صادق مجلس النواب في قرائته الثانية مؤخرا على مشروع قانون رقم 12.113 بشأن الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة وحمايتها، غير أن العديد من مواد هذا القانون تمت المصادقة عليها بصيغة ومضمون يحملان الكثير من اللبس حد التناقض مع بعض المقتضيات الدستورية، بحيث عندما منح هذا القانون مجموعة من الوظائف لهذه الهيئة بطريقة واسعة أصبحت بعض مواده (خاصة المواد 3 و 11 و14 و 16 و22 و23 و24 و25 و28) مخلة ومخالفة للكثير من المقتضيات الدستورية.
وقبل التطرق بتفصيل للمواد المخالفة للدستور نقف عند مهام الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة وحمايتها التي حددها الفصل 167 في أولا: بالتنسيق والإشراف وضمان تتبع تنفيذ سياسة محاربة الفساد ثانيا: بتلقي ونشر المعلومات في هذا المجال.ثالثا: بالمساهمة في تخليق الحياة العامة رابعا: بترسيخ مبادئ الحكامة الجيدة وثقافة المرفق العام وقيم المواطنة.
إن هذا الفصل الدستوري لم يحدد الوسائل التي ستوضع بين يدي هذه الهيئة للقيام بمهامها خاصة وأن دور هذه الهيئة يجب أن يتم في إطار فصل السلط وقيام الحكومة بمسؤوليتها في وضع سياسة جنائية وكذلك احتراما لاستقلالية القضاء في وظيفته من خلال النيابة العامة في المتابعة والقضاء على الفساد، مما جعل المشرع أثناء وضع الوسائل داخل مشروع القانون يقع في الخروقات التالية:
المادة 3 والمادة 16 من مشروع القانون
نصت المادة 3 على أن هذه الهيئة قد منحها المشرع اختصاصات غير دستورية وهي كالتالي:
1)) التأكد من حقيقة الأفعال والوقائع ثم القيام بعمليات البحث والتحري.
إن التوصل بالشكايات من حق هذه الهيئة قد يكون عاديا، لكن التأكد من حقيقة الأفعال والوقائع فهي مهام قضائية منظمة بمساطر تضمن حقوق الأطراف عند التقاضي مستقبلا، وأن التأكيد من الحقيقة هي مهمة قضائية في حدود نسبيتها، ونقصد بالحقيقة القانونية التي تخضع لسلطة القضاء، أما الحقيقة الواقعية فستظل هدفا منشودا الوصول إليه.
وبالتالي فهذا النص ليس فقط منح الاختصاص القضائي للهيئة ولكن كذلك خصها بدور البحث عن الحقيقة بشكلها المطلق، مما يجعل نتائج أعمالها ذات صبغة جازمة بوصفها تصور لحقيقة أفعال، والحقيقة أن هذا فيه مجازفة كبيرة تطرح سؤال حول مدى حجية اشتغال هذه المؤسسة؟ وكيف سيتعامل القضاء مع قراراتها؟، بل يتضمن نوعا من التشويش والمساس بكل من الفصل 119 من الدستور، لكون التقرير الذي اعتمد على شرعية هذه المؤسسة في التأكد من حقيقة الوقائع والأفعال قد ألغى مبدأ قرينة البراءة المنصوص عليها في الفصل 119 من الدستور، هذه القرينة التي تجد دلالتها وكنهها أمام القضاء فقط، وأن الهيئة كما يبدو من خلال النص لا تشترط وجود ضمانات مؤسساتية كوجود الدفاع مثلا، مما يجعل هذا النص مخالف للفصلين 120 و 118 من الدستور كذلك، خاصة وأن البحث عن الحقيقة أول ما تستند عليه هو حماية حقوق الأشخاص وحماية أمنهم القضائي حتى لا يكونوا عرضة للتشهير وللظلم، وبالتالي منح هذه السلطة المطلقة لهذه المؤسسة يكون قد خرق مقتضيات الفصل 117 من الدستور، بل إنه تجاوز لكل ذلك أن المادة 16 من مشروع القانون المطعون فيه نصت على أن هذه المهام يقوم بها موظفون لهم صفة مقرر وهؤلاء الموظفون ليست لهم الصفة الضبطية التي ينظمها القانون، ليس فقط حماية لمن هو مكلف بالأبحاث والتحريات ولكن لشرعية أعمالهم ولضمان حقوق المواطنين.
ولقد نظم الدستور في فصله 128 هذه المهمة حينما جعلها من مهام الشرطة القضائية وذلك تحت إشراف قضاة النيابة العامة وقضاة التحقيق، والفصل 128 جاء على سبيل الحصر ولم يمنح هذه المهام لأية جهة أو سلطة أخرى.
2 )) التقرير العام الذي يقدم للبرلمان.
لقد نصت المادة الثالثة على إعداد تقرير يقدم للبرلمان للمناقشة، وأن الصيغة التي ورد فيها إحالة التقرير على البرلمان وفقا للفصل 160 من الدستور ليست للمناقشة ولكن ليكون موضوعا للمناقشة، أما الشكل المنصوص عليه في المادة الثالثة من نص القانون فكأن الطرفين ( رئيس الهيئة والبرلمان) سيناقشان ما جاء في التقرير، في حين أن المبدأ هو أن يقدم التقرير ويكون موضوع مناقشة في البرلمان.
3)) طلب الرأي الاستشاري
إن الدستور حدد على سبيل الحصر المؤسسات التي لها الصفة الاستشارية وهي المجلس الأعلى للحسابات (الفصل 148) والمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي (الفصل 159)، وقد جاءت على سبيل الحصر، وهاتين الهيئتين نصت الفصول المنظمة لهما دستوريا على حالات تقديم الرأي الاستشاري والجهة التي لها هذه الصفة لتطلب هذا الرأي، في حين نجد المادة الثالثة قد نصت في فقرتها التاسعة على أن الهيئة تبدي رأيها بطلب من الحكومة أو البرلمان، في حين أن الفصل 167 من الدستور لا ينص على هذه المهمة بل حدد مهامها على سبيل الحصر، ولم يشر الفصل الدستوري من قريب ولا من بعيد على الصفة الاستشارية لهذه المؤسسة.
4)) مآل آراء وتوصيات الهيئة.
لقد ألزمت الفقرة 15 من المادة 3 رئيس الحكومة ورئيسي البرلمان بإحاطة الهيئة بمآل الآراء و التوصيات، وبغض النظر على أن تقديم الآراء والتوصيات غير مشروع، لعدم ورود هذا الاختصاص في النص الدستوري مما يجعله باطلا لكونه يقوم على باطل، فإن إلزام سلطتين داخل الدولة بالإخبار هو مساس باستقلاليتهما وتدخل في سير أشغالهما، بل هو منح نوع من الإلزامية للرأي الاستشاري الأمر الذي يخالف مقتضيات الفصل الأول من الدستور.
ثانيا: المادتين 11 و 14 من مشروع القانون
نصت المادة 11 في فقرتها السادسة على إقرار نظام خاص للموارد البشرية العاملة بهذه الهيئة، ويتقاطع مع المادة 14 التي نصت على أن الرئيس يعد مشروع النظام الأساسي الخاص بتنسيق مع السلطات الحكومية، وحيث أن إعداد النص مع السلطات الحكومية لم يتم نقله ليكون ضمن شروط مصادقة مجلس الهيئة الذي قد يكون مصادقته مستندة على تعديلات في مشروع النظام الأساسي باعتباره الهيئة العليا التي لها اختصاص المصادقة، وأنه كان من الأجدى أن يشار في الفقرة السادسة إلى أنه يجب أن تكون المصادقة بتنسيق مع السلطة الحكومية، خاصة وأن المادة 15 تنص على "نص المشروع" بينما المادة 11 فتنص على "النص المصادق عليه" وأن التزام المشروع لا يلزم سلطة المصادقة، لذلك كان على المشروع أن ينص في الفقرة السادسة من المادة 11 بضرورة أن تتم هذه المصادقة بتنسيق مع السلطة الحكومية المكلفة بالمالية.
ثالثا: المادة 22 من مشروع القانون
منحت المادة 22 لرئيس الهيئة حق البث في الشكايات المتوصل بها، علما أن البث في الشكايات من اختصاص النيابة العامة وهي مهام قضائية لا يمكن أن تتدخل فيها أية جهة أو يقرر بشأن إحالتها عليه أي طرف، وهي علاقة مباشرة بين المواطن والقضاء، وأن منح سلطة الإحالة من عدمها يكون قد جعل نفسه فوق السلطة القضائية وذلك بخلاف مقتضيات الفصلين الأول و 117 من الدستور.
رابعا: المادة 23 من مشروع القانون
منحت هذه المادة للمقرر سلطات الانتقال للمعاينة والاطلاع على الوثائق لدى مؤسسات عمومية وكذلك لدى الممثلين القانونيين لكل شخص من الأشخاص الاعتباريين من أشخاص القانون الخاص، وكذلك الأشخاص الذاتيين وممثليهم القانونيين، فإن هذه المادة بإطلاقيتها جاءت مخالفة للفصول 23 و24 و117 و 118 من الدستور، ذلك أن هذا الانتقال هو أمر محصور على الضابطة القضائية تحت إشراف السلطة القضائية من خلال النيابة العامة أو قاضي التحقيق، ومن تم فهذه الوظيفة وظيفة قضائية لها حجيتها وأن التنصيص على قيام موظف لا صفة له في ذلك سيكون مساسا بالحياة الخاصة للمواطنين ومؤسساتهم وكذلك بحقوقهم الأساسية وبحماية المعلومات الخاصة والاقتصادية وفقا للفصل 27 من الدستور، وأن السماح للشخص بالانتقال فيما يخص المؤسسات العمومية التابعة للسلطة الحكومية فهذا يعود لتقرير ما تراه مناسبا تلك المؤسسات، أما فيما يهم المواطنين والذين منهم رجال الأعمال والشركات الخاصة فلا يجوز المساس بالالتزام بالسر المهني وعلاقاتهم المباشرة بممثليهم القانونين.
إن إطلاقية هذا النص ذلك أنه لم يرد فيه أي شرط من شروط عدم إعماله إلا بموافقة المعني بالأمر مثلا، سيتضارب مع مفهوم الموظف المحمي قانونا عند قيامه بمهامه، وضمان الحقوق الدستورية سواء في الحياة الخاصة أو في الحياة الاقتصادية للطرف الآخر.
خامسا: المادة 24 من مشروع القانون
نصت المادة 24 على أنه في حالة الامتناع عن الإدلاء بوثائق أو تقديم توضيحات فإن النص أوجب ثلاث حالات وهي إما الحفظ أو تحريك المسطرة التأديبية أو الإحالة على النيابة العامة.
1)) حالة الحفظ
إن سلطة الحفظ لا يمكن أن تملكها هذه المؤسسة بدعوى عدم التوفر على معلومات، فهي قرار يعود إلى القضاء أي إلى النيابة العامة التي تملك من الوسائل ما يمنحها القدرة على الوصول إلى حقائق ومعلومات، وأن إعمال الحفظ من هذه المؤسسة لعدم توفرها على معلومات ستكون في حالة عدم تبليغ بجريمة، لحالة عدم توفرها على وسائل إثبات ولكنها تتوفر فقط على معلومات فلها أن تحيل الموضوع على النيابة العامة باعتبارها وشاية وليست شكاية وللقضاء وحده أن يقرر الحفظ من عدمه، وهو من يملك هذه السلطة دون غيره.
2 )) تحريك المسطرة التأديبية:
على مستوى تحريك المسطرة التأديبية فقد ارتأينا في نقاشنا داخل اللجنة المعنية اقتراحا يرمي إلى إحالة الملف على الإدارة المعنية بدون توجيه، وحيث أن النص نص على إحالة الملف مع إمكانية تحريك المسطرة التأديبية يكون توجيها للإدارة سلفا، وكان من الأحرى أن يحال الملف على الإدارة للنظر في إمكانية إجراء بحث إداري، أما المسطرة التأديبية وإمكانيتها من عدمه فهي سلطة محفوظة للإدارة ومضمونة بمساطر محددة وتخضع لقرار الجهاز الإداري الأعلى ومن ثم فتوجه المادة جاء مخالفا لمبدأ فصل السلط.
3 )) الإحالة على النيابة العامة:
إن إمكانية التحريك لم تهم فقط الإدارات ولكن همت كذلك النيابة العامة، ذلك أن النيابة العامة كان من الواجب أن يحال عليها الملف، وليس الملف لإمكانية المتابعة، وقد ورد بنفس المادة أن الرئيس يبلغ الإدارة المعنية في حين أن إحالة الملف على النيابة العامة يلزم الجميع برفع يديه على الموضوع، كما أن تبليغ الرئيس بإحالة الملف على النيابة العامة هو مساس باستقلالية السلطة القضائية وإفشاء لسر البحث والتحري الذي هو سلطة مطلقة للنيابة العامة تعلنها متى شاءت أو تمتنع عن ذلك، وحيث أن ورود تبليغ الرئيس الإداري في هذا النص يوحي بأن النيابة العامة تشتغل لدى هذه المؤسسة وتحرك المتابعة تلقائيا، في حين أن إحالة الملف على النيابة العامة هي وشاية تحتمل الصدق وتحتمل الكذب، وعلى هذه الأخيرة إجراء البحث والتحري بسرية تامة ضمانة لحقوق الأطراف ووفقا للقانون، وأن هذه المادة عندما منحت صلاحية تبليغ الرئيس الإداري عن الشخص المعني بإحالة ملفه على النيابة العامة تكون قد خرقت الفصول 117 و118 و119 و120 من الدستور.
سادسا: المادة 25 من مشروع القانون
إن هذه المادة أجزمت مسألة خرق فصل السلط، فقد نصت في فقرتيها الأخيرتين أن لهذه الجهة حق المصادقة على قرارين خارج اختصاصها وهما المتابعة التأديبية أو المتابعة الجنائية، وهما مجالين خارج سلطتها لاستقلال السلطة التنفيذية التي تملك السلطة على الجهاز الإداري أو النيابة العامة المستقلة في قراراتها وفي سلطة الملائمة لديها بصفتها جهاز قضائي.
سابعا: المادة 28 من مشروع القانون
أكدت المادة 28 على أن التبليغ بسوء نية سيكون موضوع متابعة جنائية وسبق أن حدد النص المنظم للوشاية الكاذبة على سبيل الحصر حالات الجهة التي يصبح تبليغها بالأخبار الكاذبة جريمة، وهي الجهات القضائية وجهات البحث والتحري وكذلك للمتضرر بالشكايات الحق في طلب المتابعة أو المطالبة المدنية وأن إضافة هذه المؤسسة وإدخالها ضمن هذا الفصل هو منحها حصانة قضائية لا يمكن أن تكون إلا للقضاء المحصن وفقا للقانون في مواجهة توريطه في قضايا كاذبة، كما أن ورود هذه المادة جاء مخالفا لما نص عليه القانون الجنائي الذي هو نص قائم بذاته وهو الذي كان يتعين تعديله.
وهكذا يتضح أن المواد المشار إليها أعلاه تتضمن الكثير من الوسائل والاختصاصات الممنوحة للقضاء وحده، مما يتعين معه إعادة تدقيقها وتعديلها حتى تصير مطابقة للدستور ولروحه وبخاصة فصول احترام استقلالية المؤسسات وفصل السلط.
وقبل التطرق بتفصيل للمواد المخالفة للدستور نقف عند مهام الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة وحمايتها التي حددها الفصل 167 في أولا: بالتنسيق والإشراف وضمان تتبع تنفيذ سياسة محاربة الفساد ثانيا: بتلقي ونشر المعلومات في هذا المجال.ثالثا: بالمساهمة في تخليق الحياة العامة رابعا: بترسيخ مبادئ الحكامة الجيدة وثقافة المرفق العام وقيم المواطنة.
إن هذا الفصل الدستوري لم يحدد الوسائل التي ستوضع بين يدي هذه الهيئة للقيام بمهامها خاصة وأن دور هذه الهيئة يجب أن يتم في إطار فصل السلط وقيام الحكومة بمسؤوليتها في وضع سياسة جنائية وكذلك احتراما لاستقلالية القضاء في وظيفته من خلال النيابة العامة في المتابعة والقضاء على الفساد، مما جعل المشرع أثناء وضع الوسائل داخل مشروع القانون يقع في الخروقات التالية:
المادة 3 والمادة 16 من مشروع القانون
نصت المادة 3 على أن هذه الهيئة قد منحها المشرع اختصاصات غير دستورية وهي كالتالي:
1)) التأكد من حقيقة الأفعال والوقائع ثم القيام بعمليات البحث والتحري.
إن التوصل بالشكايات من حق هذه الهيئة قد يكون عاديا، لكن التأكد من حقيقة الأفعال والوقائع فهي مهام قضائية منظمة بمساطر تضمن حقوق الأطراف عند التقاضي مستقبلا، وأن التأكيد من الحقيقة هي مهمة قضائية في حدود نسبيتها، ونقصد بالحقيقة القانونية التي تخضع لسلطة القضاء، أما الحقيقة الواقعية فستظل هدفا منشودا الوصول إليه.
وبالتالي فهذا النص ليس فقط منح الاختصاص القضائي للهيئة ولكن كذلك خصها بدور البحث عن الحقيقة بشكلها المطلق، مما يجعل نتائج أعمالها ذات صبغة جازمة بوصفها تصور لحقيقة أفعال، والحقيقة أن هذا فيه مجازفة كبيرة تطرح سؤال حول مدى حجية اشتغال هذه المؤسسة؟ وكيف سيتعامل القضاء مع قراراتها؟، بل يتضمن نوعا من التشويش والمساس بكل من الفصل 119 من الدستور، لكون التقرير الذي اعتمد على شرعية هذه المؤسسة في التأكد من حقيقة الوقائع والأفعال قد ألغى مبدأ قرينة البراءة المنصوص عليها في الفصل 119 من الدستور، هذه القرينة التي تجد دلالتها وكنهها أمام القضاء فقط، وأن الهيئة كما يبدو من خلال النص لا تشترط وجود ضمانات مؤسساتية كوجود الدفاع مثلا، مما يجعل هذا النص مخالف للفصلين 120 و 118 من الدستور كذلك، خاصة وأن البحث عن الحقيقة أول ما تستند عليه هو حماية حقوق الأشخاص وحماية أمنهم القضائي حتى لا يكونوا عرضة للتشهير وللظلم، وبالتالي منح هذه السلطة المطلقة لهذه المؤسسة يكون قد خرق مقتضيات الفصل 117 من الدستور، بل إنه تجاوز لكل ذلك أن المادة 16 من مشروع القانون المطعون فيه نصت على أن هذه المهام يقوم بها موظفون لهم صفة مقرر وهؤلاء الموظفون ليست لهم الصفة الضبطية التي ينظمها القانون، ليس فقط حماية لمن هو مكلف بالأبحاث والتحريات ولكن لشرعية أعمالهم ولضمان حقوق المواطنين.
ولقد نظم الدستور في فصله 128 هذه المهمة حينما جعلها من مهام الشرطة القضائية وذلك تحت إشراف قضاة النيابة العامة وقضاة التحقيق، والفصل 128 جاء على سبيل الحصر ولم يمنح هذه المهام لأية جهة أو سلطة أخرى.
2 )) التقرير العام الذي يقدم للبرلمان.
لقد نصت المادة الثالثة على إعداد تقرير يقدم للبرلمان للمناقشة، وأن الصيغة التي ورد فيها إحالة التقرير على البرلمان وفقا للفصل 160 من الدستور ليست للمناقشة ولكن ليكون موضوعا للمناقشة، أما الشكل المنصوص عليه في المادة الثالثة من نص القانون فكأن الطرفين ( رئيس الهيئة والبرلمان) سيناقشان ما جاء في التقرير، في حين أن المبدأ هو أن يقدم التقرير ويكون موضوع مناقشة في البرلمان.
3)) طلب الرأي الاستشاري
إن الدستور حدد على سبيل الحصر المؤسسات التي لها الصفة الاستشارية وهي المجلس الأعلى للحسابات (الفصل 148) والمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي (الفصل 159)، وقد جاءت على سبيل الحصر، وهاتين الهيئتين نصت الفصول المنظمة لهما دستوريا على حالات تقديم الرأي الاستشاري والجهة التي لها هذه الصفة لتطلب هذا الرأي، في حين نجد المادة الثالثة قد نصت في فقرتها التاسعة على أن الهيئة تبدي رأيها بطلب من الحكومة أو البرلمان، في حين أن الفصل 167 من الدستور لا ينص على هذه المهمة بل حدد مهامها على سبيل الحصر، ولم يشر الفصل الدستوري من قريب ولا من بعيد على الصفة الاستشارية لهذه المؤسسة.
4)) مآل آراء وتوصيات الهيئة.
لقد ألزمت الفقرة 15 من المادة 3 رئيس الحكومة ورئيسي البرلمان بإحاطة الهيئة بمآل الآراء و التوصيات، وبغض النظر على أن تقديم الآراء والتوصيات غير مشروع، لعدم ورود هذا الاختصاص في النص الدستوري مما يجعله باطلا لكونه يقوم على باطل، فإن إلزام سلطتين داخل الدولة بالإخبار هو مساس باستقلاليتهما وتدخل في سير أشغالهما، بل هو منح نوع من الإلزامية للرأي الاستشاري الأمر الذي يخالف مقتضيات الفصل الأول من الدستور.
ثانيا: المادتين 11 و 14 من مشروع القانون
نصت المادة 11 في فقرتها السادسة على إقرار نظام خاص للموارد البشرية العاملة بهذه الهيئة، ويتقاطع مع المادة 14 التي نصت على أن الرئيس يعد مشروع النظام الأساسي الخاص بتنسيق مع السلطات الحكومية، وحيث أن إعداد النص مع السلطات الحكومية لم يتم نقله ليكون ضمن شروط مصادقة مجلس الهيئة الذي قد يكون مصادقته مستندة على تعديلات في مشروع النظام الأساسي باعتباره الهيئة العليا التي لها اختصاص المصادقة، وأنه كان من الأجدى أن يشار في الفقرة السادسة إلى أنه يجب أن تكون المصادقة بتنسيق مع السلطة الحكومية، خاصة وأن المادة 15 تنص على "نص المشروع" بينما المادة 11 فتنص على "النص المصادق عليه" وأن التزام المشروع لا يلزم سلطة المصادقة، لذلك كان على المشروع أن ينص في الفقرة السادسة من المادة 11 بضرورة أن تتم هذه المصادقة بتنسيق مع السلطة الحكومية المكلفة بالمالية.
ثالثا: المادة 22 من مشروع القانون
منحت المادة 22 لرئيس الهيئة حق البث في الشكايات المتوصل بها، علما أن البث في الشكايات من اختصاص النيابة العامة وهي مهام قضائية لا يمكن أن تتدخل فيها أية جهة أو يقرر بشأن إحالتها عليه أي طرف، وهي علاقة مباشرة بين المواطن والقضاء، وأن منح سلطة الإحالة من عدمها يكون قد جعل نفسه فوق السلطة القضائية وذلك بخلاف مقتضيات الفصلين الأول و 117 من الدستور.
رابعا: المادة 23 من مشروع القانون
منحت هذه المادة للمقرر سلطات الانتقال للمعاينة والاطلاع على الوثائق لدى مؤسسات عمومية وكذلك لدى الممثلين القانونيين لكل شخص من الأشخاص الاعتباريين من أشخاص القانون الخاص، وكذلك الأشخاص الذاتيين وممثليهم القانونيين، فإن هذه المادة بإطلاقيتها جاءت مخالفة للفصول 23 و24 و117 و 118 من الدستور، ذلك أن هذا الانتقال هو أمر محصور على الضابطة القضائية تحت إشراف السلطة القضائية من خلال النيابة العامة أو قاضي التحقيق، ومن تم فهذه الوظيفة وظيفة قضائية لها حجيتها وأن التنصيص على قيام موظف لا صفة له في ذلك سيكون مساسا بالحياة الخاصة للمواطنين ومؤسساتهم وكذلك بحقوقهم الأساسية وبحماية المعلومات الخاصة والاقتصادية وفقا للفصل 27 من الدستور، وأن السماح للشخص بالانتقال فيما يخص المؤسسات العمومية التابعة للسلطة الحكومية فهذا يعود لتقرير ما تراه مناسبا تلك المؤسسات، أما فيما يهم المواطنين والذين منهم رجال الأعمال والشركات الخاصة فلا يجوز المساس بالالتزام بالسر المهني وعلاقاتهم المباشرة بممثليهم القانونين.
إن إطلاقية هذا النص ذلك أنه لم يرد فيه أي شرط من شروط عدم إعماله إلا بموافقة المعني بالأمر مثلا، سيتضارب مع مفهوم الموظف المحمي قانونا عند قيامه بمهامه، وضمان الحقوق الدستورية سواء في الحياة الخاصة أو في الحياة الاقتصادية للطرف الآخر.
خامسا: المادة 24 من مشروع القانون
نصت المادة 24 على أنه في حالة الامتناع عن الإدلاء بوثائق أو تقديم توضيحات فإن النص أوجب ثلاث حالات وهي إما الحفظ أو تحريك المسطرة التأديبية أو الإحالة على النيابة العامة.
1)) حالة الحفظ
إن سلطة الحفظ لا يمكن أن تملكها هذه المؤسسة بدعوى عدم التوفر على معلومات، فهي قرار يعود إلى القضاء أي إلى النيابة العامة التي تملك من الوسائل ما يمنحها القدرة على الوصول إلى حقائق ومعلومات، وأن إعمال الحفظ من هذه المؤسسة لعدم توفرها على معلومات ستكون في حالة عدم تبليغ بجريمة، لحالة عدم توفرها على وسائل إثبات ولكنها تتوفر فقط على معلومات فلها أن تحيل الموضوع على النيابة العامة باعتبارها وشاية وليست شكاية وللقضاء وحده أن يقرر الحفظ من عدمه، وهو من يملك هذه السلطة دون غيره.
2 )) تحريك المسطرة التأديبية:
على مستوى تحريك المسطرة التأديبية فقد ارتأينا في نقاشنا داخل اللجنة المعنية اقتراحا يرمي إلى إحالة الملف على الإدارة المعنية بدون توجيه، وحيث أن النص نص على إحالة الملف مع إمكانية تحريك المسطرة التأديبية يكون توجيها للإدارة سلفا، وكان من الأحرى أن يحال الملف على الإدارة للنظر في إمكانية إجراء بحث إداري، أما المسطرة التأديبية وإمكانيتها من عدمه فهي سلطة محفوظة للإدارة ومضمونة بمساطر محددة وتخضع لقرار الجهاز الإداري الأعلى ومن ثم فتوجه المادة جاء مخالفا لمبدأ فصل السلط.
3 )) الإحالة على النيابة العامة:
إن إمكانية التحريك لم تهم فقط الإدارات ولكن همت كذلك النيابة العامة، ذلك أن النيابة العامة كان من الواجب أن يحال عليها الملف، وليس الملف لإمكانية المتابعة، وقد ورد بنفس المادة أن الرئيس يبلغ الإدارة المعنية في حين أن إحالة الملف على النيابة العامة يلزم الجميع برفع يديه على الموضوع، كما أن تبليغ الرئيس بإحالة الملف على النيابة العامة هو مساس باستقلالية السلطة القضائية وإفشاء لسر البحث والتحري الذي هو سلطة مطلقة للنيابة العامة تعلنها متى شاءت أو تمتنع عن ذلك، وحيث أن ورود تبليغ الرئيس الإداري في هذا النص يوحي بأن النيابة العامة تشتغل لدى هذه المؤسسة وتحرك المتابعة تلقائيا، في حين أن إحالة الملف على النيابة العامة هي وشاية تحتمل الصدق وتحتمل الكذب، وعلى هذه الأخيرة إجراء البحث والتحري بسرية تامة ضمانة لحقوق الأطراف ووفقا للقانون، وأن هذه المادة عندما منحت صلاحية تبليغ الرئيس الإداري عن الشخص المعني بإحالة ملفه على النيابة العامة تكون قد خرقت الفصول 117 و118 و119 و120 من الدستور.
سادسا: المادة 25 من مشروع القانون
إن هذه المادة أجزمت مسألة خرق فصل السلط، فقد نصت في فقرتيها الأخيرتين أن لهذه الجهة حق المصادقة على قرارين خارج اختصاصها وهما المتابعة التأديبية أو المتابعة الجنائية، وهما مجالين خارج سلطتها لاستقلال السلطة التنفيذية التي تملك السلطة على الجهاز الإداري أو النيابة العامة المستقلة في قراراتها وفي سلطة الملائمة لديها بصفتها جهاز قضائي.
سابعا: المادة 28 من مشروع القانون
أكدت المادة 28 على أن التبليغ بسوء نية سيكون موضوع متابعة جنائية وسبق أن حدد النص المنظم للوشاية الكاذبة على سبيل الحصر حالات الجهة التي يصبح تبليغها بالأخبار الكاذبة جريمة، وهي الجهات القضائية وجهات البحث والتحري وكذلك للمتضرر بالشكايات الحق في طلب المتابعة أو المطالبة المدنية وأن إضافة هذه المؤسسة وإدخالها ضمن هذا الفصل هو منحها حصانة قضائية لا يمكن أن تكون إلا للقضاء المحصن وفقا للقانون في مواجهة توريطه في قضايا كاذبة، كما أن ورود هذه المادة جاء مخالفا لما نص عليه القانون الجنائي الذي هو نص قائم بذاته وهو الذي كان يتعين تعديله.
وهكذا يتضح أن المواد المشار إليها أعلاه تتضمن الكثير من الوسائل والاختصاصات الممنوحة للقضاء وحده، مما يتعين معه إعادة تدقيقها وتعديلها حتى تصير مطابقة للدستور ولروحه وبخاصة فصول احترام استقلالية المؤسسات وفصل السلط.