف عن ممارسته طرق الطعن... إلخ لكن الوكيل العام للملك خالف تلك الأوامر فإن كل التصرفات القانونية التي قام بها تكون صحيحة[12].
الفقرة السادسة : صفة الطرف الأصلي في الدعوى العمومية
بمجرد ما تثار الدعوى العمومية تصير النيابة العامة طرفا أصليا فيها وامتنع عليها بالتالي التخلي عن متابعتها ومراقبتها وخصوصا بالإمساك عن سلوك طرق الطعن في الأحكام الصادرة فيها خارج الحدود التي يخولها لها إعمال سلطة الملاءمة، فصفة الطرف الأصلي الثابت للنيابة العامة في الدعوى العمومية فحضورها واجب خلاف للمتهم أو غيره، ففي حالة عدم حضورها فإن رئيس المحكمة يكلف أحد من القضاة للقيام بالمهام المنوطة بها (المادة 46 من ق.م.ج)، فإن عدم ذكر حضور النيابة العامة في الحكم يجعله عرضة للنقض وتجدر الإشارة أن القضاء في كل من فرنسا ومصر يتطلب وجوبا ذكر حضور ممثل النيابة العامة في الحكم فقط من دون اشتراط لذكر بالتحديد اسمه الشخصي والعائلي.
الفقرة السابعة : خصيصة عدم ارتباط النيابة العامة بمطالبها
هذه الخصيصة نابعة من كون النيابة العامة وإن كانت خصما أصليا في الدعوى العمومية، فهي مع ذلك خصم يوصف "بالشريف" مادامت ترمي إلى تحقيق العدالة بالدرجة الأولى[13]، ويرى بعض الفقهاء أن جهاز النيابة العامة له مصطلح آخر أكثر دلالة ودقة في التعبير والمعنى وهو المتمثل في اعتباره جهاز جهة الحق العام[14].
وباعتبار النيابة العامة كذلك تسهر على تطبيق القانون الجنائي وتعاقب المجرمين وإحقاق العدالة الجنائية الحقة، وما للنيابة العامة من سلطة فقد تطالب بالبراءة الكاملة لمصلحة شخص وقعت متابعته وفقا للأصول أمام المحكمة أو مؤاخذته مؤاخذة مخففة ويصدر الحكم وفق طلباتها، لأنها تطالب بالإدانة أو تشديد العقوبة عند طلبها الاستئناف لأنها اكتشفت أسبابا للإدانة، أو التشديد لم تظهر لها من قبل ...[15]
المطلب الثاني : تنظيم النيابة العامة في القضاء الجنائي
دأب الباحثون على اصطلاح القضاء الواقف على جهاز النيابة العامة لكونها تقدم ملتمساتها للمحكمة وهي واقفة.
وقد نظم المشرع النيابة العامة كجهاز قضائي حتى تدخل في تكوين المحكمة الابتدائية والاستئنافية والمجلس الأعلى.
الفقرة الأولى : توزيع النيابة العامة
أولا : النيابة العامة أمام المحكمة الابتدائية
يمثل النيابة العامة أمام المحاكم الابتدائية وكيل الملك أو أحد نوابه، ويلتزم وكيل الملك بإخبار رئيسه الوكيل العام للملك بمحكمة الاستئناف بجميع الجنايات التي من ِشأنها المساس بالنظام والأمن العمومي للمملكة[16].
ثانيا : النيابة العامة لدى محاكم الاستئناف
تتكون النيابة العامة لدى محاكم الاستئناف من وكيل عام للملك أو أحد نوابه. ويمارس الوكيل العام للملك أو أحد نوابه. ويمارس الوكيل العام للملك الدعوى العمومية في الجنايات في حدود دائرة نفوذه.
عموما فإن الوكيل العام للملك يمارس الدعوى العمومية في الجنايات والجنح استثناءا وحالات التلبس المنصوص عليها في الفصل 56 من ق.م.ج.
ويرى بعض الباحثين أن النيابة العامة لدى محاكم الاستئناف أصبحت تهتم بالطعون المقدمة إليها ابتدائيا عوض الاهتمام بتنظيمها.
ثالثا : النيابة العامة أمام المجلس الأعلى
المجلس الأعلى باعتباره محكمة قانون يقوم بمراقبة تطبيق القانون من لدن محاكم المملكة من خلال الطعون المقدمة إليه بالنقض ومن خلالها أيضا يوحد اجتهادات القضاء.
يمثل النيابة العامة لدى المجلس الأعلى الوكيل العام للملك ويساعده محامين مقبولين لدى المجلس الأعلى[17] ومن بين أهم مهامها المناقشة القانونية من أجل تطبيق القانون خصوصا ما يتعلق ب ق.م.ج وللوكيل العام للملك مراقبة الوكلاء العامون وكلاء الملك بمحاكم الاستئناف والابتدائية يلتزم الوكيل العام للملك بالمجلس الأعلى بتبليغ وزيرها العدل بجميع الملاحظات المتعلقة بالإخلالات التي قد تسود عمل بعض القضاة[18] ومن خلالها يطلع وزير العدل النيابة العامة على التوجهات العامة للسياسة الجنائية[19].
الفقرة الثانية : النيابة العامة أمام المحاكم الاستثنائية
أولا : النيابة العامة أمام محكمة العدل الخاصة [20]
تخول مهام النيابة العامة أمام محكمة العدل الخاصة إلى قاض فرد وتمارس اختصاصاتها تحت إشراف وزير العدل بل إن المتابعات تتوقف على إذن كتابي من وزير العدل.
ثانيا : النيابة العامة أمام المحكمة الدائمة للقوات المسلحة الملكية
يمارسها مندوبون عن الحكومة ويتم تعيين من بين قضاة النيابة العامة مستشار لدى محكمة الاستئناف ليتم التعاون مع قضاة عسكريين يساعد المندوب العسكري[21] نواب من بين ضباط القضاء.
ثالثا : النيابة العامة بالمحكمة العليا للعدل
تتكون من أعضاء يعينون من طرف مجلس النواب تتركز متابعتهم ضد أعضاء الحكومة بسبب الجرائم التي يقترفونها بمناسبة ممارستهم لمهامهم.
الفقرة الثالثة : النظام القانوني الخاص بالنيابة العامة
أولا : الموظفون المكلفون بمهام النيابة العامة
كما هو معلوم فإن النيابة العامة تتكون من قضاة مهنيين إلى جانبهم موظفين إداريين وذلك لأن بعض المهام لا يمكن أن يمارسها إلا موظفون ومن خلال هذا ستجعل النيابة العامة جهازا مستقلا بذاته وجلي من البيان أن المشرع خول لمجموعة من الإدارات استثناءا تحريك الدعوى العمومية كإدارة المياه والغابات وإدارة الجمارك ومصالح الضرائب. ومع ذلك فالأمر لا يخفي الدور البارز للنيابة العامة في ممارسة الدعوى العمومية حيث تصبح أكثر ضمانة.
فالمحكمة الجنائية تكوين تظهر قوته الإلزامية ولو من خلال الوصف الذي يجب أن يحتويه الحكم مبينا مشاركة القضاة المختلفين بل حتى أسماءهم.
والجدير بالذكر أن مظاهر انتساب النيابة العامة للسلطة التنفيذية وذلك لخضوعها لوصاية وزارة العدل باعتبارها سلطة تنفيذية والتسلسل الإداري الذي لا يبقى معه معنى لاستقلال القاضي وحريته في التصرف حسب ما يمليه عليه ضميره[22].
المبحث الثاني : مهام جهاز النيابة العامة
المطلب الأول : النيابة العامة كطرف أصلي في الدعوى العمومية وتحريكها
إن مجرد الاعتراف بكون النيابة العامة كجهاز ينتصب على أساس أنه طرف أصلي في الدعوى العمومية، أي خصما في تلك الدعوى يعتبر حيفا بالمتهم وذلك من وجهين :
الجهة الأولى : أن النيابة العامة كجهاز لها سلطات على المتهم وهذا ما لا يبرره شيء كيفما كان، فإن الخصم – النيابة العامة – له سلطة إعداد الأدلة ومواجهة الخصم بها وكذلك ممارسة بعض السلطات وإن كانت استثنائية فلا يبرر ذلك ارتكابها من طرف هذا الخصم، وهذه السلطة تتمثل في إيداع المتهم بالسجن فكيف لشخص موضوع تحت رقابة هذا الجهاز، أن يثبت براءته ؟؟ بينما خصمه مطلوق السراح يبحث عن أدلته علاوة على كون هذا الخصم يتكون من جهاز كامل يخضع للدولة وما يترتب عن ذلك من إمكانيات مادية وبشرية في مواجهة ذلك الخصم الوحيد. ويعتبر تكافؤ الوسائل بين أطراف الدعوى العمومية كشرط أساسي من شروط المحاكمة العادلة الذي يقتضي أن توضع رهن إشارة المتهم نفس الوسائل الموضوعة بيد النيابة العامة للمشاركة في أعمال التحقيق بما تخوله من حق في الإطلاع على المسطرة وإمكانية الاعتراض على الأوامر القضائية.
الجهة الثانية : إن النيابة العامة كجهاز يتمتع بالأفضلية على المتهم من حيث الموقع والقوة، فموقعها إلى جانب القاضي يعتبر أكثر مساس بالعدالة والمساواة بين الأطراف المتخاصمة حيث يعترف للنيابة العامة بالجلوس إلى جانب قضاة الحكم بينما يبقى المتهم في قفص الاتهام إلى حين استدعائه إلى منصة الشهود لاستجوابه، ناهيك عن تعامل أمن المحكمة مع هذا المتهم بفضاضة داخل ذلك القفص وقد بين المشرع أن المتهم يجب ألا يمثل أمام المحكمة إلا وهو مطلق السراح غير مقيد وهذا يعني بداهة علم المشرع بالانتهاكات التي تتم داخل قفص الاتهام حيث يكون المتهم محكوما عليه بأنه الفاعل من طرف أعضاء للأمن حتى قبل صدور الحكم، خاصة وأن فرنسا قد ذهبت بعيدا في هذا المجال حيث ألزمت قضاة النيابة العامة بارتداء زي المحامين باعتبارها محامي العامة أو محامي الشعب، وهذا ما لا نراه في قانون المسطرة الجنائية المغربي، حيث يتمتع قاضي النيابة العامة بامتياز ارتداء زي قضاء الحكم.
فكيف لخصمين يتمتع أحدهما بكل الامتيازات المذكورة ولا يتمتع الآخر حتى بحق السراح المؤقت إن كان يتوفر على ضمانات، حيث نص المشرع على أن النيابة العامة يمكنها أن تمتع المتهم بالسراح المؤقت إذا ما توفرت فيه ضمانات كافية للحضور، لكن ومن حيث الواقع نجد أن النيابة العامة استغلت هذه السلطة إلى أبعد حد كنوع من أنواع التعسف في استعمال السلطة دون أي حسيب أو رقيب فيكفينا علما أنه فعليا واقعيا أن النيابة العامة لم تصدر قرار إطلاق سراح أي مثهم بناءا على الضمانات التي قدمها مهما كانت قوة هذه الضمانات بحجة عدم كفايتها في نظر هذه الأخيرة، فالمشرع عندما أورد كلمة "يمكنه" في نص المادة 74، يعني أن النيابة العامة الخيار في أمر منح السراح من عدمه[23].
1 – تحريك الدعوى العمومية :
وهكذا يمثل وكيل الملك شخصيا أو بواسطة نوابه النيابة العامة في دائرة نفوذه المحكمة الابتدائية المعين بها ويمارس الدعوى العمومية تحت مراقبة الوكيل العام إما تلقائيا أو بناء على شكاية شخص متضرر كما يمارس وكيل الملك سلطته على نوابه، وله أثناء أداء مهامه الحق في تسخير القوة العمومية مباشرة، - وهذا ما نصت عليه إحدى مواد قانون المسطرة الجنائية – وهكذا يتضح أن الأصل في مهام النيابة العامة أنها تقوم وبمساعدة الشرطة القضائية التي تعمل تحت إشرافها، بالتثبت من وقوع الجرائم وجمع الأدلة – هذا هو الأسلوب القانوني[24] – فيها والبحث عن مرتكبيها، ثم إقامة الدعوى العمومية ضد من يكثف البحث عن ضلوعه في ارتكاب الجريمة كفاعل أصلي أو شريك أو مساعد، لتطبق عليه العقوبة المقررة في القانون الجنائي.
كما أن النيابة العامة ومالها من سلطة ملاءمة تبقى لها إمكانية تحريك الدعوى العمومية والمتابعة من عدمها، حيث لا يفرض عليها عند الوصول إلى علمها نبأ ما متعلق بجريمة معينة تعمل على تحريك الدعوى العمومية ولو كانت تفيد على أن الجريمة اقترفت من طرف شخص ما وإنما تبقى لها سلطة تقديرية في هذه الحالة، فإذا تبين لها عدم كفاية الأدلة ضد هذا الشخص الذي نسب اقتراف هذه الجريمة الشيء الذي سيؤذي في الأخير إلى تبرئته من طرف المحكمة، هذا ما يصطلح عليه بالأسلوب التقديري[25].
ومن ثم فإن النيابة العامة تنوب عن المجتمع في الدفاع عن حقه في حياة آمنة، وحماية جميع أفراده من كل فعل يمس حقوقهم في الحياة بحقوقهم المادية والمعنوية وذلك عوض إسناد هذه المحكمة الخطيرة إلى المجتمع نفسه كما كان سائدا في العهود الغابرة.
ولذلك فيجب على وكيل الملك أن يخبر الوكيل العام للملك بالجنايات التي تبلغ إلى علمه وكذا بمختلف الأحداث والجرائم الخطيرة أو التي من شأنها أن تخل بالأمن العام.
وقد عرف المشرع المصري النيابة العامة بأنها شعبة من شعب السلطة القضائية وهي النائبة عن المجتمع والممثلة له وتتولى تمثيل المصالح العامة، وتسعى في تحقيق موجبات القانون – المادة الأولى – وتختص أساسا – دون غيرها – بتحريك الدعوى الجنائية، وذلك بإجراء التحقيق بنفسها أو بمن تنتدبه لذلك من مأموري الضبط القضائي أو بطلب ندب قاضي التحقيق أو بتكليف المتهم بالحضور أمام المحكمة الجنائية المختصة لمحاكمته – المادة الثانية –.
وتباشر النيابة العامة الدعوى الجنائية، بمتابعة سيرها أمام المحاكم حتى يصدر فيها حكم بات، وتقوم بأداء وظيفة النيابة العامة لدى محكمة النقض نيابة عامة مستقلة تشكل طبقا لأحكام القانون السلطة القضائية، ولهذه النيابة – بناءا على طلب المحكمة – حضور مداولات الدوائر المدنية والتجارية والأحوال الشخصية دون أن يكون لممثلها صوت معدود في المداولات – المادة الثالثة – وهكذا يتضح أن المشرع المصري ومع من الصلاحيات المسندة إلى النيابة العامة وجعلها تنهض بكافة الاختصاصات الأخرى التي تنص عليها مختلف القوانين أو تقتضيها وظيفتها الإدارية.
2 – إيقاف سير الدعوى العمومية :
من المهام الجديدة المسندة للنيابة العامة بموجب قانون رقم 22.01 إيقاف سير الدعوى العمومية، حيث أن بعض النزاعات التي تقع بين الأفراد وتعرض على المحاكم، خاصة عندما تكتسي طابعا عائليا، يكون من شأن التمادي فيها التأثير على الروابط والعلاقات الإنسانية القائمة بين طرفي النزاع خاصة حين يكون الضرر الاجتماعي ليس بالأهمية البالغة.
ورغبة في الحفاظ على هذه الروابط التي يؤدي الحكم فيها إلى أضرار لا تتحقق معها المصلحة العامة فقد أحدث المشرع آلية جديدة نصت عليها المادة 372 من قانون المسطرة الجنائية الجديد، وبمقتضاها يمكن للمحكمة في حال وقوع تنازل أو صلح أثناء سريان الدعوى أو إذا اقتضت المصلحة ذلك أن تأمر بإيقاف سير الدعوى العمومية وذلك بناء على ملتمس تقدمه النيابة العامة، مع إمكانية استئناف النظر بطلب من النيابة العامة أيضا ما لم تكن الدعوى قد اتفقت بأحد أسباب السقوط كالتقادم وغيره، وتدعم هذه الإمكانية الأخيرة الغاية المتوخاة من هذا الاستئناء وهي الحفاظ على النسيج الاجتماعي وتكون بمثابة رادع لأطراف النزاع، فمتى عادوا إلى نفس الأفعال يمكن استئناف النظر من جديد في الدعوى الجنائية.
حيث نصت المادة 372 المذكورة على أنه : <<إذا كان الأمر يتعلق بمتابعة من أجل جنحة من الجنح المنصوص عليها في المادة 41 من هذا القانون، فإنه يمكن للمحكمة المعروضة عليها القضية بناء على ملتمس تقدمه النيابة العامة في حالة تنازل الطرف المتضرر من الفعل الجرمي عن شكايته، أن توقف سير إجراءات الدعوى العمومية ما لم تكن قد بثت فيها بحكم نهائي>>.
وأضافت هذه المادة أنه : <<يمكن مواصلة النظر في الدعوى العمومية بطلب من النيابة العامة، إن ظهرت عناصر جديدة تمس الدعوى العمومية، ما لم تكن قد سقطت بالتقادم أو بسبب آخر>>.
وبذلك يتضح جليا أن المشرع قد وضع آلية جديدة تتوخى الحفاظ على الروابط الاجتماعية ووضع حد لتناسل الخلافات الاجتماعية.
المطلب الثاني : النيابة العامة ودورها في مراقبة الشرطة القضائية
بالرجوع إلى نص المادة 17 من قانون المسطرة الجنائية المغربي الذي جاء فيه : <<توضع الشرطة القضائية في دائرة نفوذ كل محكمة استئناف تحت سلطة الوكيل العام للملك ومراقبة الغرفة الجنحية بمحكمة الاستئناف المشار إليها في الفرع الخامس من هذا الباب>>.
من خلال استقراء حيتيات هذه المادة، نستخلص على أن جل المهام التي أناط بها المشرع الشرطة القضائية تتم تحت مراقبة النيابة العامة ضمن دائرة نفوذها.
ولعل من أهم هذه المهام هي المحافظة على السر المهني ومن خلاله يظهر جليا مدى خطورة المراقبة بعدما تكون– النيابة العامة – قد ألزمت الشرطة القضائية بالقيام بكل التحريات وجميع الأدلة المرتبطة بجريمة معينة نسبت إلى شخص بعينه، وهذا ما نستشفه من خلال نص المادة 18 من قانون المسطرة الجنائية حيث جاء فيها : <<يعهد إلى الشرطة القضائية تبعا للبيانات المقررة في هذا القسم بالتثبت من وقوع الجرائم وجمع الأدلة عنها وبالبحث عن مرتكبيها.
تقوم بتنفيذ أوامر وإنابات قضاء التحقيق وأوامر النيابة العامة>>.
فالقضاء والموظفون وأعوان الشرطة القضائية عند قيامهم بمهام الشرطة القضائية يخضعون لإشراف وكيل الملك وتخضع الشرطة القضائية برمتها تحت إشراف ومراقبة رئيس النيابة العامة وللغرفة الجنحية التي حلت محل غرفة الاتهام سابقا[26].
والنيابة العامة في شخص الوكيل العام للملك ووكيل الملك ونوابه كذا قاضي التحقيق يعتبرون ضباط سامون للشرطة القضائية، كما يتسم بصفة ضابط الشرطة القضائية[27]. أما أعوان الشرطة القضائية فقد نص عليهم الفصل 24 من قانون المسطرة الجنائية المعدل بظهير 18/09/1962 وتتحدد مأموريتهم في نطاق الفصل الموالي هذا الفصل 25 من ق.ج.ج[28].
وعلى العموم فإن النيابة العامة تلعب دورا مهما بالنسبة للمهام التي تقوم بها الضابطة القضائية في سير الدعوى العمومية ومباشرتها من خلال البحث التمهيدي المنجز من طرفه، ذلك أن الضابطة تباشر مهامها من خلال الإشراف المباشر للنيابة العامة ومراقبة هاته الأخيرة لأعمالها وتوجيهها وإعطاء التعليمات المتطلبة قانونا لها، أما مباشرة أو عن طريق المراسلات الكتابية أو الهاتف.
فالدعوى العمومية باعتبار أنها قد تثار في بعض الأحيان مباشرة أمام الضابطة أو قد تحال عليها من طرف النيابة العامة بواسطة الشكايات المقدمة لهاته الأخيرة فإنه بالرغم من ذلك تخضع في تسييرها وتوجيهها للنيابة العامة من خلال التعليمات الموجهة لها خلال إجراءات البحث التمهيدي أو بعد الانتهاء منه[29].
الهوامش
ولأهمية هذا الجهاز واعترافا بالأعمال الجليلة والمجهودات القيمة التي يقوم بها للصالح العام خصص له المشرع بابا خاصا هو الباب الثالث من القسم الأول من الكتاب الأول المتعلق بالتحري عن الجرائم ومعاينتها[1].
والنيابة العامة كطرف رئيسي في الدعوى العمومية تنعت بالقضاء الواقف Magistrature de bout في الفقه الجنائي لأن ممثلها يقف لزوما حين يأخذ الكلمة أمام المحكمة لبسط مطالب الادعاء الشفوية أو لمناقشة أوجه إسناد التهمة إلى المتهم، في حين أن قضاة الأحكام لا يقفون أبدا لذلك اتسموا بالقضاء الجالس كما تنعت بالطرف الشريف في الدعوى العمومية لأنه ولو جرت العادة على التماسها دائما لسبل إدانة المتهم سعيا منها في الدفاع عن المجتمع من كيد المجرمين والأشرار فإنها مع ذلك إذا هي تنبهت إلى أن تلمس الإدانة أصبح يتعارض مع العدالة بسبب غلبة أدلة البراءة في جانب التهم، تحولت النيابة العامة من ملتمساتها السابقة – حتى ولو كانت مخطوطة ومكتوبة – ودافعت بحرارة عن الأصل الذي هو البراءة، ولا عجب في ذلك ولا عضاضة مادامت طرفا في الدعوى العمومية ليست ككل الأطراف – يمثل المجتمع كله الذي وإن كان يهمه فعلا تحقيق مصلحته إلا أن ذلك لا ينبغي أن يكون على حساب الأبرياء[2].
ولم يكن الجهاز النيابة العامة أن يصل إلى ما وصل إليه التنظيم المحكم واتساع السلطات، وجسامة المهام إلا عبر مراحل طبعت تاريخه.
في مرحلة سبقت عهد الحماية لم يكن جهاز النيابة العامة مستقلا يحرك الدعوى العمومية ويمارسها وينفذ الأحكام، وإنما كانت هاته المهام منصهرة في القاضي مصدر الحكم، وخير دليل على ذلك أنه بالرجوع إلى بعض القضايا التي كان القضاء المسلمون يبتون فيها، لا يخرج عن نطاق اعتبارها من مهام النيابة العامة وقتنا المعاصر[3].
أما خلال فترة الحماية فقد عرف المغرب مجموعة من النظم تتضمن محاكم مختلفة نذكر منها على سبيل المثال :
أ – المحاكم العصرية :
وقد كانت هذه المحاكم تنظر في القضايا على درجتين محكمة ابتدائية ومحكمة استئناف الأولى تتشكل من رئيس ونواب ومدعى عام ووكلائه، أما الثانية فمن رئيس أول وخمسة رؤساء غرف وأربعة وعشرون مستشارا ومدعي عمومي ومحامين عموميين وخمسة وكلاء للمدعي العمومي.
ب – المحاكم المخزنية :
وقد كانت النيابة العامة ممثلة أساسا في هاته المحاكم بناء على ظهير 24 أكتوبر 1953 من طرف المندوبين المخزنيين، وكان تدخل النيابة أساسا لفائدة القانون ويشمل تدخلها هذا جميع القضايا وعلى رأسها بالطبع القضايا المدنية والتجارية[4].
ج – المحاكم العرفية :
كان أساس هاته المحاكم مجموعة من الأعراف والعادات والتقاليد المطبقة في المناطق البربرية... وكانت تخضع من حيث الاختصاصات النيابة العامة إلى سلطة مندوب الحكومة الفرنسية، كما أن دور هذا الأخير لم يكن منحصرا فقط في اختصاصات النيابة العامة أمام هاته المحاكم بل أنه تطور وأصبح ينصب أساسا على دور المراقبة والإشراف على مجموعة من المحاكم العبرية.
د – المحاكم العبرية :
كانت هاته المحاكم خاضعة لتطبيق الشريعة الموسوية، سواء في الشمال المغربي أو في جنوبه، وما يسجل على هذه المحاكم هو غياب النيابة العامة والتقاضي على درجة واحدة[5]، أما خلال فترة ما بعد استقلال المغرب وذهاب عصر الحماية.
فقد صدرت عدة ظهائر شريفة وقوانين ساهمت في تطور العدالة لعل أهمها قانون التوحيد والتعريب الذي ادمجت بمقتضاه المحاكم العصرية في المحاكم العادية ومحاكم الصلح في محاكم السدد، والمحاكم الابتدائية في المحاكم الإقليمية ابتداء من فاتح يناير 1965، وكذلك ظهير التنظيم القضائي الجديد 15 يوليوز 1974 وظهير الإجراءات الانتقالية بتاريخ 28 يوليوز 1974.
ليعرف بعد ذلك قانون المسطرة الجنائية تعديلا بمقتضى ظهير 30 دجنبر 1991 على بعض مقتضيات في 10 فبراير 1959 يتولوه تعديل 10 شتنبر 1993.
وفي سنة 2003 يصدر القانون الجديد رقم 22.01 الذي اعتبر محطة تاريخية متميزة وقفزة نوعية في مسار تطور بناء دولة الحق والقانون والمؤسسات. ولعل أهم ما جاء به هذا القانون فيما يخص النيابة العامة التنصيص على :
- مبدأ سرية البحث التمهيدي وإشراف النيابة العامة على تسييره.
- مراقبة أعمال ضباط الشرطة القضائية من طرف النيابة العامة وتنقيطهم.
- معاينة وكيل الملك لأماكن الوضع تحت الحراسة النظرية ... وغيرها.
كما أنه وبغية القضاء الفوري على أثر الجريمة والحفاظ على الوضعيات التي كانت قائمة قبل ارتكابها، تم إسناد مهام جديدة إلى النيابة العامة – إضافة إلى ما ذكر – كإرجاع الحالة إلى ما كانت عليه وحالة الاعتداء على الحيازة ورد الأشياء المحجوزة لمن له الحق فيها، بالإضافة إلى المساهمة في إصلاح التمزق الذي يصب النسيج الاجتماعي من جراء بعض النزاعات البسيطة، وسعيا إلى إعادة وشائح المودة إلى أفراد المجتمع من خلال رعاية الصلح[6].
للتعرف أكثر على هذا الجهاز خصصنا مبحثا أول لماهيته، ومبحث ثان مهام جهاز النيابة العامة نركز فيه على دورها في تحريك الدعوى العمومية وكذا مراقبتها لأعمال الشرطة القضائية كأهم دورين.
المبحث الأول : ماهية جهاز النيابة العامة
إن النيابة العامة هي جهاز قانوني يمثل المجتمع ذلك من خلال السلطات التي منحها لها المشرع فإذا كان هدف الطرف المدني المتضرر أو المدعي هو الحصول على التعويض بصفة أساسية فإن هدف النيابة العامة هو تمثيل المجتمع من خلال سلطتها العقابية، فهذا كله يجعل النيابة العامة تتميز بمجموعة من الخصائص، سنعالج هذه الخصائص في مطلب أول، كما أنها تختلف على باقي الأجهزة من حيث التنظيم، سنعالج هذا في مطلب ثاني.
الأول : خصائص النيابة العامة
سنتناول هذه الخصائص في عدة فقرات :
الفقرة الأولى : صفة الوحدة
تعتبر خاصية النيابة العامة المتمثلة في الوحدة من بين الخصائص المميزة لجهاز النيابة العامة وذلك بغض النظر عن درجة المحكمة، ذلك أن النيابة العامة وحدة لا تتجزأ، فهي بالتالي وحدة في التمثيل ووحدة في التعبير.
ويقصد بخضوع النيابة العامة لمبدأ الوحدة غير المجزئة هو أن النيابة العامة تمثل على صعيد المحاكم الابتدائية على سبيل المثال لا الحصر سواء من طرف وكيل الملك شخصيا أو أحد نوابه بغض النظر عن شخصية النائب الممثل لوكيل الملك في الجلسة[7]. وبالتالي فإن أي عضو من أعضاء النيابة العامة يمكن أن يقوم بأي إجراء من إجراءات الدعوى العمومية، عوض عضو آخر في هذه الهيأة، ففي الجلسة الواحدة يمكن أن يخلف أحد أعضاء النيابة العامة زميله والمحاكمة جارية لا تتوقف[8]، لكن كل هذا مرتبط بشرط احترام الاختصاص الترابي، فلا يجوز لعضو من أعضاء النيابة العامة أمام محكمة عادية أن يقوم باتخاذ إجراء أمام محكمة الثنائية نيابة عن أحد قضاة النيابة العامة في هذه الأخيرة بمقولة أن : <<النيابة العامة وحدة لا تتبعض>>.
الفقرة الثانية : صفة الاستقلال
تتميز مؤسسة النيابة العامة بالاستقلال عن كل من الخصوم في الدعوى والمحكمة والإدارة، فاستقلالها عن الخصوم مؤكد في سلطة الملاءمة الثابتة لها بقوة القانون المادتان 40 بالنسبة لوكيل الملك و 49 بالنسبة للوكيل العام للملك في تحريكها للدعوى العمومية أو تركها بحسب ما يتبدى لها من الظروف والملابسات وما يحقق مصلحة المجتمع العليا.
أما استقلالها عن المحكمة فتابت كذلك إذ لا يجوز لقاضي الحكم أن يضع يده مباشرة على قضية من القضايا، دون أن تقام بها الدعوى من طرف النيابة العامة وإن هذه الأخيرة آثارت الدعوى العمومية فلها أن تساند مطالبها وتدافع عنها بواسطة ممثليها وتشرح آراءها بغية إقناع المحكمة بها دون ما أي تدخل توجيه من قبل المحكمة اللهم ما اقتضاه نظام حسن سير العدالة وتحصين حقوق الدفاع.
أما استقلالها اتجاه الإدارة، فأعضاء النيابة العامة قضاة ينتمون للسلك التراتبي القضائي، بما يتطلبه ذلك من تكوين وشروط خاصين يتميز بها أعضاء النيابة العامة عن باقي الموظفين وهي لا تختلف عما يشترطه في قضاة الأحكام كما أنهم يتمتعون بمجموعة من الضمانات أكبر من تلك التي تخول للموظفين العاديين، ويتجسد استقلال النيابة العامة كذلك في المداخلات الشفوية[9].
الفقرة الثالثة : صفة عدم المسؤولية
صفة عدم مسؤولية أعضاء النيابة العامة عن أعمالها أثناء ممارستهم لمهامهم في المتابعة والمراقبة، بما أنها تقوم بالدفاع عن المجتمع من الأشرار وحفظه من داء الجريمة، لذلك فإن هي انتهت متابعة شخص ما إلى التبرئة مثلا فلا يسوغ والحالة هذه أن يقوم هذا المبرأ (وقد يكون قبلا خضع للاعتقال بأمر من النيابة العامة) ويطالب بتعويضه شخصيا من النيابة العامة الذي يكون اتخذ الإجراء طبقا لقواعد المسؤولية المدنية، وبالتالي فأعضاء النيابة العامة يقومون بمهام جسيمة فلا يمكن تهديدهم لا بالنصوص الجنائية ولا بالإجراءات المدنية، وما يزكي هذا كله هو السهر على مصلحة المجتمع بالدرجة الأولى.
الفقرة الرابعة : صفة عدم القابلية للتجريح
فالمقصود بهذه الخاصية هو عدم السماح بخصومها من مدعى عليهم ومساهمين ومشاركين في الجريمة بتقديم طلبات ترمي إلى نزع صلاحية أعضاء النيابة العامة في ممارسة إجراء متعلق بالخصومة الجنائية عموما مخافة تحيز أو تحامل إلى غير ذلك من الأسباب التي قد يراها المدعى عليه قائمة لصداقة هذا العضو لأحد الأطراف أو لدائنيته له.. إلخ[10]. فمكن المشرع المغربي تجريح قضاة الحكم والتحقيق دون أعضاء النيابة العامة[11].
الفقرة الخامسة : خاصية التدرج والخضوع الرئاسي
فإن كل عضو من أعضاء النيابة العامة مرؤوس خاضع لرئيس الهيئة التي يتبعها في حدود الدائرة القضائية التي تختص بها هذه الهيئة.
هذا ولعل أهم تساؤل يتعلق بهذه الخصيصة التي نحن بصددها يتمحور في مدى صحة إجراء يتخذه أعضاء هيئة النيابة العامة خلافا للتعليمات التي قد يكون قد تلقاها من رئيسه ؟
الجواب هو أن كل مرؤوس عليه التقيد بتعليمات رئيسه عند قيام بكل الإجراءات المتعلقة بالخصومة الجنائية من بدايتها إلى نهايتها وإن هو خالفها – وبغض النظر عن إمكانية مجازاته تأديبا – فإن الإجراء المنجز خلافا للتعليمات الموجهة لرئيس المرؤوس يكون صحيحا، ومثال ذلك في الحالة التي يأمر فيها وزير العدل الوكيل العام للملك بإحدى المحاكم بعدم إثارة المتابعة وحفظها أو بعدم التماس تحقيق أو الكف عن ممارسته طرق الطعن... إلخ لكن الوكيل العام للملك خالف تلك الأوامر فإن كل التصرفات القانونية التي قام بها تكون صحيحة[12].
الفقرة السادسة : صفة الطرف الأصلي في الدعوى العمومية
بمجرد ما تثار الدعوى العمومية تصير النيابة العامة طرفا أصليا فيها وامتنع عليها بالتالي التخلي عن متابعتها ومراقبتها وخصوصا بالإمساك عن سلوك طرق الطعن في الأحكام الصادرة فيها خارج الحدود التي يخولها لها إعمال سلطة الملاءمة، فصفة الطرف الأصلي الثابت للنيابة العامة في الدعوى العمومية فحضورها واجب خلاف للمتهم أو غيره، ففي حالة عدم حضورها فإن رئيس المحكمة يكلف أحد من القضاة للقيام بالمهام المنوطة بها (المادة 46 من ق.م.ج)، فإن عدم ذكر حضور النيابة العامة في الحكم يجعله عرضة للنقض وتجدر الإشارة أن القضاء في كل من فرنسا ومصر يتطلب وجوبا ذكر حضور ممثل النيابة العامة في الحكم فقط من دون اشتراط لذكر بالتحديد اسمه الشخصي والعائلي.
الفقرة السابعة : خصيصة عدم ارتباط النيابة العامة بمطالبها
هذه الخصيصة نابعة من كون النيابة العامة وإن كانت خصما أصليا في الدعوى العمومية، فهي مع ذلك خصم يوصف "بالشريف" مادامت ترمي إلى تحقيق العدالة بالدرجة الأولى[13]، ويرى بعض الفقهاء أن جهاز النيابة العامة له مصطلح آخر أكثر دلالة ودقة في التعبير والمعنى وهو المتمثل في اعتباره جهاز جهة الحق العام[14].
وباعتبار النيابة العامة كذلك تسهر على تطبيق القانون الجنائي وتعاقب المجرمين وإحقاق العدالة الجنائية الحقة، وما للنيابة العامة من سلطة فقد تطالب بالبراءة الكاملة لمصلحة شخص وقعت متابعته وفقا للأصول أمام المحكمة أو مؤاخذته مؤاخذة مخففة ويصدر الحكم وفق طلباتها، لأنها تطالب بالإدانة أو تشديد العقوبة عند طلبها الاستئناف لأنها اكتشفت أسبابا للإدانة، أو التشديد لم تظهر لها من قبل ...[15]
المطلب الثاني : تنظيم النيابة العامة في القضاء الجنائي
دأب الباحثون على اصطلاح القضاء الواقف على جهاز النيابة العامة لكونها تقدم ملتمساتها للمحكمة وهي واقفة.
وقد نظم المشرع النيابة العامة كجهاز قضائي حتى تدخل في تكوين المحكمة الابتدائية والاستئنافية والمجلس الأعلى.
الفقرة الأولى : توزيع النيابة العامة
أولا : النيابة العامة أمام المحكمة الابتدائية
يمثل النيابة العامة أمام المحاكم الابتدائية وكيل الملك أو أحد نوابه، ويلتزم وكيل الملك بإخبار رئيسه الوكيل العام للملك بمحكمة الاستئناف بجميع الجنايات التي من ِشأنها المساس بالنظام والأمن العمومي للمملكة[16].
ثانيا : النيابة العامة لدى محاكم الاستئناف
تتكون النيابة العامة لدى محاكم الاستئناف من وكيل عام للملك أو أحد نوابه. ويمارس الوكيل العام للملك أو أحد نوابه. ويمارس الوكيل العام للملك الدعوى العمومية في الجنايات في حدود دائرة نفوذه.
عموما فإن الوكيل العام للملك يمارس الدعوى العمومية في الجنايات والجنح استثناءا وحالات التلبس المنصوص عليها في الفصل 56 من ق.م.ج.
ويرى بعض الباحثين أن النيابة العامة لدى محاكم الاستئناف أصبحت تهتم بالطعون المقدمة إليها ابتدائيا عوض الاهتمام بتنظيمها.
ثالثا : النيابة العامة أمام المجلس الأعلى
المجلس الأعلى باعتباره محكمة قانون يقوم بمراقبة تطبيق القانون من لدن محاكم المملكة من خلال الطعون المقدمة إليه بالنقض ومن خلالها أيضا يوحد اجتهادات القضاء.
يمثل النيابة العامة لدى المجلس الأعلى الوكيل العام للملك ويساعده محامين مقبولين لدى المجلس الأعلى[17] ومن بين أهم مهامها المناقشة القانونية من أجل تطبيق القانون خصوصا ما يتعلق ب ق.م.ج وللوكيل العام للملك مراقبة الوكلاء العامون وكلاء الملك بمحاكم الاستئناف والابتدائية يلتزم الوكيل العام للملك بالمجلس الأعلى بتبليغ وزيرها العدل بجميع الملاحظات المتعلقة بالإخلالات التي قد تسود عمل بعض القضاة[18] ومن خلالها يطلع وزير العدل النيابة العامة على التوجهات العامة للسياسة الجنائية[19].
الفقرة الثانية : النيابة العامة أمام المحاكم الاستثنائية
أولا : النيابة العامة أمام محكمة العدل الخاصة [20]
تخول مهام النيابة العامة أمام محكمة العدل الخاصة إلى قاض فرد وتمارس اختصاصاتها تحت إشراف وزير العدل بل إن المتابعات تتوقف على إذن كتابي من وزير العدل.
ثانيا : النيابة العامة أمام المحكمة الدائمة للقوات المسلحة الملكية
يمارسها مندوبون عن الحكومة ويتم تعيين من بين قضاة النيابة العامة مستشار لدى محكمة الاستئناف ليتم التعاون مع قضاة عسكريين يساعد المندوب العسكري[21] نواب من بين ضباط القضاء.
ثالثا : النيابة العامة بالمحكمة العليا للعدل
تتكون من أعضاء يعينون من طرف مجلس النواب تتركز متابعتهم ضد أعضاء الحكومة بسبب الجرائم التي يقترفونها بمناسبة ممارستهم لمهامهم.
الفقرة الثالثة : النظام القانوني الخاص بالنيابة العامة
أولا : الموظفون المكلفون بمهام النيابة العامة
كما هو معلوم فإن النيابة العامة تتكون من قضاة مهنيين إلى جانبهم موظفين إداريين وذلك لأن بعض المهام لا يمكن أن يمارسها إلا موظفون ومن خلال هذا ستجعل النيابة العامة جهازا مستقلا بذاته وجلي من البيان أن المشرع خول لمجموعة من الإدارات استثناءا تحريك الدعوى العمومية كإدارة المياه والغابات وإدارة الجمارك ومصالح الضرائب. ومع ذلك فالأمر لا يخفي الدور البارز للنيابة العامة في ممارسة الدعوى العمومية حيث تصبح أكثر ضمانة.
فالمحكمة الجنائية تكوين تظهر قوته الإلزامية ولو من خلال الوصف الذي يجب أن يحتويه الحكم مبينا مشاركة القضاة المختلفين بل حتى أسماءهم.
والجدير بالذكر أن مظاهر انتساب النيابة العامة للسلطة التنفيذية وذلك لخضوعها لوصاية وزارة العدل باعتبارها سلطة تنفيذية والتسلسل الإداري الذي لا يبقى معه معنى لاستقلال القاضي وحريته في التصرف حسب ما يمليه عليه ضميره[22].
المبحث الثاني : مهام جهاز النيابة العامة
المطلب الأول : النيابة العامة كطرف أصلي في الدعوى العمومية وتحريكها
إن مجرد الاعتراف بكون النيابة العامة كجهاز ينتصب على أساس أنه طرف أصلي في الدعوى العمومية، أي خصما في تلك الدعوى يعتبر حيفا بالمتهم وذلك من وجهين :
الجهة الأولى : أن النيابة العامة كجهاز لها سلطات على المتهم وهذا ما لا يبرره شيء كيفما كان، فإن الخصم – النيابة العامة – له سلطة إعداد الأدلة ومواجهة الخصم بها وكذلك ممارسة بعض السلطات وإن كانت استثنائية فلا يبرر ذلك ارتكابها من طرف هذا الخصم، وهذه السلطة تتمثل في إيداع المتهم بالسجن فكيف لشخص موضوع تحت رقابة هذا الجهاز، أن يثبت براءته ؟؟ بينما خصمه مطلوق السراح يبحث عن أدلته علاوة على كون هذا الخصم يتكون من جهاز كامل يخضع للدولة وما يترتب عن ذلك من إمكانيات مادية وبشرية في مواجهة ذلك الخصم الوحيد. ويعتبر تكافؤ الوسائل بين أطراف الدعوى العمومية كشرط أساسي من شروط المحاكمة العادلة الذي يقتضي أن توضع رهن إشارة المتهم نفس الوسائل الموضوعة بيد النيابة العامة للمشاركة في أعمال التحقيق بما تخوله من حق في الإطلاع على المسطرة وإمكانية الاعتراض على الأوامر القضائية.
الجهة الثانية : إن النيابة العامة كجهاز يتمتع بالأفضلية على المتهم من حيث الموقع والقوة، فموقعها إلى جانب القاضي يعتبر أكثر مساس بالعدالة والمساواة بين الأطراف المتخاصمة حيث يعترف للنيابة العامة بالجلوس إلى جانب قضاة الحكم بينما يبقى المتهم في قفص الاتهام إلى حين استدعائه إلى منصة الشهود لاستجوابه، ناهيك عن تعامل أمن المحكمة مع هذا المتهم بفضاضة داخل ذلك القفص وقد بين المشرع أن المتهم يجب ألا يمثل أمام المحكمة إلا وهو مطلق السراح غير مقيد وهذا يعني بداهة علم المشرع بالانتهاكات التي تتم داخل قفص الاتهام حيث يكون المتهم محكوما عليه بأنه الفاعل من طرف أعضاء للأمن حتى قبل صدور الحكم، خاصة وأن فرنسا قد ذهبت بعيدا في هذا المجال حيث ألزمت قضاة النيابة العامة بارتداء زي المحامين باعتبارها محامي العامة أو محامي الشعب، وهذا ما لا نراه في قانون المسطرة الجنائية المغربي، حيث يتمتع قاضي النيابة العامة بامتياز ارتداء زي قضاء الحكم.
فكيف لخصمين يتمتع أحدهما بكل الامتيازات المذكورة ولا يتمتع الآخر حتى بحق السراح المؤقت إن كان يتوفر على ضمانات، حيث نص المشرع على أن النيابة العامة يمكنها أن تمتع المتهم بالسراح المؤقت إذا ما توفرت فيه ضمانات كافية للحضور، لكن ومن حيث الواقع نجد أن النيابة العامة استغلت هذه السلطة إلى أبعد حد كنوع من أنواع التعسف في استعمال السلطة دون أي حسيب أو رقيب فيكفينا علما أنه فعليا واقعيا أن النيابة العامة لم تصدر قرار إطلاق سراح أي مثهم بناءا على الضمانات التي قدمها مهما كانت قوة هذه الضمانات بحجة عدم كفايتها في نظر هذه الأخيرة، فالمشرع عندما أورد كلمة "يمكنه" في نص المادة 74، يعني أن النيابة العامة الخيار في أمر منح السراح من عدمه[23].
1 – تحريك الدعوى العمومية :
وهكذا يمثل وكيل الملك شخصيا أو بواسطة نوابه النيابة العامة في دائرة نفوذه المحكمة الابتدائية المعين بها ويمارس الدعوى العمومية تحت مراقبة الوكيل العام إما تلقائيا أو بناء على شكاية شخص متضرر كما يمارس وكيل الملك سلطته على نوابه، وله أثناء أداء مهامه الحق في تسخير القوة العمومية مباشرة، - وهذا ما نصت عليه إحدى مواد قانون المسطرة الجنائية – وهكذا يتضح أن الأصل في مهام النيابة العامة أنها تقوم وبمساعدة الشرطة القضائية التي تعمل تحت إشرافها، بالتثبت من وقوع الجرائم وجمع الأدلة – هذا هو الأسلوب القانوني[24] – فيها والبحث عن مرتكبيها، ثم إقامة الدعوى العمومية ضد من يكثف البحث عن ضلوعه في ارتكاب الجريمة كفاعل أصلي أو شريك أو مساعد، لتطبق عليه العقوبة المقررة في القانون الجنائي.
كما أن النيابة العامة ومالها من سلطة ملاءمة تبقى لها إمكانية تحريك الدعوى العمومية والمتابعة من عدمها، حيث لا يفرض عليها عند الوصول إلى علمها نبأ ما متعلق بجريمة معينة تعمل على تحريك الدعوى العمومية ولو كانت تفيد على أن الجريمة اقترفت من طرف شخص ما وإنما تبقى لها سلطة تقديرية في هذه الحالة، فإذا تبين لها عدم كفاية الأدلة ضد هذا الشخص الذي نسب اقتراف هذه الجريمة الشيء الذي سيؤذي في الأخير إلى تبرئته من طرف المحكمة، هذا ما يصطلح عليه بالأسلوب التقديري[25].
ومن ثم فإن النيابة العامة تنوب عن المجتمع في الدفاع عن حقه في حياة آمنة، وحماية جميع أفراده من كل فعل يمس حقوقهم في الحياة بحقوقهم المادية والمعنوية وذلك عوض إسناد هذه المحكمة الخطيرة إلى المجتمع نفسه كما كان سائدا في العهود الغابرة.
ولذلك فيجب على وكيل الملك أن يخبر الوكيل العام للملك بالجنايات التي تبلغ إلى علمه وكذا بمختلف الأحداث والجرائم الخطيرة أو التي من شأنها أن تخل بالأمن العام.
وقد عرف المشرع المصري النيابة العامة بأنها شعبة من شعب السلطة القضائية وهي النائبة عن المجتمع والممثلة له وتتولى تمثيل المصالح العامة، وتسعى في تحقيق موجبات القانون – المادة الأولى – وتختص أساسا – دون غيرها – بتحريك الدعوى الجنائية، وذلك بإجراء التحقيق بنفسها أو بمن تنتدبه لذلك من مأموري الضبط القضائي أو بطلب ندب قاضي التحقيق أو بتكليف المتهم بالحضور أمام المحكمة الجنائية المختصة لمحاكمته – المادة الثانية –.
وتباشر النيابة العامة الدعوى الجنائية، بمتابعة سيرها أمام المحاكم حتى يصدر فيها حكم بات، وتقوم بأداء وظيفة النيابة العامة لدى محكمة النقض نيابة عامة مستقلة تشكل طبقا لأحكام القانون السلطة القضائية، ولهذه النيابة – بناءا على طلب المحكمة – حضور مداولات الدوائر المدنية والتجارية والأحوال الشخصية دون أن يكون لممثلها صوت معدود في المداولات – المادة الثالثة – وهكذا يتضح أن المشرع المصري ومع من الصلاحيات المسندة إلى النيابة العامة وجعلها تنهض بكافة الاختصاصات الأخرى التي تنص عليها مختلف القوانين أو تقتضيها وظيفتها الإدارية.
2 – إيقاف سير الدعوى العمومية :
من المهام الجديدة المسندة للنيابة العامة بموجب قانون رقم 22.01 إيقاف سير الدعوى العمومية، حيث أن بعض النزاعات التي تقع بين الأفراد وتعرض على المحاكم، خاصة عندما تكتسي طابعا عائليا، يكون من شأن التمادي فيها التأثير على الروابط والعلاقات الإنسانية القائمة بين طرفي النزاع خاصة حين يكون الضرر الاجتماعي ليس بالأهمية البالغة.
ورغبة في الحفاظ على هذه الروابط التي يؤدي الحكم فيها إلى أضرار لا تتحقق معها المصلحة العامة فقد أحدث المشرع آلية جديدة نصت عليها المادة 372 من قانون المسطرة الجنائية الجديد، وبمقتضاها يمكن للمحكمة في حال وقوع تنازل أو صلح أثناء سريان الدعوى أو إذا اقتضت المصلحة ذلك أن تأمر بإيقاف سير الدعوى العمومية وذلك بناء على ملتمس تقدمه النيابة العامة، مع إمكانية استئناف النظر بطلب من النيابة العامة أيضا ما لم تكن الدعوى قد اتفقت بأحد أسباب السقوط كالتقادم وغيره، وتدعم هذه الإمكانية الأخيرة الغاية المتوخاة من هذا الاستئناء وهي الحفاظ على النسيج الاجتماعي وتكون بمثابة رادع لأطراف النزاع، فمتى عادوا إلى نفس الأفعال يمكن استئناف النظر من جديد في الدعوى الجنائية.
حيث نصت المادة 372 المذكورة على أنه : <<إذا كان الأمر يتعلق بمتابعة من أجل جنحة من الجنح المنصوص عليها في المادة 41 من هذا القانون، فإنه يمكن للمحكمة المعروضة عليها القضية بناء على ملتمس تقدمه النيابة العامة في حالة تنازل الطرف المتضرر من الفعل الجرمي عن شكايته، أن توقف سير إجراءات الدعوى العمومية ما لم تكن قد بثت فيها بحكم نهائي>>.
وأضافت هذه المادة أنه : <<يمكن مواصلة النظر في الدعوى العمومية بطلب من النيابة العامة، إن ظهرت عناصر جديدة تمس الدعوى العمومية، ما لم تكن قد سقطت بالتقادم أو بسبب آخر>>.
وبذلك يتضح جليا أن المشرع قد وضع آلية جديدة تتوخى الحفاظ على الروابط الاجتماعية ووضع حد لتناسل الخلافات الاجتماعية.
المطلب الثاني : النيابة العامة ودورها في مراقبة الشرطة القضائية
بالرجوع إلى نص المادة 17 من قانون المسطرة الجنائية المغربي الذي جاء فيه : <<توضع الشرطة القضائية في دائرة نفوذ كل محكمة استئناف تحت سلطة الوكيل العام للملك ومراقبة الغرفة الجنحية بمحكمة الاستئناف المشار إليها في الفرع الخامس من هذا الباب>>.
من خلال استقراء حيتيات هذه المادة، نستخلص على أن جل المهام التي أناط بها المشرع الشرطة القضائية تتم تحت مراقبة النيابة العامة ضمن دائرة نفوذها.
ولعل من أهم هذه المهام هي المحافظة على السر المهني ومن خلاله يظهر جليا مدى خطورة المراقبة بعدما تكون– النيابة العامة – قد ألزمت الشرطة القضائية بالقيام بكل التحريات وجميع الأدلة المرتبطة بجريمة معينة نسبت إلى شخص بعينه، وهذا ما نستشفه من خلال نص المادة 18 من قانون المسطرة الجنائية حيث جاء فيها : <<يعهد إلى الشرطة القضائية تبعا للبيانات المقررة في هذا القسم بالتثبت من وقوع الجرائم وجمع الأدلة عنها وبالبحث عن مرتكبيها.
تقوم بتنفيذ أوامر وإنابات قضاء التحقيق وأوامر النيابة العامة>>.
فالقضاء والموظفون وأعوان الشرطة القضائية عند قيامهم بمهام الشرطة القضائية يخضعون لإشراف وكيل الملك وتخضع الشرطة القضائية برمتها تحت إشراف ومراقبة رئيس النيابة العامة وللغرفة الجنحية التي حلت محل غرفة الاتهام سابقا[26].
والنيابة العامة في شخص الوكيل العام للملك ووكيل الملك ونوابه كذا قاضي التحقيق يعتبرون ضباط سامون للشرطة القضائية، كما يتسم بصفة ضابط الشرطة القضائية[27]. أما أعوان الشرطة القضائية فقد نص عليهم الفصل 24 من قانون المسطرة الجنائية المعدل بظهير 18/09/1962 وتتحدد مأموريتهم في نطاق الفصل الموالي هذا الفصل 25 من ق.ج.ج[28].
وعلى العموم فإن النيابة العامة تلعب دورا مهما بالنسبة للمهام التي تقوم بها الضابطة القضائية في سير الدعوى العمومية ومباشرتها من خلال البحث التمهيدي المنجز من طرفه، ذلك أن الضابطة تباشر مهامها من خلال الإشراف المباشر للنيابة العامة ومراقبة هاته الأخيرة لأعمالها وتوجيهها وإعطاء التعليمات المتطلبة قانونا لها، أما مباشرة أو عن طريق المراسلات الكتابية أو الهاتف.
فالدعوى العمومية باعتبار أنها قد تثار في بعض الأحيان مباشرة أمام الضابطة أو قد تحال عليها من طرف النيابة العامة بواسطة الشكايات المقدمة لهاته الأخيرة فإنه بالرغم من ذلك تخضع في تسييرها وتوجيهها للنيابة العامة من خلال التعليمات الموجهة لها خلال إجراءات البحث التمهيدي أو بعد الانتهاء منه[29].
الهوامش
[1]- رياضي عبد الغني : "النيابة العامة أمام المحاكم العادية والاستئنائية ودورها من خلال مسطرتي الامتياز القضائي والحصانة القضائية"، مطبعة دار السلام، الرباط، الطبعة الأولى 2002، ص : 4.
[2]- عبد الواحد العلمي : "شروح في القانون الجديد المتعلق بالمسطرة الجنائية"، الجزء الأول، مطبعة النجاح الجديدة، طبعة 2006، ص : 84.
[3]- رياضي عبد الغاني، المرجع السابق، ص : 14.
[4]- رياضي عبد الغاني : مرجع سابق، ص : 17 و 21.
[5]- نفس المرجع.
[6]- محمد بوزبع : "شرح قانون المسطرة الجنائية"، منشورات جمعية نشر المعلومات القانونية والقضائية، الطبعة الخامسة، 2004، عدد 2، ص : 6.
[7]- الدكتور رياضي عبد الغني : مرجع سابق، ص : 42.
[8]- أستاذنا الدكتور عبد الواحد العلمي : "شروح في القانون الجديد المتعلق بالمسطرة الجنائية" الجزء الأول، الطبعة 2010، ص : 89.
[9]- الدكتور عبد الواحد العلمي : المرجع السابق، ص : 92.
[10]- الدكتور عبد الواحد العلمي : مرجع سابق، ص : 94.
[11]- المادة 273 من قانون المسطرة الجنائية المغربي
[12]- الدكتور عبد الواحد العلمي : مرجع سابق، ص : 95 و 96
[13]- نفس المرجع، ص : 98.
[14]- الدكتور رياضي عبد الغاني : مرجع سابق، ص : 43.
[15]- الدكتور عبد الواحد العلمي : مرجع سابق، ص : 98 – 99.
[16]- د. لطيفة الداودي : "دراسة في قانون المسطرة الجنائية الجديد"، طبعة 2005، ص : 165.
[17]- محمد بوزبع : "شرح قانون المسطرة الجنائية"، الجزء الأول، الطبعة الثالثة، ص : 26.
[18]- د. لطيفة الداودي، مرجع سابق.
[19]- د. فريد السموني، "كتيبات في م.ج 2004"، ص : 39.
[20]- ألغيت بمقتضى قانون 79.03 وتم تحويل الاختصاص لمحاكم الاستئناف.
[21]- الفصلان 23 و 24 من قانون العدل العسكري
[22]- د. لطيفة الداودي، مرجع سابق، ص : 178.
[23]- الأستاذة شادية السومي : "المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية"، عدد 44 – 45 ماي، غشت، 2002، ص : 82.
[24] - الدكتور العلمي عبد الواحد : مرجع سابق.
[25]- الدكتور أحمد الخمليشي، "شرح قانون المسطرة الجنائية".
الدكتور العلمي عبد الواحد : نفس المرجع.
الدكتور العلمي عبد الواحد : نفس المرجع.
[26]- أشخاص الشرطة القضائية حددتهم المادة 20 من قانون المسطرة الجنائية.
[27]- الفصل 21 و 22 من قانون المسطرة الجنائية يحدد مأموريتهم.
[28]- الفصول 26، 27، 29، 30، 31، 32، 33 م.ج بتحديد الموظفين والأعوان المكلفين ببعض مهام الشرطة القضائية وتحديد اختصاصاتهم.
[29]- الدكتور رياضي عبد الغاني : "النيابة العامة أمام المحاكم العادية والاستئنائية ودورها من خلال مسطرتي الامتياز القضائي والحصانة القانونية"، الطبعة الأولى، 2002، ص : 75.